محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة ، وأمّا كونهما لابدّ أن يكونا متوافقين فيه فهو لم يثبت قطعاً لعدم الدليل عليه أصلاً ، فإذن لا يمكن ابتناء النزاع في المسألة على هذا ، كما أنّه لايمكن ابتناؤه على ماذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وكيف كان فالعجب منه قدس‌سره كيف غفل عن هذه النقطة الواضحة ، وهي أنّ هذه الأعراض واللوازم ليست متعلقة للأمر على كلا القولين كما عرفت بشكل واضح. ولعل منشأ غفلته عنها تخيل كون تلك اللوازم والأعراض من مشخصات المأمور به في الخارج ، ولكنّك عرفت أنّ هذا مجرد خيال لا واقع له ، وأنّ مثل هذا الخيال عن مثله قدس‌سره غريب ، وذلك لما سبق من أنّ تلك الأعراض لاتعقل أن تكون من مشخصات الوجود خارجاً ، فانّ تشخص الوجود كما مرّ بنفسه لا بشيء آخر ، بل إنّها وجودات اخرى في قبال ذلك الوجود وملازمة له في الخارج.

فالنتيجة مما ذكرناه قد أصبحت : أنّ النزاع المعقول في هذه المسألة هو ما ذكرناه ، لا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره وعلى هذا فلا ثمرة للمسألة أصلاً كما عرفت.

نلخص نتيجة البحث عن هذه المسألة في عدّة خطوط :

الأوّل : أنّ النزاع المعقول في هذه المسألة إنّما هو ابتناء ذلك على وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده فيه ، وإلاّ فقد عرفت أنّ النزاع فيها بظاهره لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.

الثاني : أنّ الصحيح هو وجود الطبيعي في الخارج ، وذلك لأجل أنّ إسناد الوجود إلى الفرد كما أنّه حقيقي ، كذلك إسناده إلى الطبيعي ، ضرورة أنّه لا فرق بين قولنا زيد موجود وقولنا الانسان موجود ، ولا نعني بوجود الطبيعي في

٢٠١

الخارج إلاّذلك ، بل لا نعقل لوجوده فيه معنىً محصّلاً ما عدا كون إضافة الوجود الخارجي إليه حقيقية ، كما أنّ إضافته إلى الفرد كذلك.

الثالث : أنّ الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد ، وتكفي شاهداً على ذلك مراجعة الوجدان في هذا الباب.

الرابع : أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره في هذه المسألة من أنّ مردّ القول بتعلق الأمر بالطبيعة هو أنّ المأمور به نفس الطبيعي ومشخصاته تماماً خارجة عنه ، ومردّ القول بتعلقه بالفرد هو أنّ المأمور به الفرد مع مشخصاته فتكون مشخصاته داخلة فيه ، وعلى هذا رتّب ثمرة مهمّة في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لما عرفت من أنّ تشخص كل وجود بنفسه لا بوجود آخر ، ومجرد كون وجودٍ ملازماً لوجود آخر في الخارج لا يوجب أن يكون تشخصه به. وعليه فلوازم وجود المأمور به خارجاً غير داخلة فيه وخارجة عن متعلق الأمر على كلا القولين كما سبق.

الخامس : أنّه لا ثمرة لهذه المسألة أصلاً ولا يترتب على البحث عنها ما عدا ثمرة علمية.

٢٠٢

النسخ

غير خفي أنّ الوجوب إذا نسخ فلا دلالة فيه على بقاء الجواز ، لا بالمعنى الأعم ولا بالمعنى الأخص ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ ما توهم دلالته عليه لا يخلو من أن يكون دليل الناسخ أو دليل المنسوخ ، وشيء منهما لا يدل على هذا. أمّا الأوّل فلأنّ مفاده إنّما هو رفع الوجوب الثابت بدليل المنسوخ ، فلا يدل على أزيد من ذلك أصلاً. وأمّا الثاني فلأنّ مفاده ثبوت الوجوب وقد ارتفع على الفرض ولا دلالة له على غيره.

ودعوى أنّ الوجوب ينحل إلى جواز الفعل مع المنع من الترك ، فالمرفوع بدليل الناسخ إنّما هو المنع من الترك ، وأمّا الجواز الذي هو بمنزلة الجنس فلا دليل على ارتفاعه أصلاً ، فإذن لا محالة يكون باقياً ، خاطئة جداً غير مطابقة للواقع في شيء ، وذلك لأنّ دعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل لو تمّت فانّما تتم في المركبات الحقيقية كالانسان والحيوان وما شاكلهما ، وأمّا في البسائط الخارجية فلا تتم أصلاً ، ولا سيّما في الأحكام الشرعية التي هي امور اعتبارية محضة وتكون من أبسط البسائط ، ضرورة أنّ حقيقتها ليست إلاّ اعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلف أو محروميته عنه.

ومن هنا قلنا إنّ الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة جميعاً منتزعة من اعتبار الشارع بحكم العقل وليس شيء منها مجعولاً شرعياً ، فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار ، غاية الأمر إن نصب الشارع قرينةً على الترخيص في

٢٠٣

الترك فينتزع العقل منه الاستحباب ، وإن لم ينصب قرينةً عليه فينتزع منه الوجوب.

وعلى ضوء هذا ، فلا يعقل القول بأنّ المرفوع بدليل الناسخ إنّما هو فصل الوجوب دون جنسه ، ضرورة أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله ، بل المجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار ، ومن الواضح جداً أنّه لا جنس ولا فصل له ، بل هو بسيط في غاية البساطة ، ولأجل ذلك فلا يتصف إلاّبالوجود مرّة وبالعدم مرّة اخرى ، ولا ثالث لهما ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ حقيقة النسخ بحسب مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم بانتهاء أمده ، بمعنى أنّ سعة الجعل من الأوّل ليست بأزيد من ذلك ، ومن هنا كان النسخ في الحقيقة تخصيصاً بحسب الأزمان في مقابل التخصيص بحسب الأفراد ، فلا يكون في الواقع رفع بل فيه دفع وانتهاء الحكم بانتهاء مقتضيه. نعم ، بحسب مقام الاثبات وظاهر الدليل يكون رفعاً.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ معنى النسخ انتهاء اعتبار المجعول بانتهاء أمده ، والكاشف عن ذلك في مقام الاثبات إنّما هو دليل الناسخ ، وعليه فلا موضوع للبحث عن أنّه بعد نسخ الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص أم لا ، ضرورة أنّ الوجوب والجواز بكلا معنييه ليسا من المجعولات الشرعية ليقع البحث عن أنّه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الجواز أم لا ، بل هما أمران منتزعان بحكم العقل كما عرفت.

وقد تحصّل من هذا البيان امور :

الأوّل : أنّه لا موضوع لما اشتهر بين الأصحاب قديماً وحديثاً من أنّه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص أم لا ، لما عرفت من

٢٠٤

أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً ليقع الكلام في ذلك.

الثاني : أنّه لا موضوع لدعوى ابتناء النزاع في المسألة على إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل ، لما مرّ من أنّ الاعتبار بسيط في غاية البساطة فلا جنس ولا فصل له.

الثالث : أنّه لا مجال لدعوى استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب ، ضرورة أنّ هذه الدعوى ترتكز على أن يكون كل من الوجوب والجواز مجعولاً شرعياً ، وقد عرفت خلافه وأ نّهما أمران انتزاعيان ، والمجعول الشرعي إنّما هو اعتبار المولى لا غيره ، والمفروض أنّه قد ارتفع بدليل الناسخ ، فإذن لا موضوع للاستصحاب.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الوجوب مجعول شرعاً ، فمع ذلك لا دليل لنا على بقاء الجواز ، والوجه في ذلك أمّا أوّلاً : فلأنّ الوجوب أمر بسيط وليس مركباً من جواز الفعل مع المنع من الترك ، وتفسيره بذلك تفسير بما هو لازم له لا تفسير لنفسه ، وهذا واضح. وأمّا ثانياً : فلو سلّمنا أنّ الوجوب مركب إلاّ أنّ النزاع هنا في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب وعدم بقائه ليس مبتنياً على النزاع في تلك المسألة ، أعني مسألة إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم امكانه ، وذلك لأنّ النزاع في تلك المسألة إنّما هو في الامكان والاستحالة العقليين ، وأمّا النزاع في مسألتنا هذه إنّما هو في الوقوع الخارجي وعدم وقوعه بعد الفراغ عن أصل إمكانه ، وكيف كان فإحدى المسألتين أجنبية عن المسألة الاخرى بالكلّية.

وأمّا دعوى جريان الاستصحاب في هذا الفرض ، بتقريب أنّ الجواز قبل نسخ الوجوب متيقن ، وبعد نسخه نشك في بقائه فنستصحب فمدفوعة ، فانّه مضافاً إلى أنّه من الاستصحاب في الأحكام الكلّية ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّه

٢٠٥

لا يجري فيها على وجهة نظرنا ، غير جارٍ في نفسه في المقام ، وذلك لأنّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، لأنّ المتيقن لنا وهو الجواز في ضمن الوجوب قد ارتفع يقيناً بارتفاع الوجوب ، والفرد الآخر منه مشكوك الحدوث ، فإذن قد اختلّت أركان الاستصحاب فلا يجري.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّه بعد نسخ الوجوب لا دليل على ثبوت شيء من الأحكام غيره ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى العموم أو الاطلاق لو كان ، وإلاّ فإلى الأصل العملي وهو يختلف باختلاف الموارد كما لا يخفى.

ونتيجة البحث عن هذه المسألة عدّة امور :

الأوّل : أنّ الوجوب إذا نسخ فلا دليل على بقاء الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص ، بل قد عرفت أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً ، والمجعول الشرعي إنّما هو نفس الاعتبار القائم بالمعتبر ، ومعنى نسخه هو انتهاء ذلك الاعتبار بانتهاء أمده ، فإذن لا معنى للبحث عن هذا ولا موضوع له.

الثاني : أنّ ابتناء النزاع في المسألة على النزاع في إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم إمكانه باطل ، فانّ الحكم حيث إنّه أمر اعتباري بسيط في غاية البساطة فلا جنس له ولا فصل.

الثالث : أنّه بناءً على ما ذكرناه فلا مجال للتمسك بالاستصحاب في المقام ، مضافاً إلى أنّه من الاستصحاب في الحكم الكلّي من ناحية ، ومن القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي من ناحية اخرى.

٢٠٦

الواجب التخييري

قد اختلف العلماء فيه إلى عدّة آراء ومذاهب :

المذهب الأوّل : أنّ الواجب هو ما يختاره المكلف في مقام الامتثال ، مثلاً في موارد التخيير بين القصر والاتمام لو اختار المكلف القصر مثلاً فهو الواجب عليه ولو عكس فبالعكس. وهذا المذهب لسخافته تبرأ منه كل من نسب إليه ، ولذا ذكر صاحب المعالم قدس‌سره (١) أنّ كلاً من الأشاعرة والمعتزلة نسب هذا المذهب إلى الآخر وتبرأ منه ، وكيف كان فلازم هذه النظرية هو أنّ الواجب يختلف باختلاف المكلفين ، بل باختلاف حالاتهم ، فلو اختار أحدهم في المثال المزبور القصر في مقام الامتثال والآخر التمام ، فالواجب على الأوّل هو القصر واقعاً وعلى الثاني هو التمام كذلك ، أو لو اختار أحدهم القصر في يوم والتمام في يوم آخر فالواجب عليه في اليوم الأوّل هو القصر وفي اليوم الثاني التمام ، وكذا الحال في كفارة شهر رمضان وما شاكلها.

فالنتيجة : هي أنّ وجوب الواجب في هذا الفرض واقعاً تابع لاختيار المكلف في مقام الامتثال ، بحيث لا وجوب له قبل اختياره في الواقع ونفس الأمر.

ويردّه أوّلاً : أنّه مخالف لظواهر الأدلة الدالة على وجوب فعلين أو أفعال على نحو التخيير ، ولا تعيّن لما هو الواجب على المكلف في الواقع ونفس الأمر ،

__________________

(١) معالم الدين : ٧٢

٢٠٧

فما يختاره مصداق للواجب لا أنّه الواجب بعينه.

وثانياً : أنّه منافٍ لقاعدة الاشتراك في التكليف ، ضرورة أنّ لازم هذا القول كما عرفت هو اختلاف التكليف باختلاف المكلفين ، بل باختلاف حالاتهم ، ففي المثال المتقدم لو اختار أحدهم القصر مثلاً والآخر التمام ، فيكون تكليف الأوّل واقعاً هو القصر والثاني هو التمام ، أو لو اختار أحدهم صوم شهرين متتابعين مثلاً والآخر عتق الرقبة والثالث إطعام ستّين مسكيناً ، فيكون الواجب على الأوّل واقعاً هو الصوم وعلى الثاني العتق وعلى الثالث الاطعام ، ومن الواضح جداً أنّ هذا منافٍ صريح لقاعدة الاشتراك في التكليف التي هي من القواعد الضرورية ، فإذن لا يمكن الالتزام بهذه النظرية أبداً.

وثالثاً : أنّ لازم هذا القول أن لا يكون وجوب في الواقع عند عدم اختيار المكلف أحدهما وترك امتثاله وعصيانه ، ضرورة أنّ الوجوب إنّما يتحقق باختيار المكلف إيّاه في مقام الامتثال كما هو المفروض ، وأمّا قبل اختياره فلا وجوب واقعاً ليصدق عليه أنّه تركه وعصاه فيستحقّ العقوبة.

وإن شئت فقل : إنّ لازم هذه النظرية هو أنّ وجوب كل منهما في الواقع مشروط باختيار المكلف إيّاه في ظرف الامتثال ، ولازمه هو أنّه لا وجوب له قبل اختياره ، ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه ، كما هو واضح ، فإذن لا موضوع للعصيان واستحقاق العقوبة عند ترك المكلف الاتيان بالجميع ، ضرورة أنّ إيجاد الشرط غير واجب عليه ، وهذا بديهي البطلان.

ورابعاً : أنّه إذا لم يكن شيء منهما واجباً في حال العصيان فلا يكون واجباً في حال الامتثال أيضاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ كلاً من العصيان والامتثال وارد على موضوع واحد ، فيتحقق العصيان فيه مرّةً والامتثال مرّة اخرى ، فإذا فرض أنّه لم يكن واجباً في حال العصيان فلا يعقل أن يكون واجباً في حال

٢٠٨

الامتثال ، مثلاً الصلاة قصراً إذا لم تكن واجبة في حال عصيانها ، فلا محالة لا تكون واجبةً في حال امتثالها أيضاً ، ضرورة أنّها إمّا أن تكون في الواقع واجبة أو ليست بواجبة فيه فلا ثالث لهما. وعلى الأوّل فهي واجبة في كلتا الحالتين ، وعلى الثاني فهي غير واجبة كذلك ، لوضوح أنّه لا يعقل أن يكون وجوبها مشروطاً بامتثالها والاتيان بها في الخارج ، فانّ مردّه إلى طلب الحاصل واشتراط الأمر بالشيء بوجوده وهو غير معقول ، فالنتيجة أنّ هذه النظرية لا ترجع إلى معنىً محصّل أصلاً.

المذهب الثاني : هو أن يكون كل من الطرفين أو الأطراف واجباً تعييناً ومتعلقاً للارادة ، ولكن يسقط وجوب كل منهما بفعل الآخر ، فيكون مردّ هذا القول إلى اشتراط وجوب كل من الطرفين أو الأطراف بعدم الاتيان بالآخر.

وقد صحح هذه النظرية بعض مشايخنا المحققين قدس‌سرهم (١) بأحد نحوين :

الأوّل : أن يفرض أنّ لكل واحد منها مصلحة ملزمة قائمة به ، مثلاً للصوم مصلحة إلزامية قائمة بنفسه وتقتضي إيجابه ، وكذا للعتق والاطعام ، فالقائم بها مصالح متباينة لا متقابلة بحيث لا يمكن الجمع بينها ، وبما أنّ تلك المصالح لزومية فلذا أوجب الشارع الجميع ، ولكن مصلحة التسهيل والارفاق تقتضي تجويز الشارع ترك كل منها إلى بدل ، فلذا أجاز ترك كل منها عند الاتيان بالآخر وامتثال أمره ، ونتيجة ذلك هي أنّه إذا ترك الكل فلا يعاقب إلاّعلى ترك ما لا يجوز تركه ، وهو ليس إلاّ الواحد منها ، وإذا فعل الكل دفعة واحدة كان ممتثلاً بالاضافة إلى الجميع ، واستشهد على ذلك بأ نّه ربّما لا يكون إرفاق

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢٧٠

٢٠٩

في البين فلذا أوجب الجمع بين الخصال كما في كفارة الإفطار بالحرام.

الثاني : أن يفرض أنّ الغرض المترتب على الخصال ـ أعني الصوم والعتق والاطعام ـ وإن كان واحداً نوعياً وواحداً بالسنخ ، إلاّ أنّ الالزامي من ذلك الغرض وجود واحد منه ، وبما أنّ نسبة كل منها إلى ذلك الوجود الواحد على السوية ، فلذا يجب الجميع ، لأنّ وجوب أحدها المردد في الواقع غير معقول ، ووجوب أحدها المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : حيث إنّ وجوداً واحداً من ذلك الغرض لازم ، فلأجل ذلك يجوز ترك كل منها عند الاتيان بالآخر.

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية بكلا تفسيريها.

أمّا تفسيرها الأوّل : فيرد عليه :

أوّلاً : أنّه مخالف لظاهر الدليل ، حيث إنّ ظاهر العطف فيه بكلمة ( أو ) هو وجوب أحدهما أو أحدها لا وجوب الجميع ، كما هو واضح.

وثانياً : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في شيء ما عدا تعلق الأمر به ، وحيث إنّ الأمر فيما نحن تعلق بأحد الطرفين أو الأطراف ، فلا محالة لا نستكشف إلاّقيام الغرض به ، فإذن لا طريق لنا إلى كشف تعدد الملاك أصلاً ، فيحتاج الحكم بتعدده وقيامه بكل منها إلى دعوى علم الغيب.

وثالثاً : أنّه لا طريق لنا إلى أنّ مصلحة التسهيل والارفاق على حد توجب جواز ترك الواجب ، وعلى فرض تسليم أنّها تكون بهذا الحد فهي عندئذ تمنع عن أصل جعل الوجوب للجميع ، ضرورة أنّ مصلحة ما عدا واحداً منها مزاحمة بتلك المصلحة ، أعني مصلحة التسهيل والارفاق ، ومن الواضح جداً أنّ المصلحة المزاحمة بمصلحة اخرى لا تدعو إلى جعل حكم شرعي أصلاً ،

٢١٠

وغير قابلة لأن تكون منشأً له ، فإذن إيجاب الجميع بلا مقتض.

وعلى الجملة : فمصلحة التسهيل والارفاق لو كانت الزامية فتمنع عن أصل جعل الوجوب لجميع الأطراف أو الطرفين ، لا أنّها توجب جواز ترك الواجب ، ضرورة أنّه لا أثر للمصلحة المزاحمة بمصلحة اخرى ، ويكون وجودها وعدمها سيّان ، فإذن يكون إيجاب الجميع بلا داعٍ وهو يستحيل أن يصدر من الحكيم. فالنتيجة هي أنّ الواجب أحدها لا الجميع.

ثمّ إنّه على فرض إيجاب الجميع وعدم كون مصلحة التسهيل والارفاق مانعة منه ، فلا موجب لسقوط وجوب بعضها بفعل الآخر ، ضرورة أنّه بلا مقتضٍ وسبب ، فانّ سقوط وجوب الواجب بأحد امور لا رابع لها ، الأوّل :امتثاله والاتيان بمتعلقه خارجاً ، الموجب لحصول غرضه فانّه مسقط له لا محالة. الثاني : العجز عن امتثاله وعدم القدرة على الاتيان بمتعلقه في الخارج ، سواء أكان من ناحية العصيان أو غيره. الثالث : النسخ ، والمفروض أنّ الاتيان بالواجب الآخر ليس شيئاً من هذه الامور.

ودعوى أنّه إذا فرض أنّ وجوب كل منها مشروط بعدم الاتيان بالآخر فلا محالة يكون إتيانه مسقطاً له ، مدفوعة بأنّ الأمر وإن كان كذلك على فرض ثبوت تلك الدعوى ، إلاّ أنّها غير ثابتة ، فانّه مضافاً إلى عدم الدليل عليها ، إنّها مخالفة لظواهر الأدلة في المقام ، حيث إنّ الظاهر منها وجوب أحد الأطراف أو الطرفين لا وجوب الجميع بنحو الاشتراط ، أي اشتراط وجوب كلٍ بعدم الاتيان بالآخر.

ورابعاً : لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مصلحة التسهيل والارفاق إلزامية ، وسلّمنا أيضاً أنّها لا تمنع عن أصل جعل الوجوب للجميع وإنّما توجب جواز ترك الواجب إلى بدل ، الذي يكون مردّه إلى تقييد وجوب كل منها بعدم

٢١١

الاتيان بالآخر ، ولكن لازم ذلك هو الالتزام في صورة المخالفة وعدم الاتيان بشيء منها باستحقاق العقاب على ترك كل منها ، ضرورة أنّه لا يجوز ترك الواجب بدون الاتيان ببدله ، وإنّما يجوز الترك إلى بدل لا مطلقاً ، فإذا فرض أنّ المكلف ترك الصوم بلا بدل وترك العتق والاطعام كذلك ، فلا محالة يستحقّ العقاب على ترك كل منها.

فما أفاده شيخنا المحقق قدس‌سره من أنّه في هذا الفرض يستحق عقاباً واحداً ، وهو العقاب على ما لا يجوز تركه وهو الواحد منها ، لا يرجع إلى معنىً محصّل ، وذلك لأنّ عدم استحقاقه العقاب على ترك البقية عند الاتيان بواحد منها من جهة أنّ تركها إلى بدل ، وقد عرفت أنّه جائز وإنّما لا يجوز تركها بلا بدل ، والمفروض أنّ عند ترك الجميع يكون ترك كل منها بلا بدل فيستحقّ العقاب عليه.

وبكلمة اخرى : أنّ ترك كل واحد منها مقتضٍ لاستحقاق العقاب ، لفرض أنّه ترك الواجب ، والمانع منه إنّما هو الاتيان بالآخر ، فإذا فرض أنّه لم يأت به أيضاً وتركه فلا مانع من استحقاقه العقاب أصلاً ، فيكون العقاب عندئذ على الجمع بين التركين أو التروك ، وقد مرّ نظير ذلك في بحث الترتب (١) وقلنا هناك إنّ المكلف إذا ترك الأهم والمهم معاً فيستحق عقابين ، ويكون العقابان على الجمع بين ترك هذا وترك ذاك ، مع أنّ من الواضح جداً أنّه لا يمكن الالتزام بتعدد العقاب في المقام أبداً ولم يلتزم به أحد فيما نعلم.

وأمّا تفسيرها الثاني ، فيردّه :

أوّلاً : أنّه خلاف ظاهر الدليل ، فانّ الظاهر كما عرفت وجوب أحد الأطراف أو الطرفين لا وجوب الجميع.

__________________

(١) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٤٤٤

٢١٢

وثانياً : أنّه لا طريق لنا إلى إحراز أنّ الغرض المترتب على الخصال واحد بالسنخ والنوع وأنّ الالزامي منه وجود واحد ، فانّه يحتاج إلى علم الغيب.

وثالثاً : على تقدير تسليم ذلك إلاّ أنّ لازمه وجوب أحد تلك الخصال لا وجوب الجميع.

ودعوى أنّ وجوب أحدها المردد في الواقع غير معقول ، ووجوب أحدها المعيّن ترجيح بلا مرجح ، فلا محالة وجب الجميع فاسدة ، وذلك لأنّا لا نقول بوجوب أحدهما المردد في الواقع ليقال إنّه غير معقول ، ولا بوجوب أحدهما المعيّن ليكون ترجيحاً من غير مرجح ، بل نقول بوجوب أحدهما لا بعينه وهو غير أحدهما المردد في الواقع المعبّر عنه بأحدهما المصداقي ، ضرورة أنّ الأوّل قابل لتعلق التكليف به دون هذا.

فها هنا دعويان : الاولى : أنّ أحدهما لا بعينه المعبّر عنه بالجامع الانتزاعي قابل لتعلق التكليف به. الثانية : أنّ أحدهما المردد في الواقع غير قابل له.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّه لا يعتبر في متعلق التكليف الذي هو أمر اعتباري أن يكون جامعاً ذاتياً ، بل يجوز أن يكون جامعاً انتزاعياً ، وهو عنوان أحد الفعلين أو الأفعال ، كما سيأتي بيانه بشكل واضح (١).

وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ المردد في الواقع والخارج محال في ذاته ، ضرورة أنّه لا ثبوت ولا وجود له فيه ، فإذن كيف يتعلق الأمر به ، وهذا واضح. فما أفاده شيخنا المحقق قدس‌سره من أنّ الأمر في المقام لا يخلو من أن يتعلق بأحدهما المردد في الواقع وأن يتعلق بأحدهما المعيّن فيه أو بالجميع ، وحيث إنّ

__________________

(١) في ص ٢٢٢

٢١٣

الأوّل والثاني غير معقول فيتعين الثالث ، غير صحيح ، لما عرفت من أنّ هنا شقاً رابعاً وهو تعلق الأمر بأحدهما لا بعينه المعبّر عنه بالجامع الانتزاعي ، وهو قابل لتعلق التكليف به كما سنتعرّض له عن قريب إن شاء الله ، غاية الأمر أنّ المكلف مخيّر في تطبيقه على هذا الفرد أو ذاك.

ورابعاً : على تقدير تسليم أنّ الواجب هو الجميع ، إلاّ أنّ لازم ذلك هو تعدد العقاب عند ترك الجميع وعدم الاتيان بشيء منها ، ضرورة أنّ الجائز هو ترك كل منها إلى بدل لا مطلقاً ، كما مرّ آنفاً.

فالنتيجة أنّ هذا القول بكلا تفسيريه لا يرجع إلى معنىً صحيح.

المذهب الثالث : هو ما اختاره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وإليك نص كلامه : والتحقيق أن يقال إنّه إن كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أنّه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما ، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ، ولذا يسقط به الأمر ، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقلياً لا شرعياً ، وذلك لوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهما جامع في البين ، لاعتبار نحو من السنخيّة بين العلّة والمعلول ، وعليه فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي لبيان أنّ الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.

وإن كان بملاك أنّه يكون في كل واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر باتيانه ، كان كل واحد واجباً بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما والعقاب على تركهما ، فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقاً ولا مفهوماً كما هو واضح ، إلاّ أن يرجع إلى ما

٢١٤

ذكرناه فيما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأوّل ، من أنّ الواجب هو الواحد الجامع بينهما ، ولا أحدهما معيّناً ، مع كون كل واحد منهما مثل الآخر في أنّه وافٍ بالغرض (١).

أقول : ما أفاده قدس‌سره يرجع إلى عدّة نقاط :

الاولى : أنّ الغرض في المقام إذا كان واحداً بالذات والحقيقة فلا محالة يكشف عن وجود جامع وحداني ذاتي بين الفعلين أو الأفعال ، بقاعدة أنّ الامور المتباينة لا يمكن أن تؤثّر أثراً واحداً بالسنخ ، فوحدة الغرض هنا تكشف عن جهة جامعة حقيقية بينها ، فيكون ذلك الجامع هو متعلق الوجوب بحسب الواقع والحقيقة ، وإن كان متعلقه بحسب الظاهر هو كل واحد منها ، وعليه فيكون التخيير بينها عقلياً لا شرعياً ، فالنتيجة أنّ مردّ هذه الفرضية إلى انكار التخييري الشرعي كما لا يخفى.

الثانية : ما إذا كان الغرض متعدداً في الواقع ، وكان كل واحد منه قائماً بفعل ، إلاّ أنّ حصول واحد من الغرض مضاد لحصول الآخر ، فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج ، فعندئذ لا مناص من الالتزام بوجوب كل منهما بنحو يجوز تركه إلى بدل لا مطلقاً ، ضرورة أنّه بلا موجب ومقتضٍ بعد فرض أنّ الغرضين المترتبين عليهما متضادان فلا يمكن تحصيل كليهما معاً ، وعليه فيكون التخيير بينهما شرعياً ، ضرورة أنّ مردّ هذه الفرضية إلى وجوب هذا أو ذاك ، ولا نعني بالتخيير الشرعي إلاّهذا.

الثالثة : أنّ الواجب ليس هو أحدهما لا بعينه ، لا مصداقاً أعني به الفرد

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٠ ـ ١٤١

٢١٥

المردد بحسب الواقع والخارج ، ولا مفهوماً أعني به الجامع الانتزاعي المنتزع منهما.

ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط ، فنقول : إنّ هذه النقاط جميعاً خاطئة وغير مطابقة للواقع.

أمّا النقطة الاولى : فقد ذكرنا في أوّل الكتاب (١) عند البحث عن موضوع العلم أنّ هذه القاعدة ، أعني قاعدة عدم صدور الواحد عن الكثير إنّما تتم في الواحد الشخصي من تمام الجهات دون الواحد النوعي ، ضرورة أنّه قد برهن في محلّه أنّ هذه القاعدة وقاعدة عدم صدور الكثير عن الواحد إنّما تتمان في الواحد بالشخص دون الواحد بالنوع.

والوجه في ذلك ملخّصاً : هو أنّ كل معلول طبيعي يتعيّن في مرتبة ذات علّته ، بقانون أنّ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، والمراد من التشخص هو تشخصه في مرتبة ذات علّته ، ففي تلك المرتبة ما لم يتشخص لم يوجد في الخارج ، والمراد من التشخص في تلك المرتبة هو أنّ المعلول الطبيعي بما أنّه مرتبة نازلة من وجود علّته فلا محالة يتشخص في مرتبة وجود علّته بملاك أنّه كامن في ذاتها ومرتبة من مراتب وجودها ، وفي مرتبة نفسه يتشخص بوجوده الخاص ، وهذا هو المراد من تشخصه السابق واللاّحق ، كما أنّ المراد من وجوبه السابق في قولهم الشيء ما لم يجب لم يوجد هو التشخص السابق وهو التشخص في مرتبة ذات العلّة ووجودها ، كما أنّ المراد من وجوبه اللاّحق هو تشخصه بوجوده الخاص.

وعلى ضوء هذا الأساس لا يعقل تشخص معلول واحد شخصي في مرتبة

__________________

(١) في المجلد الأوّل ص ١٤

٢١٦

ذات علّتين مستقلّتين ، فان مردّ ذلك إلى تعدد الواحد الشخصي ، لفرض أنّ وجوده في مرتبة ذات هذه العلّة يباين وجوده في مرتبة ذات العلّة الاخرى ، وهو محال.

وبهذا البيان قد ظهر حال القاعدة الثانية أيضاً ، وذلك لأنّ لازم صدور معلولين من علّة واحدة شخصية هو أن تكون في مرتبة ذاتها جهتان متباينتان لتؤثر بإحداهما في معلولٍ وبالاخرى في آخر ، لما عرفت من أنّ كل معلول يتعين في مرتبة ذات علّته وأ نّه من مراتب وجودها ، فإذا فرض أنّ العلة واحدة شخصية من جميع الجهات ، امتنع تعيّن معلولين متباينين في مرتبة ذاتها ووجودها ، ضرورة أنّه لا يعقل أن يكون كلاهما من مراتب وجودها ومتعيناً في ذاتها ، مثلاً إذا كانت الحرارة من مراتب وجود النار فلا يعقل أن تكون البرودة من مراتب وجودها ... وهكذا.

وبكلمة اخرى : أنّ لازم فرض تعيّن معلولين متباينين في مرتبة ذات العلّة ، أنّه لا بدّ من فرض جهتين متباينتين فيها لا اشتراك بينهما أصلاً ، ليكون المؤثر في أحدهما جهة وفي الآخر جهة اخرى ، بملاك قاعدة السنخية التي هي معتبرة بين العلل والمعاليل الطبيعية ، بداهة أنّه يستحيل أن يكون المؤثر فيهما جهة واحدة شخصية ، وهذا خلف.

وبعد ذلك نقول : إنّ ما ذكرناه من البرهان على استحالة صدور الواحد عن الكثير واستحالة صدور الكثير عن الواحد لا يجري في الواحد النوعي ، ضرورة أنّه لا مانع من صدور الكثير عن الواحد بالنوع ، فان مردّه بحسب التحليل والواقع إلى صدور كل معلول شخصي عن فرد منه ، وإسناد صدوره إلى الجامع باعتبار ذلك ، كما هو واضح. ومن المعلوم أنّ البرهان المزبور لا يمنع عن ذلك أصلاً ، كما أنّه لا يمنع عن صدور الواحد النوعي عن الكثير ، فانّه

٢١٧

خارج عن موضوع تلك القاعدة ، حيث إنّ مردّه إلى استناد كل فرد إلى علّة أو كل مرتبة منه إليها ، كالحرارة المستندة إلى إشراق الشمس مرّة ، وإلى النار مرّة اخرى وإلى الغضب مرّة ثالثة ، وإلى الحركة مرّة رابعة ، وإلى القوّة الكهربائية مرّة خامسة ... وهكذا ، كما أنّه عند اجتماع تلك الأسباب والعلل على شيء يكون المؤثر في إيجاد الحرارة فيه هو المجموع لا كل واحد منها ، ولذا لو كان واحد منها لم يوجد فيه إلاّمرتبة ضعيفة منها والمفروض أنّ المجموع قد أوجد فيه مرتبة شديدة تنحل إلى مراتب متعددة ، يستند كل مرتبة منها إلى واحد منها لا الجميع ، ومن الواضح أنّ هذا خارج عن موضوع القاعدة المذكورة ، لاختصاصها كما عرفت بالواحد الشخصي من تمام الجهات ، وهذه الحرارة المستندة إلى الجميع ليست واحدة من تمام الجهات ، بل هي ذات مراتب متعددة وكل مرتبة منها يستند إلى علّة.

أو فقل : إنّها واحدة بالنوع من هذه الناحية لا واحدة بالشخص. فإذن لا يمكن دعوى أنّ المؤثر فيها هو الجامع بين تلك الأسباب لا كل واحد واحد منها ، فانّ هذه الدعوى مضافاً إلى أنّها خلاف الوجدان غير ممكنة في نفسها ، بداهة أنّه لايعقل وجود جامع ذاتي بين هذه الأسباب ، لأنّها مقولات متعددة ، فانّ النار من مقولة الجوهر ، والقوّة الكهربائية مثلاً من مقولة الأعراض ... وهكذا ، وقد حقق في محلّه أنّه لا يمكن اندراج المقولات تحت مقولة اخرى ، فانّها أجناس عاليات ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها ، فلا يعقل وجود جامع ماهوي بينها وإلاّ لم يمكن حصر المقولات في شيء.

فالنتيجة : أنّ الواحد النوعي لا يكشف عن وجود جامع وحداني أصلاً ، وبما أنّ الغرض المترتب على الواجب التخييري ليس واحداً شخصياً ، بل هو واحد بالنوع ، فلا يكشف عن وجود جامع ماهوي بين الفعلين أو الأفعال ،

٢١٨

هذا مضافاً إلى أنّ سنخ هذا الغرض غير معلوم لنا وأ نّه واحد بالذات والحقيقة أو واحد بالعنوان ، ومن الواضح جداً أنّ الكاشف عن الواحد بالذات ليس إلاّ الواحد بالذات ، وأمّا الواحد بالعنوان فلا يكشف إلاّعن واحد كذلك ، وحيث إنّا لا نعلم بسنخ الغرض في المقام على فرض كونه واحداً ، فلا نعلم سنخ الجامع المستكشف منه أنّه واحد بالذات أو بالعنوان ، فإذن لا يثبت ما ادّعاه من وجود جامع ذاتي بينهما [ هذا أوّلاً ].

وثانياً : أنّ ما أفاده قدس‌سره لو تمّ فانّما يتمّ فيما يمكن وجود جامع حقيقي بينهما ، كأن يكونا فردين أو نوعين من طبيعة واحدة ، وأمّا فيما إذا لم يمكن وجود جامع كذلك كما إذا كان كل منهما من مقولة على حدة فلا يتم أصلاً ، ومن الواضح أنّ التخيير بين فعلين أو أفعال لا يختص بما إذا كانا من مقولة واحدة ، بل كما يمكن أن يكونا كذلك يمكن أن يكون أحدهما من مقولة والآخر من مقولة اخرى ، أو أن يكون أحدهما أمراً وجودياً والآخر أمراً عدمياً ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن تصوير جامع حقيقي بينهما في أمثال ذلك كما هو واضح.

وثالثاً : لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ ما أفاده قدس‌سره صحيح ، إلاّ أنّ الجامع المزبور مما لا يصلح أن يكون متعلقاً للأمر ، ضرورة أنّ متعلق الأمر لا بدّ أن يكون أمراً عرفياً قابلاً للالقاء إليهم ، وأمّا هذا الجامع المستكشف بالبرهان العقلي فهو خارج عن أذهانهم وغير قابل لأن يتعلق به الخطاب ، لوضوح أنّ الخطابات الشرعية المتوجهة إلى المكلفين على طبق المتفاهم العرفي ، ولا يعقل تعلق الخطاب بما هو خارج عن متفاهمهم ، وحيث إنّ هذا خارج عنه فلا يعقل تعلق الخطاب به.

وأمّا النقطة الثانية : فيرد عليها :

٢١٩

أوّلاً : أنّها مخالفة لظواهر الأدلة ، فانّ الظاهر من العطف بكلمة ( أو ) هو أنّ الواجب أحدهما لا كلاهما.

وثانياً : أنّ فرض كون الغرضين متضادين فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج مع فرض كون المكلف قادراً على إيجاد كلا الفعلين فيه بعيد جداً ، بل هو ملحق بأنياب الأغوال ، ضرورة أنّا لا نعقل التضاد بين الغرضين مع عدم المضادّة بين الفعلين ، فإذا فرض أنّ المكلف متمكن من الجمع بينهما خارجاً فلا مانع من إيجابهما معاً عندئذ.

وثالثاً : أنّا لو سلّمنا ذلك فرضاً وقلنا بالمضادة بين الغرضين وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج ، إلاّ أنّ من الواضح جداً أنّه لا مضادة بين تركيهما معاً ، فيتمكن المكلف من ترك كليهما بترك الاتيان بكلا الفعلين خارجاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ العقل مستقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم ، ولا يفرق بينه وبين تفويت الواجب الفعلي. ومن ناحية ثالثة : أنّ فيما نحن فيه وإن لم يستحقّ العقاب على ترك تحصيل أحد الغرضين عند تحصيل الآخر من جهة عدم إمكان الجمع بينهما في الخارج ، إلاّ أنّه لا مانع من استحقاق العقاب عليه عند تركه تحصيل الآخر.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي أنّه يستحقّ العقابين عند جمعه بين التركين ، لفرض أنّه مقدور له فلا يكون العقاب عليه عقاباً على ما ليس بالاختيار. هذا نظير ما ذكرناه في بحث الترتب (١) وقلنا هناك إنّ المكلف يستحق عقابين عند جمعه بين ترك الأهم والمهم معاً ، وأ نّه ليس عقاباً على ما لا يكون بالاختيار ، لفرض أنّ الجمع بينهما مقدور له ، وفيما نحن فيه كذلك ، إذ

__________________

(١) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٤٤٤

٢٢٠