فراسة ، يخبرون عن الغائب بقوة ذكائهم ، كأن قد شاهدوه ، يصف لهم الحدس الصائب حال الورد قبل أن يردوه ، ويثبتون أبعد شيء بحدة ألمعيتهم ، كأن ليس ببعيد ، وينظم لهم المجهول صدق فراستهم في سلك المعروف منذ زمان مديد.
بين الفرزدق وجرير :
كما يحكي : أن سليمان بن عبد الملك أتي بأسارى من الروم ، وكان الفرزدق حاضرا فأمره سليمان بضرب واحد واحد منهم ، فاستعفى ، فما أعفي ، وقد أشير إلى سيف غير صالح للضرب ليستعمله ، فقال الفرزدق : بل أضرب بسيف أبي رغوان مجاشع ، يعني سيفه ، وكأنه قال : لا يستعمل ذلك السيف إلا ظالم أو ابن ظالم. ثم ضرب بسيفه الرومي ، واتفق أن نبا السيف ، فضحك سليمان ومن حوله ، فقال الفرزدق (١) :
أيعجب الناس أن أضحكت سيّدهم ... |
|
خليفة الله يستسقى به المطر |
لم تنب سيفي من رعب ولا دهش ... |
|
عن الأسير ولكن أخّر القدر |
ولن يقدّم نفسا قبل ميتتها ... |
|
جمع اليدين ، ولا الصّمصامة الذّكر |
ثم أغمد سيفه ، وهو يقول (٢) :
ما إن يعاب سيد إذا صبا |
|
ولا يعاب صارم إذا نبا |
ولا يعاب شاعر إذا كبا |
ثم جلس يقول : كأني بابن المراغة قد هجاني ، فقال (٣) :
__________________
(١) الأبيات من البسيط.
(٢) الثلاثة الأشطر من الرجز ، ونبا : حد السيف إذا لم يقطع. ونبا فلان عن فلان : لم ينقد له.
(٣) البيت من الطويل : مجاشع : رجل جشع يجمع جزعا وحرصا وخبث نفس. والجشع : المتخلق بالباطل وما ليس فيه.