فإن قيل : يخطر بباله أن له ربا إن شكره أثابه وأنعم عليه وإن كفر أنعمه عاقبه عليه ، ولا يخطر بباله البتة جواز العقوبة على الشكر والاحتزاز عن الضرر الموهوم في قضية العقل كالاحتراز عن العلوم.
قلنا : نحن لا ننكر أن العاقل يستحثه طبعه عن الاحتراز من الضرر موهوما ومعلوما ، فلا يمنع من إطلاق اسم الايجاب على هذا الاستحثاث فان الاصطلاحات لا مشاحة فيها ، ولكن الكلام في ترجيح جهة الفعل على جهة الترك في تقرير الثواب بالعقاب مع العلم بأن الشكر وتركه في حق الله تعالى سيان لا كالواحد منا فإنه يرتاح بالشكر والثناء ويهتز له ويستلذه ويتألم بالكفران ويتأذى به ، فإذا ظهر استواء الأمرين في حق الله تعالى فالترجيح لأحد الجانبين محال ، بل ربما يخطر بباله نقيضه وهو أنه يعاقب على الشكر لوجهين : أحدهما ، أن اشتغاله به تصرف في فكره وقلبه باتعابه صرفه عن الملاذ والشهوات وهو عبد مربوب خلق له شهوة ومكن من الشهوات ، فلعل المقصود أن يشتغل بلذات نفسه واستيفاء نعم الله تعالى وأن لا يتعب نفسه فيما لا فائدة لله فيه فهذا الاحتمال أظهر ، الثاني ، أن يقيس نفسه على من يشكر ملكا من الملوك بأن يبحث عن صفاته وأخلاقه ومكانه وموضع نومه مع أهله وجميع أسراره الباطنة مجازاة على إنعامه عليه ، فيقال له أنت بهذا الشكر مستحق لحز الرقبة ، فما لك ولهذا الفضول ومن أنت حتى تبحث عن أسرار الملوك وصفاتهم وأفعالهم وأخلاقهم ، ولما ذا لا تشتغل بما يهمك ، فالذي يطلب معرفة معرفة الله تعالى كأنه إن تعرف دقائق صفات الله تعالى وأفعاله وحكمته وأسراره في أفعاله وكل ذلك مما لا يؤهل له إلا من له منصب فمن أين عرف العبد أنه مستحق لهذا المنصب؟ فاستبان أن ما أخذهم أوهام رسخت منهم من العادات ، تعارضها أمثالها ولا محيص عنها ، فإن قيل : فإن لم يكن مدركا لوجوب مقتضى العقول أدى ذلك إلى إفحام الرسول ، فإنه إذا جاء بالمعجزة وقال انظروا فيها ، فللمخاطب أن يقول إن لم يكن النظر واجبا فلا أقدم عليه وإن كان واجبا فيستحيل أن يكون مدركه العقل ،