محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

لا مانع من الالتزام بتعدد العقاب فيه أصلاً ، فانّ المانع من العقاب على ترك أحدهما عند الاتيان بالآخر هو عدم إمكان تحصيله بعد الاتيان به ، لفرض المضادة بينهما. وأمّا العقاب على ترك كل منهما في نفسه مع قطع النظر عن الآخر فلا مانع منه أصلاً ، لما عرفت من استقلال العقل باستحقاق العقاب على ترك الملاك الملزم ، والمفروض في المقام أنّ كلاً من الملاكين ملزم في نفسه ، وعليه فلا محالة إذا ترك المكلف كليهما معاً يستحق عقابين : عقاباً على ترك هذا ، وعقاباً على ترك ذاك.

وبكلمة اخرى : أنّ مقتضى كون كل من الغرضين ملزماً في نفسه هو وجوب كلٍّ من الفعلين ، غاية الأمر من جهة المضادة بين الغرضين وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج لا محالة يكون وجوب كل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه لا يمكن أن يكون الواجب في هذا الفرض هو أحدهما المعيّن ، لاستلزامه الترجيح بلا مرجح ، فانّه بعد فرض كون كل منهما مشتملاً على الملاك الملزم في نفسه ، وأ نّهما من هذه الناحية على نسبة واحدة ، فتخصيص الوجوب بأحدهما خاصة دون الآخر لا يمكن. وكذا لا يمكن أن يكون الواجب هو أحدهما لا بعينه ، وذلك لأنّه بعد فرض كون الغرض في المقام متعدداً لا موجب لأن يكون الواجب واحداً ، مع أنّه خلاف مفروض كلامه قدس‌سره.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين قد أصبحت : أنّه لا مناص من الالتزام بما ذكرناه ، وهو وجوب كل من الفعلين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر ، غاية الأمر أنّ إطلاق وجوب كل منهما يقيّد بعدم الاتيان بالآخر ، ولازم هذا هو أنّ المكلف إذا ترك كليهما معاً يستحق عقابين : عقاباً على ترك هذا وعقاباً على ترك ذاك ، لفرض أنّ وجوب كل منهما عندئذ فعلي من جهة تحقق شرطه

٢٢١

وهو عدم الاتيان بالآخر ، وهذا مما لم يلتزم به أحد.

ورابعاً : أنّ الغرضين المزبورين لا يخلوان من أن يمكن اجتماعهما في زمان واحد ، بأن تكون المضادة بين وجود أحدهما مترتباً على وجود الآخر لا مطلقاً ، وأن لا يمكن اجتماعهما فيه أصلاً. فعلى الأوّل لا بدّ من الالتزام بايجاب الشارع الجمع بين الفعلين أو الأفعال في زمان واحد فيما إذا تمكن المكلف منه ، وإلاّ لفوّت عليه الملاك الملزم ، وهو قبيح منه. ومن الواضح أنّ هذا خلاف مفروض الكلام في المسألة ، ومخالف لظواهر الأدلة ، فلا يمكن الالتزام به أصلاً.

وعلى الثاني فلازمه هو أنّ المكلف إذا أتى بهما معاً في الخارج وفي زمان واحد ، أن لا يقع شيء منهما على صفة المطلوبية ، إذ وقوع أحدهما على هذه الصفة دون الآخر ترجيح من دون مرجّح ، ووقوع كليهما على تلك الصفة لا يمكن لوجود المضادة بينهما ، مع أنّه من الواضح البديهي أنّ المكلف إذا أتى بهما في زمان واحد يقع أحدهما على صفة المطلوبية ، ضرورة أنّه إذا جمع بين طرفي الواجب التخييري أو أطرافه وأتى بها دفعةً واحدة امتثل الواجب وحصل الغرض منه لا محالة ، وهذا ظاهر. فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن أنّ ما ذكروه من الوجوه لتصوير الواجب التخييري لا يرجع شيء منها إلى معنىً صحيح.

[ المختار في الوجوب التخييري ]

الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة تحفظاً على ظواهر الأدلة : هو أنّ الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه ، وتطبيقه على كل منهما في الخارج بيد المكلف ، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية ، غاية الأمر أنّ متعلق الوجوب في

٢٢٢

الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصلة والجامع الحقيقي ، وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني ، فهذا هو نقطة انطلاق الفرق بينهما.

وتخيّل أنّه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما في المقام ضرورة أنّه ليس له واقع موضوعي غير تحققه في عالم الانتزاع والنفس ، فلا يمكن أن يتعدّى عن افق النفس إلى ما في الخارج ، ومن الواضح أنّ مثله لا يصلح أن يتعلق به الأمر.

خيال خاطئ جداً ، بداهة أنّه لا مانع من تعلق الأمر به أصلاً بل تتعلق به الصفات الحقيقية كالعلم والارادة وما شاكلهما ، فما ظنّك بالحكم الشرعي الذي هو أمر اعتباري محض ، وقد تقدّم منّا غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية سواء أكانت وضعية أو تكليفية امور اعتبارية ، وليس لها واقع ما عدا اعتبار الشارع ، ومن المعلوم أنّ الأمر الاعتباري كما يصح تعلقه بالجامع الذاتي كذلك يصح تعلقه بالجامع الانتزاعي ، فلا مانع من اعتبار الشارع ملكية أحد المالين للمشتري عند قول البائع بعت أحدهما ، بل وقع ذلك في الشريعة المقدّسة كما في باب الوصية ، فانّه إذا أوصى الميت بملكية أحد المالين لشخصٍ بعد موته فلا محالة يكون ملكاً له بعد موته ، وتكون وصيته بذلك نافذة ، وكذا لا مانع من اعتبار الشارع أحد الفعلين أو الأفعال في ذمّة المكلف.

وعلى الجملة : فلا شبهة في صحّة تعلق الأمر بالعنوان الانتزاعي وهو عنوان أحدهما ، ومجرد أنّه لا واقع موضوعي له لا يمنع عن تعلقه به ، ضرورة أنّ الأمر لا يتعلق بواقع الشيء ، بل بالطبيعي الجامع ، ومن الواضح جداً أنّه لا يفرق فيه بين أن يكون متأصلاً أو غير متأصل أصلاً.

وتخيّل أنّ الجامع الانتزاعي لا يصلح أن يكون متعلقاً للتكليف ، ضرورة أنّ التكليف تابع لما فيه المصلحة أو المفسدة ، ومن الواضح جداً أنّه لا مصلحة

٢٢٣

في ذلك المفهوم الانتزاعي ، والمصلحة إنّما هي في فعل المكلف الصادر منه في الخارج ، فإذن لا محالة يكون التكليف متعلقاً به لا بالعنوان المزبور ، وعليه فلا بدّ من الالتزام بأحد الوجوه المزبورة خاطئ جداً وغير مطابق للواقع ، وذلك لعدم الطريق لنا إلى معرفة سنخ الغرض الداعي إلى إيجاب شيء أو تحريمه ، ولا نعلم ما هو سنخه.

نعم ، نعلم من أمر الشارع بشيء أو نهيه عن آخر أنّ في الأوّل مصلحة تقتضي إيجابه ، وفي الثاني مفسدة تقتضي تحريمه ، ولكن لا نعلم سنخ تلك المصلحة وسنخ تلك المفسدة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه يجب علينا التحفظ على ظواهر الأدلة ، وتعيين الحكم ومتعلقه بها. ومن ناحية ثالثة :أ نّا نعلم أنّ الاتيان بمتعلق الوجوب في الخارج محصّل للمصلحة الداعية إلى إيجابه ، ولا يبقى مجال لها بعده.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي أنّه لا بدّ من الالتزام بأنّ متعلق الوجوب في موارد الواجبات التخييرية هو العنوان الانتزاعي من جهة ظهور الأدلة في ذلك ، ضرورة أنّ الظاهر من العطف بكلمة « أو » هو وجوب أحد الفعلين أو الأفعال ، وعلى هدى ذلك نعلم أنّ الغرض الداعي إلى إيجابه قائم به ، لفرض أنّه لا طريق لنا إلى إحرازه ما عداه ، كما أنّا نعلم بحصول هذا الغرض وتحققه في الخارج باتيانه في ضمن أيّ من هذين الفعلين أو الأفعال شاء المكلف إتيانه فيه.

وبكلمة اخرى : أنّ المستفاد من الأدلة بحسب المتفاهم العرفي هو أنّ متعلق الوجوب الجامع الانتزاعي ، ومن الواضح أنّ مردّ ذلك بحسب التحليل العلمي إلى عدم دخل شيء من خصوصية الطرفين أو الأطراف فيه ، ولتوضيح ذلك نأخذ مثالاً : وهو ما إذا أوجب المولى إطعام ستّين مسكيناً أو صوم شهرين

٢٢٤

متتابعين أو عتق رقبة مؤمنة كما في كفارة صوم شهر رمضان ، فلا محالة يكون مردّ هذا إلى عدم دخل شيء من خصوصياتها في غرض المولى الداعي إلى الأمر بأحدها ، لفرض أنّه يحصل باتيان كل منها في الخارج ، هذا من جانب. ومن جانب آخر : المفروض أنّ الغرض لم يقم بكل واحد منها ، وإلاّ لكان كل منها واجباً تعيينياً. ومن جانب ثالث : أنّ وجوب أحدها المعيّن في الواقع لا يمكن بعد ما كان الجميع في الوفاء بغرض المولى على نسبة واحدة.

ونتيجة ذلك لا محالة هي وجوب الجامع بين هذه الامور ، وأنّ الغرض الداعي له يحصل باتيانه في ضمن إيجاد أيّ فرد منها شاء المكلف إيجاده ، لوضوح أنّ مردّ وجوب الجامع بالتحليل إلى عدم دخل شيء من خصوصيات هذه الامور ، وأنّ الغرض المزبور يترتب على فعل كلٍ منها في الخارج من دون خصوصية لهذا وذاك أصلاً ، وهذا أمر معقول في نفسه ، بل واقع في العرف والشرع ، فانّ غرض المولى إذا تعلق بأحد الفعلين أو الأفعال فلا محالة يأمر بالجامع بينهما وهو أحدهما لا بعينه ، مع عدم ملاحظة خصوصية شيء منها.

ومن هنا يظهر أنّ مرادنا من تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي ليس تعلقه به بما هو موجود في النفس ولا يتعدى عن افقها إلى افق الخارج ، ضرورة أنّه غير قابل لأن يتعلق به الأمر أصلاً وأن يقوم به الغرض ، بل مرادنا من تعلق الأمر به بما هو منطبق على كل واحد من الفعلين أو الأفعال في الخارج ، ويكون تطبيقه على ما في الخارج بيد المكلف ، فله أن يطبّق على هذا ، وله أن يطبّق على ذاك. ولعل منشأ تخيل أنّه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي هو تعلقه به على النحو الأوّل دون الثاني.

وقد تحصّل من ذلك أنّه لا مانع من أن يكون المأمور به هو العنوان الانتزاعي على النحو المزبور ، لا من ناحية الأمر ولا من ناحية الغرض كما عرفت.

٢٢٥

أضف إلى ما ذكرناه : أنّه يمكن تعلق الصفة الحقيقية بأحد أمرين أو امور ، فما ظنّك بالأمر الاعتباري ، وذلك كما إذا علمنا إجمالاً بعدالة أحد شخصين مع احتمال أن يكون الآخر أيضاً عادلاً ولكن كان في الواقع كلاهما عادلاً ، ففي مثل ذلك لا تعيّن للمعلوم بالاجمال حتّى في علم الله ، ضرورة أنّه لا واقع له غير هذا المفهوم المنتزع ، فلا يمكن أن يقال إنّ المعلوم بالاجمال عدالة هذا دون عدالة ذاك أو بالعكس ، لفرض أنّ نسبة المعلوم بالاجمال إلى كل واحد منهما على حد سواء.

وبكلمة واضحة : أنّا قد ذكرنا في محلّه أنّه لا واقع ولا تعيّن للمعلوم بالاجمال مطلقاً ، أمّا في مثل المثال المزبور فواضح. وأمّا فيما إذا فرض أنّ أحدهما عادل في الواقع وعلم الله دون الآخر ، ففي مثل ذلك أيضاً لا تعيّن له ، ضرورة أنّ العلم الاجمالي لم يتعلق بعدالة خصوص هذا العادل في الواقع ، وإلاّ لكان علماً تفصيلياً وهذا خلف ، بل تعلق بعدالة أحدهما ، ومن الواضح جداً أنّه ليس لعنوان أحدهما واقع موضوعي وتعيّن في عالم الخارج ، بل هو مفهوم انتزاعي في عالم النفس ، ولا يتعدى عن افق النفس إلى ما في الخارج ، وله تعيّن في ذلك العالم لا في عالم الواقع والخارج ، ومن المعلوم أنّ متعلق العلم هو ذلك المفهوم الانتزاعي لا ما ينطبق عليه هذا المفهوم ، لفرض أنّه متعيّن في الواقع وعلم الله ، والعلم لم يتعلق به وإلاّ لكان علماً تفصيلياً لا إجمالياً.

فالنتيجة قد أصبحت من ذلك : أنّه لا مانع من تعلق الصفات الحقيقية كالعلم والارادة وما شاكلهما بالجامع الانتزاعي الذي ليس له واقع ما عدا نفسه ، فضلاً عن الأمر الاعتباري.

ومن هنا يتبين أنّه لا فرق بين الواجب التعييني والواجب التخييري إلاّ في

٢٢٦

نقطة واحدة ، وهي أنّ متعلق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصلة كالصلاة والصوم والحج وما شاكلها ، وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة كعنوان أحدهما ، وأمّا من نقاط اخرى فلا فرق بينهما أصلاً ، فكما أنّ التطبيق في الواجبات التعيينية بيد المكلف ، فكذلك التطبيق في الواجبات التخييرية ، وكما أنّ متعلق الأمر في الواجبات التعيينية ليس هو الأفراد كذلك متعلق الأمر في الواجبات التخييرية.

[ التخيير بين الأقل والأكثر ]

بقى هنا شيء : وهو أنّه هل يمكن التخيير بين الأقل والأكثر أم لا؟ وجهان ، فذهب بعضهم إلى عدم إمكانه ، بدعوى أنّه مع تحقق الأقل في الخارج وحصوله يحصل الغرض ، فإذن يكون الأمر بالأكثر لغواً فلا يصدر من الحكيم.

وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وإليك نص كلامه :لكنّه ليس كذلك ، فانّه إذا فرض أنّ المحصّل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقل الذي في ضمنه ، بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله ، وإن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافياً به أيضاً ، فلا محيص عن التخيير بينهما ، إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص ، فانّ الأكثر بحدّه يكون مثله على الفرض ، مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتباً على الطويل إذا رسم بما له من الحد لا على القصير في ضمنه ، ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه ، ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الامكان.

٢٢٧

إن قلت : هبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد لم يكن للأقل في ضمنه وجود على حدة ، كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في البين ، لكنّه ممنوع فيما إذا كان له في ضمنه وجود كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه ، فانّ الأقل قد وجد بحدّه وبه يحصل الغرض على الفرض ، ومعه لا محالة يكون الزائد عليه مما لا دخل له في حصوله ، فيكون زائداً على الواجب لا من أجزائه.

قلت : لا يكاد يختلف الحال بذاك ، فانّه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الأقل في ضمن الأكثر ، وإنّما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام ، ومعه كان مترتباً على الأكثر بالتمام. وبالجملة إذا كان كل واحد من الأقل والأكثر بحدّه مما يترتب عليه الغرض ، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما وكان التخيير بينهما عقلياً إن كان هناك غرض واحد ، وتخييراً شرعياً فيما كان هناك غرضان على ما عرفت. نعم ، لو كان الغرض مترتباً على الأقل من دون دخل للزائد ، لما كان الأكثر مثل الأقل وعدلاً له ، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره ، مستحباً كان أو غيره حسب اختلاف الموارد فتدبر جيداً (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدّة نقاط :

الاولى : أنّه لا مانع من الالتزام بالتخيير بين الأقل والأكثر فيما إذا كان كل منهما بحدّه محصلاً للغرض ، وعليه فلا يكون الأقل في ضمن الأكثر محصّلاً له ، ومعه لا مانع من الالتزام بالتخيير بينهما. وبكلمة اخرى : أنّ الغرض إذا كان مترتباً على حصة خاصة من الأقل ، وهي الحصة التي لا تكون في ضمن الأكثر ( بشرط لا ) لا على الأقل مطلقاً ، فلا مناص عندئذ من الالتزام بالتخيير بينهما

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٢

٢٢٨

أصلاً ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون للأقل وجود مستقل في ضمن الأكثر كتسبيحة واحدة في ضمن تسبيحات ثلاث ، وأن لا يكون له وجود كذلك كالخط القصير في ضمن الخط الطويل ، والوجه فيه ما عرفت من أنّ الغرض إنّما يترتب على حصة خاصة من الأقل ، وعليه فكما أنّه لا أثر لوجود الخط القصير في ضمن الخط الطويل ولا يكون محصّلاً للغرض ، فكذلك لا أثر لوجود تسبيحة واحدة في ضمن تسبيحات ثلاث ، لفرض أنّ الغرض إنّما يترتب عليها فيما إذا لم تكن في ضمنها لا مطلقاً ، وعلى هذا فلا مناص من الالتزام بالتخيير بينهما.

الثانية : أنّ الغرض إذا كان واحداً فيكون الواجب هو الجامع بينهما ، لفرض أنّ المؤثر في الواحد لا يكون إلاّ الواحد بالسنخ ، وحيث إنّ الغرض واحد على الفرض ، فالمؤثر فيه لا بدّ أن يكون واحداً ، لاستحالة تأثير الكثير في الواحد ، وذلك الواحد هو الجامع بينهما ، فإذن لا محالة يكون الواجب هو ذلك الجامع لا غيره ، وعليه فيكون التخيير بينهما عقلياً لا شرعياً ، وأمّا إذا كان متعدداً فالتخيير بينهما شرعي كما تقدّم.

الثالثة : أنّ الغرض إذا كان مترتباً على خصوص الأقل من دون دخل للزائد فيه أصلاً ، فلا يكون الأكثر عدلاً له ، بل كان فيه اجتماع الوجوب وغيره ، سواء أكان ذلك الغير استحباباً أو غيره.

ولنأخذ بدرس هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي وإن كانت في غاية الصحة والمتانة في نفسها ، إلاّ أنّها خاطئة بالاضافة إلى مفروض الكلام وهو التخيير بين الأقل والأكثر ، وذلك لأنّ ما فرضه صاحب الكفاية قدس‌سره وإن كان تخييراً بينهما صورةً ، إلاّ أنّ من الواضح جداً أنّه بحسب الواقع والحقيقة تخيير بين المتباينين ،

٢٢٩

وذلك لفرض أنّ الماهية بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء ، فإذا فرض أنّ الأقل مأخوذ بشرط لا كما هو مفروض كلامه ، لا محالة يكون مبايناً للأكثر المأخوذ بشرط شيء ، ضرورة أنّ الماهية بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء ، فلا يكون التخيير بينهما من التخيير بين الأقل والأكثر بحسب الواقع والدقّة العقلية ، بل هو من التخيير بين المتباينين ، وعليه فما فرضه قدس‌سره من التخيير بينهما خارج عن محل الكلام ولا إشكال في إمكانه بل وقوعه خارجاً في العرف والشرع ، ومحل الكلام إنّما هو فيما إذا كان الغرض مترتباً على وجود الأقل مطلقاً ، أي ولو كان في ضمن الأكثر ، بأن يكون مأخوذاً لا بشرط ، ومن الواضح جداً أنّ التخيير بينهما في هذا الفرض غير معقول ، ضرورة أنّه كلّما تحقق الأقل يحصل به الغرض ، ومعه يكون الأمر بالزائد لغواً محضاً.

فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه : أنّ الأقل إن كان مأخوذاً بشرط لا ، فالتخيير بينه وبين الأكثر وإن كان أمراً معقولاً إلاّ أنّه بحسب الواقع داخل في كبرى التخيير بين المتباينين لا الأقل والأكثر كما عرفت ، وإن كان مأخوذاً لا بشرط فلا يعقل التخيير بينه وبين الأكثر ، ضرورة أنّه بمجرد تحقق الأقل ولو في ضمن الأكثر يحصل الغرض ، ومعه لا يبقى مجال للاتيان بالأكثر أصلاً ، فإذن جعله في أحد طرفي التخيير يصبح لغواً محضاً فلا يصدر من الحكيم. وعلى ضوء هذا البيان إن أراد القائل باستحالة التخيير بينهما التخيير على النحو الأوّل الذي هو تخيير شكلي بينهما لا واقعي موضوعي ، فيردّه ما ذكرناه من أنّه لا شبهة في إمكانه بل وقوعه خارجاً ، لما عرفت من أنّه ليس تخييراً بين الأقل والأكثر ، بل هو تخيير في الحقيقة بين المتباينين. وإن أراد باستحالة التخيير بينهما التخيير على النحو الثاني فالأمر كما ذكره.

ومن هنا يظهر أنّ التخيير بين القصر والتمام في الأمكنة الأربعة ليس تخييراً

٢٣٠

بين الأقل والأكثر واقعاً وحقيقةً ، وإن كان كذلك بحسب الشكل ، وذلك لأنّ صلاة القصر مشروطة شرعاً بالتسليمة في الركعة الثانية وعدم زيادة ركعة اخرى عليها ، وصلاة التمام مشروطة شرعاً بالتسليمة في الركعة الرابعة وعدم الاقتصار بها ، فهما من هذه الناحية ـ أي من ناحية اعتبار الشارع ـ ماهيتان متباينتان ، فالتخيير بينهما لا محالة يكون من التخيير بين أمرين متباينين لا الأقل والأكثر ، ضرورة أنّ الأثر لا يترتب على الركعتين مطلقاً ولو كانتا في ضمن أربع ركعات ، وإنّما يترتب عليهما بشرط لا وهذا واضح. وأمّا التسبيحات الأربع فالمستفاد من الروايات هو وجوب إحداها لا جميعها ، فإذن لا يعقل التخيير بين الواحدة والثلاث ، ضرورة أنّ الغرض مترتب على واحدة منها ، فإذا تحققت تحقق الغرض ، ومعه لا يبقى مجال للاتيان بالبقية أصلاً. نعم ، الاتيان بها مستحب ، فإذا أتى المكلف بثلاث فقد أتى بواجب ومستحب. وعلى الجملة فحال التسبيحتين الأخيرتين حال القنوت وبقية الأذكار المستحبة في الصلاة.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه : أنّ التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول ، وما نراه من التخيير بينهما في العرف والشرع تخيير شكلي لا واقعي موضوعي ، فانّ بحسب الواقع ليس التخيير بينهما ، بل بين أمرين متباينين كما مرّ.

وأمّا النقطة الثانية : فقد تقدّم الكلام فيها وفي النقد عليها بشكل واضح (١) فلا نعيد.

وأمّا النقطة الثالثة : فالأمر وإن كان كما أفاده قدس‌سره إلاّ أنّ مردّها

__________________

(١) في ص ٢١٦

٢٣١

إلى عدم تعقل التخيير بين الأقل والأكثر على ما ذكرناه ، كما هو واضح.

ونتيجة هذا البحث في عدّة خطوط :

الأوّل : أنّ القول في المسألة بأنّ الواجب هو ما يختاره المكلف في مقام الامتثال دون غيره ، باطل جداً وغير مطابق للواقع قطعاً ، وقد دلّت على بطلانه وجوه أربعة : ١ ـ أنّه مخالف لظاهر الدليل. ٢ ـ أنّه منافٍ لقاعدة الاشتراك في التكليف. ٣ ـ أنّه يستلزم عدم الوجوب في الواقع عند عدم اختيار المكلف أحدهما في مقام الامتثال. ٤ ـ أنّه إذا لم يكن شيء واجباً حال عدم الامتثال لم يكن واجباً حال الامتثال أيضاً.

الثاني : أنّ شيخنا المحقق قدس‌سره (١) قد وجّه القول بأنّ كلاً منهما واجب تعييناً ، غاية الأمر أنّ وجوب كل منهما يسقط باتيان الآخر بتوجيهين :١ ـ أن يفرض قيام مصلحة لزومية بكل منهما ، ولأجل ذلك أوجب الشارع الجميع ، ولكن مصلحة التسهيل تقتضي جواز ترك كل منهما إلى بدل. ٢ ـ أن يفرض أنّ المصلحة المترتبة على كل منهما وإن كانت واحدة بالنوع ، إلاّ أنّ الالزامي من تلك المصلحة وجود واحد ، وبما أنّ نسبته إلى الجميع على حد سواء ، فلذا أوجب الجميع ، وقد ناقشنا في كلا هذين التوجيهين بشكل واضح وقدّمنا ما يدل على عدم صحّتهما كما سبق.

الثالث : أنّ ما اختاره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الغرض إن كان واحداً فالواجب هو الجامع بين الفعلين أو الأفعال ، ويكون التخيير بينهما عقلياً ، وإن كان متعدداً فالواجب هو كل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر ، لا يمكن المساعدة عليه ، فانّ الفرض الأوّل يرتكز على أن يكون المقام

__________________

(١) تقدّم ذكر المصدر في ص ٢٠٩

٢٣٢

من صغرى قاعدة عدم صدور الواحد عن الكثير ، وقد مرّت المناقشة فيه من وجوه :

١ ـ اختصاص تلك القاعدة بالواحد الشخصي وعدم جريانها في الواحد النوعي ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الغرض في المقام واحد نوعي لا شخصي ، فالنتيجة على ضوئهما هي عدم جريان القاعدة في المقام. ٢ ـ أنّ الدليل أخص من المدّعى لعدم تعقل الجامع الذاتي في جميع موارد الواجبات التخييرية كما سبق. ٣ ـ أنّ مثل هذا الجامع لا يصلح أن يتعلق به التكليف ، لأنّ متعلقه لا بدّ أن يكون جامعاً عرفياً.

وأمّا الفرض الثاني فهو يرتكز على أن يكون الغرضان المفروضان متضادين. وقد عرفت المناقشة فيه أيضاً من وجوه : ١ ـ أنّه خلاف ظاهر الدليل. ٢ ـ أنّ كون الغرضين متضادين مع عدم التضاد بين الفعلين ملحق بأنياب الأغوال.٣ ـ أنّه يستلزم استحقاق المكلف عقابين عند ترك الفعلين معاً ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به ، كما سبق.

الرابع : أنّ الواجب في موارد الواجبات التخييرية هو أحد الفعلين أو الأفعال ، والوجه فيه هو أنّ الأدلة بمقتضى العطف بكلمة « أو » ظاهرة في ذلك ولا بدّ من التحفظ على هذا الظهور.

الخامس : أنّه لا مانع من تعلق الأمر بعنوان أحدهما ، بل قد تقدّم أنّه لا مانع من تعلق الصفات الحقيقية به كالعلم والارادة وما شاكلهما فضلاً عن الأمر الاعتباري.

السادس : أنّ الغرض قائم بهذا العنوان الانتزاعي ، ولا مانع منه أصلاً ، وذلك لفرض أنّه لا طريق لنا إلى إحرازه في شيء ما عدا تعلق الأمر به ، كما أنّه لا طريق لنا إلى معرفة سنخه.

٢٣٣

السابع : أنّه لا فرق بين الواجب التخييري والواجب التعييني إلاّفي نقطة واحدة ، وهي أنّ متعلق الوجوب في الأوّل الجامع الانتزاعي ، وفي الثاني الجامع الذاتي ، وأمّا من نقاط اخر فلا فرق بينهما أصلاً.

الثامن : أنّ التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول ، وما نراه من التخيير بين القصر والتمام وما شاكلهما تخيير شكلي وصوري لا واقعي وحقيقي ، فانّه بحسب الواقع تخيير بين المتباينين ، لفرض أنّ القصر في اعتبار الشارع مباين للتمام ، فلا يكون التخيير بينهما من التخيير بين الأقل والأكثر ، بل هو من التخيير بين المتباينين ... وهكذا.

التاسع : أنّه لا فرق في جواز التخيير بين الأقل والأكثر وامتناعه ، بين أن يكون للأقل وجود مستقل في ضمن الأكثر أم لا.

٢٣٤

الواجب الكفائي

لا يخفى أنّ الأمر الوارد من قبل الشرع كما أنّه بحاجة إلى المتعلق ، كذلك هو بحاجة إلى الموضوع ، فكما أنّه لا يمكن تحققه ووجوده بدون الأوّل ، فكذلك لا يمكن بدون الثاني ، ولا فرق في ذلك بين وجهة نظر ووجهة نظر آخر ، فانّ حقيقة الأمر سواء أكانت عبارة عن الارادة التشريعية ، أم كانت عبارة عن الطلب الانشائي كما هو المشهور ، أم كانت عبارة عن البعث والتحريك كما عن جماعة ، أم كانت عبارة عن الأمر الاعتباري النفساني المبرز في الخارج بمبرز ما من صيغة الأمر أو نحوها كما هو المختار عندنا ، على جميع هذه التقادير بحاجة إلى الموضوع كحاجته إلى المتعلق.

أمّا على الأوّل فواضح ، وذلك لأنّ الارادة لا توجد في افق النفس بدون المتعلق ، لأنّها من الصفات الحقيقية ذات الاضافة ، فلا يعقل أن توجد بدونه ، فالمتعلق إذا كان فعل نفسه فهي توجب تحريك عضلاته نحوه ، وإن كان فعل غيره فلا محالة يكون المراد منه ذلك الغير ، بمعنى أنّ المولى أراد صدور هذا الفعل منه في الخارج.

وأمّا على الثاني فأيضاً كذلك ، ضرورة أنّ الطلب كما لا يمكن وجوده بدون المطلوب ، كذلك لايمكن وجوده بدون المطلوب منه ، لأنّه في الحقيقة نسبة بينهما ، وهذا واضح.

وأمّا على الثالث ، فلأنّ البعث نحو شيء لا يمكن أن يوجد بدون بعث أحد

٢٣٥

نحوه ، والتحريك نحو فعل لايمكن أن يتحقق بدون متحرك ، ضرورة أنّ التحريك لا بدّ فيه من محرّك ومتحرك وما إليه الحركة ، من دون فرق في ذلك بين أن تكون الحركة حركة خارجية وأن تكون اعتبارية ، كما هو واضح.

وأمّا على الرابع فأيضاً الأمر كذلك ، لما عرفت من أنّ معنى الأمر هو اعتبار الفعل على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز. ومن المعلوم أنّه كما لا يمكن أن يتحقق في الخارج بدون متعلق ، كذلك لا يمكن أن يتحقق بدون فرض وجود المكلف فيه كما هو واضح ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الواجبات الكفائية تمتاز عن الواجبات العينية في نقطة ، وهي أنّ المطلوب في الواجبات العينية يتعدد بتعدد أفراد المكلف وينحل بانحلاله ، فيكون لكل مكلف تكليف مستقل فلا يسقط عنه بامتثال الآخر ... وهكذا ، من دون فرق بين أن يكون الفعل في الواقع ومقام الثبوت ملحوظاً على نحو الاطلاق والسريان أو ملحوظاً على نحو الاطلاق والعموم البدلي الذي يعبّر عنه بصرف الوجود ، أو ملحوظاً على نحو الاطلاق والعموم المجموعي ، ضرورة أنّ التكليف في جميع هذه الصور ينحل بانحلال أفراد المكلف ويتعدد بتعددها ، فلا فرق بينها من هذه الناحية أبداً ، فالجميع من هذه الجهة على صعيد واحد. نعم ، فرق بينها من ناحية اخرى ، وهي أنّ التكليف ينحل بانحلال متعلقه أيضاً مع الأوّل دون الثاني والثالث. وسيجيء تفصيل ذلك بشكل واضح في مبحث النواهي إن شاء الله تعالى (١) فلاحظ. وهذا بخلاف الواجبات الكفائية فانّ المطلوب فيها واحد ولا يتعدد بتعدد أفراد المكلف في الخارج ، ولأجل ذلك وقع الكلام في تصوير ذلك وأ نّه كيف يعقل أن يكون الفعل الواحد مطلوباً بطلب واحد من الجميع.

وما قيل أو يمكن أن يقال في تصويره وجوه :

__________________

(١) في ص ٢٩٣

٢٣٦

الأوّل : أن يقال إنّ التكليف متوجه إلى واحد معيّن عند الله ، ولكنّه يسقط عنه بفعل غيره لفرض أنّ الغرض واحد فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.

ويردّه أوّلاً : أنّ هذا خلاف ظواهر الأدلة ، فانّ الظاهر منها هو أنّ التكليف متوجه إلى طبيعي المكلف لا إلى فرد واحد منه المعيّن في علم الله ، كما هو واضح.

وثانياً : لو كان الأمر كذلك فلا معنى لسقوط الواجب عنه بفعل غيره ، فانّه على خلاف القاعدة فيحتاج إلى دليل ، وإذا لم يكن دليل فمقتضى القاعدة عدم السقوط. ودعوى أنّ الدليل في المقام موجود ، لفرض أنّ التكليف يسقط باتيان بعض أفراد المكلف وإن كانت صحيحة من هذه الناحية ، إلاّ أنّه من المعلوم أنّ ذلك من ناحية أنّ التكليف متوجه إليه ويعمّه ، ولذا يستحقّ الثواب عليه ، لا من ناحية أنّه يوجب سقوط التكليف عن غيره كما هو ظاهر.

وثالثاً : أنّ مثل هذا التكليف غير معقول ، وذلك لأنّ المفروض أنّ توجه هذا التكليف إلى كل واحد من أفراد المكلف غير معلوم ، فيكون كل منهم شاكّاً في ذلك ، ومعه لا مانع من الرجوع إلى البراءة عنه عقلاً وشرعاً ، لفرض أنّ الشك في أصل ثبوت التكليف ، وهذا هو القدر المتيقن من موارد جريان البراءة. وعلى هذا فلا يمكن أن يصل هذا التكليف إلى المكلف أصلاً ، لما ذكرناه من أنّ وصول التكليف يتوقف على وصول الكبرى والصغرى له معاً ، والمفروض في المقام أنّ الصغرى غير واصلة ، ضرورة أنّ من كان مكلفاً بهذا التكليف في الواقع غير معلوم وأ نّه من هو.

ومن الطبيعي أنّ جعل تكليف غير قابل للوصول إلى المكلف أصلاً لغو محض فلا يترتب عليه أيّ أثر ، ومن المعلوم أنّ صدور اللغو من الحكيم مستحيل ، فإذن يستحيل أن يكون موضوعه هو الواحد المعيّن عند الله ، كما أنّه لا يمكن

٢٣٧

أن يكون موضوعه هو الواحد المعيّن مطلقاً حتّى عند المكلفين ، وذلك لأنّه مضافاً إلى كونه مفروض العدم هنا ، يلزم التخصيص بلا مخصص والترجيح من غير مرجح ، فانّ نسبة ذلك الغرض الواحد إلى جميع المكلفين على صعيد واحد ، وعليه فتخصيص الواحد المعيّن منهم بتحصيله لا محالة يكون بلا مخصص.

الثاني : أن يقال التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى مجموع آحاد المكلفين من حيث المجموع ، بدعوى أنّه كما يمكن تعلق تكليف واحد شخصي بالمركب من الامور الوجودية والعدمية على نحو العموم المجموعي إذا كان الغرض المترتب عليه واحداً شخصياً ، كذلك يمكن تعلقه بمجموع الأشخاص على نحو العموم المجموعي.

ويرد على ذلك أوّلاً : أنّ لازم هذا هو عدم حصول الغرض وعدم سقوط التكليف بفعل البعض ، لفرض أنّ الفعل مطلوب من مجموع المكلف على نحو العموم المجموعي ، والغرض مترتب على صدوره من مجموعهم على نحو الاشتراك ، وعليه فمن الطبيعي أنّه لا يسقط بفعل البعض ولا يحصل الغرض به ، وهذا ضروري الفساد ولم يتوهّم أحد ولا يتوهّم ذلك.

وثانياً : أنّ هذا لو تمّ فانّما يتمّ فيما إذا كان التكليف متوجهاً إلى صرف وجود مجموع أفراد المكلف الصادق على القليل والكثير ، دون مجموع أفراده المتمكنين من الاتيان به ، ضرورة أنّ بعض الواجبات الكفائية غير قابل لأن يصدر من المجموع ، فإذن كيف يمكن توجيه التكليف به إلى المجموع ، وعلى كل فهذا الوجه واضح الفساد.

الثالث : أن يقال إنّ التكليف به متوجه إلى عموم المكلفين على نحو العموم الاستغراقي ، فيكون واجباً على كل واحد منهم على نحو السريان ، غاية الأمر أنّ وجوبه على كلٍ مشروط بترك الآخر.

٢٣٨

ويردّه : مضافاً إلى أنّه بعيد في نفسه ـ فانّ الالتزام بوجوبه أوّلاً واشتراطه بالترك ثانياً تبعيد للمسافة فلا يمكن استفادته من الأدلة ـ أنّ الشرط لو كان هو الترك في الجملة فلازمه هو أنّ المكلف لو ترك في برهة من الزمان ولو بمقدار دقيقة واحدة فقد حصل الشرط وتحقق ، ومن المعلوم أنّه إذا تحقق يجب على جميع المكلفين عيناً ، وهذا خلف. ولو كان الشرط هو الترك المطلق فلازمه هو أنّه لو أتى به جميع المكلفين لم يحصل الشرط ـ وهو الترك المطلق ـ وإذا لم يحصل فلا وجوب لانتفائه بانتفاء شرطه على الفرض ، فإذن لا معنى للامتثال وحصول الغرض ، ضرورة أنّه على هذا الفرض لا وجوب في البين ليكون الاتيان بمتعلقه امتثالاً وموجباً لحصول الغرض في الخارج ، على أنّه لا مقتضي لذلك ، والوجه فيه : هو أنّ الغرض بما أنّه واحد وقائم بصرف وجود الواجب في الخارج ، فلا بدّ أن يكون الخطاب أيضاً كذلك ، وإلاّ لكان بلا داعٍ وغرض. وهو محال.

نعم ، لو كانت هناك أغراض متعددة بعدد أفعال المكلفين ولم يمكن الجمع بينها واستيفاؤها معاً لتضادها ، فعندئذ لا محالة يكون التكليف بكل منها مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر على نحو الترتب ، وقد ذكرنا في بحث الضدّ (١) أنّ الترتب كما يمكن بين الحكمين في مقام الفعلية والامتثال ، كذلك يمكن بين الحكمين في مقام الجعل والتشريع ، فلا مانع من أن يكون جعل الحكم لأحد الأمرين مترتباً على عدم الاتيان بالآخر.

وغير خفي أنّ هذا مجرد فرض لا واقع له أصلاً.

أمّا أوّلاً : فلأنّ هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، فانّ المفروض في محل

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٤٦٩

٢٣٩

الكلام هو ما إذا كان الغرض واحداً بالذات ، وفرض تعدد الغرض بتعدد أفعال المكلفين فرض خارج عن مفروض الكلام.

وأمّا ثانياً : فلأنّ فرض التضاد بين الملاكات مع عدم التضاد بين الأفعال يكاد يلحق بأنياب الأغوال ، بداهة أنّه لا واقع لهذا الفرض أصلاً. على أنّه لو كان له واقع فلا طريق لنا إلى إحراز تضادها وعدم إمكان الجمع بينها مع عدم التضاد بين الأفعال.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ فرض تعدد الغرض إنّما يمكن فيما إذا كان الواجب متعدداً خارجاً ، وأمّا إذا كان الواجب واحداً كما هو المفروض في المقام كدفن الميت وكفنه وغسله وصلاته ونحو ذلك ، فلا معنى لأن تترتب عليه أغراض متعددة ، فلا محالة يكون المترتب عليه غرضاً واحداً ، بداهة أنّه لا يعقل أن يكون المترتب على واجب واحد غرضين أو أغراض كما هو واضح ، فالنتيجة أنّ هذا الوجه أيضاً فاسد.

الرابع : أن يكون التكليف متوجهاً إلى أحد المكلفين لا بعينه المعبّر عنه بصرف الوجود ، وهذا الوجه هو الصحيح ، بيان ذلك : هو أنّ غرض المولى كما يتعلق تارةً بصرف وجود الطبيعة ، واخرى بمطلق وجودها ، كذلك يتعلق تارةً بصدوره عن جميع المكلفين واخرى بصدوره عن صرف وجودهم ، فعلى الأوّل الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر ... وهكذا ، وعلى الثاني فالواجب كفائي ، بمعنى أنّه واجب على أحد المكلفين لا بعينه المنطبق على كل واحد واحد منهم ، ويسقط بفعل بعض عن الباقي ، وهذا واقع في العرف والشرع ، ولا مانع منه أصلاً.

أمّا في العرف ، فلأ نّه لا مانع من أن يأمر المولى أحد عبيده أو خدّامه بايجاد فعلٍ ما في الخارج من دون أن يتعلق غرضه بصدور هذا الفعل من خصوص

٢٤٠