انطلقت في حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى أتيت خيبر ، فوجدت يهوديّا يقول قولا أعجبني ، فقلت : هل أنت مكتبي مما تقول؟ قال : نعم ، فأتيت بأديم فأخذ يملي عليّ حتى كتبت في الأكراع (١). فلمّا رجعت ، قلت : يا نبي الله ـ وأخبرته ـ قال : ائتني به. فانطلقت أرغب عن الشيء رجاء أن أكون جئت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ببعض ما يحبّ. فلمّا أتيت به قال : اجلس اقرأ عليّ. فقرأت ساعة ، ثم نظرت إلى وجه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فإذا هو يتلوّن. فتحيّرت من الفرق (٢) ، فما استطعت أن أجيز منه حرفا. فلما رأى الذي بي رفعه (٣) ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه ، وهو يقول : لا تتّبعوا هؤلاء فإنهم قد هوكوا وتهوّكوا (٤) ، حتى محاه عن آخره حرفا حرفا.
قال عمر : فلو علمت أنّكما كتبتما شيئا جعلتكما نكالا لهذه الأمّة. قالا : والله ما نكتب منه شيئا أبدا. فخرجا بصلاصفتهما ، فحفرا لها ، فلم يألوا أن يعمّقا ، ودفناها ، فكان آخر العهد منها (٥).
ولكن هل أثّر تشديد عمر في الحدّ عن مراجعة أهل الكتاب؟
إنه لم يشدّد على مراجعتهم ، وإنما شدّد على الكتابة من كتبهم كما شدّد على كتابة الحديث. ومن ثمّ نراه قد أجاز للداري أن يقصّ على الناس ، كما شاع القصّ في مسجد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فضلا عن سائر المساجد ذلك العهد.
__________________
(١) الأكراع : جمع الكرع : مقدم عظم الساق ، والمقصود : العظام الرقيقة.
(٢) الفرق : الفزع.
(٣) أي أخذه منّي.
(٤) الهوك : الحمق.
(٥) راجع : تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٤٦٧ ـ ٤٦٨.