مدن العالم بكثرة الحركة وهول الجد في الشغل والأخذ والعطاء والسفر والرجوع ، ويرى أثر ذلك في محطات طرق الحديد كما أشرنا إلى ذلك سابقا من رؤية براح شبكة القضبان مبسوطة عدة أميال ، ويحار العقل كيف لا يغلط مسير المزجيات وحراس مفاتيح الطرق بذهاب الرتل إلى غير قصده؟ ففي لندره ثمان محطات على نحو ما ذكرنا في محطة فكتوريا وقد أحصي في إحداها عدد الداخل والخارج من الرتل في مدة نصف ساعة فكان إثني عشر رتلا وليقس على ذلك ، وقد نظرت يوما من قصر الزجاج دخان المزجيات الصادرة والواردة جارة للرتل فإذا هي مثل الجراد المنتشر في كل الجهات.
وأما بقية الأحوال فهي دون باريس في نظارة الحوانيت وبهجة البناء وعدم وجود محل للبول أو كنف في الطرقات وفي النظافة والتنظيم والتنوير ولنذكر بعض محلات لم نر مثلها في باريس ، فمنها قصر الزجاج وهو قصر عظيم جدا متخذ من قضبان حديد مرصف بينها قطع الزجاج ، وقد انشىء أولا مركز المعرض العام في لندره وهو أول معرض في أوروبا ، وبعد انفضاض المعرض نقل ذلك القصر إلى ربوة حذو لندره واتخذ سوقا لبيع تحف وسلع ظريفة ولوضع عجائب وآثار دهرية وصناعية للفرجة والتنزه ، وحوله حديقة أنيقة ذات فوارات وقهاوي وعلى كل داخل أن يدفع شيئا زهيدا من المال لمجرد الدخول والفرجة وما يشتري فهو بثمنه ، وطريق الحديد يصل إلى هذا القصر من جهتين وهو ذو ثلاث طبقات ومقسم على عدة أقسام وفيه ملهى وفيه محل للرماية وفيه حديقة وفيه عدة فوارات وفيه عدة مطاعم وفيه قسم لمثال حمراء غرناطة بالأندلس ، أعني مثال بعض جهاتها الشهيرة كوسط الحمراء والبيوت الكبيرة متقن التمثيل أعني تمثيلا مجسما بحيث يدخل الإنسان إلى قصر هو على شكل الحمراء فيما تقدم ، وفي كيفية طلي البيوت وتمويهها بالذهب وما فيها من الكتابات الأنيقة بالخط الكوفي ، وذلك القصر هو على نحو الأبنية العربية لكنه فائق الإتقان والصنعة والتأنيق والتزويق ، وفي القصر الزجاجي قسم لأحوال الصينيين وصناعاتهم وأشكال أناسهم مجسمة بتصاوير من الشمع وهيئة المكثرين منهم لاستعمال الأفيون وتأثيره القبيح في عقلهم وذاتهم وقسم منه لتاريخ بلاد بنبي من إيطاليا تاريخا بالمشاهدة لصورة أطوارها ، وقسم منه لحيوانات غريبة منها الغول المسمى بالكور الذي هو نوع من القرد الكبير وقد مر ذكره في باريس وأنواع أخر من القردة صغار شبيهة بالإنسان الزنجي ، وفي القصر الزجاجي أيضا قسم لبيع التحف والبضائع الرقيقة وقد رأيت فيه نحو سبعة رجال من العرب من أهل الشام ومصر والمغرب متخذين محلات لبيع تحف بلدانهم والعطريات والحاصل أن هذا القصر الزجاجي جامع لأشتات الظرف والنزاهة.
ومن الأماكن الشهيرة في لندره أيضا التربيعة المعروفة «ترافلكر» وفيها عمود بلسون المبنى من المرمر ارتفاعه ١٧٦ قدما انقليزي ، وعليه تمثال وحوله شرافات من النحاس اتخذت من مدافع أخذت من الفرنسيس ، وحول العمود فوارتان بالماء أمامهما صورة الملك شارلس الأول وكان نصب العمود سنة ١٨٤٣ ، ومنها أعمدة أخرى.