ومن أجل هذا الجري على ظاهر الحال اختلف أسلوب التأييس من المغفرة بين ما في هذه الآية وبين ما في آية (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] لأنّ المشركين كفرهم ظاهر فجاء النهي عن الاستغفار لهم صريحا ، وكفر المنافقين خفي فجاء التأييس من المغفرة لهم منوطا بوصف يعلمونه في أنفسهم ويعلمه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولأجل هذا كان يستغفر لمن يسأله الاستغفار من المنافقين لئلا يكون امتناعه من الاستغفار له إعلاما بباطن حاله الذي اقتضت حكمة الشريعة عدم كشفه. وقال في أبي طالب : «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» فلمّا نهاه الله عن ذلك أمسك عن الاستغفار له.
وكان النبي صلىاللهعليهوسلم يصلي صلاة الجنازة على من مات من المنافقين لأنّ صلاة الجنازة من الاستغفار ولمّا مات عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد نزول هذه الآية وسأل ابنه عبد الله بن عبد الله النبي صلىاللهعليهوسلم أن يصلي عليه ، فصلّى عليه كرامة لابنه وقال عمر للنبيصلىاللهعليهوسلم قد نهاك ربك أن تصلي عليه ، قال له على سبيل الرد «إنّما خيّرني الله» ، أي ليس في هذه الآية نهي عن الاستغفار ، فكان لصلاته عليهم واستغفاره لهم حكمة غير حصول المغفرة بل لمصالح أخرى ، ولعلّ النبي صلىاللهعليهوسلم أخذ بأضعف الاحتمالين في صيغة (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وكذلك في لفظ عدد (سَبْعِينَ مَرَّةً) استقصاء لمظنّة الرحمة على نحو ما أصّلناه في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا التفسير.
والإشارة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا) لانتفاء الغفران المستفاد من قوله : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).
والباء للسببية ، وكفرهم بالله هو الشرك. وكفرهم برسوله جحدهم رسالتهصلىاللهعليهوسلم وفي هذه الآية دليل على أن جاحد نبوءة محمد صلىاللهعليهوسلم يطلق عليه كافر.
ومعنى (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أنّ الله لا يقدّر لهم الهدي إلى الإيمان لأجل فسقهم ، أي بعدهم عن التأمّل في أدلّة النبوءة ، وعن الإنصاف في الاعتراف بالحق فمن كان ذلك ديدنه طبع على قلبه فلا يقبل الهدى فمعنى (لا يَهْدِي) لا يخلق الهدى في قلوبهم.
(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١))