وتمحيضا للنصيحة فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل والصواب من الخطأ.
(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (٥٣)
(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) اطلبوا مغفرة الله بالإيمان ثم توسلوا إليها بالتوبة وأيضا التبري من الغير إنما يكون بعد الإيمان بالله والرغبة فيما عنده. (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) كثير الدر. (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) ويضاعف قوتكم ، وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات. وقيل حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة فوعدهم هود عليهالسلام على الإيمان والتوبة بكثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل. (وَلا تَتَوَلَّوْا) ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه. (مُجْرِمِينَ) مصرين على إجرامكم.
(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) بحجة تدل على صحة دعواك وهو لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) بتاركي عبادتهم. (عَنْ قَوْلِكَ) صادرين عن قولك حال من الضمير في تاركي. (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) إقناط له من الإجابة والتصديق.
(إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٥٦)
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ) ما نقول إلا قولنا (اعْتَراكَ) أي أصابك من عراه يعروه إذا أصابه. (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) بجنون لسبك إياها وصدك عنها ومن ذلك تهذي وتتكلم لخرافات ، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ. (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
(مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أجاب به عن مقالتهم الحمقاء بأن أشهد الله تعالى على براءته من آلهتهم وفراغه عن إضرارهم تأكيدا لذلك وتثبيتا له ، وأمرهم بأن يشهدوا عليه استهانة بهم ، وأن يجتمعوا على الكيد في إهلاكه من غير إنظار حتى إذا اجتهدوا فيه ورأوا أنهم عجزوا عن آخرهم وهم الأقوياء الأشداء أن يضروه لم يبق لهم شبهة أن آلهتهم التي هي جماد لا يضر ولا ينفع لا تتمكن من إضراره انتقاما منه ، وهذا من جملة معجزاته فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة الفتاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام ليس إلا لثقته بالله وتثبطهم عن إضراره ليس إلا بعصمته إياه ولذلك عقبه بقوله :
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) تقريرا له والمعنى أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لن تضروني فإني متوكل على الله واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يحيق بي ما لم يرده ، ولا تقدرون على ما لم يقدره ثم برهن عليه بقوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي إلا وهو مالك لها قادر عليها يصرفها على ما يريد بها والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك. (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي أنه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي