موضع وطال معه أنسه فيه فانه يحس من نفسه تفرقة بين ذلك الموضع وحيطانه وبين سائر المواضع ولذلك قال الشاعر :
أمر على جدار ديار ليلى |
|
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا |
وما تلك الديار شغفن قلبي |
|
ولكن حب من سكن الديارا |
وقال ابن الرومي منبها على سبب حب الناس الأوطان ونعم ما قال :
وحبّب أوطان الرجال إليهم |
|
مآرب قضاها الشباب هنالكا |
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم |
|
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا |
وإذا تتبع الانسان الأخلاق والعادات رأى شواهد هذا خارجة عن الحصر ، فهذا هو السبب الذي هو غلط المغترين بظاهر الامور ، الذاهلين عن اسرار أخلاق النفوس ، الجاهلين بأن هذا الميل وأمثاله يرجع إلى طاعة النفس بحكم الفطرة والطبع بمجرد الوهم. والخيال الذي هو غلط يحكم العقل ولكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام والتخيلات بحكم اجراء العادات ، حتى إذا تخيل الإنسان طعاما طيبا بالتذكر أو بالرؤية سال في الحال لعابه وتحلبت أشداقه ، وذلك بطاعة القوة التي سخرها الله تعالى لإفاضة اللعاب المعين على المضغ للتخيل والوهم ، فإن شأنها أن تنبعث بحسب التخيل وإن كان الشخص عالما بأنه ليس يريد الإقدام على الأكل بصوم أو بسبب آخر وكذلك يتخيل الصورة الجميلة التي يشتهي مجامعتها ، فكما ثبت ذلك في الخيال انبعثت القوة الناشرة لآلة الفعل وساقت الرياح إلى تجاويف الأعصاب وملأتها ، وثارت القوة المأمورة بصب المذي الرطب المعين على الوقاع ، وذلك كله مع التحقيق بحكم العقل للامتناع عن الفعل في ذلك الوقت. ولكن الله تعالى خلق هذه القوى بحكم طرد العادة مطيعة مسخرة تحت حكم الخيال ، والوهم ساعد العقل الوهم او لم يساعده ، فهذا وأمثاله منشأ الغلط في سبب ترجيح أحد جانبي الفعل على الآخر ، وكل ذلك راجع إلى الأغراض. فأما النطق بكلمة الكفر وان كان كذلك فلا يستقبحه العاقل تحت السيف البتة