غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٤

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

في الجامدات

قال رحمه‌الله : وهل يعتبر فيها الجز؟ الوجه أنها إن جزت فهي طاهره ، وان انتسلت غسل موضع الاتصال ، وقيل لا يحل منها ما يقلع ، والأول أشبه.

أقول : اختيار المصنف هو المشهور بين الأصحاب ، للحكم بطهارة شعر الميتة ووبرها ، وما اتصل بالميتة من الشعر والوبر فهو ميتة ، فيجب طهارته مع القلع ويصح استعماله بعد ذلك ، لكن يشترط خلوه من أجزاء الميتة.

وقال الشيخ : لا يجوز استعماله مع القلع ، ولعل وجهه أنه مع القلع لا ينفك عن شي‌ء من أجزاء الميتة ، لأن الغالب ذلك ، والمعتمد هو المشهور بين الأصحاب.

قال رحمه‌الله : وفي اللبن روايتان ، إحداهما : الحل ، وهي أصحهما طريقا ، والأشبه التحريم ، لنجاسته بملاقاة الميت.

أقول : ذهب الشيخ في النهاية والتهذيب والاستبصار والمفيد ومحمد بن بابويه وابن حمزة إلى إباحة اللبن المحلوب من الميتة ، لرواية زرارة عن الصادق عليه‌السلام ، « قال : سألته عن الانفحة يخرج من الجدي الميت؟ قال : لا بأس

٦١

قلت اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت فقال لا بأس به » (٣٤) ، وقال ابن إدريس : إنه حرام لما رواه وهب عن الصادق عليه‌السلام وعن الباقر عليه‌السلام : « أنه سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن؟ فقال : قال علي عليه‌السلام : ذلك الحرام محضا » (٣٥) ، ولأنه ينجس بملاقاة الميتة ، واختاره المتأخرون وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : وإذا اختلط الذكي بالميت وجب الامتناع منه حتى يعلم الذكي بعينه ، وهل يباع من مستحل الميتة؟ قيل : نعم ، وربما كان حسنا إن قصد بيع الذكي حسب.

أقول : إذا اختلط اللحم الذكي بالميت ولا طريق الى تمييزه ، فقد أجمع الأصحاب على تحريم الجميع وعلى عدم جواز بيعه على غير مستحل الميتة ، واختلفوا في جواز بيعه على مستحل الميتة ، قال الشيخ في النهاية بالجواز ، وتبعه ابن حمزة ، لما رواه الحلبي في الصحيح ، عن الصادق عليه‌السلام ، « قال : سمعته يقول إذا اختلط الذكي بالميت باعه ممن يستحل الميتة » (٣٦) ، ومنع ابن إدريس من بيعه وأنكر العمل بهذه الرواية ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه » ، ولقوله عليه‌السلام : « لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها » (٣٧) ، فذمهم على بيع ما حرم الله أكله ، ولا شك في تحريم الميتة فيحرم بيعها.

واختار العلامة في المختلف مذهب الشيخ ، قال : لأنه في الحقيقة ليس بيعا بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه فكان سائغا.

__________________

(٣٤) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرمة ، حديث ١٠.

(٣٥) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرمة ، حديث ١١.

(٣٦) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٣٦ من أبواب الأطعمة المحرمة ، حديث ١.

(٣٧) المستدرك ، كتاب التجارة ، باب ٦ من أبواب ما يكتسب به ، حديث ٨.

٦٢

ويرد عليه أن مال الكافر محرما (٣٨) إذا كان ذميا الا على الوجه الشرعي ، ولهذا يحرم أخذ الربا منه.

وحمل المصنف والعلامة في القواعد والتحرير والإرشاد صحة البيع على قصد المذكى دون الميتة ، ويرد عليهم جهالة المبيع حينئذ وعدم إمكان تسليمه مميزا.

قال رحمه‌الله : المحرمات من الذبيحة خمس : الطحال ، والقضيب ، والفرث ، والدم ، والأنثيان ، وفي المثانة والمرارة والمشيمة تردد ، أشبهه التحريم لما فيها من استخباث ، أما الفرج ، والنخاع ، والعلبا ، والغدد ، وذات الأشاجع ، وخرزة الدماغ ، والحدق ، فمن أصحابنا من حرمها ، والوجه الكراهية.

أقول : عد المصنف هنا خمسة عشر شيئا ، ثمَّ اختار تحريم ثمانية منها ، خمسة جزما وثلاثة على التردد ، والكراهة في الباقي ، وذهب ابن إدريس إلى تحريم الجميع واختاره العلامة في القواعد جزما والشهيد كذلك ، واستقر به أبو العباس في مهذبه ، لقوله تعالى (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (٣٩) ، وهذه أشياء مستخبثه فتدخل في عموم الآية ، ومذهب الشيخ في النهاية تحريم الجميع عدا المثانة (٤٠) واقتصر المفيد على ذكر الطحال والقضيب والأنثيين ولم يتعرض لغير ذلك ، وكذا سلار ، والأحوط مذهب ابن إدريس.

تفسير : المثانة مجمع البول ومحقنه ، والمشيمة بيت الأولاد ، والنخاع بحركات النون الثلاث هو الخيط الأبيض الذي في وسط سلسلة الظهر الناظم لخرز السلسلة ، ويسمى الوتين لا قوام للحيوان بدونه ، والعلبا عصبان عريضتان

__________________

(٣٨) كذا.

(٣٩) الأعراف : ١٥٧.

(٤٠) في النسخ : الثمانية.

٦٣

ممدودتان من الرقبة إلى أصل الذنب ، وذات الأشاجع هي أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف ، والحدق المراد به حبة الحدقة وخرزة الدماغ ، قال ابن إدريس : تكون في وسط الدماغ ، والدماغ المخ ، يخالف لونها لون المخ ، هي بقدر الحمصة تميل (٤١) إلى الغبرة ما يكون (٤٢) ، وتابعه العلامة في التحرير على هذا التفسير وكذلك المقداد في شرح المختصر ، وقال أبو العباس في مهذبه : المراد بها المخ الكائن في وسط الدماغ شبه الدودة ، وابن إدريس فسر الدماغ بالمخ والخرزة في وسطه بقدر الحمصة ، وأبو العباس فسر الخرزة بالمخ في وسط الدماغ شبه الدودة ولم يفسر الدماغ ، ويلزم من تفسير الخرزة أن الدماغ غير المخ ، فعلى تفسير ابن إدريس يكون الى (٤٣) المخ مباحا ، والمحرم الخرزة التي في وسطه ، وعلى تفسير أبي العباس يكون المخ حراما والدماغ غيره.

وهذه الأشياء محرمة من كل شي‌ء يذبح سواء كان كبيرا كالجزور أو صغيرا كالعصفور.

قال رحمه‌الله : أو وقعت فيه نجاسة وهو مائع كالبول ، أو باشره الكفار وإن كانوا أهل الذمة على الأصح.

أقول : اختلف الأصحاب في نجاسة ما يباشره الذمي من المائعات ، قال الشيخ في النهاية بعدم نجاسته ، لما رواه في الصحيح ، عن عيص بن القاسم ، عن الصادق عليه‌السلام ، « قال : سألته عن مؤاكلة اليهودي والنصراني؟ فقال : إذا توضأ فلا بأس » (٤٤) ، والمراد بالتوضي غسل اليد ، وحملها العلامة في القواعد

__________________

(٤١) ليست في النسخ.

(٤٢) كذا.

(٤٣) ليست في النسخ.

(٤٤) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٥٣ من أبواب الأطعمة المحرمة ، حديث ١.

لكن فيه زيادة ( ان كان من طعامك وتوضأ ).

٦٤

على تعدد الأواني ، وفي المختلف على ما لا ينفعل بالملاقاة كالفواكه اليابسة ، وحكم بنجاسة ما يلاقيه من المائعات ، وهو المشهور بين الأصحاب وهو المعتمد ، لأنهم أنجاس فينفعل ما يباشرونه برطوبة.

قال رحمه‌الله : الرابع الطين ، ولا يحل منه الا تربة الحسين عليه‌السلام ، فإنه يجوز للاستشفاء ، ولا يتجاوز قدر الحمصة ، وفي الأرمني رواية بالجواز (٤٥) وهي حسنة لما فيه من المنفعة المضطر إليها.

أقول : المشهور بين الأصحاب جواز استعمال الطين الأرمني إذا دعت الضرورة اليه ، وقيل :إنه من طين قبر الإسكندر رحمه‌الله (٤٦) ويحصل الفرق بينه وبين تربة الحسين عليه‌السلام بأمور :

الأول : التربة يجوز تناولها للاستشفاء وإن لم يصفها الطبيب بل ولو حذر منها ، والأرمني لا يجوز تناوله إلا إذا كان موصوفا.

الثاني : التربة لا يجوز أن يتناول منها أكثر من الحمصة ، والأرمني لا يتقدر بقدر بل هو راجع الى تقدير الطبيب وإن زاد على قدر الحمصة.

الثالث : ان التربة محترمة لا يجوز تقريبها من النجاسة ، والأرمني ليس بمحترم.

والمحترم من التربة الذي لا يجوز تقريب النجاسة منه هو ما أخذ من الضريح أو من خارج ووضع على الضريح المقدس ، أما ما أخذ من خارج ولم يوضع على الضريح فإنه لم يثبت له الحرمة ، الا أن يأخذه بالدعاء المرسوم ويختم عليه فيثبت له الحرمة حينئذ.

قال رحمه‌الله : ولو قطر قليل من دم كالأوقية فما دون في قدر وهي تغلي

__________________

(٤٥) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٦٠ من أبواب الأطعمة المحرمة ، حديث ١.

(٤٦) كذا.

٦٥

على النار ، قيل : حل مرقها إذا ذهب الدم بالغليان ، ومن الأصحاب من منع الرواية ، وهو حسن.

أقول : اختلف الأصحاب في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :

الأول : طهارة المرق إذا كان الدم قليلا كالأوقية فما دون ، وهو مذهب الشيخ في النهاية ، لما رواه سعيد الأعرج عن الصادق عليه‌السلام ، « قال : سألته عن قدر فيها جزور وقع فيها قدر أوقية من دم ، أيؤكل؟ قال : نعم ، ثمَّ قال النار تأكل الدم » (٤٧).

الثاني : إطلاق القول بطهارته إذا ذهب الدم بالغليان وان كان كثيرا ، وهو مذهب المفيد وسلار ، لعموم رواية زكريا بن آدم ، عن الرضا عليه‌السلام ، « قال : سألته عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم ومرق كثير؟ قال : يهراق المرق أو يطعم أهل الذمة أو الكلاب ، واللحم اغسله وكله. قلت : فان قطر فيه الدم؟ قال : الدم تأكله النار إن شاء الله تعالى » (٤٨).

الثالث : نجاسة المرق سواء قل الدم أو كثر ، وهو مذهب ابن إدريس واستحسنه المصنف واختاره العلامة ، وهو المعتمد ، لأنه ماء قليل أو مضاف لاقته نجاسة فينجس.

قال رحمه‌الله : ولو كان المائع دهنا جاز الاستصباح به تحت السماء ، ولا يجوز تحت الأظلة ، وهل ذلك لنجاسة دخانه؟ الأقرب ، لا ، بل هو تعبد.

أقول : البحث هنا في موضعين :

الأول : في عدم جواز الاستصباح به تحت الأظلة ، وهو مذهب الشيخين

__________________

(٤٧) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٤٤ من أبواب الأطعمة المحرمة ، حديث ٢.

(٤٨) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٤٤ من أبواب الشربة المحرمة ، حديث ١.

مع اختلاف يسير.

٦٦

وابن البراج ، واختاره المصنف والعلامة وهو مذهب ابن إدريس ، وقال الشيخ في المبسوط : إنه مكروه ، واختاره فخر الدين ، لأصالة براءة الذمة ، ولأن دخانه ليس بنجس ، ولأن رواية معاوية بن وهب (٤٩) عن الصادق عليه‌السلام ، وصحيحة زرارة (٥٠) (٥١) مطلقتان من غير قيد بالسماء ، لكن الأول هو المشهور في فتاوي الأصحاب.

الثاني : هل عدم جواز الاستصباح به تحت الأظلة لنجاسة دخانه أو تعبد شرعي؟ نقل في المبسوط عن قوم أن كلما نقطع بنجاسته فدخانه نجس ، قال : وهو الذي دل عليه الخبر الذي قدمناه من رواية الأصحاب ، والذي قدمه جواز الاستصباح به تحت السماء دون السقف ، ثمَّ قال : وقال آخرون : ـ وهو الأقوى ـ ليس بنجس. وقال ابن إدريس : ويجوز الاستصباح به تحت السماء لا تحت الأظلة لا لأن دخانه نجس بل تعبد ، لأن دخان الأعيان النجسة ورمادها طاهران عندنا بغير خلاف بيننا ، واختاره المصنف والعلامة وهو المعتمد ، لأن النار تطهر ما أحالته رمادا أو دخانا.

قال رحمه‌الله : والكفار أنجاس ، ينجس المائع بمباشرتهم ، سواء كانوا أهل حرب ، أو أهل ذمة على أشهر الروايتين (٥٢).

أقول : تقدم البحث في ذلك (٥٣).

قال رحمه‌الله : ولو عجن بالماء النجس عجين لم يطهر بالنار إذا خبز على الأشهر.

__________________

(٤٩) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٤٣ من أبواب الأطعمة المحرمة ، حديث ١.

(٥٠) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٤٣ من أبواب الأطعمة المحرمة ، حديث ٢.

(٥١) في النسخ : ورواية زرارة عن الباقر عليه‌السلام.

(٥٢) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٥٢ و ٥٣ من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٥٣) ص ٦٤.

٦٧

أقول : قال الشيخ في باب المياه من النهاية بطهارته ، وقال في باب الأطعمة منها بعدمه ، وهو المعتمد ، لأن النار إنما تطهر ما أحالته رمادا أو دخانا.

قال رحمه‌الله : [ الرابع : ] الأعيان النجسة ، كالبول مما لا يؤكل لحمه ، نجسا كان الحيوان كالكلب والخنزير ، أو طاهرا كالأسد والنمر ، وهل يحرم ما يؤكل؟ قيل : نعم ، إلا بول الإبل ، فإنه يجوز للاستشفاء ، وقيل : يحل الجميع لمكان طهارته ، والأشبه التحريم لاستخباثها.

أقول : اختلف قولا المصنف في هذه المسألة ، اختار هنا تحريم الأبوال كلها لاستخباثها ، واختار (٥٤) في المختصر وفي باب البيع من هذا الكتاب المشروح الإباحة ، لأنها أعيان طاهرة فيكون الأبوال كلها مباحة ، وهو مذهب السيد المرتضى وابن الجنيد وابن إدريس ، فعلى هذا يجوز شرب الأبوال كلها لضرورة وغيره ضرورة.

والتحريم مذهب ابن حمزة واختاره العلامة والمصنف وأبو العباس في مقتصره فعلى هذا لو احتيج إليها للاستشفاء جاز (٥٥) شربها.

__________________

(٥٤) في الأصل : واختاره ، وفي « ن » ليست هذه الكلمة موجودة.

(٥٥) ليست في النسخ.

٦٨

في اللواحق

قال رحمه‌الله : إذا وجد لحما ولا يدرى أذكي هو أو ميت؟ قيل : يطرح في النار ، فان انقبض فهو ذكي ، وإن انبسط فهو ميت.

أقول : ما حكاه المصنف قول الشيخ في النهاية ، واختاره المصنف في المختصر جزما ، والمستند رواية شعيب (٥٦) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، « عن رجل دخل قرية فأصاب بها لحما لا يدرى أذكي هو أو ميت؟ قال : يطرحه في النار فما انقبض فهو ذكي ، وما انبسط فهو ميت » (٥٧) ، ومنع العلامة في القواعد من هذا القول ، واختاره فخر الدين وأبو العباس وهو المعتمد ، لأصالة التحريم في الصيد واللحم ما لم يعلم تذكيته ، ولو وجد عليه آثار التذكية كتقطيع القصاب وهو في بلاد الإسلام ، فهو حلال كالجلد إذا وجد في بلاد الإسلام وعليه آثار التذكية كالدباغة.

__________________

(٥٦) في النسخ : شبيب. والمصدر.

(٥٧) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٣٧ من أبواب الأطعمة المحرمة ، حديث ١.

مع اختلاف يسير.

٦٩

قال رحمه‌الله : لا يجوز أن يأكل الإنسان من مال غيره إلا بإذنه ، وقد رخص مع عدم الاذن في التناول من بيوت من تضمنته الآية إذا لم يعلم منه الكراهية ، ولا يحمل منه ، وكذا ما يمر به الإنسان من النخل ، وكذا الزرع والشجر على تردد.

أقول : الأصل عدم جواز التصرف في مال الغير بغير إذنه ، لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (٥٨) ، وقوله عليه‌السلام : « المسلم أخو المسلم لا يحل ماله الا عن طيب نفس منه » (٥٩) ، واخرج النص من هذا الأصل وجوها :

الأول : ثبوت من تضمنته الآية ، وهي قوله تعالى (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) (٦٠) إلى آخر الآية ، واشترط الأصحاب عدم علم الكراهية فلو تيقن الكراهية لم يحل الأكل ، ولو لم يعلم هل يكره أم لا؟ جاز الأكل لأصالة عدم الكراهية ، لأنه ألا يشترط علم عدم الكراهية بل يشترط عدم علم الكراهية والا لم يحصل الفرق (٦١) بين ثبوت من تضمنته الآية وبين غيرها ، لأنه مع علم عدم الكراهية يجوز الأكل من جميع البيوت ، لأن علم عدم الكراهية يقوم مقام الاذن الصريح في جواز الأكل من جميع البيوت ، ويكفي في ذلك غلبة الظن.

ونقل ابن إدريس عن بعض أصحابنا أنه لا يأكل إلا ما يخشى عليه التلف ،

__________________

(٥٨) البقرة : ١٨٨.

(٥٩) المضمون موجود في الوسائل ، كتاب القصاص ، باب ١ من أبواب القصاص في النفس ، حديث ٣ ، والمستدرك ، كتاب القصاص ، باب ١ من أبواب القصاص في النفس ، حديث ٦ ـ ٢٣.

(٦٠) النور : ٦١.

(٦١) ليست في الأصل.

٧٠

واشترط في جواز (٦٢) الأكل من غير إذن الاذن في الدخول ، والمشهور عدم اشتراط الاذن في الدخول ، بل يكفي البناء على حسن الظن ، لأن الروايات (٦٣) الدالة على جواز الأكل مطلقة غير مقيدة بالإذن في الدخول ، وكذلك الآية ، والمشهور أيضا عدم تقييد الأكل بما يخشى تلفه بل هو عام يتناول كل مأكول.

الثاني : الأموال المشتركة كالمباطخ والأشجار والنخل فان لكل واحد من الشريكين الأكل بدون شريكه بشرط عدم علم الكراهية لقوله تعالى (إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (٦٤).

الثالث : جواز الشرب والغسل والوضوء من المياه المملوكة ، كمياه الدوالي والدواليب وما شابه ذلك لشاهد الحال ، ولو علم الكراهية حرم.

الرابع : ما يمر به الإنسان من النخل والشجر والزرع ، وقد سبق البحث فيه في باب التجارة (٦٥).

قال رحمه‌الله : ولو ألقي في الخمر خل حتى يستهلكه لم يحل ولم يطهر ، وكذا لو ألقي في الخل خمر فاستهلكه الخل ، وقيل : يحل إذا ترك حتى يصير الخمر خلا ، ولا وجه له.

أقول : تصوير المسألة أن نفرض إناءان في أحدهما خمر وفي الآخر خل ، فوقع من إناء الخمر في إناء الخل قطرة فما زاد فنجس الخل لملاقاته النجاسة ، فلو فرضنا صيرورة الخمر الذي وقع منه في إناء الخل خلا ، فإنه يحل قطعا للإجماع على حله بانقلابه.

وهل يطهر الخل الذي فيه الخمر ويحل؟ فيه ثلاثة أقوال :

__________________

(٦٢) في « ر ١ » : في عدم جواز الأكل.

(٦٣) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٢٤ من أبواب آداب المائدة.

(٦٤) النساء : ٢٩.

(٦٥) من كتاب الشرائع ٢ : ٥٥ ( في لواحق بيع الثمار ) ولم يعلق الشارح على المسألة هناك.

٧١

الأول : الطهارة وحله ، وهو مذهب الشيخ في النهاية والتهذيب ، واستقربه العلامة في المختلف ، لأن انقلاب الخمر الواقع منه يدل على انقلاب الخمر الواقع في الخل (٦٦) فتزول نجاسة الخل ، لأن نجاسة الخل تابعة لنجاسة الخمر فاذا انقلب الى الخل طهر فيطهر الخل.

الثاني : حل الخل إذا مضت عليه مدة ينقلب (٦٧) في مثلها العين من التحليل الى التحريم ومن التحريم الى التحليل ، سواء انقلب الأصل أو لا ، وهو قول ابن الجنيد.

الثالث : بقاء الخل على النجاسة والتحريم ، لأصالة بقاء النجاسة ، وهو مذهب ابن إدريس واختاره المصنف والعلامة وهو المعتمد.

فروع : الأول : يطهر الخمر بانقلابه خلا إجماعا بشرط نجاستها بسبب التخمير ، فلو لاقاه نجاسة من خارج قبل انقلابه كمباشرة الكافر له أو غير ذلك لم يطهر بالانقلاب ، وإذا حكم بطهارته حكم بطهارة إنائه ، سواء كانت تامة أو ناقصة ، وسواء كان النقص ( بعد الامتلاء أو لا ، وسواء كان النقص ) (٦٨) بسبب الأخذ منه أو بسبب شرب الإناء له أو غير ذلك من الأسباب.

الثاني : لا يكره استعمال هذا الخل إذا انقلب من نفسه ، ويكره لو كان بعلاج ، وتطهر الأجسام الواقعة فيه للعلاج أو لغيره ، وان حكمنا بنجاستها قبل الانقلاب ، كما يطهر الإناء بعد الحكم بنجاسته ، لأن النجاسة لمكان الخمرة (٦٩) وقد زالت.

الثالث : العصير إذا غلى حرم ، ومعنى الغليان : أن يصير أسفله أعلاه ، ولا

__________________

(٦٦) من النسخ وليس في الأصل.

(٦٧) في النسخ : ينتقل.

(٦٨) ما بين القوسين ليس في « م ».

(٦٩) في « م » و « ر ١ » : الخمرية.

٧٢

فرق بين أن يكونه ذلك من نفسه أو بسبب تسخينه بالنار أو الشمس ، ولا يشترط ان يقذف بالزبد ، ولا صيرورته مسكرا فيحرم حينئذ العنب والرطب دون التمر والزبيب ، الا أن يصير مسكرا فيحرم حينئذ ، ويطهر بانقلابه خلا أو بذهاب ثلثيه ، ولا يشترط كون الذهاب بالغليان بل لو ذهب الثلثان بالشمس أو بالهواء حل ، وإذا حكم بطهارته حكم بطهارة القدر والمسواطة (٧٠) ، ويطهرا على القدر الذي قذف اليه الزبد بالغليان.

قال رحمه‌الله : أواني الخمر من الخشب والقرع والخزف غير المغضور ، لا يجوز استعماله لاستبعاد تخليصه ، والأقرب الجواز بعد زوال عين النجاسة وغسلها ثلاثا.

أقول : عدم جواز الاستعمال مذهب الشيخ في النهاية ، وقوى في المبسوط جواز الاستعمال واختاره ابن إدريس والمصنف والعلامة ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ويكره الإسلاف في العصير ، وأن يستأمن على طبخه من يستحل شربه قبل أن يذهب ثلثاه إذا كان مسلما ، وقيل : لا يجوز مطلقا ، والأول أشبه.

أقول : هنا مسألتان :

الأولى : الإسلاف في العصير ، قال الشيخ في النهاية : إنه مكروه ، لأنه لا يؤمن أن يطلبه صاحبه وقد تغير الى حال الخمر ، بل ينبغي أن يتبعه يدا بيد. وان كان لو فعل ذلك لم يكن محظورا ، وقال ابن إدريس ما ذكره شيخنا فيه نظر ، لأن السلف لا يكون إلا في الذمة ولا يكون في العين ، فاذا كان في الذمة فسواء تغير ما عنده الى حال الخمر أو لم يتغير فإنه يلزمه تسليم ما في ذمته اليه من أي موضع

__________________

(٧٠) في « م » : السواطة.

٧٣

كان ، فلا أرى لكراهيته وجها ، وانما هذا لفظ خبر واحد (٧١) أورده إيرادا ، وأجاب العلامة في المختلف بحمل كلام الشيخ على بيع عين مشخصة ، ويسلمها إليه في وقت معين ، وأطلق عليه اسم السلف مجازا.

الثانية : اختلف الأصحاب في جواز أن يؤتمن على طبخه من يستحل شربه قبل ذهاب ثلثيه ، قال الشيخ : لا يجوز ، لأنه لا يقبل شهادته في ذهاب ثلثيه ولا غيرها ، واختاره ابن إدريس وفخر الدين ، لرواية معاوية بن عمار (٧٢) ، عن الصادق عليه‌السلام ، واختار المصنف الجواز وهو اختيار العلامة في الإرشاد على كراهية.

__________________

(٧١) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به ، حديث ٣.

(٧٢) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٧ من أبواب الأشربة المحرمة ، حديث ٤.

٧٤

النظر في حال الاضطرار

قال رحمه‌الله : ولا يرخص للباغي ، وهو الخارج على الامام ، وقيل : الذي يبغي الميتة ، ولا العادي ، وهو قاطع الطريق ، وقيل : الذي يعد وشبعه.

أقول : إذا اضطر الباغي أو العادي إلى أكل الميتة لم يجز له إجماعا ، لقوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (٧٣) ، واختلفوا في تعريفهما ، والمشهور أن الباغي هو الخارج على الامام العادل ، والعادي هو قاطع الطريق.

ونقل المصنف والعلامة في القواعد والتحرير قولا بأن الباغي هو الذي يبغي الميتة ، والعادي هو الذي يعدو ويتبعه ، وقوى فخر الدين عدم الإباحة لهما معا واختاره الشهيد وهو المعتمد ، لأن باغي الميتة (٧٤) والعادي من اتبعه لا ضرورة له الى ذلك.

قال رحمه‌الله : ولو اضطر الى طعام الغير ، وليس له الثمن وجب على صاحبه بذله ، لأن في الامتناع اعانة على قتل المسلم ، وهل له المطالبة بالثمن؟

__________________

(٧٣) البقرة : ١٧٣.

(٧٤) من النسخ وما في الأصل غير واضح.

٧٥

قيل : لا ، لان بذله واجب فلا يلزم العوض ، وإن كان الثمن موجودا وطلب ثمن مثله وجب دفع الثمن ، ولا يجب على صاحب الطعام بذله ، لو امتنع من بذل العوض ، لأن الضرورة المبيحة لاقتساره مجانا زالت بالتمكن من البذل ، وإن طلب زيادة عن الثمن ، قال الشيخ : لا يجب الزيادة ، ولو قيل : تجب كان حسنا ، لارتفاع الضرورة بالتمكن.

أقول : هنا ثلاث مسائل :

الأولى : إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير بمعنى أنه إن لم يستعمله تلف ولم يكن المالك مضطرا اليه ، هل يجب على المالك بذله أم لا؟ قال الشيخ في المبسوط : يجب ، وقد ذكر المصنف الوجه في ذلك ، وهو عدم جواز الإعانة على قتل المسلم ، وفي الامتناع من بذل الطعام إعانة على ذلك ، وهو غير جائز فوجب البذل ، واختاره المصنف والعلامة وهو المعتمد ، وقال الشيخ في الخلاف : لا يجب البذل ، لأصالة براءة الذمة واختاره ابن إدريس.

الثانية : على المختار من وجوب البذل ، هل يجب على المضطر العوض إذا لم يكن (٧٥) يقدر عليه في الحال ، بمعنى أنه يصير متعلقا في ذمته يجب عليه دفعه عند القدرة عليه؟ نقل المصنف والعلامة قولا بعدم وجوب العوض لوجوب (٧٦) البذل ولا عوض على الواجب ، واختار فخر الدين الوجوب لعصمة مال الغير ، ولما فيه من الجمع بين الحقين وهو المعتمد.

الثالثة : أن يكون الثمن موجودا عند المضطر وطلب صاحب الطعام أزيد من ثمن المثل فحينئذ لا خلاف في وجوب دفع ثمن المثل ، وإنما الخلاف في دفع الزيادة ، لارتفاع الضرورة بالتمكن من دفع الزيادة ، واختاره العلامة وابنه وهو

__________________

(٧٥) ليست في النسخ.

(٧٦) في الأصل : لوجوب.

٧٦

المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو وجد ميتة وطعام الغير فان بذل له الغير طعامه بغير عوض أو بعوض هو قادر عليه ، لم يحل الميتة ، ولو كان صاحب الطعام غائبا أو حاضرا ولم يبذل وقوي صاحبه عن دفعه عن طعامه ، أكل الميتة فإن كان صاحب الطعام ضعيفا لا يمنع ، أكل الطعام وضمنه ولم تحل الميتة ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه من انتفاء الضرورة المبيحة لأكل الميتة ، لوجود طعام حلال بأن يقومه على نفسه ويأكله ثمَّ يؤدي قيمته عند القدرة عليها ، وانما يباح الميتة مع عدم وجود طعام غيرها ، وهو هنا موجود فلا يباح الميتة ، ومن عموم النهي (٧٧) عن التصرف بمال الغير من غير إذنه ، خرج منه جواز التصرف لدفع الضرورة التي لا تندفع الا بتناوله ، للإجماع على ذلك ، ولوجوب حفظ النفس ، والضرورة هنا مندفعة بتناول الميتة ، فلا يحصل الشرط المبيح لتناول مال الغير قهرا ، وهو قوى.

قال رحمه‌الله : ولو لم يجد المضطر ما يلزم رمقه سوى نفسه ، قيل : يأكل من المواضع اللحمة كالفخذين ، وليس شيئا إذ فيه دفع الضرر بالضرر.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : فان لم يجد المضطر شيئا حلالا (٧٨) بحال ، قال قوم : له أن يقطع من بدنه من المواضع اللحمة كالفخذ ونحوها ، لأنه لا يمنع من إتلاف البعض ، لاستبقاء الكل كما لو كان به أكله أو خبيثة فقطعها ، قال : والصحيح عندنا أنه لا يفعل ذلك ، لأنه إنما يأكل خوفا على نفسه ، وفي القطع منه خوف على نفسه فلا يزال الخوف بالخوف ، ويفارق الخبيثة ، لأن في قطعها قطع سراية ، وليس كذلك قطع موضع من بدنه ، لأن في قطعه إحداث سراية ، وتابعه

__________________

(٧٧) تقدمت الإشارة إليه من الكتاب والسنة.

(٧٨) ليست هذه الكلمة في « ر ١ » و « ن ».

٧٧

ابن إدريس والمصنف والعلامة وهو المعتمد ، وقوى فخر الدين الجواز ، لأن مع ترك الأكل يحصل الجزم بموته ، وعند قطع شي‌ء من لحمه يظن السلامة فكان أولى.

قال رحمه‌الله : ولو اضطر الى خمر وبول تناول البول ، ولو لم يجد إلا الخمر ، قال الشيخ في المبسوط : لا يجوز دفع الضرورة بها ، وقال في النهاية : يجوز ، وهو الأشبه.

أقول : ذهب ابن البراج والمصنف والعلامة إلى اختيار مذهب النهاية ، لأن إباحة الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير للمضطر مستلزم إباحة كل ما حرم تناوله ، لأن تحريمها أفحش فإباحته يستلزم إباحة الأدون ، واستدل الشيخ على مذهبه في المبسوط بما رواه الحلبي في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام « قال : سألته عن دواء عجن بالخمر؟ فقال : والله ما أحب النظر اليه فكيف أتداوى به وهو بمنزلة شحم الخنزير » (٧٩) ، ونحوها رواية عمر بن أذينة (٨٠) ، عن الصادق عليه‌السلام ورواية معاوية بن عمار (٨١) ، عنه عليه‌السلام أيضا.

__________________

(٧٩) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٢٠ من أبواب الأشربة المحرمة ، حديث ٤.

(٨٠) الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٢٠ من أبواب الأشربة المحرمة ، حديث ١.

(٨١) التهذيب ، كتاب الصيد والذبائح ، باب الذبائح والأطعمة ، حديث ٢٢٦ (٤٩١) وقريب منها عن علي بن جعفر ، الوسائل ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب ٢٠ من أبواب الأشربة المحرمة ، حديث ١٥.

٧٨

كتاب الغصب

٧٩
٨٠