أصلا فالعقوبة بمجرد المجازاة على ما سبق قبيح لأنه لا فائدة فيه للمعاقب ولا لأحد سواه ، والجاني متأذ به ودفع الأذى عنه أحسن ، وإنما يحسن الأذى لفائدة ولا فائدة ، وما مضى فلا تدارك له فهو في غاية القبح.
والوجه الثاني ، أن نقول : إنه إذا تأذى المجني عليه واشتد غيظه فذلك الغيظ مؤلم وشفاء الغيظ مريح من الألم ، والألم بالجاني أليق ، ومهما عاقب الجاني زال منه ألم الغيظ واختص بالجاني فهو أولى ، فهذا أيضا له وجه ما وإن كان دليلا على نقصان العقل وغلبة الغضب عليه ، فأما إيجاب العقاب حيث لا يتعلق بمصلحة في المستقبل لأحد في عالم الله تعالى ولا فيه دفع أذى عن المجني عليه ففي غاية القبح ، فهذا أقوم من قول من يقول إن ترك العقاب في غاية القبح ، والكل باطل واتباع الموجب الأوهام التي وقعت بتوهم الأغراض ، والله تعالى متقدس عنها ولكنّا اردنا معارضة الفاسد ليتبين به بطلان خيالهم.
الدعوى السادسة :
ندعي أنه لو لم يرد الشرع لما كان يجب على العباد معرفة الله تعالى وشكر نعمته ، خلافا للمعتزلة ، حيث قالوا إن العقل بمجرده موجب ، وبرهانه أن نقول : العقل يوجب النظر وطلب المعرفة لفائدة مرتبة عليه أو مع الاعتراف بأن وجوده وعدمه في حق الفوائد عاجلا وآجلا بمثابة واحدة ، فإن قلتم : يقتضي بالوجوب مع الاعتراف بأنه لا فائدة فيه قطعا عاجلا وآجلا فهذا حكم الجهل لا حكم العقل ، فإن العقل لا يأمر بالعبث ، وكلما هو خال عن الفوائد كلها فهو عبث ، وإن كان لفائدة فلا يخلو إما أن ترجع إلى المعبود تعالى وتقدس عن الفوائد ، وإن رجعت إلى العبد فلا يخلو أن يكون في الحال أو في المآل ، أما في الحال فهو تعب لا فائدة فيه وأما في المآل فالمتوقع الثواب. ومن أين علمتم أنه يثاب على فعله بل ربما يعاقب على فعله ، فالحكم عليه بالثواب حماقة لا أصل لها ..