وإن أراد الخصم أنه ليس بمعقول ، أي ليس بمعلوم بدليل العقل فهو محال إذا قدمنا الدليل على ثبوته ولا معنى للمعقول إلّا ما اضطر العقل إلى الإذعان للتصديق به بموجب الدليل الذي لا يمكن مخالفته. وقد تحقق هذا ، فإن قال الخصم فما لا يتصور في الخيال لا وجود له ، فلنحكم بأن الخيال لا وجود له في نفسه ، فان الخيال نفسه لا يدخل في الخيال والرؤية لا تدخل في الخيال وكذلك العلم والقدرة ، وكذلك الصوت والرائحة ولو كلف الوهم أن يتحقق ذاتا للصوت لقدر له لونا ومقدارا وتصوره كذلك. وهكذا جميع أحوال النفس ، من الخجل والوجل والفسق والغضب والفرح والحزن والعجب ، فمن يدرك بالضرورة هذه الأحوال من نفسه ويسوم خياله أن يتحقق ذات هذه الأحوال فنجده يقصر عنه إلا بتقدير خطأ ثم ينكر بعد ذلك وجود موجود لا يدخل في خياله فهذا سبيل كشف الغطاء عن المسألة. وقد جاوزنا حد الاختصار ولكن المعتقدات المختصرة في هذا الفن أراها مشتملة على الاطناب في الواضحات والشروع في الزيادات الخارجة عن المهمات مع التساهل في مضايق الاشكالات فرأيت نقل الاطناب من مكان الوضوح ، إلى مواقع الغموض أهم وأولى.
(الدعوى الثامنة) : ندعي أن الله تعالى منزه عن أن يوصف بالاستقرار على العرش ، فإن كل متمكن على جسم ومستقر عليه مقدر لا محالة فانه أما أن يكون أكبر منه أو أصغر أو مساويا وكل ذلك لا يخلو عن التقدير ، وأنه لو جاز أن يماسه جسم من هذه الجهة لجاز أن يماسه من سائر الجهات فيصير محاطا به والخصم لا يعتقد ذلك بحال وهو لازم على مذهبه بالضرورة ، وعلى الجملة لا يستقر على الجسم إلّا جسم ولا يحل فيه إلا عرض وقد بان أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض ، فلا يحتاج إلى إقران هذه الدعوى بإقامة البرهان. فإن قيل فما معنى قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١)؟ وما معنى
__________________
(١) سورة طه الآية : ٥.