عليه إدراك السامعين والمبصرين ، إذ لا يحجبه شيء ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف وصغير وكبير وخفي وجلي ، والهاء تعود إلى الله ومحله الرفع على الفاعلية والباء مزيدة عند سيبويه وكان أصله أبصر أي صار ذا بصر ، ثم نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء ، فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة له أو لزيادة الباء كما في قوله تعالى (وَكَفى بِهِ) والنصب على المفعولية عند الأخفش والفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد والباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية ومعدية إن كانت للصيرورة. (ما لَهُمْ) الضمير لأهل السموات والأرض. (مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) من يتولى أمورهم. (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) في قضائه. (أَحَداً) منهم ولا بجعل له فيه مدخلا. وقرأ ابن عامر وقالون عن يعقوب بالتاء والجزم على نهي كل أحد عن الإشراك ، ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث إنها من المغيبات بالإضافة إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه فقال :
(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(٢٨)
(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) من القرآن ، ولا تسمع لقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ). (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره. (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ عليه إن هممت به.
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) واحبسها وثبتها. (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) في مجامع أوقاتهم ، أو في طرفي النهار. وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وفيه أن غدوة علم في الأكثر فتكون اللام فيه على تأويل التنكير. (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) رضا الله وطاعته. (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم ، وتعديته بعن لتضمينه معنى نبا. وقرئ «ولا تعد عينيك» «ولا تعد» من أعداه وعداه. والمراد نهي الرسولصلىاللهعليهوسلم أن يزدري بفقراء المؤمنين وتعلو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى طراوة زي الأغنياء. (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) حال من الكاف في المشهورة ومن المستكن في الفعل في غيرها. (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) من جعلنا قلبه غافلا. (عَنْ ذِكْرِنا) كأمية بن خلف في دعائك إلى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد قريش. وفيه تنبيه على أن الداعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات وانهماكه في المحسوسات ، حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد ، وأنه لو أطاعه كان مثله في الغباوة. والمعتزلة لما غاظهم إسناد الإغفال إلى الله تعالى قالوا : إنه مثل أجبنته إذا وجدته كذلك أو نسبته إليه ، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بذكرنا كقلوب الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، واحتجوا على أن المراد ليس ظاهر ما ذكر أولا بقوله : (وَاتَّبَعَ هَواهُ) وجوابه ما مر غير مرة. وقرئ «أغفلنا» بإسناد الفعل إلى القلب على معنى حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة. (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي تقدما على الحق ونبذا له وراء ظهره يقال : فرس فرط أي متقدم للخيل ومنه الفرط.
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)(٢٩)
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى ، ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف و (مِنْ رَبِّكُمْ) حالا. (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر ، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله فإنه وإن كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته. (إِنَّا أَعْتَدْنا)