(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣٤)
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) مبتدأ وخبر (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس مفعول لأخرج و (مِنَ الثَّمَراتِ) بيان له وحال منه ويحتمل عكس ذلك ويجوز أن يراد به المصدر فينتصب بالعلة ، أو المصدر لأن أخرج في معنى رزق. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) بمشيئته إلى حيث توجهتم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) فجعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم وقيل تسخير هذه الأشياء تعليم كيفية اتخاذها.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاح ما يصلحانه من المكونات. (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم. (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئا ، فإن الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة الله تعالى ، ولعل المراد ب (ما سَأَلْتُمُوهُ) ما كان حقيقا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل ، وما يحتمل أن تكون موصولة وموصوفة ومصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول. وقرئ «من كل» بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ، ويجوز أن تكون «ما» نافية في موقع الحال أي وآتاكم من كل شيء غير سائليه. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) لا تحصروها ولا تطيقوا عد أنواعها فضلا عن أفرادها ، فإنها غير متناهية. وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) يظلم النعمة بإغفال شكرها ، أو يظلم نفسه بأن يعرضها للحرمان. (كَفَّارٌ) شديد الكفران. وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع.
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٦)
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) بلدة مكة. (آمِناً) ذا أمن لمن فيها ، والفرق بينه وبين قوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) أن المسؤول في الأول إزالة الخوف عنه وتصييره آمنا ، وفي الثاني جعله من البلاد الآمنة. (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) بعدني وإياهم ، (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) واجعلنا منها في جانب وقرئ «وأجنبني» وهما على لغة نجد وأما أهل الحجاز فيقولون جنبني شره. وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم وهو بظاهره ، لا يتناول أحفاده وجميع ذريته. وزعم ابن عيينة أو أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام لم يعبدوا الصنم محتجا به وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ويسمونها الدوار ويقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته.
(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية كقوله تعالى : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) (فَمَنْ تَبِعَنِي) على ديني. (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين. (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء ، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أن كل ذنب فلله أن يغفره حتى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره.
(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً