بلغ الذروة في شقوته من خلال عمق التنكر لربه ، والتمرد على رسله ، هذا (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) لأنه يعيش أجواء الرفض للرسالة قبل أن يستوعب فكرها ومنهجها وشريعتها ، من خلال رفضه للالتزام بالاستقامة في الخط ، لأنه يريد أن يأخذ حريته في السير وفق هواه ، مما يجعل من تكذيبه للرسول وإعراضه عن الرسالة معنى في العقدة الذاتية المستحكمة ، لا خطّا في الفكر المضادّ ، لأن المفكر لا يعرض عن أيّة فكرة ، بل يقبل على الدخول في نقاش حولها ، ليكون قبوله عن وعي ، ورفضه عن موقف للفكر في نتائج الحوار. وإذا كانت العقدة الخبيثة تتحول إلى حالة عدوانية في السلوك ، فإن من الطبيعي أن يكون مصيره صورة لعمله ، فإن الذي يهيّئ النار الحاقدة في الشعور ضد الإيمان والمؤمنين ، لا بد من أن يلتقي في الآخرة بالنار التي أعدها الله للكافرين.
* * *
(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى)
(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) الذي بلغ الدرجة العليا في تقواه من خلال إيمانه بربه وطاعته له ، والتزامه بخطه المستقيم ، ونهجه القويم ، وانفتاحه على آلام الناس المحرومين واهتمامه بحاجاتهم ، في ما أعطاه الله من نعمه (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) فهو يمنح ماله لهؤلاء لأنه يريد أن يصل إلى التزكية الروحية التي تطهّر كيانه من كل خبث ومن كل بخل ، ليبلغ بذلك الدرجة العليا عند ربه ، لأنه لا يتطلع إلا إلى الله في كل أعماله وأقواله ، (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) فهو لا يرى لأحد فضلا عليه في أيّة نعمة من نعمه ، ولذا فإنه لا يرى نفسه معنيّا بتقديم أيّة خدمة لأيّ إنسان ليتقرب إليه ، ليحصل على رضاه ، (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) فهو يعمل كل ما يعمله ، ويقوم بكل ما يقوم به من فروض الطاعة والعبادة ابتغاء لوجه الله ، وطلبا للحصول على مرضاته في كل شيء.