واعتياد شظف الحياة ، وضنك الرزق ، أو الفة الوحشة في حين أن ذلك من دواعي الحياة الطبيعية التي فقدت المربي الاجتماعي ، والتي جلّ آمالنا منها أن العيش في البداوة براحة وطمأنينة ، بعيدين عن الضوضاء وعن المشاكل المزعجة مع الرغبة الاكيدة في التوجيه الحق ، والتدريب الصالح ... فكل من ذاق طعم البادية لا يود أبدا أن يحيد عنها ، ولا تطيب نفسه عنها ، أو أن يعدل عن حياتها ... وجلّ ما هنالك اننا نشعر بضرورة الاصلاح ، والتنظيم الصحيح ...
ويحتاج من يحاول أن يكتب في أوضاع البادية إلى خبرة تامة ، ومعاشرة طويلة والفة بمعنى الكلمة ، مع رغبة في العمل ، وعناية في اكتناه الحالة ليتمكن المتتبع من الافتكار في نواحي النقص ، والتعرف لوجوه الاصلاح ، فلا تكفي لمحة السائح او التفاتة عابر السبيل ، أو أن يؤم المرء مضارب البدو ساعة من نهار ، فهذه لا تعيّن وضعا ولا تؤدي إلى الغرض المطلوب من المعرفة ، بل يستطيع الحضري أن يكشف عن حياة البدوي بسهولة فيظن انها منغصة بالزعازع والمجازفات ، أو تدعو إلى مخاطرات ، أو أنها كلها هياج واضطراب.
في البادية عيشة هناء ، وحياة لذيذة ، وربيع وراحة ونعيم ، إلا انه لا ينكر انها مشوبة أحيانا بغوائل وفتن ، او متصلة بقراع وجدال ، لا تهدأ فيها فتنة ، أو لا تخلو من اثارة غوائل ولكن أي حالة من حالات الحضر هادئة؟ بل لا نزال نرى التكالب بالغا حده ، والاطماع مستولية على النفوس مما كره عيشة الحضارة ، وأفسد صفوها ، وأقلق راحتها ، فعمت المصيبة.
ولو استطلعنا رأي البدوي في حياة الحضر لوجدناه ينفر من سوء عفونتها ونتن جوّها ، أو ما يشوب نسيمها من الكدر ، يمر البدوي بالطرقات الضيقة ، فيشم ما يكره من روائح ، ويدخل الاسواق فتكاد ترديه بفاسد اجوائها ، ولعل ساعة واحدة عنده من استنشاق النسيم الطلق ، أو يوما من أيام الربيع يفضل المدن وما فيها ، فيرى عيشته وما هو فيه خيرا من نعيم الحضر كله ...