فإن قيل فنفي الجهة يؤدي إلى المحال ، وهو إثبات موجود تخلو عنه الجهات الست ويكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ، ولا منفصلا عنه ، وذلك محال ، قلنا : مسلم أن كل موجود يقبل الاتصال فوجوده لا متصلا ولا منفصلا محال ، وإن كان موجود يقبل الاختصاص بالجهة فوجوده مع خلو الجهات الست عنه محال ، فإما موجود لا يقبل الاتصال ، ولا الاختصاص بالجهة فخلوّ عن طرفي النقيض غير محال ، وهو كقول القائل يستحيل موجود لا يكون عاجزا ولا قادرا ولا عالما ولا جاهلا فإن أحد المتضادين لا يخلو الشيء عنه ، فيقال له إن كان ذلك الشيء قابلا للمتضادين فيستحيل خلوه عنهما وأما الجماد الذي لا يقبل واحدا منهما لأنه فقد شرطهما وهو الحياة ، فخلوه عنهما ليس بمحال ، فكذلك شرط الاتصال والاختصاص بالجهات التحيز والقيام بالمتحيز ، فإذا فقد هذا لم يستحل الخلق عن متضادته فرجع النظر إذا إلى أن موجودا ليس بمتحيز ، ولا هو في متحيز ، بل هو فاقد شرط الاتصال ، والاختصاص هل هو محال أم لا؟
فإن زعم الخضم أن ذلك محال وجوده فقد دللنا عليه بأنه مهما بان ، أن كل متحيز حادث وأن كل حادث يفتقر إلى فاعل ليس بحادث فقد لزم بالضرورة من هاتين المقدمتين ثبوت موجود ليس بمتحيز ، أما الأصلان فقد أثبتناهما وأما الدعوى اللازمة منهما فلا سبيل إلى جحدها مع الإقرار بالأصلين.
فإن قال الخصم إن مثل هذا الموجود الذي ساق دليلكم إلى إثباته غير مفهوم ، فيقال له ما الذي أردت بقولك غير مفهوم فإن أردت به أنه غير متخيل ولا متصور ولا داخل في الوهم فقد صدقت ، فانه لا يدخل في الوهم والتصور والخيال إلّا جسم له لون وقدر ، فالمنفك عن اللون والقدر لا يتصوره الخيال ، فإن الخيال قد أنس بالمبصرات فلا يتوهم الشيء إلا على وفق مرآه ولا يستطيع أن يتوهم ما لا يوافقه.