العلو وتكون السماء عبارة عن العلو. فانظر كيف تلطف الشرع بقلوب الخلق وجوارحهم في سياقهم إلى تعظيم الله وكيف جهل من قلت بصيرته ولم يلتفت إلّا إلى ظواهر الجوارح والأجسام وغفل عن أسرار القلوب واستغنائها في التعظيم عن تقدير الجهات ، وظن أن الأصل ما يشار إليه بالجوارح ولم يعرف أن المظنة الأولى لتعظيم القلب وأن تعظيمه باعتقاد علو الرتبة لا باعتقاد علو المكان ، وأن الجوارح في ذلك خدم وأتباع يخدمون القلب على الموافقة في التعظيم بقدر الممكن فيها ، ولا يمكن في الجوارح إلا الإشارة إلى الجهات ، فهذا هو السر في رفع الوجوه إلى السماء عند قصد التعظيم ، ويضاف إليه عند الدعاء أمر آخر وهو أن الدعاء لا ينفك عن سؤال نعمة من نعم الله تعالى ، وخزائن نعمه السموات ، وخزان أرزاقه الملائكة ومقرهم ملكوت السموات وهم الموكلون بالأرزاق ، وقد قال الله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (١) ، والطبع يتقاضى الإقبال بالوجه على الخزانة التي هي مقر الرزق المطلوب ، فطلاب الأرزاق من الملوك إذا أخبروا بتفرقة الأرزاق على باب الخزانة مالت وجوههم وقلوبهم إلى جهة الخزانة ، وإن لم يعتقدوا أن الملك في الخزانة فهذا هو محرك وجوه أرباب الدين إلى جهة السماء طبعا وشرعا.
فأما العوام فقد يعتقدون أن معبودهم في السماء ، فيكون ذلك أحد أسباب إشاراتهم ، تعالى رب الأرباب عما اعتقد الزائغون علوّا كبير.
وأما حكمه صلوات الله عليه بالإيمان للجارية لما أشارت إلى السماء ، فقد انكشف به أيضا إذ ظهر أن لا سبيل للأخرس إلى تفهم علو المرتبة إلّا بالإشارة إلى جهة العلو ، فقد كانت خرساء كما حكي. وقد كان يظن بها أنها من عبدة الأوثان ، ومن يعتقد إله في بيت الأصنام فاستنطقت عن معتقدها فعرّفت بالإشارة إلى السماء أن معبودها ليس في بيوت الأصنام كما يعتقدوه أولئك.
__________________
(١) سورة الذاريات الآية : ٢٢.