بل ربما يستقبح الاصرار ، فان استحسن الاصرار فله سببان : أحدهما ، اعتقاده أن الثواب على الصبر والاستسلام اكثر ، والآخر ، ما ينتظر من من الثناء عليه بصلابته في الدين ، فكم من شجاع يمتطي متن الخطر ويتهجم على عدد يعلم أنه لا يطيقهم ويستحقر ما يناله بما يعتاضه عنه من لذة الثناء والحمد بعد موته وكذلك الامتناع عن نقض العهد بسببه ثناء الخلق على من يفي بالعهد ، وتواصيهم به على مر الأوقات لما فيها من مصالح الناس. فإن قدر حيث لا ينتظر ثناء فسببه حكم الوهم من حيث أنه لم يزل مقرونا بالثناء الذي هو لذيذ ، والمقرون باللذيذ لذيذ ، كما أن المقرون بالمكروه مكروه كما سبق في الأمثلة ، فهذا ما يحتمله هذا المختصر من بث أسرار هذا الفصل ، وإنما يعرف قدره من طال في المعقولات نظره ، وقد استفدنا بهذه المقدمة إيجاز الكلام في الدعاوى فلنرجع إليها.
الدعوى الأولى :
ندعي أنه يجوز لله تعالى أن لا يخلق الخلق ، وإذا خلق فلم يكن ذلك واجبا عليه ، وإذا خلقهم فله أن لا يكلفهم ، وإذا كلفهم فلم يكن ذلك واجبا عليه ، وقالت طائفة من المعتزلة يجب عليه الخلق والتكليف بعد الخلق. وبرهان الحق فيه أن نقول : قول القائل الخلق والتكليف واجب ، غير مفهوم ؛ فإنا بينا أن المفهوم عندنا من لفظ الواجب ما ينال تاركه ضرر ، إما عاجلا وإما آجلا ، أو ما يكون نقيضه محال ، والضرر محال في حق الله تعالى ، وليس في ترك التكليف وترك الخلق لزوم محال ، إلا أن يقال كان يؤدي ذلك إلى خلاف ما سبق به العلم في الأزل وما سبقت به المشيئة في الأزل ، فهذا حق وهو بهذا التأويل واجب ، فإن الإرادة إذا فرضت موجودة ، أو العلم إذا فرض متعلقا بالشيء ، كان حصول المراد والمعلوم واجبا لا محالة ، فان قيل : إنما يجب عليه ذلك لفائدة الخلق لا لفائدة ترجع إلى الخالق سبحانه وتعالى ، قلنا : الكلام في قولكم لفائدة الخلق للتعليل ،