غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٤

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

في ميراث الغرقى والمهدوم عليهم

قال رحمه‌الله : وفي ثبوت هذا الحكم بغير سبب الهدم والغرق مما يحصل معه الاشتباه تردد.

أقول : إذا اشتبه تقدم موت أحد بسبب غير الهدم والغرق ، كالقتل والحريق وأكل السبع ، هل يحصل بينهما توارث أم لا؟ نص ابن حمزة وأبو الصلاح على التوارث كالغرق والهدم ، وهو ظاهر الشيخ في النهاية وابن الجنيد ، واختاره العلامة في المختلف (١٠٤) ، وقصره المفيد على الغرق والهدم ، واختاره العلامة في التحرير والمختلف ، وبه قال فخر الدين وأبو العباس في المقتصر ، وتردد المصنف ومنشؤه من الاشتراك في العلة ، وهي الاشتباه ( فيجب الاشتراك ) (١٠٥) في الحكم ، ومن أن الأصل اشتراط الإرث بحياة الوارث بعد موت الموروث ، وهو هنا مجهول ولا يجوز الحكم بالمشروط مع الجهل بالشرط ،

__________________

(١٠٤) في النسخ : القواعد.

(١٠٥) ما بين القوسين ليس في « ر ١ ».

٢٠١

ترك العمل بذلك في الغرقى والمهدوم عليهم للنص (١٠٦) والإجماع ، يبقى الباقي على أصالة المنع ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : فمع حصول الشرائط يرث بعضهم من بعض ، ولا يرث الثاني مما ورث منه ، وقال المفيد رحمه‌الله : يرث مما ورث منه ، والأول أصح.

أقول : إذا ورث أحدهما من صاحبه ثمَّ أردنا توريث الأخر ، هل يورثه من أصل مال الأخر دون من ورث من صاحبه ، أو يورثه منهما جميعا؟ فالشيخ وأبو الصلاح وابن أبي عقيل وابن حمزة وابن الجنيد وابن البراج على الأول ، واختاره المصنف والعلامة وهو المعتمد ، لما قاله المصنف ، وهو انما نفرض الممكن ، والتوريث مما ورث منه يستدعي الحياة بعد الموت ، وهو غير ممكن.

فان قيل : هذا وارد على كل واحد من التقديرين ؛ لأنك تفرض موت أحدهما وتورث الأخر منه ، ثمَّ تفرض موت الثاني وتورث منه من فرضت موته أولا ، فقد لزم منه فرض الحياة بعد الموت ، وهو محال.

قلنا : أجيب بالفرق بين التقديرين ، وذلك ظاهر ؛ لأنا إذا فرضنا موت أحدهما وحياة الأخر ، وورثنا الأخر منه قطعنا النظر عن هذا الفرض ، ثمَّ نفرض موت الآخر وحياة الأول كانا لم نفرض موت الأخر ، ولم نجعل (١٠٧) للثاني منه ميراثا ، بخلاف ما إذا ورثنا الأول من الثاني مما كان قد ورث الثاني من الأول ، فإنه يلزم منه فرض موت الأول وحياته في حالة واحدة ، وهو محال واحتجوا بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق عليه‌السلام : « في أخوين ماتا لأحدهما مائة ألف درهم ، والأخر ليس له شي‌ء فركبا في السفينة

__________________

(١٠٦) الوسائل ، كتاب الإرث ، باب ١ ـ من أبواب ميراث الغرقى. ويلاحظ أحاديث باب ٥ أيضا.

(١٠٧) في « م » و « ر ١ » : يحصل.

٢٠٢

فغرقا ، ولم يدر أيهما مات أو لا؟ قال : الميراث لورثة الذي ليس له شي‌ء » (١٠٨) ، وقال المفيد رحمه‌الله وسلار : يرث منهما جميعا لوجوب تقديم الضعيف في التوريث ، ولو لا القول بوجوب التوارث مما ورث من صاحبه لم يكن للتقديم مزية.

قال رحمه‌الله : وفي وجوب تقديم الأضعف في التواريث تردد ، قال في الإيجاز : لا يجب ، وفي المبسوط : لا يتغير [ يتعين ] به حكم غير أنا نتبع الأثر في ذلك ، وعلى قول المفيد رحمه‌الله تظهر فائدة التقديم ، وما ذكره في الإيجاز أشبه بالصواب.

أقول : هل يجب فرض موت الأكثر نصيبا أو لا أو يورث الأضعف نصيبا أولا أو لا يجب ذلك؟ قال المفيد وسلار وابن إدريس بوجوب توريث الأضعف نصيبا أولا ، وهو ظاهر الشيخ في النهاية ، لرواية عبيد بن زرارة ، « قال : سألت الباقر عليه‌السلام عن رجل سقط عليه وعلى امرأته بيت؟ فقال : يورث المرأة من الرجل ، ثمَّ الرجل من المرأة » (١٠٩) ، ولأنه أحوط ، وعدم الوجوب مذهب الشيخ في الخلاف والإيجاز ، وهو ظاهر ابي الصلاح وابن زهرة واختاره المصنف والعلامة ، لأصالة براءة الذمة ، ولا ثمرة من تحقيقه الا على قول المفيد ، والمعتمد خلافه (١١٠).

__________________

(١٠٨) المصدر السابق ، باب ٢ ، حديث ١.

(١٠٩) المصدر السابق ، باب ٦ ، حديث ٢.

(١١٠) في الأصل : وهو المعتمد.

٢٠٣
٢٠٤

في ميراث المجوس

قال رحمه‌الله : في ميراث المجوس : المجوسي قد ينكح المحرمات بشبهة دينه ، فيحصل له النسب الصحيح والفاسد ، والسبب الصحيح والفاسد ، ونعني بالفاسد ما يكون عن نكاح محرم عندنا لا عندهم ، كما إذا نكح أمه فأولدها ولدا ، فنسب الولد فاسد ، وسبب زوجيتها فاسد. فمن الأصحاب من لا يورثه الا بالصحيح من النسب والسبب ، وهو المحكي عن يونس بن عبد الرحمن ومتابعيه ، ومنهم من يورثه بالنسب صحيحه وفاسده ، وبالسبب الصحيح لا الفاسد ، وهو اختيار الفضل بن شاذان من القدماء ومن تابعه ، ومذهب شيخنا المفيد رحمه‌الله ، وهو حسن ، والشيخ أبو جعفر رحمه‌الله يورثه بالأمرين صحيحهما وفاسدهما.

أقول : نقل المصنف في توريث المجوس ثلاثة أقوال :

الأول : بالنسب والسبب الصحيحين دون الفاسدين منهما ، وهو قول يونس بن عبد الرحمن من متقدمي أصحابنا كان في زمن الصادق عليه‌السلام ، قال أبو العباس في المهذب : له مصنفات كثيرة قريب من اربع مائة مصنف ، واختاره أبو الصلاح وابن إدريس والعلامة في المختلف ، لقوله تعالى (فَإِنْ

٢٠٥

جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً ، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (١١١) ولا شي‌ء من الفاسد بقسط ، ولأن ما عدا الصحيح باطل فلا يتعلق به حكم.

الثاني : بالنسب الصحيح والفاسد ، والسبب الصحيح خاصة ، نقله عن الفضل بن شاذان من القدماء ، وهو من رجال الهادي عليه‌السلام ، ونقله عن المفيد أيضا ثمَّ استحسنه ، واختاره العلامة في القواعد ، وابنه في الإيضاح ؛ لأنه من الأنساب الفاسدة عندنا صحيح عندهم ، وقد أقرّهم الشارع عليه ، فلا أقل من أن يكون شبهة النسب ، ونحن نورث ولد الشبهة للحوق نسبه ، بخلاف السبب الفاسد فإن الإجماع منعقد على عدم اعتباره في شرع الإسلام ، فلا يوجب إرثا.

الثالث : بالنسب والسبب صحيحهما وفاسدهما ، نقله عن (١١٢) ، الشيخ ابى جعفر ، وهو مذهب ابن الجنيد وابن البراج وابن حمزة ؛ لأنهم يعتقدون ذلك نكاحا صحيحا ونسبا صحيحا ، ونحن مأمورون بإقرارهم على دينهم ولأنا نهينا عن قذفهم بالزنا ، لما روى : « أن رجلا سب مجوسيا بحضرة الصادق عليه‌السلام فزبره ونهاه ، فقال : إنه تزوج بأمه ، فقال : أما علمت أن ذلك عندهم النكاح » (١١٣) ولما روى عن الصادق عليه‌السلام : « كل قوم دانوا بشي‌ء يلزمهم حكمه » (١١٤) والمعتمد مذهب الفضل بن شاذان ، وهو اختيار أبي العباس في مقتصره.

قال رحمه‌الله : وكذا عمة هي أخت من أب لها نصيب الأخت دون العمة ، وكذا عمة هي بنت عمة لها نصيب العمة.

__________________

(١١١) المائدة : ٤٢.

(١١٢) من « م » و « ر ١ ».

(١١٣) الوسائل ، كتاب الإرث ، باب ١ من أبواب ميراث المجوس ، حديث ٢.

(١١٤) المصدر السابق ، حديث ٣.

٢٠٦

أقول : هذا تفريع على مذهب الشيخ والفضل بن شاذان ، دون مذهب يونس ، فإنه منع من توريثهم بالنسب الفاسد ، وعلى الأول لو اجتمع سببان يمنع أحدهما الأخر ورث بالمانع خاصه ، ثمَّ ذكر المصنف أمثلة تصويرها (١١٥) ظاهرا ، ثمَّ قال : وكذا عمة هي أخت لأب ، وتصويره : مجوسي تزوج بامه فأولدها بنتا وله ولد ، فالبنت أخت هذا الولد لأبيه وعمته أيضا ؛ لأنها أخت أبيه ، وعمة هي بنت عمه ، تصويره : مجوسي تزوج ببنته فأولدها بنتا وله ولد فهي أخت هذا الولد وبنت أخيه ، وهي عمة ولد هذا الولد وبنت عمته.

__________________

(١١٥) في « ن » : تصورها.

٢٠٧
٢٠٨

في المناسخات

قال رحمه‌الله : في المناسخات ونعني به أن يموت إنسان فلا تقسم تركته ، ثمَّ يموت بعض وراثه ويتعلق الفرض بقسمة الفريضتين من أصل واحد. فطريق ذلك أن تصحح مسألة الأول ، ويجعل للثاني من ذلك نصيب ، إذا قسم على ورثته صح من غير كسر. فان كان ورثة الثاني هم ورثة الأول من غير اختلاف في القسمة كان كالفريضة الواحدة ، مثل إخوة ثلاثة وأخوات ثلاث من جهة واحدة ، مات أحد الإخوة ثمَّ ماتت إحدى الأخوات ثمَّ ماتت أخرى وبقي أخ وأخت ، فمال الموتى بينهما أثلاثا أو بالسوية ، ولو اختلف الاستحقاق أو الوارث أو هما فانظر نصيب الثاني فإن نهض بالقسمة على الصحة فلا كلام.

أقول : لا يخلو الحال عن أحد أربعة أقسام :

الأول : ان يتحد الوارث والاستحقاق ، كإخوة ثلاثة مات أخ ثمَّ آخر ، وبقي أخ ، فوارث الثاني هو بعينه وارث الأول ، والاستحقاق بالصورتين بالاخوة.

٢٠٩

الثاني : اختلافهما ، كأخوين مات أحدهما ثمَّ مات الآخر عن ابن ، فوارث الثاني غير وارث الأول ، والاستحقاق في الأول كان بالاخوة والثاني بالبنوة.

الثالث : اختلاف الوارث خاصة ، كإنسان مات عن ولدين ، ثمَّ مات أحدهما عن ابن ، فله ما كان لأبيه فوارث الثاني غير وارث الأول ، والاستحقاق في الصورتين بالبنوة.

الرابع : اختلاف الاستحقاق خاصة ، كإنسان مات عن زوجة وابن ، ثمَّ ماتت الزوجة عن هذا الابن ، فوارث الثاني هو بعينه وارث الأول ، والاستحقاق في الأول كان بالزوجية ، وفي الثاني بالبنوة ، وفي هذه الصور الأربع نصيب الثاني ناهض بالقسمة على ورثته من الفريضة الاولى ، من غير كسر على ما مثلناه ، وإن لم ينهض نصيب الثاني على ورثته من غير كسر فلا يخلو : إما أن يكون بين فريضة الثاني ونصيبه وفق أولا ، فإن كان الأول فاضرب الوفق من الفريضة الثانية في الفريضة الاولى ، وإن كان الثاني فاضرب الفريضة الثانية في الفريضة الاولى.

وقد ذكر المصنف في المتن مثال الوجهين فلا فائدة في إعادته ، وانما ذكرنا هذه المسألة ، لتبين اختلاف الوارث أو الاستحقاق أو هما ، وما عدا ذلك فقد بينه المصنف فليطلب من هناك.

٢١٠

في معرفة سهام الوارث من التركة

قال رحمه‌الله : ولو كانت التركة عددا أصم فاقسم التركة عليه ، فان بقي ما لا يبلغ دينارا فابسطه قراريطا واقسمه ، فإن بقي ما لا يبلغ قيراطا فابسطه حبات واقسمه ، فإن بقي ما لا يبلغ حبة فابسطه أرزات واقسمه ، فإن بقي ما لا يبلغ أرزة فابسطه بالاجزاء إليها ، وقد يغلط الحاسب فاجمع ما يحصل للوارث ، فان ساوى التركة فالقسمة صواب ، وإلا فهي خطأ.

أقول : العدد الأصم في حساب الضرب هو الذي لا سبيل الى علم حقيقته أي أصله ، وهو الجذر الذي إذا ضرب في نفسه اجتمع منه المال ، والجذر المنطق (١١٦) : هو ما يعرف حقيقة مقداره ويمكن ان ينطق به كاثنين فإنها جذر الأربعة ، وثلاثة فإنها جذر التسعة ، وأربعة فإنها جذر الستة عشر ، والعشرة فإنها جذر المئة ، فالمال ما اجتمع من ضرب الجذر في نفسه ، كالأربعة والتسعة والستة عشر والمئة.

إذا عرفت هذا ، فالاصم هو الذي ليس له جذر إذا ضرب في نفسه اجتمع

__________________

(١١٦) في « م » و « ن » : المطلق.

٢١١

منه المال ، كاثنين وثلاثة وعشرة ؛ لأنه ليس له جذر إذا ضرب في نفسه بلغ اثنين أو ثلاثة أو عشرة.

إذا عرفت هذا ، فمثال ما ذكره المصنف ، فنقول مثال ذلك : كما لو خلف الميت أحد عشر ولدا واثنى عشر دينارا ، فاعطى كل واحد دينارا يبقى دينار ، فابسطه قراريطا يكون عشرين قيراطا ، فأعط كل واحد قيراطا يبقى تسعة قراريط فابسطها حبات تبلغ سبعة وعشرين حبه ؛ لأن القيراط ثلاث حبات ، فأعط كل واحد حبتين يبقى خمس حبات ، فابسطها أرزات تبلغ عشرين أرزة ؛ لان الحبة أربع أرزات ، فأعط كل واحد أرزة يبقى تسع أرزات ، فابسطها احد عشر جزءا ، فأعط كل واحد جزءا ، فيحصل لكل واحد دينار وقيراط وحبتان وأرزة وجزءا من أحد عشر جزءا من تسع أرزات ، يكون الجمع اثنى عشر دينارا وذلك مجموع التركة.

٢١٢

كتاب القضاء

٢١٣
٢١٤

في الصفات

قال رحمه‌الله : وهل يشترط علمه بالكتابة؟ فيه تردد ، نظرا الى اختصاص النبي عليه‌السلام بالرئاسة العامة مع خلوه في أول أمره من الكتابة ، والأقرب اشتراط ذلك لما يضطر اليه من الأمور التي لا تتيسر لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون الكتابة.

أقول : قد أشار المصنف ( رحمه‌الله ) الى منشأ التردد ، وما اختاره مذهب الشيخ في المبسوط ، وهو اختيار العلامة والشهيد وابي العباس ، وهو المعتمد.

وأجيب بالفرق بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين غيره ، لعصمة النبي من الخطأ والنسيان ، وجواز ذلك على غيره ، ولأنه يوحى إليه عليه‌السلام بخلاف غيره.

وإنما قال لخلوه في مبدا أمره من الكتابة لأن الشيخ رحمه‌الله قال في المبسوط : انما كان خاليا من الكتابة قبل البعثة لا بعدها واختاره ابن إدريس.

قال رحمه‌الله : وفي انعقاد قضاء الاعمى تردد ، أظهره أنه لا ينعقد ، لافتقاره الى التمييز بين الخصوم ، وتعذر ذلك مع الاعمى الا فيما يقل.

٢١٥

أقول : منشأ التردد مما قاله المصنف ، ومن أن شعيبا عليه‌السلام كان أعمى ، ولأصالة الجواز.

وأجيب بالفرق بين الأنبياء وغيرهم ، واشتراط البصر هو المشهور بين الأصحاب ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : وهل يشترط الحرية؟ قال الشيخ في المبسوط نعم ، والأقرب أنه ليس شرطا.

أقول : اشتراط الحرية مذهب الشيخ في المبسوط ، وابن البراج ، ويحيى بن سعيد ، واختاره العلامة وابنه والشهيد ؛ لان القضاء من المناصب الجليلة التي لا تليق بالعبد ، ولأن القضاء ولاية والعبد مولى عليه فلا يكونه واليا ، والمصنف لم يشترط الحرية ؛ لأن المناط العلم مع العدالة والاجتهاد ، فاذا حصل في العبد ذلك جاز أن يكون قاضيا لأصالة الجواز ، ولعموم قول الصادق عليه‌السلام : « إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى قضاة الجور ، ولكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم قاضيا فإني قد جعلته قاضيا » (١)

قال رحمه‌الله : تولى القضاء مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه ، وربما يوجب ، ووجوبه على الكفاية ، وإذا علم الامام أن بلدا خال عن قاض لزمه أن يبعث له ، ويأثم أهل البلد بالاتفاق على منعه ، ويحل قتالهم طلبا للإجابة ، ولو وجد من هو بالشرائط فامتنع لم يجبر مع وجود مثله ولو ألزمه الإمام ، قال في الخلاف : لم يكن له الامتناع ، لأن ما يلزم به الامام واجب ، ونحن نمنع الإلزام ، إذ الإمام لا يلزم بما ليس لازما ، أما لو لم يوجد غيره تعين هو ولزمه الإجابة ، ولو لم يعلم به الامام وجب أن يعرف بنفسه ؛ لان القضاء من باب الأمر بالمعروف ، وهل يجوز أن يبذل مالا ليلي القضاء؟ قيل : لا ؛ لأنه كالرشوة.

__________________

(١) الوسائل ، القضاء ، باب ١ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٥.

٢١٦

أقول : الناس في القضاء على أربعة أقسام :

أ ) من يستحب له ، وهو جامع الشرائط الواثق من نفسه بالقيام بشرائطه خصوصا إذا لم يكن له من ماله كفاية ، وافتقر في طلب الكفاية إلى الاشتغال بالمباح كالتجارة وغيرها ، وبذل له الرزق من بيت المال ، فهذا توليته للقضاء وصرف زمانه في طاعة الله تعالى وارتزاقه من بيت المال خير من الاشتعال بالمباح ، لما في ذلك من تضييع العلم والعمل.

ب ) من يستحب له تركه ، وهو من كان له كفاية من ماله وكان مشهورا بالعلم والفضل تقصده الناس وتتعلم منه ، فهذا يستحب له ترك القضاء ؛ لان التدريس والتعليم طاعة وعبادة مع السلامة من الاخطار ، والقضاء وان كان طاعة فهو مشتمل على خطر عظيم ؛ لقوله عليه‌السلام : « من نصب نفسه قاضيا فقد ذبح نفسه بغير سكين » (٢) ، والاخبار في هذا المعنى كثيرة.

وإن لم يكن مشهورا ولا يعرف علمه وفضله ولا ينتفع أحد بعلمه ولا يقصده أحد ليتعلم منه ، فهذا قيل : يستحب له أن يلي القضاء ليدل الناس عليه ليحصل الانتفاع بعلمه وذلك مع استكمال الشرائط.

ج ) من يحرم عليه ، وهو الجاهل العدل أو العالم الفاسق وان كان مستترا بالفسق.

د ) من يجب عليه ، وهو جامع الشرائط إذا لم يوجد غيره ، فهذا على الامام أن يوليه ، وعليه أن يقبل ولو لم يعلم به الامام وجب عليه أن يعلمه بنفسه ليوليه القضاء ، لما في ذلك من الأمر بالمعروف ، ولا يجب أن يبذل مالا ليلي القضاء ، الا أن يعلم من تعين عليه أن الظالم لا يوليه إلا ببذل المال ، فيجوز له ذلك حينئذ إذا علم أنه إذا تولى القضاء تمكن من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

__________________

(٢) مستدرك الوسائل ، القضاء ، باب ٣ من أبواب صفات القاضي ، حديث ٤.

٢١٧

قال رحمه‌الله : إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة فيهما ، فان قلد الأفضل جاز ، وهل يجوز العدول الى المفضول؟ فيه تردد ، والوجه الجواز ؛ لان خلله ينجبر بنظر الإمام.

أقول : إذا تساويا في الشرائط المعتبرة في القاضي ، وكان أحدهما أفضل من الآخر ، إما بزيادة علم أو زهد ، هل يجوز للإمام تولية المفضول؟ اختار المصنف والعلامة في القواعد وابنه الجواز لان خلله ينجبر بنظر الامام ، وظاهر العلامة في التحرير والشهيد في الدروس عدم الجواز ، لعموم قبح تقديم المفضول على الفاضل.

تنبيه : هذا الخلاف إنما هو في حال ظهور الامام وكونه المتولي لنصب المفضول ، أما في حال الغيبة فإنه لا يجوز العدول عن الفاضل الى المفضول ، نص العلامة في القواعد والشهيد على ذلك ، ولأن العلة المبيحة لتقديم المفضول على الخلاف ـ وهي جبر خلله بنظر الإمام ـ منتفية في حال الغيبة ، فحينئذ يجب الترافع إلى الأعلم ، فإن تساويا فالاورع ، فلو كان أحدهما أعلم والآخر أورع رجح الأعلم ؛ لأن ما فيه من الورع يحجز عن التهجم على الحرام ويبقى علمه لا معارض له.

قال رحمه‌الله : أما أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف ، والوجه التفصيل ، فمع عدم التعيين وحصول الضرورة ، قيل : يجوز ، والاولى المنع ، ولو اختل الشرطين لم يجز.

أقول : حكى الشيخ في المبسوط عن قوم ، جواز أخذ الجعل للقاضي من أحد المتحاكمين بشرط الضرورة وعدم التعيين ، وكذلك نقله المصنف والعلامة والشهيد ، واختار الجميع المنع ؛ لأنه يؤدي واجبا فلا يجوز أخذ الأجرة عليه ، ولأنه نوع من الرشوة وهو حرام.

٢١٨

احتج القائلون بالجواز بأنه فعل مباح غير متعين (٣) على فاعله فكان له أخذ الجعل عليه مع الضرورة الى ذلك ، قال الشهيد : فان جوزناه ففي جواز تخصيص أحدهما به أو جعله على المدعي أو التشريك بينهما ، نظر من الشك في أنه تابع للعمل أو المنفعة الحاصلة.

قلت : الظاهر على القول به أنه تابع للشرط ، فان اشترطه عليهما أو على أحدهما والتزما به أو أحدهما لزم ، ومع عدم سبق الشرط لا يلزمهما ولا أحدهما شي‌ء.

قال رحمه‌الله : إذا حدث به ما يمنع الانعقاد انعزل وان لم يشهد الامام بعزله كالجنون والفسق ، ولو حكم لم ينفذ حكمه ، وهل يجوز أن يعزل اقتراحا؟ الوجه : لا ؛ لان ولايته تثبت شرعا فلا تزول تشهيا.

أقول : لا شك في جواز عزل القاضي للإمام أو نائبه ، لمصلحة كاطفاء الفتنة أو وجود من هو أصلح منه.

وهل يجوز عزله بغير سبب ولا لمصلحة؟ فيه قولان حكاهما الشيخ في المبسوط ، والمصنف اختار عدم الجواز وقد ذكر وجهه ، واختاره العلامة في الإرشاد (٤) جزما ، واختار في التحرير الجواز ؛ لأنها ولاية تثبت بنظر الإمام أو نائبه فيتبع اختيار المنوب كالوكالة ، ولو حصلت ريبة عند الإمام في القاضي جاز له عزله قطعا ، وكفاه غلبة الظن ، قاله العلامة في التحرير.

قال رحمه‌الله : إذا مات الامام [ عليه‌السلام ] ، قال الشيخ : الذي يقتضيه مذهبنا انعزال القضاة أجمع ، وقال في المبسوط : لا ينعزلون ؛ لان ولايتهم تثبت شرعا فلا تزول بموته ، والأول أشبه.

__________________

(٣) في الأصل و « ن » : معين.

(٤) في « ر ١ » : القواعد.

٢١٩

أقول : أما وجه عدم الانعزال فقد ذكره المصنف ، وأما وجه الانعزال فلأنهم كالوكلاء ، وهو اختيار المصنف والعلامة وابنه والشهيد ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو مات القاضي الأصلي لم ينعزل النائب عنه ؛ لأن الاستنابة مشروطة بإذن الإمام ، فالنائب عنه كالنائب عن الامام فلا ينعزل بموت الواسطة ، والقول بانعزاله أشبه.

أقول : إذا زالت ولاية القاضي الأصلي بموت أو جنون أو فسق أو عزله الامام ، هل ينعزل النائب عنه؟ ذكر المصنف في أول بحثه أنه لا ينعزل ، وقد ذكر وجهه ، وذلك : أن القاضي المنصوب من قبل الامام لا يجوز له أن ينصب غيره الا بإذن الإمام صريحا ، مثل أن يقول له انصب قاضيا يعينك على القضاء ، أو بشاهد الحال : مثل أن يكون ولايته متسعة لا ينهض بها القاضي الواحد ، فشاهد الحال هنا يدل على إذنه بالاستنابة ، وإذا أذن له أن ينصب قاضيا كان منصوبا من قبل الامام ، فلا ينعزل بعزل الواسطة ، ثمَّ اختار (٥) انعزاله ؛ لأن ظاهر إذن الامام بالاستنابة يدل على أن القاضي يستنيب عن نفسه لا عن الامام ، وإذا كان النائب عن القاضي انعزل بعزله وهو المعتمد ، إلا أن يقول له استنب عني فيستنيب عنه ، فحينئذ لا ينعزل بعزل الواسطة.

__________________

(٥) في « ن » : اختيار.

٢٢٠