والسر في ذلك كلّه على ما قيل : إنَّ العلم الَّذي هو خارج من حدِّ الحال ، وبالغ درجة الكمال ، والملكة ، والرسوخ لا ينفك عن آثاره وخواصّه ، ومن أظهر الخواص له العمل ، أعني الاشتغال بالأفعال الحسنة ، والالتزام بالخصال الجيِّدة.
[ب] ـ «العلم يهتف بالعمل» : لكونه باعثاً عن العمل ودليلاً عليه ، فإنَّ العالم بموجب علمه دام علمه ؛ لأنَّ للعمل تأثيراً عظيماً في صفاء قلب العامل ، وإزالة الظلمة ، ورفع حجب الجهل عنه ، فلا جرم أنَّ له تأثيراً في رسوخ علمه وتُوَكُّدِهِ ، فيكون محفوظاً من الزوال ، بخلاف ما لو ترك العالم العمل بعلمه ، فإنَّ ترکه موجب لظلمة قلبه ، واحتواء الكدورات عليه ، وانحجابه بالغشاوات ، فإذا استمرّ هذا الحال مع العالم أخذ قلبه في ازدياد الظلمة شيئاً فشيئاً حَتَّى يستوعبه ، فلا يبقى محلٌّ فيه النور العلم ، فيزول عنه بالكلّية لطُروِّ النسيان ، وعروض الشكوك والشُّبَه ، وهو معنى الارتحال عنه ؛ ولذا أنَّ أهل المعرفة قسَّموا أسباب الوصول إلى السعادات الآخروية ، والحظوظ الباقية إلى علم وعمل ، وارتباط أحدهما بالآخر معلوم من الدين ضرورة ، فانفراد أحدهما عن الآخر لا يفيد شيئاً. إنَّ بعض أهل الحكمة قال : إنَّ إدراك المعقولات على ما ينبغي موقوف على صفاء النفس وتنوُّرِها ، وهما موقوفان على تهذيب الأخلاق ، وتكميل السياسيات.
قال الشيخ أبو نصر الفارابي : (ينبغي لمن أراد أن يشرع في الحكمة أن يكون صحيح المزاج ، متأدِّباً بآداب الأخبار ، قَدْ تعلَّم القرآن ، واللُّغَة ، وعُلومَ الشرع أوّلاً ، ويكون عفيفاً ، صدوقاً ، معرضاً عن الفسوق ، والفجور ، والغدر ، والخيانة ، والمكر ، والحيلة ، فارغ البال من مصالح المعاش ، مقبلاً على أداء الوظائف الشرعية ، غير مخلّ بركن من أركان الشريعة ، ولا بأدب من آدابها ، معظّماً للعلم والعلماء ، ولا يكون عنده