يأتي المؤلف الى جميع أقسام الكلم المحتملة فيستوفيها غير تارك منها قسما واحدا. فمن ذلك قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ) فإنه لا يخلو العالم جميعه من هذا التقسيم ، إما عاص ظالم لنفسه وإما مطيع مبادر إلى الخيرات ، وإما مقتصد بينهما ، وهذا من أصح التقسيمات وأكملها فاعرفه .. ومن هذا المعنى قوله تعالى : ( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) الآية. اعلم أن هذه الآية مماثلة في المعنى لما سبق ذكره ـ وأصحاب المشئمة ـ هم الظالمون لأنفسهم ـ وأصحاب الميمنة ـ هم المقتصدون ـ والسابقون ـ هم السابقون بالخيرات. وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ) ألا ترى إلى براعة هذه القسمة ، فإن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع ، وليس لهم ثالث.
وكان جماعة من أرباب هذه الصناعة المنتصبين في صدرها يعجبون بقول بعض العرب في هذا المعنى ويقولون : إن ذلك من أصح التقسيمات وهو قوله ـ النعم ثلاث : نعمة في حال كونها. ونعمة ترجى مستقبلة. ونعمة تأتي غير محتسبة. فأبقى الله عليك ما أنت فيه. وحقق ظنك فيما ترتجيه. وتفضل عليك بما لم تحتسبه ـ فقالوا : إنه ليس في أقسام النعم التي يقع الانتفاع بها قسم رابع سوى ما ذكره الأعرابي ، وهذا القول فاسد ، وهو أن في أقسام النعم التي قسمها هاهنا نقصا لا بد منه وزيادة لا حاجة إليها أما النقص فاغفاله ذكر النعمة الماضية ، وأما الزيادة فقوله بعد النعمة المستقبلة التي تأتي غير محتسبة ، وهذا خطأ فإن النعمة التي تأتي غير محتسبة هي داخلة في قسم المستقبلة ، وذلك أن النعمة المستقبلة تنقسم الى قسمين : أحدهما يرجى حصوله ويتوقع بلوغه. والآخر لا يحتسب ولا يشعر بوجوده. فقوله ـ ونعمة تأتي غير محتسبة ـ