غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

١

٢

٣

كتاب التجارة

٤

في ما يكتسب به

قال رحمه‌الله : وربما قيل بتحريم الأبوال كلها إلّا بول الإبل خاصة ، والأول أشبه.

أقول : القائل بالمنع فيها (١) عدا بول الإبل هو الشيخ في النهاية ، والمفيد وتلميذه سلّار ؛ لأن الأبوال من الفضلات فأشبهت البصاق والمخاط ، فلا يجوز بيع ما عدا بول الإبل للاستشفاء عند الضرورة.

وقال في المبسوط بجواز بيع كل بول مأكول اللحم ؛ لأصالة الجواز ، ولأنها طاهرة كبول الإبل.

واختاره ابن إدريس ، والعلّامة في المختلف ، وذلك مع تقدير الانتفاع بها (٢).

قال رحمه‌الله : وفي الفيل تردد ، والأشبه جواز بيعه ؛ للانتفاع بعظمه. وقيل : يجوز بيع السباع كلها ؛ للانتفاع بجلدها أو ريشها ، وهو الأشبه.

أقول : هنا مسألتان :

__________________

(١) في « م » زيادة : في ما.

(٢) قيد الانتفاع للعلامة خاصة ، انظر المختلف : ٣٤٠.

٥

الاولى : في المسوخ ، ومنع من بيعها أكثر المتقدمين ، وهو بناء على القول بنجاستها.

وذهب أكثر المتأخرين إلى القول بجواز بيعها ، من غير فرق بين الفيل وغيره ، بل كل عين طاهرة تقبل الذكاة ، وهي أعيان طاهرة على المختار ، ينتفع بجلودها إن كانت برية ، ودهنها إن كانت بحرية ، لكن يجب أن يقصد في البيع ما يجوز الانتفاع به من تلك الأعيان ، لا ما لا يجوز.

الثانية : في السباع ، وجوز ابن إدريس بيعها جميعا ؛ لطهارتها ، وللانتفاع بريشها وجلودها ، ولأصالة الجواز الا ما قام الدليل على المنع منه.

وحرّم الشيخ في النهاية والخلاف ما عدا الفهد.

وأجاز المفيد بيع الفهد وسباع الطير.

والمعتمد الجواز مطلقا.

قال رحمه‌الله : والقضاء على تفصيل سيأتي ، ولا بأس بأخذ الأجرة على عقد النكاح.

أقول : التفصيل هو أن القاضي إذا لم يتعين عليه القضاء وكان مضطرا ، قيل : يجوز له أخذ الجعل من المتحاكمين ، ومع عدم الضرورة أو التعيّن عليه لا يجوز له ، وسيأتي تحقيق ذلك في باب القضاء إن شاء الله تعالى.

وأما الأجرة على إيقاع عقد النكاح وغيره من العقود فجائز ، وهي المباشرة للإيقاع سواء كان نائبا عن الزوجة أو الزوج ، أو البائع أو المشتري.

ولا يجوز أخذها على تعليم الصيغة وإلقائها على أحد (٣) المتعاقدين ؛ لأن ذلك من باب الواجب على الكفاية ـ كتغسيل الموتى ودفنهم وحملهم ، وغير ذلك من الواجبات على الكفاية ـ لا يجوز أخذ الأجرة عليه.

__________________

(٣) من « ي ».

٦

فرع : يجوز للغاسل أخذ الأجرة على الغسلات المندوبة ، ويجوز على تعميق القبر على القدر الواجب وإن زاد على المثل ، إذا كان المقصود من الأجرة ذلك الفعل المندوب.

ويشترط إجازة جميع الورثة إن كانت الأجرة من التركة.

وإذا وقعت الإجارة على الفعل الواجب كان العقد باطلا.

وهل يكون الفعل محرما يأثم فاعله أم لا؟

يحتمل ذلك ؛ لأنه فعله على وجه ليس بشرعي فيكون بدعة ( وكل بدعة ) (٤) حرام.

ويحتمل إباحة الفعل ؛ لأنه طاعة ، ولا تحرم ، ولا يلزم من تحريم الأجرة تحريم الفعل.

تنبيه : قال فخر الدين رحمه‌الله في كتاب الإجارة (١) من شرح القواعد في شرح جواز أخذ الأجرة على تعليم الفقه : والحق عندي أن كل واجب على شخص معين لا يجوز للمكلف به أخذ الأجرة عليه.

والذي على الكفاية ، فإن كان لو (٥) أوقعه بغير نية لم يصح ولم يزل الوجوب به ، لا يجوز أخذ الأجرة عليه ؛ لأنه عبادة محضة (٦) ، وقال تعالى ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٧). حصر غرض الأمر في انحصار غاية الفعل في الإخلاص ، وما يفعل بالعوض لا يكون كذلك ، فلا يصح.

__________________

(٤) ما بين القوسين لم يرد في « ن » ، وبدل ( حرام ) ، ( حراما ).

(١) في جميع النسخ ورد : ( التجارة ) بدل ( الإجارة ) ، والصحيح ما أثبتناه ؛ وكلام فخر الدين ( ره ) المنقول هنا موجود في كتاب الإجارة دون التجارة.

(٥) لم ترد في « ن ».

(٦) من « ي » و« م » ، وفي باقي النسخ : مخصوصة.

(٧) البينة : ٥.

٧

وغير ذلك يجوز أخذ الأجرة عليه ، إلا ما نص الشارع على تحريمه كالدفن (٨) هذا آخر كلامه رحمه‌الله.

جعل الضابط في تحريم الأجرة على الأفعال الواجبة على الكفاية هو فعل مشروط بالنية ، وما ليس مشروطا بها لا تحرم الأجرة عليه ، قال : إلا ما نص الشارع على تحريمه كالدفن ، وقد ذكر في هذه المسألة أن جميع الصنائع واجبة ، وأن كل ما ينتظم به أمور النوع (٩) واجب على الكفاية مع عدم تحريم الأجرة على هذه الأشياء ، فأراد أن يجعل ضابطا لما يحرم الأجرة عليه منها.

وفي هذا الضابط نظر ؛ لأن الضابط إنما يكون في الغالب للأشياء المتفرقة التي يعتبر حصرها ، دون ما لا يعتبر حصره ، والمشروط بالنية من الأفعال الواجبة على الكفاية التي يحرم أخذ الأجرة عليها فعلان لم يحضرني الآن غيرهما ، وهما : تغسيل الموتى والصلاة عليهم.

أما غير المشروط بالنية مع اشتهار تحريم أخذ الأجرة عليه فهو كثير متعدد ربما يعسر حصره ، وذلك مثل توجيه الميت حال الاحتضار ، وحمله ، وتكفينه ، ودفنه ، وحضر القبر ، وتعليم الواجب من الفقه ، والواجب من القرآن ، والدلالة على المعارف الإلهية بطريق التنبيه ، والقضاء ، وتعليم صيغ العقود ، وإلقائها على المتعاقدين حالة إيقاع العقد ، وغير ذلك مما فيه الخلاف بين العلماء.

فان قيل : إن هذه الأفعال منصوص على تحريم الأجرة عليها ، وهو قد استثنى ذلك.

قلنا : الأفعال كلها يجب أن تكون منصوصة أو متفرعة على المنصوص ، وهذه وإن كانت منصوصة فهي كثيرة متفرقة ، وهي أولى بالضابط من غير الكثير

__________________

(٨) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٦٤.

(٩) في « ن » و« ي » : ( الشرع ) ، وما في المتن موافق للإيضاح المطبوع.

٨

المتفرق مع كونه منصوصا يعرفه من له أدنى معرفة ، مع أنه رحمه‌الله أطلق المنع من الأجرة على المشروط بالنية من واجب الكفاية ، وعنده أن اليوم المتكسر على الأولياء واجب على الكفاية.

قال في القواعد : ولو انكسر يوم فكالواجب على الكفاية.

قال رحمه‌الله في شرحه : الأول : في كيفية وجوب ذلك اليوم عليهما ، ولا شك في سقوطه عن كل واحد بفعل الآخر ، فهل عدم فعل كل (١٠) واحد شرط في وجوبه على الآخر ويكون من قبيل الواجب المشروط وجوبه ، أو من قبيل الواجب على الكفاية ، فلذلك قال : فكالواجب على الكفاية. ولم يجزم بكونه واجبا على الكفاية ، وليس من المباحث المهمة هنا ، والأقوى أنه واجب على الكفاية (١١).

وهو مشروط بالنية إجماعا.

وقد ذهب الشهيد وأبو العباس إلى جواز استئجار بعض الأولياء لبعض على ما يخص المستأجر ، فانخرمت القاعدة التي جعلها ضابطا لتحريم الأجرة ، لكن هو أعلم بما قال.

قال رحمه‌الله : لا يجوز بيع شي‌ء من الكلاب إلا كلب الصيد ، وفي كلب الماشية والزرع والحائط تردد ، والأشبه المنع.

أقول : أما كلب الصيد فبيعه جائز قطعا ، سواء كان سلوقيا ـ وهو المنسوب إلى قرية من اليمن اسمها سلوق ـ أو غير سلوقي.

وأما كلب الماشية ، والزرع ، والحائط ـ وهو البستان ـ وكلب الدار أيضا ، فقد اختلف فيها.

فذهب الشيخان وابن البراج الى عدم جواز بيع هذه الأربعة ، لرواية

__________________

(١٠) لم ترد في « ن ».

(١١) إيضاح الفوائد ١ : ٢٣٨.

٩

السكوني (١١) عن الصادق عليه‌السلام.

ولرواية الوليد القماري : « قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد؟ فقال : سحت » (١٢).

والجواز مذهب ابن الجنيد وابن حمزة.

واختاره ابن إدريس والعلامة وأبو العباس.

وهو المعتمد ؛ لأن العلة المسوغة لبيع كلب الصيد ـ وهي الانتفاع به ـ حاصلة في هذه الأربعة ، ولأنه يجوز اقتناؤها وإجارتها ، فيجوز بيعها ، ولأن لها ديات مقدرة (١٣) في الشرع ، فيجوز بيعها.

__________________

(١١) الوسائل ، كتاب التجارة باب ٥ من أبواب ما يكتسب به ، حديث ٥.

(١٢) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ١٤ من أبواب ما يكتسب به ، حديث ٧. وفيه « العماري » بدل « القماري » ، وفي التهذيب « العامري » ، لاحظ التهذيب ٦ : ٣٦٧ ـ ١٠٦٠.

(١٣) في « ن » : متعددة.

١٠

في عقد البيع

قال رحمه‌الله : وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ فيه تردد ، والأشبه عدم الاشتراط.

أقول : الاشتراط مذهب الشيخ وابن حمزة وابن إدريس. واختاره فخر الدين ؛ لأصالة بقاء الملك على مالكه ، لا ينتقل عنه إلا بسبب شرعي صالح للنقل ، ولم يثبت كون العقد المقدّم فيه القبول سببا شرعيا ، فيبقى على الأصل.

وعدم الاشتراط مذهب ابن البراج ، واختاره المصنف ، والعلامة في التحرير ، والشهيد. وهو المعتمد ؛ لأصالة الجواز ، ولأن الأصل اعتبار الرضى ، ولا عبرة بترتيب (١٤) الألفاظ ، إذ الشرط الإيجاب والقبول وقد حصل ، ولأنه غير معتبر في النكاح ، فكذا هنا.

وأجيب بالفرق بين النكاح وغيره ؛ لأن العلة المحوجة في جوازه في ألفاظ (١٥) النكاح ـ وهي حياء المرأة ـ منتفية هنا.

__________________

(١٤) في « ن » : بترتب.

(١٥) من « ن » و« ر ١ ».

١١

قال رحمه‌الله : وكذا لو بلغ عشرا عاقلا على الأظهر.

أقول : وردت رواية بصحة بيعه إذا بلغ عشر سنين رشيدا (١٦) ، وعمل أكثر الأصحاب على المنع من العمل بهذه الرواية.

قال رحمه‌الله : ولو أمر آمر أن يبتاع له نفسه من مولاه ، قيل : لا يجوز ، والجواز أشبه.

أقول : قال ابن البراج : لا يصح إلا أن يأذن له سيده في ذلك ، فإن لم يأذن له لم يصح.

وقال في المبسوط : قيل : فيه وجهان :

أحدهما : يصح ، كما لو وكله في شراء عبد آخر بإذن سيده. والثاني : لا يصح ؛ لأن يد العبد كيد السيد ، وإيجابه وقبوله كإيجاب سيده وقبوله ، فإذا كان كذلك فأوجب السيد وقبل هو ، صار كأن السيد الموجب القابل ، وذلك لا يصح ، قال : والأول أقوى.

وهذا يدل على المنع وإن أذن السيد ، وهو بناء على عدم جواز أن يكون الإنسان الواحد موجبا قابلا.

والمعتمد الجواز مطلقا ، سواء أذن السيد أو لم يأذن ، أما مع الإذن فظاهر ؛ لأن عقوده جائزة بإذن سيده ، وأما مع عدم الإذن ، يكون إيجاب السيد كالإذن ، فلا مانع من ذلك ، مع أن الأصل الجواز.

قال رحمه‌الله : ولو باع ملك غيره ، وقف على إجازة المالك أو وليّه على الأظهر.

أقول : وقوفه على الإجازة مذهب الشيخ في النهاية ، وبه قال المفيد وابن الجنيد وابن حمزة. واختاره المصنف والعلامة والشهيد ؛ لأنه بيع صدر من أهله

__________________

(١٦) راجع المبسوط ٢ : ١٦٣.

١٢

ـ وهو البائع العاقل المختار ، وكل من كان فيه هذه الصفات كان أهلا للبيع ـ في محله ، وهي العين التي يصح تملكها وينتفع بها قابلة للنقل من مالك إلى غيره.

والمانع عدم ملك البائع للعين ، وهو لا يصلح للمانعية ؛ لأنه لو أذن له في البيع قبل العقد جاز قطعا : فكذلك مع الإجازة بعد العقد ؛ إذ لا فرق بينهما. ولما رواه عروة البارقي : « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاه دينارا ليشتري به شاة فاشترى شاتين ، ثمَّ باع إحداهما في الطريق ، قال : فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته بالشاة والدينار ، فقال : بارك الله لك في صفقة يمينك » (١٧).

وجه الاستدلال أنه باع الشاة الثانية من غير إذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ أجازه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو كان البيع باطلا لما أجازه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال في المبسوط والخلاف : يقع باطلا. واختاره : ابن إدريس وفخر الدين ؛ للنهي عن التصرف في مال الغير (١٨) ، والبيع تصرف. ولقوله عليه‌السلام لحكيم بن خزام : « لا تبع ما ليس عندك » (١٩) ، والمعتمد الأول ؛ لأن النهي عن التصرف في مال الغير إنما هو مع عدم الإذن ، والإجازة إذن.

فروع :

الأول : على القول بصحة البيع مع الإجازة ، هل ينتقل إلى المشتري من حين العقد ، أو من حين الإجازة؟

يحتمل الأول ؛ لأن سبب الانتقال هو العقد المرضي به ، وقد علمنا بالإجازة حصول الرضى ، فتكون الإجازة كاشفة عن حصول الملك من حين العقد ، كالإذن

__________________

(١٧) المستدرك ، كتاب التجارة باب ١٨ من أبواب عقد البيع وشروطه ، حديث ١.

(١٨) الوسائل ، كتاب الصلاة ، باب ٣ من أبواب مكان المصلي ، حديث ١ و٣.

(١٩) سنن الترمذي : ج ٣ ، كتاب البيوع ، باب كراهية بيع ما ليس عندك ، حديث ١٢٣٢.

١٣

السابق عليه.

ويحتمل الثاني : لأن الإجازة إما شرط أو جزء ، والشرط مقدم على المشروط ، والمعلول مؤخر عن العلة ، فلا يحصل الملك قبلها ، وإلا لزم تقدم المشروط على شرطه ، والمعلول على علته ، وهو باطل.

وتظهر الفائدة في النماء ، فإن قلنا بالانتقال من حين العقد ، ثمَّ حصل للمبيع نماء فيما بين العقد والإجازة ، كان للمشتري. وعلى القول من حين الإجازة فهو للبائع. وكذلك الثمن لو (٢٠) كان البيع بالعين ثمَّ حصل نماء قبل الإجازة ، فعلى الأول النماء للبائع ، وعلى الثاني للمشتري ؛ لأن الانتقال الثمن مترتب على انتقال المثمن.

الثاني : هل يشترط ثبوت المجيز لعقد الفضولي في الحال؟ بمعنى أنه يشترط كون المالك بالغا عاقلا حتى تصح إجازته في الحال ، أو لا يشترط ، وتوقف الإجازة إلى حين البلوغ والعقل ، فإن أجازه حينئذ جاز ، وإلا بطل؟

يحتمل الاشتراط ؛ لأن البيع إذا بطل في وقت بطل دائما ، وحال عدم المجيز تمتنع الصحة ؛ لأنه لو أجاز حالة الصغر أو الجنون لم تصح الإجازة ، وإذا بطل حالة العقد لعدم المجيز بطل فيما بعد ذلك ، فلا يؤثر فيه الإجازة بعد البطلان.

ويحتمل عدم الاشتراط ؛ لجواز تأخير الإجازة زمانا طويلا بعد العقد ، وعدم وجوب مقارنتها للعقد ، وإذا جاز تأخيرها للبالغ عن زمان العقد اختيارا وإن طال الزمان ، ثمَّ يجيز بعد ذلك ما لم يرد ، جاز كون العقد ليس له مجيز في الحال ، لعدم اشتراط الإجازة في الحال. والأول مذهب القواعد ، والثاني مذهب الدروس.

وعلى القول بالثاني ، يمنع المشتري من التصرف في المبيع والثمن معا إن اشترى بالعين ، أما منعه من المبيع فلاحتمال عدم الإجازة ، وأما منعه من الثمن

__________________

(٢٠) في « ن » : ولو.

١٤

فلاحتمال الإجازة.

ولو تصرف ضمن العين ومنافعها ، ويرجع المالك على من شاء ، ويستقر الضمان على المشتري. وكذا لو كان المالك بالغا رشيدا.

الثالث : لو باع مال غيره (٢١) ثمَّ ملكه قبل فسخ المالك وإجازته ، افتقر إلى الإجازة من البائع ؛ لأنه باع وهو غير مالك ، ولا بد من إجازة المالك ، وقد صار مالكا فلا بد من إجازته.

واختار فخر الدين نفوذ البيع من غير توقف على الإجازة على القول بصحة بيع الفضولي ؛ لأن إجازة المالك موجبة لصحة فعل المباشر ، فملك المباشر أبلغ بإيجاب الصحة.

واشترط العلامة الشهيد الإجازة من غير تردد. وهو المعتمد ؛ لما قلناه.

الرابع : لا فرق بين الغاصب وغيره في صحة بيعه مع الإجازة.

الخامس : قال صاحب الدروس : ولو رتبت العقود على العين والثمن ، فللمالك إجازة ما شاء ، ومهما أجاز عقدا على المبيع صح وما بعده خاصة ، وفي الثمن ينعكس. انتهى كلامه رحمه‌الله.

بيانه : إذا باع الفضولي عبدا لزيد بجارية لعمرو مثلا ، فالعبد هو المبيع والجارية هي الثمن ، فاذا بيع العبد مرارا ، وبيعت الجارية مرارا ، تخير زيد صاحب العبد في إجازة ما شاء من العقود المرتبة على المبيع وهو العبد ، وعلى الثمن وهو الجارية.

فإذا أجاز عقدا على المبيع صح وما بعده خاصة ؛ لدخوله في ملك المشتري بالإجازة ، فيصح تصرفه فيه.

وإذا أجاز عقدا على الثمن ، صح وما قبله خاصة ؛ لتضمن الإجازة الملك ، ولا

__________________

(٢١) في « ي ١ » : الغريم.

١٥

يملك الثمن إلا بإجازة العقود السابقة ، فتصح العقود السابقة وتبطل اللاحقة ، لصدورها عن غير مالك ولا يعقبها إجازة مالك ، فافهم ذلك.

قال رحمه‌الله : وقيل : لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب.

أقول : إذا باع الغاصب العين المغصوبة ولم يجز المالك ، استردها وجميع منافعها ، وإن تلفت تخير في الرجوع على أيهما شاء ، فإن رجع على المشتري ، رجع المشتري على الغاصب ـ مع الجهل بالغصب ـ بجميع ما غرمه.

وإن كان عالما بالغصب ، قال علماؤنا : لا يرجع على الغاصب بشي‌ء ؛ لأنه دفع المال بغير عوض ، وأطلقوا القول في ذلك. وفصّل العلامة ، قال : إن كان الثمن موجودا كان للمشتري أخذه ، وإن كان تالفا لم يكن عليه شي‌ء. وهو المعتمد ؛ لأنه ملك له لم ينتقل إلى البائع ؛ لوقوع العقد باطلا ، فيتسلط على أخذه ؛ لبقائه على ملكه ، أما مع التلف فقد سلطه على تلفه مجانا ؛ لعلمه بعدم استحقاق المبيع ، فلا يستحق مطالبته بشي‌ء.

تنبيه : قال الشيخ في النهاية : من غصب غيره مالا واشترى به جارية ، كان الفرج له حلالا. قال العلامة في المختلف بعد أن ذكر مذهب ابن إدريس ومذهب الشيخ في المسائل الحائرية : كلام الشيخ في النهاية يحتمل أمرين :

أحدهما : ما ذكره في جواب المسائل الحائرية ، فإن الشراء بالمال أعم من أن يكون بالعين أو في الذمة ، وإن كان الأول هو الظاهر ، لكن يمكن العدول عن الظاهر للعلم به.

الثاني : أن يكون البائع عالما بأن المال غصب ، فإن المشتري حينئذ يبيح وطي الجارية ، وعليه وزر المال.

وكلام العلامة هذا يدل على حصول الملك للمشتري بالعين المغصوبة مع

١٦

علم البائع بالغصب ، وإلا لما جاز وطي الجارية ، إذ جواز ( أخذ الثمن مع جواز ) (٢٢) الوطي للمشتري يترتب على ثبوت الملك ، وهو مناقض لتفصيله الذي فصّله ، وهو جواز أخذ الثمن مع وجوده للعالم بغصب المبيع ؛ لأن علة الجواز وقوع البيع فاسدا وعدم تملك البائع له.

ولا فرق بين غصب الثمن أو المثمن في عدم صحة البيع إذا وقع على العين ، فالجمع بين جواز انتزاع عوض المغصوب مع بقاء عينه والعلم بالغصب ، وبين جواز وطئه ، مناقضة بينة.

اما على إطلاق الأصحاب عدم جواز الرجوع بعوض المغصوب مع العلم بالغصب ، فربما يتمشى ؛ لأنه قد ملك الجارية بغير عوض ؛ لعلمه بعدم استحقاقه للعوض الذي قبضه مقابلها ، فيكون قد دفعها إليه مجانا.

والمعتمد عدم جواز وطي هذه الجارية ، لتوقف الإباحة على الملك أو على عقد النكاح أو التحليل ، ولا هنا شي‌ء منها ، فيبقى على أصالة التحريم ، إلا أن يكون المشتري بالذمة ، فيباح له حينئذ وإن دفع المغصوب عوضا.

قال رحمه‌الله : وهل يجوز أن يتولى طرفي العقد؟ قيل : نعم ، وقيل : لا ، وقيل : إن علم الموكل جاز ، وهو أشبه.

أقول : قال الشيخ في المبسوط والخلاف : لا يجوز لغير الأب والجد تولي طرفي العقد ، نعم لو وكله في ذلك جاز.

وهو اختيار المصنف ؛ لأنه اشترط إعلام الموكل ، وكذلك العلامة في القواعد.

احتج الشيخ بأنه لا دليل عليه ، وتطريق التهمة اليه ببيعه على نفسه.

وذهب أبو الصلاح الى الجواز مطلقا ، واختاره العلامة في المختلف ، وفخر الدين في شرحه ؛ لأنه أذن له في البيع مطلقا على كل مالك دافع للثمن ،

__________________

(٢٢) ما بين القوسين من « ر ١ ».

١٧

فيدخل الوكيل في هذا الإذن ، ولقوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢٣). ولا امتناع من كونه موجبا قابلا ؛ لأنه موجب باعتبار البيع ، قابل باعتبار الشرى ، فهو قائم مقام شخصين ، فلا مانع حينئذ. وهذا هو المعتمد. وقد أطلق ابن الجنيد المنع ، ولم يقيده بعدم الإعلام ولا غيره.

قال رحمه‌الله : والوصي لا يمضي تصرفه إلا بعد الوفاة ، والتردد في توليه لطرفي العقد كالوكيل. وقيل : يجوز أن يقوّم على نفسه وأن يقترض إذا كان مليا.

أقول : هاهنا مسألتان :

الأولى : في توليه طرفي العقد ، والجواز مذهب الشيخ في النهاية ، والعلامة وابنه والشهيد ، وهو المعتمد ؛ لما قلناه في حق الوكيل.

وقال ابن إدريس : الذي يقتضيه مذهبنا أنه لا يجوز أن يشتريه لنفسه بحال ؛ لأن الإنسان لا يجوز أن يكون موجبا قابلا في عقد واحد ؛ لأن العقد لا يكون إلا بين اثنين ، ولا يصح ذلك إلا ما خرج بإجماعنا ، من الوالد إذا اشترى مال ولده الصغير ، فلا نقيس غيره عليه بحال ؛ لأنا لا نقول بالقياس في الشرعيات.

والجواب : عدم امتناع أن يكون موجبا قابلا باعتبارين.

الثانية : في جواز الاقتراض مع الملاءة. وهو المشهور بين الأصحاب ، وهو مذهب الشيخ ، وجزم به العلامة في القواعد. وهو المعتمد ؛ لأنه أمين ، له التصرف بجميع ما فيه غبطته للمولّى عليه ، ولا يمنع جواز اقتراضه ما لم يخالف مصلحة المولّى عليه.

ومنع من ذلك ابن إدريس وقال : هذا غير واضح ولا مستقيم ، ولا يجوز له أن يستقرض شيئا من ذلك ، سواء كان متمكنا في الحال من ضمانه وغرامته ، أو لم يكن ؛ لأنه أمين ، والأمين لا يجوز له أن يتصرف لنفسه على حال من الأحوال ،

__________________

(٢٣) البقرة : ٢٧٥.

١٨

وانما أورد شيخنا ذلك إيرادا لا اعتقادا. والجواب ما قدمناه.

قال رحمه‌الله : وأن يكون المشتري مسلما إذا ابتاع مسلما ، وقيل : يجوز ولو كان كافرا ، ويجبر على بيعه من مسلم ، والأول أشبه.

أقول : عدم الجواز مذهب الشيخ رحمه‌الله ، واختاره المصنف والعلامة والشهيد. وهو المعتمد ، لقوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٢٤). ودخوله في ملك الكافر أعظم السبيل.

واحتج المجوزون بأن للكافر أهلية التملك ، والعبد المسلم يصح تملكه ، والسبيل ينتفي بإجباره على البيع ، كما لو أسلم الكافر وهو في ملك كافر.

قال رحمه‌الله : ولو ابتاع أباه المسلم ، هل يصح؟ فيه تردد ، والأشبه الجواز ؛ لانتفاء السبيل بالعتق.

أقول : منع الشيخ وابن البراج من ذلك ؛ لثبوت السبيل بدخوله في ملكه. وذهب المصنف والعلامة والشهيد الى الجواز. وهو المعتمد ؛ لأن في آن العقد لا سبيل له بدخوله عليه ، وفي الآن الثاني يعتق عليه ، فلا يتحقق ثبوت السبيل ، فلا يتحقق المانع.

قال رحمه‌الله : والأرض المأخوذة عنوة ، وقيل : يجوز بيعها تبعا لآثار المتصرف ، وفي بيع بيوت مكة تردد ، والمروي المنع.

أقول : من أصالة الجواز.

ومن أن المفتوحة عنوة (٢٥) ملك لجميع المسلمين ، فلا يختص بها أحد دون غيره ، فيصح بيع آثار التصرف ، كالجدران والسقوف وغير ذلك ، فتدخل الأرض تبعا لتلك الآثار.

__________________

(٢٤) النساء : ١٤١.

(٢٥) في « ي ١ » بزيادة للناس.

١٩

وأمّا مكة فهي من المفتوحة عنوة أيضا ، لقوله تعالى ( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ) (٢٦).

والمسجد الحرام اسم لجميع الحرم ؛ لقوله تعالى ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) (٢٧) والإسراء كان من بيت خديجة ، وروي (٢٨) من شعب أبي طالب ، وهما خارجان عن المسجد ، فقد سماه الله تعالى مسجدا.

والمعتمد الجواز تبعا للآثار ، فلو أوقع العقد على الأرض خاصة ، لم يصح وكان باطلا ، هذا على القول بأنها فتحت عنوة.

وعلى القول بأنها لم تفتح ، بل طلبوا الأمان ، فعقد لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمان ، وقال : « من دخل بيته فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ثمَّ دخلها من غير قتال » (٢٩). فعلى هذا يجوز بيع رقبة الأرض إذا قلنا بالفرق بينها وبين المسجد ، واختاره العلامة.

قال رحمه‌الله : فلا يصح بيع الوقف ما لم يؤدّ بقاؤه إلى خرابه ( لاختلاف بين أربابه ) (٣٠) ويكون البيع أعود ، على الأظهر.

أقول : منع ابن الجنيد وابن إدريس من بيع الوقف مطلقا ؛ لرواية علي بن رئاب (٣١) ، ولعدم الاختصاص ؛ لمشاركة البطون المتجددة فيه ، ولأنه مشروط بالتأييد ، فلا يجوز تغيير شرطه.

__________________

(٢٦) الحج : ٢٥.

(٢٧) الاسراء : ١.

(٢٨) البحار ١٨ : ٣٨٠.

(٢٩) البحار ٢١ : ١١٩ ، ١٢٩.

(٣٠) ما بين القوسين من الشرائع.

(٣١) الوسائل ، كتاب التجارة ، باب ٦ من أحكام الوقوف والصدقات.

٢٠