ومعنى (وُضِعَ) أسّس وأثبت ، ومنه سمّي المكان موضعا. وأصل الوضع أنّه الحطّ ضدّ الرفع ، ولمّا كان الشيء المرفوع بعيدا عن التناول ، كان الموضوع هو قريب التناول ، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول ، والتّهيئة للانتفاع.
و (النّاس) تقدّم في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) في سورة البقرة [٨].
وبكة اسم مكّة. وهو لغة ـ بإبدال الميم باء ـ في كلمات كثيرة عدّت من المترادف : مثل لازب في لازم ، وأربد وأرمد أي في لون الرماد ، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك : أنّ بكة بالباء اسم موضع البيت ، وأنّ مكّة بالميم اسم بقية الموضع ، فتكون باء الجرّ ـ هنا ـ لظرفية مكان البيت خاصّة. لا لسائر البلد الّذي فيه البيت ، والظاهر عندي أنّ بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علما على المكان الّذي عيّنه لسكنى ولده بنيّة أن يكون بلدا ، فيكون أصله من اللغة الكلدانية ، لغة إبراهيم ، ألا ترى أنّهم سمّوا مدينة (بعلبك) أي بلد بعل وهو معبود الكلدانيين ، ومن إعجاز القرآن اختيار هذا اللّفظ عند ذكر كونه أوّل بيت ، فلاحظ أيضا الاسم الأوّل ، ويؤيّد ذلك قوله : (رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) [النمل : ٩١] وقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥]. وقد قيل : إنّ بكّة مشتقّ من البكّ وهو الازدحام ، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم.
وعدل عن تعريف البيت باسمه العلم بالغلبة ، وهو الكعبة ، إلى تعريفه بالموصولية بأنّه (الّذي ببكة) : لأنّ هذه الصّلة صارت أشهر في تعيّنه عند السامعين ، إذ ليس في مكّة يومئذ بيت للعبادة غيره ، بخلاف اسم الكعبة : فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الّذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقّبوه الكعبة اليمانية.
والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها. وظاهر الآية أنّ الكعبة أوّل البيوت المبنيّة في الأرض ، فتمسّك بهذا الظّاهر مجاهد ، وقتادة ، والسّدي ، وجماعة ، فقالوا : هي أوّل بناء ، وقالوا : إنّها كانت مبنيّة من عهد آدم ـ عليهالسلام ـ ثمّ درست ، فجددها إبراهيم ، قال ابن عطية : ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها ، وقد زعموا أنّها كانت تسمّى الضراح ـ بوزن غراب ـ ولكنّ المحقّقين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر ، وتأوّلوا الآية. قال عليّ ـ رضياللهعنه ـ : «كان قبل البيت بيوت كثيرة» ولا شكّ أنّ الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدّد في القرآن ذكر ذلك ، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها ، وإذا كان