يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)(١٣)
(قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي أن تسجد ولا صلة مثلها في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) ، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه ، ومنبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود. وقيل الممنوع عن الشيء مضطر إلى خلافه فكأنه قيل : ما اضطرك إلى ألا تسجد. (إِذْ أَمَرْتُكَ) دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور. (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جواب من حيث المعنى استأنف به استبعادا لأن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله كأنه قال : المانع أني خير منه ، ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول ، فكيف يحسن أن يؤمر به. فهو الذي سن التكبر وقال بالحسن والقبح العقليين أولا. (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) تعليل لفضله عليه ، وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي بغير واسطة ، وباعتبار الصورة كما نبه عليه بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) وباعتبار الغاية وهو ملاكه ولذلك أمر الملائكة بسجوده لما بين لهم أنه أعلم منهم ، وأن له خواص ليست لغيره ، والآية دليل الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة ، ولعل إضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب.
(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) من السماء أو الجنة. (فَما يَكُونُ لَكَ) فما يصح. (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) وتعصي فإنها مكان الخاشع والمطيع. وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة وأنه سبحانه وتعالى إنما طرده وأهبطه لتكبره لا لمجرد عصيانه. (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) ممن أهانه الله لتكبره ، قال عليه الصلاة والسلام «من تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه الله».
(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)(١٥)
(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أمهلني إلى يوم القيامة فلا تمتني ، أو لا تعجل عقوبتي.
(قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) يقتضي الإجابة إلى ما سأله ظاهرا لكنه محمول على ما جاء مقيدا بقوله تعالى : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو النفخة الأولى ، أو وقت يعلم الله انتهاء أجله فيه ، وفي إسعافه إليه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته.
(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)(١٧)
(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي بعد أن أمهلتني لأجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني بسبب إغوائك إياي بواسطتهم تسمية ، أو حملا على الغي ، أو تكليفا بما غويت لأجله والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف لا بأقعدن فإن اللام تصد عنه وقيل الباء للقسم : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) طريق الإسلام ونصبه على الظرف كقوله :
لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه |
|
فيه كما عسل الطّريق الثّعلب |
وقيل تقديره على صراطك كقولهم : ضرب زيد الظهر والبطن.
(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي من جميع الجهات الأربع. مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع ، ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم. وقيل لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان منه يوحش الناس. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من بين أيديهم من قبل الآخرة ، ومن خلفهم من قبل