يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٤٤] وقد كانت مغنية عن الجملة المؤكّدة لو لا أنّ المراد من تقديم تلك الجملة التنويه بفضيلة المؤمنين ، فالكلام إطناب لقصد التنويه ، والتنويه من مقامات الإطناب.
وحذف متعلّق (يَسْتَأْذِنُكَ) هنا لظهوره ممّا قبله ممّا يؤذن به فعل الاستئذان في قوله: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا) [التوبة : ٤٤] والتقدير : إنّما يستأذنك الذين لا يؤمنون في أن لا يجاهدوا ، ولذلك حذف متعلّق يستأذنك هنا.
والسامع البليغ يقدر لكلّ كلام ما يناسب إرادة المتكلّم البليغ ، وكلّ على منواله ينسج.
وعطف (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) على الصلة وهي (لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يدل على أنّ المراد بالارتياب الارتياب في ظهور أمر النبي صلىاللهعليهوسلم فلأجل ذلك الارتياب كانوا ذوي وجهين معه فأظهروا الإسلام لئلا يفوتهم ما يحصل للمسلمين من العز والنفع ، على تقدير ظهور أمر الإسلام ، وأبطنوا الكفر حفاظا على دينهم الفاسد وعلى صلتهم بأهل ملّتهم ، كما قال الله تعالى فيهم : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤١].
ولعلّ أعظم ارتيابهم كان في عاقبة غزوة تبوك لأنّهم لكفرهم ما كانوا يقدّرون أنّ المسلمين يغلبون الروم ، هذا هو الوجه في تفسير قوله : (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) كما آذن به قوله : (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ).
وجيء في قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) بصيغة المضارع للدلالة على تجدّد نفي إيمانهم ، وفي (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) بصيغة الماضي للدلالة على قدم ذلك الارتياب ورسوخه فلذلك كان أثره استمرار انتفاء إيمانهم ، ولما كان الارتياب ملازما لانتفاء الإيمان كان في الكلام شبه الاحتباك إذ يصير بمنزلة أن يقال : الذين لم يؤمنوا ولا يؤمنون وارتابت وترتاب قلوبهم.
وفرّع قوله : (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) على (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) تفريع المسبب على السبب : لأنّ الارتياب هو الشكّ في الأمر بسبب التردّد في تحصيله ، فلتردّدهم لم يصارحوا النبي صلىاللهعليهوسلم بالعصيان لاستنفاره ، ولم يمتثلوا له فسلكوا مسلكا يصلح للأمرين ، وهو مسلك الاستئذان في القعود ، فالاستئذان مسبّب على التردّد ، والتّردد مسبّب على