غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٤

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

فروع في السراية

قال رحمه‌الله : إذا جنى الحر على المملوك فسرت الى نفسه ، فللمولى كمال قيمته ، ولو تحرر وسرت الى نفسه كان للمولى أقل الأمرين ، من قيمة الجناية أو الدية عند السراية ؛ لأن القيمة إن كانت أقل فهي المستحقة له ، والزيادة حصلت بعد الحرية فلا يملكها المولى ، وإن نقصت مع السراية لم يلزم الجاني تلك النقيصة ؛ لأن دية الطرف تدخل في دية النفس ، مثل أن يقطع واحد يده وهو رق ، فعليه نصف قيمته ، فلو كانت قيمته ألفا كان الجاني خمس مائة ، فلو تحرر وقطع آخر يده وثالث رجله ثمَّ سرى الجميع ، سقطت دية الطرف وثبتت دية النفس وهي ألف ، فلزم الأول الثلث بعد أن كان يلزمه النصف ، فيكون للمولى الثلث وللورثة الثلثان من الدية ، وقيل : له أقل الأمرين هنا من ثلث القيمة وثلث الدية ، والأول أشبه.

أقول : إذا قطع أحد يد عبد فعتق ، ثمَّ قطع آخر يده ثمَّ آخر رجله ثمَّ سرى الجميع ومات من الكل ، فلا قصاص على الأول إذا كان حرا في النفس ولا في الطرف ، وعلى الأخيرين القصاص ، وأما الدية فتقع موزعة على الجنايات

٣٨١

الثلاث على كل واحد ثلثها ، ولا حق للسيد فيما يجب على الآخرين وأنما تعلق حقه بما يجب على الجاني الأول الذي جنى عليه حالة الرق ، وفيما يستحقه قولان :

الأول : أقل الأمرين من ثلث الدية وأرش الجناية ، وهو قول الشيخ في الخلاف ، ونقله عنه عميد الدين في شرح القواعد ، ووجهه ما ذكره المصنف ، وهو اختيار المصنف والعلامة في القواعد.

الثاني : أقل الأمرين من ثلث القيمة وثلث الدية ؛ لأنه إن كان ثلث القيمة أقل فلا شي‌ء للسيد فيما زاد على الثلث بالسراية حال الحرية ، وإن كان ثلث الدية أقل فلا يلزمه أكثر من ثلث دية الحر ؛ لأن قيمة العبد إذا زادت عن دية الحر ردت إليها ، وتوقف العلامة ( في المختلف ) (٤٨) ، وابنه في شرح القواعد.

قال رحمه‌الله : ولو قطع يده وهو عبد ثمَّ رجله وهو حر ، كان على الجاني نصف قيمته وقت الجناية لمولاه ، وعليه القصاص في الجناية حال الحرية ، فإن اقتص المعتق جاز ، وإن طالب بالدية كان له نصف الدية يختص به دون الولي ، ولو سرتا فلا قصاص في الأولى ، لعدم التساوي ، وله القصاص في الرجل ؛ لأنه مكافئ ، وهل يثبت القود؟ قيل : لا ؛ لأن السراية عن فعلين أحدهما لا يوجب القود ، والأشبه ثبوته مع رد ما يستحقه الولي.

أقول : أما وجه عدم القصاص فقد ذكره المصنف ، وأما وجه ثبوته فلوجود السبب وهو الجناية على الحر المكافئ وكون إحدى الجنايتين لا توجب القصاص غير مانع من القصاص بالجناية الأخرى ، كما لو ( قطع يد ولده ثمَّ ) (٤٩) قطع أجنبي رجله ثمَّ سرتا ، فإنه يقاد الأجنبي مع رد نصف الدية ، وكذلك هنا يقاد الأجنبي مع رد نصف دية العبد ، وجزم به العلامة في كتبه.

__________________

(٤٨) ليستا في الأصل.

(٤٩) ما بين القوسين ليس في « م ».

٣٨٢

قال رحمه‌الله : وقيل : إن اعتاد قتل أهل الذمة جاز الاقتصاص بعد رد فاضل ديته.

أقول : لا خلاف في عدم قتل المسلم بالذمي مع عدم الاعتياد ، ومع الاعتياد اختلف الأصحاب فيه على ثلاثة أقوال :

الأول: قول الشيخ في النهاية : إنه يقتل قصاصا بعد رد أولياء الذمي فاضل دية المسلم ، وهو قول المفيد واختاره المصنف في المختصر جزما.

الثاني : انه يقتل حدا لا قصاصا ولكن لا فساده قام مقام المحاربين ، وهو قول أبي الصلاح وأبي علي.

الثالث : عدم قتله مطلقا ، وهو قول ابن إدريس وهو ظاهر المصنف هنا ، والعلامة في القواعد واختاره فخر الدين ومستند الجميع الروايات (٥٠) ، قال الشهيد في شرح الإرشاد : والحق أن هذه المسألة إجماعية ، فإنه لم يخالف فيها أحد سوى ابن إدريس ، وقد سبقه الإجماع ولو كان هذا (٥١) الخلاف مؤثرا في الإجماع لم يوجد إجماع قط ، إذا عرفت هذا فهنا فروع :

الأول : المراد بالذمي هو الملتزم بشرائط الذمة السابقة فلو أخلّ بشرط واحد منها صار حربيا لم يقتل المسلم بقتله.

الثاني : معنى الاعتياد ، قيل : يحصل بقتله ثانيا ؛ لأنه مشتق من العود ، وقيل بقتله ثالثا ؛ لأن ثبوت العادة شرط في القصاص ، والشرط مقدم على المشروط ، فبقتله مرتين يحصل العادة ، وبالثالثة يجب القتل.

الثالث : على القول بأنه قصاص يتوقف على طلب الولي ، وعلى القول بأنه حد يقتله الامام عليه‌السلام لفساده في الأرض.

__________________

(٥٠) الوسائل ، أحاديث باب ٤٧ من أبواب قصاص النفس.

(٥١) ليست في النسخ.

٣٨٣

الرابع : على القول بقتله قصاصا ، هل يتوقف على طلب جميع الأولياء أو طلب ولي الأخير خاصة؟ يبني على مسألة هي أن قتل ما قبل الأخير هل هو شرط في وجوب القصاص أو جزء سبب؟ فان كان الأول لم يتوقف على طلب الجميع بل على طلب ولي الأخير ؛ لأن قتله سبب تام في وجوب القصاص ، وان كان الثاني توقف على طلب الجميع ، ويتفرع على ذلك رد فاضل دية المسلم ، وكل من يتوقف القصاص على مطالبته كان الرد واجبا عليه.

قال رحمه‌الله : ولو قتل الذمي مسلما عمدا ، دفع هو وماله إلى أولياء المقتول ، وهم مخيرون بين قتله أو استرقاقه ، وفي استرقاق ولده الصغار تردد ، أشبهه بقاؤهم على الحرية ، ولو أسلم ، قبل الاسترقاق لم يكن لهم إلا قتله.

أقول : منشأ التردد من تبعية الطفل لأبويه في الكفر والإسلام ، فيتبعه في الرق ، ولأنه بخرق الذمة صار حربيا وحكم الحربي استرقاق أولاده الصغار ، ومن أصالة بقاء حريتهم السابقة ، لانعقادهم عليها وجناية الأب لا تخرجهم عنها لقوله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٥٢) وبالاسترقاق قال المفيد وابن حمزة وسلار ونقله العلامة في التحرير وفخر الدين وعميد الدين عن الشيخ في النهاية ، قال الشهيد في شرح الإرشاد : ولم أر ذلك في شي‌ء من كتب الشيخ ، ومنع ابن إدريس من الاسترقاق ، واختاره المصنف والشهيد في شرح الإرشاد ، واستبعد القول باسترقاقهم.

قال رحمه‌الله : ولو قتل الذمي مرتدا قتل به ؛ لأنه محقون الدم بالنسبة إلى الذمي ، أما لو قتله مسلم فلا قود قطعا ، وفي الدية تردد ، والأقرب أنه لا دية.

أقول : منشؤه من أن المرتد مهدور الدم بالنسبة إلى المسلم ، فلا قود

__________________

(٥٢) الأنعام : ١٦٤.

٣٨٤

ولا دية وان أساء بقتله ؛ لأن أمره الى الحاكم (٥٣) ومن أنه لم يكن أقل حرمة من الذمي ، ويجب بقتل الذمي الدية فكذلك في (٥٤) المرتد ، والأول هو المعتمد والمشهور بين الأصحاب ، وجزم به العلامة في القواعد.

قال رحمه‌الله : ولو ادعى اثنان ولدا مجهولا ، فان قتله أحدهما قبل القرعة فلا قود لتحقق الاحتمال في طرف القاتل ، ولو قتلاه فالاحتمال بالنسبة الى كل واحد منهما باق ، وربما خطر الاستناد إلى القرعة ، وهو تهجم على الدم ، والأقرب الأول. ولو ادعياه ثمَّ رجع أحدهما وقتلاه ، توجه القصاص على الراجع بعد رد ما يفضل عن جنايته ، وكان على الأب نصف الدية وعلى كل واحد كفارة القتل بانفراده. ولو ولد مولود على فراش مدعيين له ، كالأمة أو الموطوءة بالشبهة في الطهر الواحد ، فقتلاه قبل القرعة ، لم يقبلا ، لتحقق الاحتمال بالنسبة الى كل واحد منهما ، ولو رجع أحدهما ثمَّ قتل لم يقتل الراجع ، والفرق أن البنوة هنا تثبت بالفراش لا بمجرد الدعوى ، وفي الفرق تردد.

أقول : فرق الأصحاب بين رجوع أحد المدعيين للولد المجهول ، وهو الذي لم يعلم ولادته على فراش معلوم ، وبين رجوع أحد المدعيين للولد المولود على فراشهما كما فرضه المصنف ، ثمَّ حكموا بقتل الراجع في الصورة ( الأولى إذا قتل الولد ، وبعدم قتل الراجع في الصورة ) (٥٥) الثانية ؛ لأن البنوة إذا ثبتت بالفراش لم تنتف الا باللعان ، وإذا ثبتت بمجرد الدعوى انتفت بالرجوع عنها مع وجود مدع غير الراجع ، هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وتردد المصنف في الفرق ؛ لأن المانع من القصاص هنا انما هو احتمال البنوة وهذا المعنى مشترك بين

__________________

(٥٣) في النسخ : الامام.

(٥٤) من « ر ١ ».

(٥٥) ما بين القوسين ليس في « ر ١ ».

٣٨٥

الصورتين لان النسب يثبت بالفراش المنفرد والدعوى المنفردة وكما ساوت الدعوى المنفردة الفراش المنفرد في ثبوت النسب وجب ان يتساوى الدعوى المشتركة والفراش المشترك في احتمال النسب فالفرق بينهما في صورة الاشتراك مع عدمه في صورة الاتحاد لا وجه له وعدم الفرق قوي غير ان عمل أكثر الأصحاب على الفرق من غير تردد.

قال رحمه‌الله : وفي رواية يقتص من الصبي إذا بلغ عشرا ، وفي أخرى إذا بلغ خمسة أشبار ، وتقام عليه الحدود ، والوجه أن عمد الصبي خطأ محض يلزم أرشه العاقلة حتى يبلغ خمسة عشرة سنة.

أقول : الرواية الأولى رواها الشيخ عن أبي بصير عن الباقر عليه‌السلام ، « قال : سأل عن غلام لم يدرك وامرأة قتلا رجلا خطأ؟ فقال : إن خطأ المرأة والغلام عمد ، فإن أحب أولياء المقتول أن يقتلوهما قتلوهما ويردوا على أولياء الغلام خمسة آلاف درهم وإن أحبوا أن يقتلوا الغلام قتلوه ، وترد المرأة على أولياء الغلام ربع الدية قال وان أحب أولياء المقتول ان يأخذوا الدية كان على الغلام نصف الدية وعلى المرأة نصف » (٥٦) وحملها الشيخ على من بلغ العشر.

وأما الرواية الثانية فرواية السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، « قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : في رجل وغلام اشتركا في قتل رجل ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إذا بلغ الغلام خمسة أشبار اقتص منه وإذا لم يكن بلغ خمسة أشبار قضى بالدية » (٥٧) وبمضمون الأولى أفتى الشيخ وبمضمون الثانية أفتى ابن بابويه والمفيد ، والمشهور اختيار المصنف ، لقوله عليه‌السلام : « رفع القلم عن ثلاثة ، عن الطفل حتى يبلغ ، والمجنون حتى يفيق ، والنائم حتى

__________________

(٥٦) الوسائل ، كتاب القصاص ، الباب ٣٤ من أبواب قصاص النفس ، حديث ١.

(٥٧) الوسائل ، كتاب القصاص ، باب ٣٦ من أبواب قصاص النفس ، حديث ١.

٣٨٦

ينتبه » (٥٨) ولعدم جواز التهجم على الدماء إلا في موضع اليقين.

قال رحمه‌الله : ولو قتل البالغ الصبي قتل به على الأصح.

أقول : هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وهو المعتمد ؛ لعموم (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٥٩) وقال أبو الصلاح : لا يقتل به بل تؤخذ الدية ؛ لأن الكامل لا يقتل بالناقص ، والطفل ناقص فلا يقتل به البالغ.

قال رحمه‌الله : ولا يقتل العاقل بالمجنون ، وتثبت الدية على القاتل إن كان عمدا أو شبيها بالعمد ، وعلى العاقلة إن كان خطأ محضا ، ولو قصد العاقل دفعه كان هدرا ، وفي رواية ديته في بيت المال.

أقول : الرواية إشارة الى ما رواه أبو بصير ، « قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل قتل مجنونا؟ فقال : ان كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه فقتله فلا شي‌ء عليه من قود ولا دية ، وتعطى ورثته الدية من بيت المال » (٦٠) وبمضمونها أفتى المفيد ، ولا بأس به لئلا يبطل (٦١) دمه والمشهور سقوط القود والدية معا ، لأن الدفع اما مباح أو واجب فلا يتعقبه ضمان.

قال رحمه‌الله : وفي ثبوت القود على السكران تردد ، والثبوت أشبه ؛ لأنه كالصاحي في تعلق الأحكام ، أما من بنّج نفسه أو شرب مرقدا لا لعذر ، فقد ألحقه الشيخ رحمه‌الله بالسكران ، وفيه تردد.

أقول : هنا مسألتان :

الاولى : في ثبوت القود على السكران ، ومنشأ التردد فيه من مساواته للمجنون في زوال العقل فيساويه في انتفاء القصاص ، ولأن العمد يعتبر فيه القصد

__________________

(٥٨) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ٤ من أبواب مقدمة العبادات ، حديث ١٠.

(٥٩) المائدة : ٤٥.

(٦٠) الوسائل ، كتاب القصاص ، باب ٢٨ من أبواب قصاص النفس ، حديث ١.

(٦١) كذا.

٣٨٧

الى القتل ، والسكران لا قصد له فلا قود عليه ، وتجب الدية في ماله ، ومن أن الشارع أجراه مجرى الصاحي في الأحكام ومن جملتها وجوب القود ، وهو اختيار المصنف وفخر الدين.

الثانية : هل حكم من بنج نفسه أو شرب مرقدا حكم السكران؟ قال الشيخ : نعم ؛ لأن إبطال عقله بفعله واختياره ، مع نهي الشارع عنه ، فكان حكمه حكم السكران في تعلق الاحكام ، وتردد المصنف لاختصاص النص (٦٢) بالسكران دون غيره ؛ لأن الاعتبار بالافعال القصد والإرادة ، فمع عدم القصد والإرادة تكون ملحقة بأفعال الساهي ، خرج منه السكران بالنص (٦٣) والإجماع يبقى الباقي على الأصل ، واختار فخر الدين مذهب الشيخ.

تنبيه : الفرق بين السكران والمبنج وشارب المرقد تابع للفرق بين خواص المسكرات ، فخاصة الخمر النشوة لشاربها والسرور (٦٤) وقوة النفس ، وقد يحصل مع ذلك تغير العقل ، واختلال الكلام المنظوم ، وظهور السر المكتوم ، وعربدة في الكلام ، وخواص البنج تغير العقل لا غير ، من غير نشوه ولا سرور ولا قوة نفس مع تعب (٦٥) الحواس ، وخاصة المرقد كخاصية البنج ويزيد على ذلك تغير (٦٦) الحواس الخمس (٦٧) بحيث يصير راقدا لا يتحرك منه شي‌ء كالميت ، غير أنه فيه نفس.

قال رحمه‌الله : وفي الأعمى تردد ، أظهره أنه كالمبصر في توجه القصاص

__________________

(٦٢) الوسائل ، كتاب الديات ، باب الأول من أبواب موجبات الضمان ، حديث ٢.

(٦٣) المصدر السابق.

(٦٤) في « ن » : وهو السرور.

(٦٥) في « ر ١ » : تغيب ، وفي « م » و « ن » : عدم تغيب.

(٦٦) في النسخ : تغيب.

(٦٧) من « ر ١ ».

٣٨٨

لعمده ، وفي رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أن جنايته خطأ تلزم العاقلة.

أقول : ذهب الشيخ في النهاية الى ان عمد الأعمى بمنزلة الخطأ يجب فيه الدية على عاقلته ، وتبعه ابن البراج وهو مذهب ابن الجنيد للرواية المذكورة ، وذهب ابن إدريس إلى وجوب القود عليه مع العمد كالمبصر ، واختاره المصنف والعلامة وابنه وأبو العباس ، وهو المعتمد ، لتحقق القصد منه فيدخل في عموم : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٦٨) لأنه مكلف بالغ عاقل قاصد فيقتص منه كالمبصر.

__________________

(٦٨) المائدة : ٤٥.

٣٨٩
٣٩٠

في دعوى القتل

قال رحمه‌الله : ولو حرر الدعوى بتعيين القاتل وصفة القتل ونوعه ، سمعت دعواه ، وهل تسمع منه مقتصرا على مطلق القتل ، فيه تردد أشبهه القبول.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : إذا ادعى على رجل أنه قتل وليا له ولم يقل عمدا ولا خطا ، وأقام شاهدا واحدا يشهد له بما ادعاه ، قال قوم : لا يكون لوثا ؛ لأنه لو حلف مع شاهده لم يمكن الحكم بيمينه ؛ لأنا لا نعلم صفة القتل فيستوفى بموجبة فتسقط الشهادة ، وهذا القول مذهبه في المبسوط ، وتردد المصنف والعلامة في القواعد في ذلك ، قال فخر الدين وعميد الدين : ينشأ مما ذكره المصنف رحمه‌الله ، ومن إمكان علم الولي بصدور القتل من شخص وجهله بصفته ، فلو لم تسمع دعواه لزم ضياع حقه ، واختار المصنف والعلامة في التحرير سماع الدعوى.

قال رحمه‌الله : ولو ادعى القتل ولم يقل عمدا أو خطا ، الأقرب أنها تسمع ويستفصله القاضي ، وليس ذلك تلقينا بل تحقيقا للدعوى ، ولو لم يبين ، قيل : طرحت دعواه وسقطت البينة بذلك ، إذ لا يمكن الحكم بها ، وفيه تردد.

٣٩١

أقول : هذه المسألة هي السابقة بعينها ، وانما أوردها ثانيا ، لزيادة الإيضاح والتبيين ، وعلى ما اختاره المصنف والعلامة في التحرير من سماع الدعوى ، ينبغي الحكم بالدية في مال القاتل لا بالقصاص لما فيه من التهجم على الدماء مع الشك في السبب ، ولا في مال العاقلة لأصالة براءة ذمتهم ما لم يعلم الموجب ، فيتعين كونها في مال القاتل.

قال رحمه‌الله : ولو ادعى على شخص القتل منفردا ، ثمَّ ادعى على آخر ، لم يسمع الثانية برئ الأول أو شرّكه ، لا كذابة نفسه بالدعوى الاولى ، وفيه للشيخ قول آخر.

أقول : القول الآخر نقله صاحب الترددات عن الشيخ في الخلاف ، وهو سماع الدعوى الثانية ؛ لأن قول الولي قتله فلان وحده لم يقطع به ، وانما قاله بغالب ظنه ، والمعتمد عدم السماع ما لم يصدقه الثاني فيؤخذ (٦٩) بإقراره ، وهو اختيار العلامة في القواعد والتحرير.

قال رحمه‌الله : اما الإقرار فيكفي فيه المرّة ، وبعض الأصحاب يشترط الإقرار مرتين.

أقول : نص الشيخ في النهاية على وجوب الإقرار مرتين ، وتبعه ابن إدريس ، للاحتياط للدماء ، ولأنه لا تقصر عن الإقرار بالسرقة والزنا ، والمشهور الاكتفاء بالمرة ، لعموم : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (٧٠) ، ولأنه حق آدمي فيكفي فيه المرة كغيره من الحقوق ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو أقر بقتله عمدا ، فأقر آخر أنه هو الذي قتله ، ورجع الأول درئ عنهما القصاص والدية ، وودي المقتول من بيت المال ، وهي قضية

__________________

(٦٩) في النسخ : فيؤاخذ.

(٧٠) الوسائل ، كتاب الإقرار ، باب ٣ ، حديث ٢.

٣٩٢

الحسن عليه‌السلام.

أقول : هذه قضية (٧١) الحسن عليه‌السلام في حياة أبيه عليه‌السلام ، وعليها فتوى أكثر (٧٢) الأصحاب ، وذهب أبو العباس في المقتصر الى تخيير الولي في تصديق أيهما شاء.

قال رحمه‌الله : أما البينة فلا تثبت ما يجب به القصاص الا بشاهدين ، ولا يثبت بشاهد وامرأتين ، وقيل : تجب به الدية ، وهو شاذ.

أقول : المشهور عدم قبول شهادة النساء منفردات ومنضمات فيما يوجب القصاص ، وقال ابن الجنيد : ولو لم يتم الشهادة على القتل بالرجال ، وشاركهم النساء أوجبنا بها الدية ، وقال أبو الصلاح : ولا يقتص بشهادتهن (٧٣) وتؤخذ بها الدية ، والمعتمد ما هو مشهور (٧٤) بين الأصحاب.

قال رحمه‌الله : ولو شهدا لمن يرثانه ان زيدا جرحه بعد الاندمال قبلت ، ولا تقبل قبله ، لتحقق التهمة على تردد.

أقول : المشهور بين الأصحاب عدم القبول قبل الاندمال ، لوجود التهمة ؛ لأن الجرح قد يسرى الى النفس فتجب الدية على القاتل ، فيستحقها الشاهدان فتحققت التهمة ، وتردد المصنف ؛ لأن الوارث لو شهد للمريض بدين قبلت شهادته مع تحقق التهمة ، لاحتمال موته بذلك المرض ، فينتقل المال الى الشاهدين ، فلو أن تهمة الوارث مانعة لمنعت شهادته للمريض (٧٥) ، والمعتمد ما

__________________

(٧١) الوسائل ، كتاب القصاص ، باب ٤ من أبواب دعوى القتل ، حديث ١.

(٧٢) ليست في « ن ».

(٧٣) في الأصل : بشهادتين.

(٧٤) في « م » : المشهور.

(٧٥) في « ن » شهادة المريض.

٣٩٣

هو مشهور (٧٦) بين الأصحاب.

__________________

(٧٦) في « م » : المشهور.

٣٩٤

في القسامة

قال رحمه‌الله : ولو قال الشاهد : قتله أحد هذين ، كان لوثا ، ولو قال : قتل أحد هذين ، لم يكن لوثا ، وفي الفرق تردد.

أقول : فرق الشيخ في المبسوط بين المسألتين ؛ لأن في المسألة الأولى ثبت أن القتيل قتله أحدهما وتمييز القاتل قد يعسر ؛ لأنه يخفى (٧٧) نفسه ، بخلاف المقتول ، وقد أطلق الأصحاب أن شهادة الواحد لوث وليس الثانية كذلك ؛ لأن كل ولي لا يعلم أن الشاهد يشهد له ، فلا يتحقق شهادة الواحد لأحدهما فلا لوث حينئذ.

وتردد المصنف في الفرق ، ومنشؤه مما قاله الشيخ ، ومن احتمال عدم اللوث في الأولى أيضا ؛ لأن شهادة الواحد إنما تكون لوثا مع جزم الشاهد بتعيين شخص القاتل وشخص المقتول ، بحيث لا يحتمل أحدهما الشركة ، لاشتراط الجزم في الشهادة ، فلما لم يحصل الجزم لم يثبت اللوث.

قال رحمه‌الله : ولا يشترط في اللوث وجود أثر القتل على الأشبه.

__________________

(٧٧) في « م » و « ر ١ » : لا يخفى.

٣٩٥

أقول : هذا مذهب الشيخ في الخلاف وهو المشهور ؛ لأن العادة موت الإنسان بالأمراض ، وموت الفجأة نادر ، فلا يحمل على النادر الا بدليل ، إذ قد يقتل الإنسان غيره بأخذ نفسه وعصر خصيته وان لم يكن هناك أثر ، وقوى في المبسوط اشتراط وجود أثر القتل في تحقق اللوث ، فعلى هذا لا يتحقق بدونه والأول هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : وهي في العمد خمسون يمينا فان كان له قوم حلف كل واحد يمينا إن كانوا عدد القسامة ، وإن نقصوا عنه كررت عليهم الإيمان حتى يكملوا القسامة ، وفي الخطأ المحض والشبيه بالعمد خمس وعشرين يمينا ، ومن الأصحاب من سوى بينهما ، وهو أوثق في الحكم ، والتفصيل أظهر في المذهب.

أقول : اتفق الأصحاب على أن القسامة في العمد خمسون يمينا ، واختلفوا في الخطأ وشبيه العمد ، فمنهم من ساواهما بالعمد كالمفيد وسلار وابن إدريس ، واختاره العلامة في القواعد والإرشاد والتحرير ، وابنه في الإيضاح ؛ لأن القسامة على خلاف الأصل فيعمل بها على الأحوط وكذلك (٧٨) قال المصنف ، وهو أوثق ، وادعى ابن إدريس على ذلك إجماع المسلمين ، وقال الشيخ في النهاية والمبسوط والخلاف : خمس وعشرون يمينا ، وادعى في المبسوط إجماع الأصحاب ، وتبعه ابن البراج وابن حمزة ، واختاره المصنف والعلامة في المختلف ، وأبو العباس في المقتصر ، ولهم عليه روايات ، كرواية عبد الله بن سنان (٧٩) عن الصادق عليه‌السلام ، ورواية يونس (٨٠) عن الرضا عليه‌السلام.

قال رحمه‌الله : ولو كان المدعى عليهم أكثر من واحد ، ففيه تردد أظهره أن

__________________

(٧٨) في « م » : ولذلك.

(٧٩) الوسائل ، كتاب القصاص ، باب ١١ من أبواب دعوى القتل ، حديث ١.

(٨٠) المصدر السابق ، حديث ٢.

٣٩٦

على كل واحد خمسين يمينا ، كما لو انفرد ؛ لأن كل واحد منهم يتوجه عليه الدعوى بانفراده.

أقول : منشؤه مما قال المصنف ، ومن أنها جناية واحدة لاتحاد موضوعها ، وقد قدر لها الشارع خمسين يمينا فيقسط على الجميع ، والمعتمد اختيار المصنف وهو مذهب العلامة.

قال رحمه‌الله : لو امتنع من القسامة ولم يكن له من يقسم ، ألزم الدعوى ، وقيل : له رد اليمين على المدعي.

أقول : لا شك أن القسامة على المدعي ، فان لم يحلف كان له إحلاف المدعى عليه ، فان لم يحلف المدعى عليه ولا قومه أو (٨١) لم يكن له قوم ، هل له رد اليمين على المدعي؟ ذهب الشيخ في المبسوط الى جواز ردها عليه ، والمشهور عدم الرد ؛ لأنها كانت للمدعي أولا فردها على المنكر فلا يجوز الرد على المدعي ، والا لم تخل إما أن يجوز ردها على المنكر ثانيا أولا ، فإن كان لزم التسلسل ، وإن كان الثاني انتفت فائدة الرد ، والمعتمد عدم جواز الرد.

قال رحمه‌الله : وتثبت القسامة في الأعضاء مع التهمة ، وكم قدرها؟ قيل : خمسون يمينا احتياطا إن كانت الجناية تبلغ الدية ، وإلا فبنسبتها من خمسين ، وقال آخرون : ست أيمان فيما فيه دية النفس ، وبحسابه من ستة فيما فيه دون الدية ، وهي رواية أصلها طريف.

أقول : القول بالخمسين مذهب سلار وابن إدريس ، واختاره العلامة في القواعد والمختلف ؛ لأنه أحوط ، والقول بالستة مذهب الشيخ في النهاية والمبسوط والخلاف ، وتبعه ابن حمزة وابن البراج ، واختاره المصنف في المختصر ، وفخر الدين في الإيضاح ، وأبو العباس في المقتصر ، والمستند

__________________

(٨١) في « ن » : إذ.

٣٩٧

رواية (٨٢) سهل بن زياد ، عن الحسن (٨٣) بن ظريف ، عن أبيه ظريف بن ناصح ، يرفعه الى الصادق عليه‌السلام.

قال رحمه‌الله : وفي قبول قسامة الكافر على المسلم تردد ، أظهره المنع.

أقول : منشؤه من عموم الأخبار (٨٤) الدالة على ثبوت القسامة فتثبت للكافر على المسلم كالعكس ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط ، غير أنه لا يثبت به القصاص وانما تثبت الدية ، ومن أن استحقاق القسامة سبيل ، ولا سبيل للكافر على المسلم ، وهو اختيار المصنف والعلامة وابنه ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : وهل يذكر في اليمين أن النية نية المدعي؟ قيل : نعم ، دفعا لتوهم الحالف ، والأشبه أنه لا يجب.

أقول : القائل هو الشيخ رحمه‌الله ، ومنع (٨٥) المصنف والعلامة وابنه ( لأنه حكم شرعي وكل ) (٨٦) حكم شرعي لا بد في ثبوته من دليل شرعي ، ولم يقم على ذلك دليل ، والأصل براءة الذمة ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : إذا اتهم والتمس الولي حبسه حتى يحضر بينته ، ففي إجابته تردد ، ومستند الجواز ما رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يحبس في تهمة الدم ستة أيام ، فإن جاء الأولياء ببينة وإلا خلى سبيله ، وفي السكوني ضعف.

أقول : منشأ التردد من الرواية (٨٧) المذكورة ، وبمضمونها أفتى الشيخ

__________________

(٨٢) الوسائل ، كتاب القصاص ، باب ١١ من أبواب دعوى القتل ، حديث ١.

(٨٣) في « ن » : ( الحسين ) بدل ( الحسن ).

(٨٤) الوسائل ، كتاب القصاص ، أحاديث الأبواب ٩ و ١٠ و ١١ من أبواب دعوى القتل.

(٨٥) في « ن » : ومنعه.

(٨٦) في « م » و « ر ١ » بدل ما بين القوسين : لان كل.

(٨٧) الوسائل ، كتاب القصاص ، باب ١٢ من أبواب دعوى القتل ، حديث ١.

٣٩٨

وابن البراج ، ومن ان الحبس عقوبة لم يثبت سببها فلا يجوز الحبس (٨٨) ، وهو اختيار ابن إدريس والمصنف والعلامة ، وهو المعتمد.

__________________

(٨٨) كذا.

٣٩٩
٤٠٠