غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٤

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

وَالْأَقْرَبِينَ) (٢٤) وقال الشيخان وابنا بابويه وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس : لا تقبل ، واختاره المصنف والعلامة وابنه والشهيد في شرح الإرشاد ، وادعى عليه (٢٥) الشيخ في الخلاف الإجماع ، واستدل العلامة بقوله تعالى : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (٢٦) وليس من المعروف الشهادة عليه وإظهار كذبه ، فيكون ارتكاب ذلك معصية ، ولأنه نوع عقوق ، وفيه نظر ؛ لأن الشهادة بالحق غير منافية للمعروف ، بل ذلك هو المعروف بعينه ، خصوصا مع عدم قيام شاهد غيره يثبت به ذلك الحق ، والجواب (٢٧) عن الآية بأن الأمر بالإقامة لا يستلزم وجوب (٢٨) قبولها ، وفيه نظر أيضا ؛ لأن الأمر بالإقامة مع عدم القبول يستلزم العبث ، ولأنه معطوف على المقبول (٢٩) وهو الشهادة على نفسه ، ومعطوف عليه المقبول وهو الشهادة على الأقربين ، وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه ، فوجب أن يكون مقبولا ، فلا حجة للقائل بالمنع أقوى من الإجماع المنقول عن الشيخ ؛ لأن الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة والشهادة على الأم مقبولة.

قال رحمه‌الله : وكذا تقبل شهادة الزوج لزوجته ، والزوجة لزوجها مع غيرها من أهل العدالة ، ومنهم من شرط في الزوج الضميمة كالزوجة ، ولا وجه له ، ولعل الفرق انما هو لاختصاص الزوج بمزية القوة في المزاج أن تجذبه دواعي الرغبة.

__________________

(٢٤) النساء : ١٣٥.

(٢٥) ليست في الأصل.

(٢٦) لقمان : ١٥.

(٢٧) في النسخ : فأجاب.

(٢٨) ليست في الأصل.

(٢٩) في « ن » القبول.

٢٨١

أقول : شرط الشيخ في النهاية الضميمة في الزوج والزوجة ، والولد والوالد والأخ إذا شهد بعضهم لبعض ، والاشتراط في الوالد والأخ نادر ، وأما في الزوجين فتابعه ابن البراج وابن حمزة ، وظاهر المصنف الضميمة (٣٠) في الزوجة دون الزوج ، وأشار الى الفرق بأن الزوج له مزية قوية (٣١) في مزاجه تمنعه من دواعي الرغبة ، وأما الزوجة فلضعف عقلها لا تؤمن من الانخداع ، والمشهور عدم اشتراط الضميمة مطلقا ، لانتفاء التهمة مع تحقق العدالة ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : أما الفاسق المستتر إذا أقام فردت ثمَّ تاب وأعادها فيها [ فهنا ] تهمة الحرص على دفع الشبهة ، لاهتمامه بإصلاح الظاهر ، لكن الأشبه القبول.

أقول : لو شهد المستتر بالفسق فردت شهادته ، ثمَّ تاب ، قبلت شهادته في كل شي‌ء وهل تقبل شهادته (٣٢) فيما ردت فيه ؛ بحيث لو أعاد الشهادة المردودة ، هل تسمع أم لا؟ يحتمل العدم ، لحصول التهمة بدفع عار الكذب ، والتهمة مانعة من قبول الشهادة ، ويحتمل القبول ، لوجود المقتضي وهو العدالة الثابتة بالتوبة ، وزوال المانع وهو الفسق ، وهو اختيار المصنف وفخر الدين ، أما المعلن بالفسق فاذا تاب قبلت شهادته مطلقا ، فيما ردت فيه وفيما لم ترد ، والفرق حرص المستتر على إصلاح الظاهر ، ودخول الغضاضة عليه بظهور كذبه ، بخلاف المعلن ؛ لأن المعلن بالشي‌ء لا يدخله غضاضة مع ظهوره ، فيحصل التهمة للأول دون الثاني.

قال رحمه‌الله : قيل : لا تقبل شهادة المملوك أصلا ، وقيل : تقبل مطلقا ، وقيل : تقبل إلا على مولاه ، ومنهم من عكس ، والأشهر القبول إلا على المولى ،

__________________

(٣٠) ليست في الأصل.

(٣١) في النسخ : مزيد قوة.

(٣٢) من « ن ».

٢٨٢

ولو أعتق قبلت شهادته على مولاه ، وكذا حكم المدبر والمكاتب المشروط ، أما المطلق إذا أدى من كتابته ، قال الشيخ : تقبل على مولاه بقدر ما تحرر منه وفيه تردد أقربه المنع.

أقول : هنا مسألتان :

الاولى : في شهادة القن ومن هو في حكمه كالمدبر والمكاتب المشروط ، وقد (٣٣) اختلف الأصحاب هنا على طرفين وواسطة ، الطرف الأول : المنع مطلقا ، وهو قول الحسن بن أبي عقيل العماني ، فإنه قال : لا يجوز شهادة العبيد (٣٤) والإماء في شي‌ء من الشهادات ، الطرف الثاني : القبول مطلقا ، وهذا القول نقله المصنف والعلامة ، وأما الواسطة ففيها أقوال :

الأول : قول ابن الجنيد ، وهو المنع من القبول على الحر المؤمن مطلقا ، واحترز بالحر عن العبد ، وبالمؤمن عن الكافر ، فعنده يقبل شهادة العبد على مثله من المسلمين ، وعلى الكافر مطلقا (٣٥).

الثاني : القبول مطلقا على غير مولاه ، وهو قول السيد المرتضى والمفيد والشيخ في النهاية وسلار وابن البراج وابن زهرة وابن حمزة وابن إدريس ، واختاره ( المصنف و) (٣٦) العلامة في القواعد والمختلف ، وابنه في الإيضاح ، للجمع بين الروايات.

الثالث : قول أبي الصلاح ، لا تقبل للسيد ولا تقبل عليه ، وتقبل فيما عداه.

الرابع : تقبل لغير السيد مطلقا ، وهو قول ابني (٣٧) بابويه.

__________________

(٣٣) ليست في « ن ».

(٣٤) في غير « ر ١ » : العبد.

(٣٥) ليست في « ر ١ ».

(٣٦) ليست في النسخ.

(٣٧) في « م » و « ر ١ » : ابن.

٢٨٣

الخامس : عدم القبول الا على مولاه ، نقله المصنف.

ودليل الجميع الروايات (٣٨) ، والمعتمد مذهب السيد المرتضى وهو القبول مطلقا الا على مولاه.

الثانية : في شهادة من عتق بعضه ، قال الشيخ في النهاية : تقبل شهادة المكاتب على مولاه بمقدار ما ادى (٣٩) وهو مذهب ابن الجنيد ، واستقرب المصنف والعلامة المنع ، واختاره فخر الدين والشهيد وهو المعتمد ؛ لأن الشهادة لا تتبعض.

قال رحمه‌الله : التبرع بالشهادة قبل السؤال يطرق التهمة فيمنع القبول ، أما في حقوق الله تعالى أو الشهادة للمصالح العامة فلا يمنع ، إذ لا مدعي لها ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه من أن التهمة المانعة من قبول الشهادة موجودة في الموضعين فيمنع من القبول فيهما ، لتساويهما في العلة ، وهو مذهب الشيخ في النهاية ، نقله عنه صاحب كشف الرموز ، ومن أن حقوق الله تعالى والمصالح العامة لا مدعي لها فلو لم تقبل فيها شهادة المتبرع لأدى ذلك الى سقوطها ، والمشهور القبول هنا ، وهو المعتمد ؛ لأن العدالة تدفع التهمة.

قال رحمه‌الله : المشهور بالفسق إذا تاب لتقبل شهادته ، الوجه أنها لا تقبل حتى يستبين استمراره على الصلاح ، وقال الشيخ : يجوز أن يقول : تب لا قبل شهادتك.

أقول : هذا قول الشيخ في المبسوط ، قال العلامة في القواعد : وليس بجيد ؛ لأن التوبة واجبة فيجب فعلها ؛ لأنها واجبة ، وفعل الواجب لا يقع صحيحا الا مع

__________________

(٣٨) الوسائل ، كتاب الشهادات ، باب ٢٣. والباب ٣١ ، حديث ٦.

(٣٩) في « ر ١ » : ادعى.

٢٨٤

الإخلاص بفعله لله ، وظاهر هذا انه لم يتب الا لتقبل شهادته ، فلم يحصل الإخلاص فلا تقبل توبته ، وكل فاسق لا تقبل (٤٠) توبته لم تقبل شهادته ، وقواه فخر الدين ، والمعتمد اختيار المصنف ، وهو أنها لا تقبل حتى يستبين استمرار صلاحه فتقبل حينئذ.

قال رحمه‌الله : فلا تقبل شهادة ولد الزنا أصلا ، وقيل : تقبل في الشي‌ء اليسير مع تمسكه بالصلاح ، وبه رواية نادرة ، ولو جهلت حاله قبلت [ شهادته ] وإن نالته بعض الألسن.

أقول : القول المشار اليه قول الشيخ في النهاية ، لما رواه عيسى بن عبد الله عن الصادق عليه‌السلام ، « قال : سألته عن شهادة ولد الزنا؟ فقال : لا يجوز إلا في اليسير إذا رأيت فيه صلاحا » (٤١) وقال الشيخ في الخلاف : لا تقبل أصلا ، وبه قال المرتضى وابن الجنيد وابن البراج وابن إدريس ، واختاره المصنف والعلامة وابنه والشهيد وأبو العباس ، ولهم عليه روايات (٤٢) ، ولقوله عليه‌السلام : « ابن الزنا شر الثلاثة » (٤٣) وإذا كان أشر (٤٤) من الزاني ، والزاني لا تقبل شهادته ، فمن هو أشر منه أولى بعدم قبول شهادته ، وادعى السيد عليه الإجماع.

__________________

(٤٠) في النسخ : لم تقبل.

(٤١) الوسائل ، كتاب الشهادات ، باب ٣١ ، حديث ٥.

(٤٢) راجع الباب السابق من المصدر المتقدم.

(٤٣) البحار ، ج ٥ ، ص ٢٨٥.

(٤٤) في « م » و « ن » : شر.

٢٨٥
٢٨٦

فيما به يصير شاهدا

قال رحمه‌الله : وتقبل فيه شهادة الأصم ، وفي رواية يؤخذ بأول قوله لا بثانيه ، وهي نادرة.

أقول : الرواية إشارة الى ما رواه جميل عن الصادق عليه‌السلام : « قال : سألته عن شهادة الأصم في القتل؟ قال : يؤخذ بأول قوله » (٤٥) وبمضمونها أفتى الشيخ في النهاية وتبعه ابن البراج وابن حمزة ، والمشهور القبول مطلقا فيما لا يفتقر الى السماع مع تكامل شروط الشهادة ؛ لأن كل ما يدرك بحس البصر لا حاجة فيه الى السماع ، فلا فرق فيه بين الأصم وغيره وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : وما يكفي فيه السماع فالنسب والموت والملك المطلق ، لتعذر الوقوف مشاهدة في الأغلب ، ويتحقق كل واحد من هذه بتوالي الاخبار من جماعة لا يضمهم قيد المواعدة ، أو يستفيض ذلك حتى يتاخم العلم ، وفي هذا عندي تردد ، وقال الشيخ رحمه‌الله : لو شهد عدلان فصاعدا ، صار السامع متحملا وشاهد أصل ، لا شاهدا على شهادتهما ؛ لأن ثمرة الاستفاضة الظن وهو

__________________

(٤٥) الوسائل ، الشهادات ، باب ٤٢ ، حديث ٣.

٢٨٧

حاصل بها ، وهو ضعيف ؛ لأن الظن يحصل بالواحد.

أقول : الأصل في الشهادة البناء على العلم واليقين ، لقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٤٦) وروى عن ابن عباس أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الشهادة؟ « فقال : هل ترى الشمس؟ فقال : نعم ، قال : على مثلها فاشهد والا فدع » (٤٧) خرج عن هذا الأصل الاستفاضة ، وبما تحصل الاستفاضة التي يصير بها شاهدا؟ اختلف الأصحاب في ذلك ، قال الشيخ في الخلاف : والضابط الاستفاضة المفيدة للظن ، واستدل بأنا نحكم بزوجية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزوجاته ( ولم نشاهدهم ولا طريق إلى ذلك غير الاستفاضة ، ثمَّ أعترض بأن النبي عليه‌السلام علم زوجيته بالتواتر ) (٤٨) وأجيب بأن التواتر يشترط فيه استواء الطبقات في التواتر ، واستناده الى الحس ، ومن المعلوم بالضرورة أن الطبقات المخبرين بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموت أزواجه لم يخبروا عن مشاهدة العقد ولا عن إقرار النبي عليه‌السلام ، وانما أخبروا عن الطبقة الاولى ، والظاهر أن الطبقة الأولى لم تبلغ المشاهدة منهم حد التواتر ، وانما أخبروا عن السماع فلا طريق غير الاستفاضة ، وقال بعضهم : الاستفاضة بالإشهاد بحيث يتاخم العلم.

والفرق بينه وبين قول الشيخ في الخلاف هو : أن الشيخ بنى (٤٩) الاستفاضة على مطلق الظن ، وهذا القائل اشتراط الظن الراجح المقارب للعلم بحيث لا يرجح عليه ظن مثله ، وانما يرجح عليه العلم (٥٠) ، وتردد المصنف في

__________________

(٤٦) الأسراء : ٣٦.

(٤٧) المستدرك ، كتاب الشهادات ، باب ١٥ ، حديث ٢.

(٤٨) ما بين القوسين ليس في « م ».

(٤٩) في النسخ : علق.

(٥٠) في الأصل : مثله.

٢٨٨

ذلك من عموم (٥١) النهي عن اتباع الظن ، وعموم (٥٢) تحريم القول بغير علم ، ولا شك أن العلم اليقيني لم يحصل ، ومن أن العمل بقول الشيخ يقتضي العمل بهذا القول بطريق الاولى ، وقال : المصنف والعلامة وفخر الدين : إنما يتحقق ذلك بالأخبار من جماعة لا بضمهم قيد المواطاة على الكذب ، ويستحيل ذلك عادة ، فيثمر قولهم العلم ، فلا يكون السامع خارجا عن الأصل وهو أحوط ، وقال الشيخ في المبسوط : يكفيه السماع من عدلين فيصير شاهد أصل ، وهو بناء على قاعدته من اعتبار الظن ، واستضعفه المصنف ؛ لان الظن يحصل بقول الواحد ولو امرأة.

إذا عرفت هذا فالذي يثبت بالاستفاضة عشرة ، النسب ، والملك المطلق ، والوقف ، والنكاح ، والموت ، والولاية من قبل الامام ولو (٥٣) نصب قاضيا تثبت ولايته بالاستفاضة ، والولاء ، والعتق ، والرق ، والعدالة. هذا هو المحقق من فتاوي الأصحاب ، واقتصر ابن الجنيد على النسب فقط ، ولم يذكر المصنف غير الموت والنسب والملك المطلق والوقف ، والمعتمد ما قلناه.

قال رحمه‌الله : الشاهد بالاستفاضة لا يشهد بالسبب ، مثل البيع والهبة والاستغنام ؛ لأن ذلك لا يثبت بالاستفاضة ، فلا يعزى الملك اليه مع إثباته بالشهادة المستندة إلى الاستفاضة ، أما لو عزاه الى الميراث صح ؛ لأنه يكون عن الموت الذي يثبت بالاستفاضة والفرق تكلف ؛ لأن الملك إذا ثبت بالاستفاضة لم تقدح الضميمة مع حصول ما يقتضي جواز الشهادة.

أقول : أما الفرق بين سبب الإرث وغيره فقد ذكره المصنف ، وهو المشهور

__________________

(٥١) يونس : ٣٦.

(٥٢) الإسراء : ٣٦.

(٥٣) في « ن » : فلو.

٢٨٩

بين الأصحاب ، فإن أسنده إلى الإرث قبل بالأصل والسبب ، وإن أسنده إلى سبب غير الإرث ـ كالبيع والهبة وغيره ـ قبلت الشهادة في أصل الملك دون السبب ، ولم يكن ذكر السبب قادحا في قبول الشهادة في أصل الملك ، وظاهر المصنف عدم الفرق بين سبب الإرث وغيره ؛ لأنه جعل الفرق تكلفا.

وتظهر الفائدة في ترجيحه على مدع آخر ، فلو شهد شاهدان لواحد بالاستفاضة من غير سبب ، وشهد آخران لآخر بها مع ذكر السبب ، فان قلنا بقبول السبب كما هو ظاهر المصنف رجحناه على غير ذي السبب ، وإن قلنا بعدم قبول السبب (٥٤) كما هو المشهور بين الأصحاب ـ وهو المعتمد ـ فلا ترجيح.

قال رحمه‌الله : إذا شهد بالملك مستندا إلى الاستفاضة ، هل يفتقر الى مشاهدة اليد والتصرف؟ الوجه : لا ، أما لو كان لواحد يد ولآخر سماع مستفيض ، فالوجه : ترجيح اليد ؛ لأن السماع قد يحتمل إضافة الاختصاص المطلق المحتمل للملك وغيره ، فلا تزال اليد بالمحتمل.

أقول : إما أن تجتمع اليد والتصرف والتسامع ، أو اليد والتصرف دون التسامع ، أو اليد فقط مجردة عن التصرف ، أو التسامع فقط مجردا عن اليد ، فالأقسام أربعة :

الأول : أن تجتمع اليد والتصرف والتسامع ولا شك حينئذ في جواز الشهادة بالملك المطلق ؛ لان هذا الاجتماع غاية الإمكان.

الثاني : أن يجتمع اليد والتصرف المتكرر من غير منازع دون التسامع ، فحينئذ هل يجوز الشهادة بالملك المطلق أم لا؟ قال الشيخ في الخلاف : يجوز ، واستدل بإجماع الفرقة واخبارهم ، وبه قال أبو الصلاح وابن البراج وابن إدريس ، واختاره المصنف والعلامة والشهيد ، وحكى في المبسوط قولين ،

__________________

(٥٤) في الأصل : الشهادة.

٢٩٠

أحدهما : الجواز ، والآخر : عدمه ، ولم يختر شيئا ؛ لتساوي الاحتمالين ؛ لان اليد تختلف فتكون يد مالك ، ومستأجر ، ومستعير ، ووكيل ، ووصي ، والتصرف واحد ، فاذا اختلفت الأيدي وأحكامها لم تجز الشهادة بالملك المطلق ، والأول هو المعتمد.

الثالث : أن تخلو اليد عن التصرف والتسامع ، ولا ريب في جواز الشهادة باليد (٥٥) ، وهل تشهد له بالملك المطلق؟ ظاهر الشيخ في المبسوط عدم الفرق بين اليد المتصرفة واليد المجردة عن التصرف ، واختاره العلامة في القواعد والإرشاد والتحرير ، وهو اختيار الشهيد ؛ لأن اليد قاضية بالملك ، ولما رواه محمد بن بابويه ، عن سليمان بن داود المقري ، عن حفص بن غياث ، عن الصادق عليه‌السلام « قال : قال له رجل : أرأيت إن رأيت شيئا في يد رجل ، أيجوز أن أشهد أنه له؟ فقال : نعم ، فقلت : فلعله لغيره ، قال : ومن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ، ثمَّ تقول بعد الملك ، هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه الى من صار ملكه إليك من قبله ، ثمَّ قال الصادق عليه‌السلام : لو لم يجز هذا لما قامت للمسلمين سوق » (٥٦) واستشكل المصنف هذا ، قال : لأن اليد لو أوجبت ملكا لم تسمع دعوى من يقول : الدار التي في يد هذا لي ، كما لا تسمع لو قال : ملك هذا لي ، وأجيب : بأن دلالة اليد ظنية ؛ لأنها تدل على الملك دلالة ظاهرة لا قطعية ، والإقرار قاطع ، والصرف عن الظاهر جائز بخلاف القاطع ، فحصل الفرق بين ثبوت الملك بدليل قطعي وثبوته بدليل ظني ، فلا منافاة بين جواز دعوى من يقول : الدار التي في يد فلان لي ، وبين عدم جواز دعوى من يقول ملك فلان لي ؛ لأن الثاني أقرّ بالملك لغيره فلا تقبل دعواه ، بخلاف الأول.

__________________

(٥٥) في الأصل : مع اليد.

(٥٦) الوسائل ، القضاء ، باب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، حديث ٢.

٢٩١

الرابع : التسامع المجرد عن اليد ، وقد مضى البحث فيه (٥٧) ، فأما على القول باشتراط السماع من جماعة يثمر أخبارهم العلم ، فلا كلام في جواز الشهادة به ، وأما على القول باعتبار الظن فيرجع الى الخلاف السابق.

بقي هنا مسألة : هي إذا كان لواحد يد والآخر (٥٨) سماع مستفيض ، قال المصنف : الوجه ترجيح اليد ، واختاره العلامة والشهيد ، وذكروا الوجه في ذلك ، ويحتمل عدم الترجيح لليد (٥٩) ، لان اليد قد تكون يد مالك ويد غيره ، فلا ترجيح على السماع.

قال رحمه‌الله : وأما النكاح فلأنّا نقضي بأن خديجة عليها‌السلام زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما نقضي بأنها أم فاطمة عليها‌السلام ، ولو قيل : ان الزوجية تثبت بالتواتر ، كان لنا أن نقول : التواتر لا يثمر إلا إذا استند السماع الى المحسوس. ومن المعلوم أن المخبرين لم يخبروا عن مشاهدة العقد ، ولا عن إقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل نقل الطبقات متصل إلى الاستفاضة التي هي الطبقة الأولى ، ولعل هذا أشبه بالصواب.

أقول : قد سبق البحث في ذلك (٦٠).

__________________

(٥٧) ص ٢٨٨.

(٥٨) كذا.

(٥٩) ليست في النسخ.

(٦٠) ص ٢٢٨.

٢٩٢

في أقسام الحقوق

قال رحمه‌الله : وفي أقسام الحقوق وهي قسمان : حق الله سبحانه ، وحق الآدمي. والأول منه ما لا يثبت إلا بأربعة رجال ، كالزنا واللواط والسحق ، وفي إتيان البهائم قولان ، أصحهما ثبوته بشاهدين ، ويثبت الزنا خاصة بثلاثة رجال وامرأتين ، وبرجلين وأربع نساء ، غير أن الأخير لا يثبت به الرجم ويثبت به الجلد ، ولا يثبت بغير ذلك.

ومنه ما يثبت بشاهدين وهو ما عدا ذلك من الجنايات الموجبة للحدود كالسرقة وشرب الخمرة والردة.

ولا يثبت شي‌ء من حقوق الله تعالى بشاهد وامرأتين ، ولا بشاهد ويمين ولا بشهادة النساء منفردات ولو كثرن.

وأما حقوق الآدمي فثلاثة ، منها ما لا يثبت إلا بشاهدين ، وهو الطلاق ، والخلع ، والوكالة ، والوصية إليه ، والنسب ، ورؤية الأهلة ، وفي العتق والنكاح والقصاص تردد ، أظهره ثبوته بالشاهد والمرأتين ، ومنها ما يثبت بشاهد وامرأتين ، وشاهد ويمين ، وهو الديون والأموال ، كالقرض والقراض والغصب ،

٢٩٣

وعقود المعاوضات ، كالبيع والصرف والسلم والصلح والإجارات والمساقاة والرهن والوصية له ، والجناية التي توجب الدية ، وفي الوقف تردد أظهره أنه يثبت بشاهد وامرأتين وبشاهد ويمين.

الثالث : ما يثبت بالرجال والنساء منفردات ومنضمات ، وهو الولادة والاستهلال وعيوب النساء الباطنة ، وفي قبول شهادة النساء منفردات في الرضاع خلاف ، أقربه الجواز.

وتقبل شهادة امرأتين مع رجل في الديون والأموال ، وشهادة امرأتين مع اليمين ، ولا تقبل فيه شهادة النساء منفردات ولو كثرن ، وتقبل شهادة المرأة الواحدة في ربع ميراث المستهل وفي ربيع الوصية ، وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء لا يثبت بأقل من أربع.

أقول : الحقوق تقسم بالنسبة إلى الشهود أقساما :

الأول : لا يثبت إلا بأربعة رجال وهو السحق واللواط.

الثاني : لا يثبت إلا بأربعة رجال ، أو ثلاثة وامرأتين ، أو برجلين وأربع نساء ، وهو الزنا ، فان ثبت بالأولين وجب الرجم ، وان ثبت بالآخرين وجب الجلد خاصة ، والمشهور عدم ثبوت الزنا برجل واحد وست نساء ، وأثبته الشيخ في الخلاف بذلك ، وأوجب به الجلد وهو متروك.

الثالث : لا يثبت الا بشاهدين ذكرين ، وهو شرب الخمر ، والردة ، والقطع في السرقة ، وإتيان البهائم ، على ما هو مشهور بين الأصحاب ؛ لأنه ليس زنا ولا يوجب الجلد بل التعزير ، ويحتمل عدم ثبوته بدون شهود الزنا ، لاشتماله على الهتك كالزنا ، والمعتمد الأول ، والقذف ، والطلاق ، والرجعة ، والعدة ، والخلع ، والوكالة ، والوصية اليه ، والنسب ، والهلال ، على ما هو المشهور بين الأصحاب ، وأثبت سلار هلال شهر رمضان بالشاهد الواحد احتياطا للصوم ، وهو متروك ،

٢٩٤

والبلوغ ، والجرح والتعديل ، والعفو عن القصاص ، وتردد المصنف في العتق ، والقصاص ، والنكاح ، ثمَّ رجح الثبوت بالشاهد والمرأتين ، واختاره العلامة في القواعد والإرشاد ، وظاهر التحرير عدم الثبوت بغير الشاهدين ، وهو المشهور بين الأصحاب ، وضبطوا ذلك بما كان من حقوق الله أو حقوق الادميين ، وليس مالا ولا المقصود منه المال ، فإنه لا يثبت إلا بشهادة الرجال دون النساء.

الرابع : ما يثبت برجلين ، أو برجل وامرأتين ، أو رجل ويمين ، أو امرأتين ويمين ، وضابطه : ما كان مالا كالقرض ، والقراض ، والغصب ، وعقود المعاوضات ، كالبيع ، والصرف ، والسلم ، والصلح ، والإجارات ، والرهن ، والوصية له ، أو حقا متعلقا بالمال ، كالخيار ، والفسخ ، والأجل ، والشفعة ، أو (٦١) المقصود منه المال ، كقتل الخطأ ، والجرح المشتمل على التعزير ، كالهاشمة والمنقلة والمأمومة وإن كان عمدا ، وما لا قود فيه كقتل الوالد ولده ، والمسلم الكافر ، والحر العبد.

وهل يثبت الوقف الخاص (٦٢) بذلك؟ تردد المصنف فيه ، ثمَّ رجح القبول ، واختاره العلامة وابنه والشهيد ومنشأ التردد ، من أن الوقف هل ينتقل الى الله تعالى ، أو الى الموقوف عليه ، أو لا ينتقل الى أحد بل يبقى على ملك المالك؟ فعلى الأول والثالث لا يثبت الا برجلين ، وعلى الثاني يثبت بما تثبت به الأموال ، وهو المعتمد. وكذلك قبض نجوم المكاتب ، وإن كان في الأخير إشكال.

الخامس : ما يثبت بشهادة الرجال والنساء منفردات ومنضمات ، وهو ما يعسر اطلاع الرجال عليه غالبا كالولادة ، والاستهلال ، وعيوب النساء الباطنة ، واختلف الأصحاب في الرضاع ، فمنع الشيخ في الخلاف من قبول شهادة النساء

__________________

(٦١) في « ن » و « ر ١ » : و.

(٦٢) ليست في « ن ».

٢٩٥

فيه مطلقا ، منفردات ومنضمات ، وقبلها المفيد منفردات ومنضمات ، وبه قال سلار وابن حمزة وابن أبي عقيل ، واختاره المصنف والعلامة وابنه والشهيد ، وهو المعتمد ؛ لأنه من الأمور الخفية عن الرجال ، ومنع ابن البراج من قبول شهادة الرجال في ما لا يجوز لهم النظر اليه ، واستضعفه الشهيد.

السادس : ما يثبت بشهادة امرأة واحدة ، وهو ربع الوصية ، وربع ميراث المستهل ، ويثبت بالمرأتين ، النصف ، وبالثلاث ثلاثة أرباع ، وبالأربع الجميع ، كل ذلك من غير يمين. ولو حلف مع المرأتين والثلاثة أخذ الجميع ، وليس له أن يحلف مع الواحدة ويأخذ النصف ، وليس للمرأة تضعيف المال ليصير ما أوصى به الربع (٦٣) ، ولو فعلت ذلك قبل ظاهرا ، وهل يستبيح المشهود له المال مع علمه بالحال؟ المعتمد ذلك إن علم بالوصية والا فلا ، ولو شهد عدل واحد احتمل إلحاقه بالمرأة في ثبوت ربع الوصية من غير يمين ، والا لزم ان يكون أسوء حالا من المرأة وهو اختيار العلامة في القواعد ، ويحتمل عدم ( ثبوت شي‌ء بغير يمين ) (٦٤) اقتصارا على مورد النص ، وهو اختيار فخر الدين وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : إذا دعي من له أهلية التحمل وجب عليه ، وقيل : لا يجب ، والأول مروي.

أقول : اختلف الفقهاء في وجوب تحمل الشهادة على من له أهلية التحمل إذا دعي إلى التحمل ولا ضرر غير مستحق (٦٥) عليه ولا على أحد من المؤمنين (٦٦) في الدين ولا في الدنيا على ثلاثة أقوال.

الأول قول المفيد ، قال : ليس لأحد أن يدعى الى شي‌ء ليشهد به أو عليه ،

__________________

(٦٣) في النسخ : ربع الربع ما شهدت به للكذب.

(٦٤) ما بين القوسين من النسخ وفي الأصل غير مقروء.

(٦٥) في « م » : متحقق.

(٦٦) في « ن » : المسلمين.

٢٩٦

فيمتنع من الإجابة الا أن يكون حضوره يضر بالدين أو بأحد من المسلمين ضررا لا يستحقه ، وهو يدل على الوجوب عينا ، وهو قول أبي الصلاح وابن البراج وسلار وابن زهرة ، لعموم قوله تعالى (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) (٦٧).

الثاني: قول الشيخ في النهاية والمبسوط ، وهو الوجوب على الكفاية ، وقد يتعين إذا لم يكن غيره ، كغيره من فروض الكفايات ، واختاره العلامة وابنه.

الثالث: قول ابن إدريس ، وهو أنه لا يجب عينا ولا على الكفاية ، لأصالة البراءة ، وأجاب عن الآيات والروايات (٦٨) المتضمنة لعدم جواز الامتناع بالحمل على بعد (٦٩) التحمل لا قبله ، والمعتمد وجوبه على الكفاية ؛ لأن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو واجب على الكفاية.

__________________

(٦٧) البقرة ، آية : ٢٨٢.

(٦٨) البقرة : ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ، والوسائل ، كتاب الشهادات ، باب الأول.

(٦٩) كذا.

٢٩٧
٢٩٨

في الشهادة على الشهادة

قال رحمه‌الله : ولا تقبل في الحدود سواء كانت لله محضا ، كحد الزنا واللواط والسحق ، أو مشتركة ، كحد السرقة والقذف على خلاف فيهما.

أقول : أجمع الأصحاب على جواز الشهادة على الشهادة مرة واحدة في الأموال ، والديون ، ونحوها من حقوق الناس ،لعموم قوله تعالى:(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (٧٠) ، ولقول أبي جعفر عليه‌السلام في رواية محمد بن مسلم ، « حين سئل عن الشهادة على شهادة الرجل وهو حاضر في البلد؟ فقال : نعم ولو كان خلف سارية ، إذا لم يمكنه أن يقيمها لعذر يمنعه من أن يحضر ويقيمها » (٧١) وأجمعوا أيضا على عدم سماعها في حقوق الله تعالى المحضة ، ونقل المصنف والعلامة الخلاف في حد السرقة وحد القذف ، ثمَّ اختار المنع.

وابن الجنيد والشيخ في النهاية والخلاف وابن البراج وابن زهرة أطلقوا المنع في الحدود ، فيدخل حد السرقة والقذف ، وصرح الشيخ في المبسوط بالجواز

__________________

(٧٠) البقرة : ٢٨٢.

(٧١) الوسائل ، كتاب الشهادات ، باب ٤٤ ، حديث ١.

٢٩٩

في حد القذف ، وبالمنع في حد السرقة ، وظاهر ابن حمزة المنع من حد القذف ، واختار الشهيد في شرح الإرشاد مذهب المبسوط.

قال رحمه‌الله : وللتحمل مراتب أتمها : أن يقول شاهد الأصل : أشهد على شهادتي أني أشهد على فلان بن فلان بكذا ، وهو الاسترعاء ، وأخفض منه أن يسمعه يشهد عند الحاكم فلا ريب في تصريحه هناك بالشهادة ، ويليه أن يسمعه يقول : أنا أشهد لفلان بن فلان بكذا ، ويذكر السبب مثل : أن يقول : من ثمن ثوب أو عقار ، إذ هي صورة جزم وفيه تردد.

أقول : منشؤه من التسامح بمثل ذلك في غير (٧٢) مجلس الحكام ، ومن أنها صورة جزم والعدل لا يتسامح الى مثل هذه الغاية.

قال رحمه‌الله : أما لو لم يذكر سبب الحق بل اقتصر على قوله إنما أشهد لفلان على فلان بكذا ، لم يضر بتحمله لاعتبار التسامح بمثله ، وفي الفرق بين هذه وبين ذكر السبب إشكال.

أقول : اعلم أن الشيخ في المبسوط فرّق بين الصورتين بعد أن ذكر أقسام التحمل كما ذكرها المصنف هنا ، وتبعه ابن إدريس ، ثمَّ قال : هذا جميعه أورده شيخنا في مبسوطه وأوردناه كما أورده ، ولم يرد في أخبارنا من هذا شي‌ء ، وهو يدل على تردده ، واستشكل المصنف الفرق بين هاتين الصورتين بعد تردده في الصورة الاولى ، ومنشأ الاشكال من تساوي الصورتين بالجزم في إثبات الحق في ذمة المشهود عليه فيتساويان في الحكم ، والمعتمد الفرق بينهما وهو (٧٣) مشهور بين الأصحاب ، وجزم به العلامة والشهيد.

قال رحمه‌الله : ولو شهد شاهد الفرع فأنكر [ شاهد ] الأصل ، فالمروي

__________________

(٧٢) ليست في « م ».

(٧٣) في النسخ : كما هو.

٣٠٠