غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٤

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

حق ، وانما يستحق الإحضار بعد اليمين ، ولا بأس بهذا القول.

ج ) لو طلب المدعي الإمهال باليمين المردودة أمهل ؛ لأن الحق له بخلاف المنكر ، فإنه لو طلب الإمهال لم يمهل ؛ لأن الحق عليه.

قال رحمه‌الله : لو كان له بينة فأعرض عنها والتمس يمين المنكر [ أو ] قال : أسقطت البينة وقنعت باليمين ، فهل له الرجوع؟ قيل : لا ، وفيه تردد ، ولعل الأقرب الجواز ، وكذا البحث لو أقام شاهدا فاعرض عنه ، وقنع بيمين المنكر.

أقول : قال الشيخ : ليس له الرجوع ؛ لأن إقامة البينة واليمين حق له وقد أسقطه فلا يعود اليه الا بدليل ، ويحتمل عدم السقوط ؛ لأن الحق له (٤٧) لا يسقط بالاعراض ، والأصل بقاؤه ما لم يحلف المنكر ، وهو اختيار المصنف والعلامة وابنه.

قال رحمه‌الله : أما لو ادعى الصغير الحربي الإنبات بعلاج لا بالسن ليتخلص عن القتل ، فيه تردد ، ولعل الأقرب أنه لا يقبل الا مع البينة.

أقول : تقبل (٤٨) دعوى الصبي المسلم البلوغ من غير يمين وإلا دار ، وتقبل دعواه عدم البلوغ من غير يمين أيضا (٤٩) ، وإلا لزم من صحة اليمين إبطالها.

أما لو وقع صبي من المشركين في يد المسلمين فادعى عدم البلوغ ليسلم من القتل ويلحق بالذراري ، فاعتبر فوجد الشعر الخشن على عانته ، فادعى أنه استنبته بالدواء ، هل يقبل منه ذلك بلا يمين ، أو مع اليمين ، أو لا يقبل إلا بالبينة؟ فيه ثلاثة احتمالات :

أ ) القبول بلا يمين ؛ لأن مجرد الدعوى شبهة والقتل حد ، وقال عليه‌السلام :

__________________

(٤٧) من الأصل.

(٤٨) في الأصل : ( لا يقبل ).

(٤٩) ليست في الأصل.

٢٤١

« ادرءوا الحدود للشبهات » (٥٠) ؛ ولأن دعواه موافقة للأصل ؛ لأن الأصل عدم البلوغ والقتل موقوف على تحقق الوقوع (٥١) ، وهو لم يتحقق فلا يقتل ويقبل قوله من غير يمين ، كدعوى الذمي الإسلام قبل الحول (٥٢) ، ودعوى إخراج الزكاة وابدال النصاب ونقص الخرص ، فكما أن الدعوى بهذه الأشياء (٥٣) مقبولة بغير يمين ؛ لأنها حقوق الله وهي مبنية على التخفيف كذلك هذه الدعوى ، ولأن يمين غير البالغ غير معتبرة فإذا قبل قوله بعدم القبول فلا فائدة بيمينه.

ب ) لا يقبل دعواه إلا باليمين ، وهو قول الشيخ في المبسوط واختاره العلامة ، ونقله فخر الدين عن كثير من الفقهاء ؛ لأنه محكوم ببلوغه ظاهرا ، ولا يزول هذا الحكم بمجرد دعواه فلا بدّ له من مزيل ، فقد (٥٤) يتعذر إقامة البينة فلم يبق غير اليمين.

ج ) لا يقبل دعواه إلا بالبينة ، وهو اختيار المصنف ؛ لأن الشارع جعل الإنبات أمارة البلوغ وقد وجدت فيوجد البلوغ ، ودعواه مخالفة للظاهر فلا يقبل إلا بالبينة ، ولأنه لو كان عدم العلاج شرطا لما جاز قتل محتمل المعالجة إلا بعد علم انتفائها ، وهو باطل إجماعا.

__________________

(٥٠) الوسائل ، كتاب الحدود ، باب ٢٤ من أبواب المقدمات ، حديث ٤.

(٥١) في « ر ١ » : البلوغ.

(٥٢) في « م » : الحلول.

(٥٣) في « ن » : الأسباب.

(٥٤) كذا.

٢٤٢

في اليمين مع الشاهد

قال رحمه‌الله : وضابطه ما كان مالا ، أو المقصود منه مال ، وفي النكاح تردد.

أقول : منشؤه من أن المشهور من فتاوى أصحابنا عدم ثبوت النكاح بالشاهد واليمين ، ومن أنه عقد معاوضة على مال فيثبت بالشاهد واليمين. واستقرب العلامة الثبوت إن كان المدعي المرأة ؛ لأنها تدعي ما يستلزم المال إن كان بعد الدخول والتسمية. وظاهر فخر الدين عدم الثبوت مطلقا ؛ لان المقصود من النكاح الإحصان وكف النفس وحصول التناسل ، والمهر والنفقة تابعان.

قال رحمه‌الله : وفي الوقف إشكال منشؤه النظر الى من ينتقل ، والأشبه القبول ، لانتقاله الى الموقوف عليهم.

أقول : على القول بانتقال الوقف الى الله تعالى لا يثبت بالشاهد واليمين ، وعلى القول بانتقاله الى الموقوف عليهم يثبت بهما ، وقد مضى تحقيق البحث في ذلك في باب الوقف (٥٥).

__________________

(٥٥) ج ٢ ص ٣٧٨.

٢٤٣
٢٤٤

في كتاب قاض الى قاض

قال رحمه‌الله : إنهاء حكم الحاكم الى الآخر : إما بالكتابة أو العقول أو الشهادة ، أما الكتابة فلا عبرة بها ، لإمكان التشبيه ، واما القول مشافهة فهو أن يقول للآخر : حكمت بكذا ، أو أنفذت ، أو أمضيت ، ففي القضاء به تردد ، نص الشيخ في الخلاف : انه لا يقبل.

أقول : منشأ التردد من أن حكم الحاكم الثاني بمجرد أخبار الأول قول في الشرع بغير علم ، وهو غير جائز ، لقوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٥٦) ، وقوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٥٧) ، ومن أنه لما كان حكم الحاكم الأول مقبولا ماضيا كان إخباره مقبولا أيضا ، وهو اختيار العلامة في القواعد ، وبه قال الشهيد ، اما لو لم يقل : حكمت ، ولا أنفذت ولا أمضيت ، بل قال : ثبت عندي ، لم ينفذه الثاني قطعا ؛ لأن الأول لم يحكم ، والثاني لم يجز له ان يحكم بما ثبت عند غيره.

__________________

(٥٦) الاسراء : ٣٦.

(٥٧) البقرة : ١٦٩.

٢٤٥

قال رحمه‌الله : إذا عرفت هذا ، فالعمل بذلك مقصور على حقوق الناس ، دون الحدود وغيرها في حقوق الله تعالى ، فما ينهى إلى الحاكم أمران ، أحدهما : حكم وقع بين متخاصمين ، والثاني : إثبات دعوى مدع على غائب ، فإن حضر شاهدا لإنهاء خصومة الخصمين سمعاها يحكم به الحاكم ، وأشهدهما على حكمه ثمَّ شهدا بالحكم عند الأخر ، ثبت بشهادتهما حكم ذلك الحاكم ، وأنفذ ما ثبت عنده الا [ لا ] أنه يحكم بصحة الحكم في نفس الأمر إذ لا علم له به ، بل الفائدة فيه قطع خصومة الخصمين لو عاودا المنازعة في تلك الواقعة وإن لم يحضر الخصومة نحكي لهما الواقعة وصورة الحكم وسمى المتحاكمين بأسمائهما وابائهما وصفاتهما وأشهدهما على الحكم ، ففيه تردد والقبول أولى ؛ لأن حكمه كما كان ماضيا كان إخباره ماضيا.

أقول : منشأ هذا التردد كمنشأ التردد السابق من غير فرق ، إلا أن اخباره في الأولى للحاكم الأخر وهنا للشهود ، فكما جاز أن يشهدا بالحكم جاز لهما الشهادة بالأخبار ، وهو اختيار العلامة في القواعد.

واعلم أن المصنف قد ذكر في هذا الفصل تردد آخر ، ومنشؤه معلوم من هنا فلا فائدة في ذكره ؛ لأن منشأ الجميع واحد وإن تغابرت المسائل.

٢٤٦

في مبحث القسمة

قال رحمه‌الله : وفي التراضي بقسمة الكافر نظر ، أقربه الجواز ، كما لو تراضيا بأنفسهما من غير قاسم.

أقول : منشؤه من عدم جواز الركون الى الكافر ، ومن عدم اشتراط الأمانة في غير القاسم المنصوب من جهة الامام ، ولقد جزم العلامة في القواعد والتحرير ، والشهيد في الدروس بجواز قسمة الكافر إذا تراضيا به.

قال رحمه‌الله : المنصوب من قبل الامام تمضي قسمته بنفس القرعة ، ولا يشترط رضاهما [ بعدها ] وفي غيره يقف اللزوم على الرضا بعد القرعة ، وفي هذا إشكال من حيث أن القرعة وسيلة إلى تعيين الحق ، وقد قارنها الرضا.

أقول : ومن حصول الفرق بين قسمة قاسم الامام وقسمة غيره ؛ لأن قسمة قاسم الإمام بمنزلة حكمه ، فلهذا كانت لازمة بعد القرعة بخلاف قسمة غيره ، لأن الأصل بقاء الاشتراك ما لم يحصل التراضي بعد القرعة ، وبه جزم العلامة في التحرير وهو أحوط ، وجزم الشهيد بعدم اعتبار التراضي بعد القرعة إلا في قسمة الرد خاصة.

٢٤٧

قال رحمه‌الله : ويتحقق الضرر المانع من الإجبار بعدم الانتفاع بالنصيب بعد القسمة [ وقيل ] بنقصان القيمة ، وهو أشبه ، وللشيخ قولان.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : والضرر عند قوم أن لا ينتفع بما يفرد له ولا يراعى نقصان قيمته ، وهو قول الأكثر ، وهو الأقوى ، وقال بعض المتأخرين : الضرر نقصان قيمة سهمه بالقسمة ، فمتى نقص بالقسمة فهو الضرر وهو قوي أيضا. وهذا يدل على تردده.

وذهب المصنف والعلامة إلى حصول الضرر بنقصان القيمة ، لعموم قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار » (٥٨).

قال رحمه‌الله : وإذا سألا الحاكم القسمة ولهما بينة بالملك قسم ، وإن كان يدهما عليه ولا تنازع ، قال في المبسوط : لا يقسم ، وقال في الخلاف : يقسم ، وهو أشبه ؛ لأن التصرف دال على الملك.

أقول : احتج المانع من القسمة بأن قسمة الحاكم حكم بالملك من غير حجة ، وهو باطل ، فأجاب الشيخ في الخلاف عن هذا بأنا نحترز من هذا بأن تكتب الصورة بأنه قسم بينهما بقولهما ، فاذا قال هذا لا يكون قد حكم لهما بالملك ، وهو اختيار المصنف والعلامة (٥٩) وابنه (٦٠) ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : وإن تساويت الحصص قيمة لا قدرا ، مثل أن يكون لواحد النصف وللآخر الثلث وللآخر السدس ، وقيمة أجزاء ذلك الملك متفاوتة [ متساوية ] سويت السهام على أقلهم نصيبا فجعلت أسداسا ثمَّ كم يكتب رقعة؟ فيه تردد بين أن يكتب بعدد الشركاء ، أو بعدد السهام ، والأقرب الاقتصار على

__________________

(٥٨) الوسائل ، كتاب احياء الموات ، باب ١٢ ، حديث ٣ ، وفيه ( ضرار ) بدل ( إضرار ).

(٥٩) ليست في « م » و « ن » و « ر ١ ».

(٦٠) ليست في « ن ».

٢٤٨

عدد الشركاء ، لحصول المراد به ، فالزيادة كلفة.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : يكتب ست رقاع ، لصاحب السدس رقعة ، ولصاحب الثلث رقعتان ، ولصاحب النصف ثلاثة رقاع ، قال : وقال بعضهم : تجزي ثلاث رقاع ؛ لأنها إنما تخرج القرعة مرتين ويكتفي بها عن الثالث ، فإذا أمكن الاختصار فلا معنى للتطويل ، قال : والأول أقوى ؛ لأن كل من كان سهمه أكثر كان حظه (٦١) أوفر وله مزية على صاحب الأقل ، فإذا كتب لصاحب النصف ثلاث رقاع كان خروج قرعته أسرع وأقرب وإذا كتب له واحدة كان خروج قرعته وقرعة صاحب السدس سواء ، ولهذا قيل : يكتب له أكثر من رقاع غيره ، قال : والثاني أيضا قوي ؛ لأنا فرضنا أن القسمة متساوية فلا فائدة في ذكر التقديم والتأخير ، وهذا يدل على تردده ، والمعتمد اختيار المصنف وهو مذهب العلامة.

قال رحمه‌الله : ولو كان المستحق مشاعا بينهما ، فللشيخ رحمه‌الله قولان : أحدهما : لا يبطل فيما زاد عن المستحق ، والثاني : يبطل ؛ لأنها وقعت من دون إذن الشريك ، وهو أشبه.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : إذا كان بينهما ضيعة نصفين فاقتسماها فبان ثلثها مستحقا ، فان كان معينا وحصل بينهما بالسوية لم تبطل القسمة ، والا بطلت. وإن كان مشاعا بطلت في قدر المستحق ، ولم تبطل فيما بقي وقال قوم : تبطل فيما بقي ، والأول مذهبنا ، والثاني قوي ؛ لأن القسمة تميز حق كل منهما عن صاحبه وقد بان أنه على الإشاعة ، قال : والعلة الجيدة أنهما اقتسماها نصفين وثلثها لغائب ومن قسم ما هو شرك بينه وبين غيره من غير حضوره كانت القسمة باطلة ، والى هذه العلة أشار المصنف بقوله ( لأنها وقعت من دون إذن الشريك ) ، والمعتمد مذهب

__________________

(٦١) في « ن » : حديث صته.

٢٤٩

المصنف وهو اختيار العلامة.

٢٥٠

في أحكام الدعوى

قال رحمه‌الله : المدعي : هو الذي يترك لو ترك الخصومة ، وقيل : هو الذي يدعي خلاف الأصل أو أمرا خفيا ، وكيف عرفناه فالمنكر في مقابلته.

أقول : اجتمعت (٦٢) الأمة على أن البينة على المدعي واليمين على المنكر ، والأصل في ذلك قوله عليه‌السلام : « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (٦٣) ، وقيل : إن السبب في ذلك أن جانب المنكر أقوى من جانب المدعي لموافقة دعوى المنكر للأصل ؛ لأن الأصل براءة ذمته مما يدعيه عليه المدعي ، ومخالفة دعوى المدعي للأصل ، والبينة أقوى من اليمين لعدم التهمة فيها ، والإنسان قد يتهم بدعواه لنفسه فاعطى الشارع أقوى الحجتين لأضعف الجانبين ، وأضعف الحجتين لأقوى الجانبين ، ليجيز الضعيف القوي ليحصل المعادلة بينهما ، فهذه القاعدة أحوجت إلى معرفة المدعي من المدعى عليه ، ليطالب كل منهما بحجته ، وقد عرفوا المدعى بثلاث تعريفات :

__________________

(٦٢) في النسخ : أجمعت.

(٦٣) الوسائل ، كتاب القضاء ، باب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، حديث ٣.

٢٥١

الأول : الذي يترك لو ترك الخصومة ، فيكون المدعى عليه من لا يترك لو سكت.

الثاني : هو الذي يدعي خلاف الأصل ، والمدعى عليه هو الذي يوافق الأصل.

الثالث : هو الذي يدعي أمرا خفيا ، فيكون المدعى عليه هو الذي يدعي ما يوافق الظاهر.

إذا عرفت هذا فاذا ادعى زيد دينارا أو عينا على عمرو فزيد هو المدعي على التعريفات الثلاث ؛ لأنه لو سكت ترك وسكوته ، ولأنه هو الذي يدعي خلاف الأصل وخلاف الظاهر ؛ لأن الأصل والظاهر براءة ذمة عمرو مما يدعيه زيد.

والفائدة إنما تظهر في مثل ما إذا أسلم الزوجان قبل الدخول وادعى الزوج تقارن الإسلام ليثبت العقد ، وادعت الزوجة تعاقبه لينفسخ العقد ، فان قلنا : المدعي من يترك لو ترك الخصومة فالزوجة مدعية ؛ لأنها لو تركت لما نازعها (٦٤) الزوج واستقر العقد فيحلف الزوج ويستقر عقده ، وكذا لو قلنا : إن المدعي هو الذي يدعي خلاف الأصل ، فالزوجة المدعية ؛ لأن الأصل عدم تقدم (٦٥) أحدهما على الأخر ، وإن قلناه : إن المدعي هو الذي يدعي خلاف الظاهر فالزوج هو المدعي ؛ لأن التقارن (٦٦) نادر والظاهر التعاقب.

ولو انعكست الدعوى فادعت الزوجة التقارن لتثبت النكاح والمهر ، وقال الزوج : أسلمت قبل فلا نكاح ولا مهر ، فعلى التفسير الأول فالمدعي الزوجة ؛

__________________

(٦٤) في « ن » : بان عنها.

(٦٥) من النسخ وفي الأصل : تقديم.

(٦٦) من النسخ وفي الأصل : والتقارن.

٢٥٢

لأنها تخلى وسكوتها ، وكذا على الثالث ، لندور الاقتران ، وعلى الثاني فالمدعي الزوج ؛ لأن الأصل عدم سبق أحدهما على الأخر ، ففي المسألة الأولى الزوجة مدعية على الأول والثاني ، والزوج مدعي (٦٧) على الثالث وفي المسألة الثانية الزوجة مدعية على الأول والثالث ، والزوج مدع على الثاني.

قال رحمه‌الله : ولو ادعى المنكر فسق الحاكم أو الشهود ولا بينة ، وادعى علم المشهود له ، ففي توجه اليمين على نفي العلم تردد ، أشبهه عدم التوجه ؛ لأنه ليس له حقا لازما ، ولا يثبت بالنكول ولا باليمين المردودة ؛ لأنه [ يثير ] فسادا.

أقول : ومن أنه ينتفع به في حق لازم ، وهو بطلان الحكم مع الإقرار ، فحينئذ لو صدقه على فسق الحاكم أو الشهود وبطل الحكم ولم تبطل الدعوى ، فله اعادتها عند غير ذلك الحاكم ، وله إقامة غير تلك الشهود. والمعتمد عدم توجه اليمين ، وهو اختيار المصنف وفخر الدين والشهيد. أما لو التمس بعد إقامة البينة عليه إحلاف المدعي على الاستحقاق أجيب ، قاله العلامة في القواعد جزما.

قال رحمه‌الله : وفي إلزامه بالجواب عن دعوى الإقرار تردد ، منشؤه أن الإقرار لا يثبت حقا في نفس الأمر ، بل إذا ثبت قضى به ظاهرا.

أقول : منشؤه من أنه ينتفع به مع التصديق ؛ لأنه لو صدقه بأنه قد أقر له الزم بذلك الإقرار ، ومما قاله المصنف ، وبيانه : أن الإقرار لا يوجب حقا في نفس الأمر ؛ لأنه لو علم المقر له كذب المقر بما أقر به لم يحل له أخذ المقر به ، فلهذا قال المصنف : الإقرار لا يثبت حقا في نفس الأمر ، والمعتمد وجوب الجواب وهو اختيار العلامة وابنه.

قال رحمه‌الله : ولو كان المدين حاضرا و[ جاء ] للغريم بينة تثبت عند الحاكم ، والوصول اليه ممكن ففي جواز الأخذ تردد أشبهه الجواز ، وهو الذي

__________________

(٦٧) كذا.

٢٥٣

ذكره الشيخ في الخلاف والمبسوط ، وعليه دل عموم الاذن في الاقتصاص.

أقول : هذا هو المشهور ، لعموم قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٦٨) ولقوله عليه‌السلام : « الواجد يحل عقوبته وعرضه » (٦٩) واختاره المصنف هنا والعلامة والشهيد ، ويحتمل عدم الجواز ؛ لان التسلط (٧٠) على مال الغير خلاف الأصل ، فيقتصر على محل الضرورة ، وهو عدم (٧١) وجود البينة وتعذر (٧٢) الوصول الى الحاكم ، ونقله الشهيد عن المصنف في المختصر.

قال رحمه‌الله : ولو لم يكن بينة أو تعذر الوصول الى الحاكم ، ووجد الغريم من جنس ماله اقتص مستقلا بالإيفاء [ بالاستيفاء ] ، نعم لو كان المال وديعة عنده ، ففي جواز الاقتصاص تردد أشبهه الكراهية ، ولو كان من غير جنس الموجود أخذه بالقيمة العدل.

أقول : الكراهية مذهب الشيخ في الاستبصار ، وبه قال ابن إدريس : واختاره المصنف والعلامة والشهيد ، لرواية أبي العباس (٧٣) عن الصادق عليه‌السلام الدالة على المطلوب ، وذهب الشيخ في النهاية (٧٤) وابن البراج وابن زهرة إلى تحريم الأخذ ، لعموم قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (٧٥) وهو ينافي جواز الأخذ ، ولرواية ابن أبي عمير (٧٦) ، عن أبي

__________________

(٦٨) البقرة : ١٩٤.

(٦٩) الوسائل ، كتاب الدين ، باب ٨ من أبواب القرض ، حديث ٤.

(٧٠) في « ر ١ » : التسليط.

(٧١) في النسخ : مع عدم.

(٧٢) في النسخ : أو تعذر.

(٧٣) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٨٣ من أبواب ما يكتسب به ، حديث ١.

(٧٤) في « ن » : الاستبصار.

(٧٥) النساء : ٥٨.

٢٥٤

عبد الله عليه‌السلام الدالة على عدم الجواز ، والأول هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو تلفت قبل البيع ، قال الشيخ : الأليق بمذهبنا أنه لا يضمنها ، والوجه الضمان ؛ لأنه قبض لم يأذن فيه المالك ، ويتقاصان [ بقيمتها ] مع التلف.

أقول : إذا أخذ من مال (٧٧) المماطل شيئا كان مخيرا بين أن يتملكه بالقيمة وبين البيع إذا لم يكن من جنس الحق ، فإن تلف قبل التملك أو قبل البيع ، هل يضمنه؟ قال الشيخ : لا يضمنه ؛ لأنه قبضه قبضا مشروعا فلا يتعقبه ضمان ، وقال المصنف : يضمنه ، وقد ذكر وجهه واختاره العلامة ، وهو المعتمد ؛ لأنه قبضه لنفسه فيكون مضمونا عليه.

قال رحمه‌الله : لو انكسرت سفينة في البحر ، فما أخرجه البحر فهو لأهله ، وما أخرج بالغوص فهو لمخرجه ، وبه رواية في سندها ضعف.

أقول : الرواية إشارة إلى ما رواه الحسين بن يقطين ، عن أمية بن عمرو ، عن الشعيري : « قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سفينة انكسرت في البحر فاخرج بعضه بالغوص واخرج البحر بعض ما غرق فيها؟ فقال : أما ما أخرجه البحر فهو لأهله الله أخرجه ، وأما ما اخرج بالغوص فهو لهم وهم أحق به » (٧٨) وأوردها الشيخ في النهاية على صورتها ، واستضعفها المصنف ؛ لأن أمية بن عمرو واقفي. وقال ابن إدريس : ما أخرجه البحر فهو لأهله ، وما أخرج بالغوص ، فان تركه أهله آيسين منه فهو لمن أخرجه وغاص عليه ؛ لأنه بمنزلة المباح ، كالبعير يترك من جهد في غير كلاء ولا ماء ، فإنه يكون لواجده ، وادعى

__________________

(٧٦) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٨٣ من أبواب ما يكتسب به ، حديث ١.

(٧٧) ليست في الأصل.

(٧٨) الوسائل ، كتاب اللقطة ، باب ١٢ ، حديث ٢.

٢٥٥

الإجماع على ذلك ؛ لأن الأصل بقاء الملك على مالكه ما لم يعلم المخرج ، واستحسن أبو العباس في مقتصره قول ابن إدريس.

٢٥٦

في الاختلاف في دعوى الاملاك

قال رحمه‌الله : لو تنازعا عينا في يدهما ولا بينة ، قضى بها بينهما نصفين ، وقيل : يحلف كل واحد منهما لصاحبه.

أقول : المشهور أنه لا يقضى بينهما (٧٩) نصفين إلا بعد أن يتحالفا ؛ لأن كل واحد مدع بالنصف ، ومدع عليه في النصف الأخر ، فإن حلفا أو نكلا استقرت العين بينهما ويحلف كل واحد منهما على النفي ، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر ردت اليمين على الحالف ، فيحلف على الإثبات في النصف الأخر ؛ لأن هذه يمين المدعي المردودة ، ولو نكل الأول الذي بدأ به القاضي تحكما (٨٠) أو بالقرعة ، عرض على الثاني يمين النفي واليمين المردودة ، ويكفى يمين واحدة جامعه بين النفي والإثبات ، فيحلف أن جميع العين له ليس لصاحبه فيها حق ، ولو قال : والله إن النصف الذي يدعيه ليس له فيه حق والنصف الأخر لي كفاه ؛ لأن الواجب في يمين النفي أن ينفيه عن المدعي ولا يجب عليه أن يثبته لنفسه.

__________________

(٧٩) في « م » : بها.

(٨٠) في الأصل تحاكما.

٢٥٧

قال رحمه‌الله : وفي الثاني يقضى بها للخارج دون المتشبث ، ان شهدت لهما بالملك المطلق ، وفيه قول آخر ذكره في الخلاف بعيد ، ولو شهدتا بالسبب ، قيل : يقضي لصاحب اليد ، لقضاء علي عليه‌السلام في الدابة ، وقيل : يقضى للخارج ؛ لأنه لا بينة على ذي اليد كما لا يمين على المدعي عملا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « واليمين على من أنكر » ، والتفصيل قاطع الشركة ، وهو أولى ، أما لو شهدت للمتشبث بالسبب ، وللخارج بالملك المطلق ، فإنه يقضي لصاحب اليد ، سواء كان السبب مما لا يتكرر كالنتاج ونساجة الثوب الكتان ، أو يتكرر كالبيع ، أو الصياغة ، وقيل : يقضي للخارج ، وإن شهدت بينة بالملك المطلق عملا بالخبر ، والأول أشبه.

أقول : إذا تداعيا عينا في يد أحدهما وأقام كل منهما بينة فلا يخلوا ، إما ان تشهد لهما بالملك المطلق ، أو تشهد لهما بالسبب ، أو تشهد لأحدهما بالملك المطلق وللآخر بالسبب ، فالأقسام أربعة :

أ ) أن تشهد لهما بالملك المطلق ، قال الشيخ في الخلاف : إن البينة بينه الداخل سواء أطلقتا أو قيدتا بالسبب ؛ لأن له بينة ويد ، ولما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عليه‌السلام : « أن أمير المؤمنين عليه‌السلام اختصم اليه رجلان في دابة وكل منهما أقام بينة أنه أنتجها فقضى بها للذي هي في يده ، وقال لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين » (٨١) ، ومثلها رواية جابر (٨٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. واستبعده المصنف (٨٣) ، وهو مذهب الشيخ في التهذيب (٨٤) والاستبصار ، لقوله عليه‌السلام : « البينة على المدعي واليمين على

__________________

(٨١) الوسائل ، كتاب القضاء ، باب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ، حديث ٣.

(٨٢) سنن البيهقي ـ ج ١٠ ـ ص ٢٥٦.

(٨٣) في الأصل بعد هذا عبارة غير موجودة في النسخ وهي : وما اختاره من تقديم الخارج.

(٨٤) في « ن » : النهاية.

٢٥٨

من أنكر » (٨٥) ولا شك أن المتشبث منكر فيكون الخارج هو المدعي والبينة (٨٦) بينته ، ولعدم دلالة الحديث على مطلوبه ؛ لأنه مقيد بالسبب فلا دلالة فيه على الإطلاق.

ب ) أن تشهد لهما بالسبب ، فهنا يقدم الداخل عند الشيخ في الخلاف والتهذيب والاستبصار ، والخارج عند الصدوقين والمفيد ، للحديث المشهور بين الأصحاب فيقدم الخارج لما تقدم من قوله عليه‌السلام : « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (٨٧) ، جعل عليه‌السلام لكل واحد حجة ، وكما لا يمين على المدعي لا بينة على المنكر ، والا لزم الاشتراك بين المدعي والمنكر في البينة واليمين ، فلا يتحقق فائدة التفصيل أي تخصيص كل واحد بشي‌ء ، وهو معنى قوله ( والتفصيل قاطع للشركة ) أي تخصيص المدعي بالبينة والمنكر باليمين قاطع لشركتهما بالبينة واليمين ، وهو اختيار المصنف والعلامة وابنه ، وهو المعتمد.

ج ) أن تشهد بينة الخارج بالملك المطلق والداخل بالسبب ، فهنا قال الشيخ في النهاية : يحكم له واختاره المصنف والعلامة وابنه ، لتأييد اليد بالسبب ، ولرواية غياث بن إبراهيم المتقدمة عن علي عليه‌السلام ، ورواية جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال ابن إدريس : يقضى للخارج مطلقا ، لعموم قوله عليه‌السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ».

د ) ان تقيد بينة الخارج بالسبب ويطلق بينة الداخل ، فهنا يقدم الخارج بلا خلاف ؛ لأن القائل بتقديم بينة الداخل قيد ذلك بإطلاقهما أو بشهادتهما لهما بالسبب أو بتقييد الداخل بالسبب مع إطلاق الخارج ، ولم يقل احد بتقديم بينه

__________________

(٨٥) الوسائل ، كتاب القضاء ، باب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، حديث ٣.

(٨٦) في ن : فالبينة.

(٨٧) الوسائل ، كتاب القضاء ، باب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، حديث ٣.

٢٥٩

الداخل مع إطلاقها وتقييد بينه الخارج بالسبب.

قال رحمه‌الله : ولو كانت في يد ثالث ، قضى بأرجح البينتين عدالة ، فإن تساويا قضى لأكثرهما شهودا ، ومع التساوي عددا وعدالة يقرع بينهما فمن خرج اسمه أحلف وقضي له ، وإن امتنع أحلف الأخر وقضي له ، وإن نكلا قضي به بينهما بالسوية ، وقال في المبسوط : يقضى بالقرعة إن شهدتا بالملك المطلق ، ويقسم بينهما ان شهدتا بالملك المقيد ، وإن اختصت إحداهما بالتقييد قضى بها دون الأخرى ، والأول أنسب بالمنقول.

أقول : ما حكاه أولا ـ وهو الحكم بالقرعة مع التساوي عددا وعدالة ـ قول الشيخ في النهاية ، وتبعه ابن البراج واختاره المصنف والعلامة وابنه ، وقد ورد فيه وفي قول المبسوط روايتان (٨٨) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانما كان مذهب النهاية أنسب بالمنقول ؛ لأنهما بينتان تعارضتا ولا ترجيح لأحدهما على الأخرى ، ولا يجوز إبطالهما ، فيتعين الجمع بينهما بالقسمة بعد القرعة واليمين ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ويتحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد والمرأتين ، ولا يتحقق بين شاهدين وشاهد ويمين ، وربما قال الشيخ نادرا : يتعارضان ويقرع بينهما.

أقول : الشيخ ذكر هذه المسألة في موضعين من المبسوط ، أحدهما : فصل الرجوع عن الشهادة ، وحكى الخلاف فيها ولم يختر شيئا ، والأخر : فصل الدعاوي والبينات ، واختار عدم التعارض بل تقدم الشاهدان والشاهد والمرأتان على الشاهد واليمين ، وصرح في الخلاف بعدم التعارض أيضا ، وهو المعتمد.

__________________

(٨٨) الوسائل ، القضاء ، باب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ، حديث ١ و ٦.

٢٦٠