محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

فإذن لا نزاع في الكبرى ، والنزاع في المسألة إنّما هو في الصغرى.

وبيان ذلك : هو أنّ الأمر إذا تعلق بطبيعةٍ كالصلاة مثلاً ، والنهي تعلق بطبيعةٍ اخرى كالغصب مثلاً وقد اتّفق في الخارج انطباق الطبيعتين على شيء واحد ـ وهو الصلاة في الأرض المغصوبة ـ فعندئذ يقع الكلام في أنّ النهي المتعلق بطبيعة الغصب ، هل يسري منها إلى ما تنطبق عليه طبيعة الصلاة المأمور بها في الخارج أم لا؟ ومن الواضح جداً أنّ سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر ترتكز على نقطة واحدة ، وهي اتحاد المجمع وكونه موجوداً بوجود واحد ، كما أنّ عدم السراية ترتكز على تعدد المجمع وكونه موجوداً بوجودين.

فالنتيجة : هي أنّ مركز النزاع في هذه المسألة ونقطة الخلاف فيها بين الأعلام والمحققين إنّما هي في أنّ المجمع لمتعلقي الأمر والنهي كالصلاة في الأرض المغصوبة مثلاً في مورد التصادق والاجتماع ، هل هو موجود واحد حقيقةً وبالذات وأنّ التركيب بينهما اتحادي ، أو هو متعدد كذلك وأنّ التركيب بينهما انضمامي؟ فمردّ القول بالامتناع في المسألة إلى القول باتحاد المجمع لهما في مورد التصادق والاجتماع ، إذ على هذا لا محالة يسرى النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به في الخارج ، فإذن يلزم انطباق المأمور به على المنهي عنه فعلاً ، وهذا محال. ومردّ القول بالجواز فيها إلى القول بعدم اتحاد المجمع ، وعليه فلا يسري النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.

وقد تحصّل من ذلك بوضوح أنّ النزاع في مسألتنا هذه صغروي ، ولا يعقل أن يكون كبروياً.

الثانية : قد ظهر مما ذكرناه نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة الآتية ، وهي مسألة النهي في العبادات ، وهي أنّ النزاع في تلك المسألة كبروي ، فإنّ

٣٦١

المبحوث عنه فيها إنّما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة ، بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى ، وهي تعلق النهي بالعبادة ، وأمّا النزاع في مسألتنا هذه فقد عرفت أنّه صغروي ، لفرض أنّ المبحوث عنه فيها هو سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر ، وعدم سرايته.

وعلى ضوء هذا فالبحث في هذه المسألة بحث عن إثبات الصغرى للمسألة الآتية ، فانّها على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به ، تكون من إحدى صغرياتها ومصاديقها دون القول الآخر.

فالنتيجة : أنّ النقطة الرئيسية لامتياز إحدى المسألتين عن الاخرى هي أنّ جهة البحث في إحداهما صغروية وفي الاخرى كبروية.

ومن هنا يظهر فساد ما أفاده المحقق صاحب الفصول قدس‌سره (١) من الفرق بين المسألتين ، وحاصل ما أفاده : هو أنّ هذه المسألة تمتاز عن المسألة الآتية في أنّ النزاع في هذه المسألة فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة والذات ، وإن كانت النسبة بينهما العموم المطلق كما إذا أمر المولى عبده بالحركة ونهاه عن القرب في مكان مخصوص ، فانّ عنوان الحركة وعنوان القرب عنوانان متغايران بالذات ، مع أنّ النسبة بينهما بحسب الخارج عموم مطلق ، ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بتغاير ما تعلق به الأمر وما تعلق به النهي ، لا بكون النسبة بينهما عموماً من وجه ، وإن كان الغالب أنّ النسبة بين الطبيعتين المتغايرتين كذلك عموم من وجه ، وقلّما يتّفق أن تكون النسبة بينهما عموماً مطلقاً. والنزاع في تلك المسألة فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي متحدان بحسب الذات والحقيقة ، ومختلفان بمجرد الاطلاق والتقييد ، بأن تعلق الأمر بالطبيعة

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٢٤

٣٦٢

المطلقة كالصلاة مثلاً ، والنهي تعلق بحصة خاصة منها ، وهي الصلاة في الدار المغصوبة.

وتوضيح فساده : هو أنّ مجرد اختلاف متعلقي الأمر والنهي في هذه المسألة واتحادهما في تلك المسألة ، لا يكون ملاكاً لامتياز إحداهما عن الاخرى ما لم تكن هناك جهة اخرى للامتياز ، ضرورة أنّه لا يفرق في البحث عن تلك المسألة ، أعني البحث عن أنّ تعلق النهي بعبادة هل يستلزم فسادها أم لا ، بين أن يكون النهي متعلقاً بعبادة بعنوانها ، كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة أو نحوه ، وأن يكون متعلقاً بعنوان آخر منطبق عليها في الخارج ، كالنهي عن الغصب مثلاً إذا فرض انطباقه على الصلاة فيها خارجاً ، فإذن لا محالة تكون الصلاة منهياً عنها ومتعلقاً للنهي.

ومن الواضح جداً أنّ مجرد تعلق النهي بها بعنوان آخر لا يوجب عقد ذلك مسألة اخرى في قبال تلك المسألة ، بعد ما كان ملاك البحث في تلك المسألة موجوداً فيه ، وكان الغرض المترتب عليها مترتباً على ذلك أيضاً ، وهو فساد العبادة. وعليه فلا أثر لمجرد الاختلاف في المتعلق ، وعدم الاختلاف فيه ، فانّ ميزان تعدد المسألة ووحدتها في أمثال هذا العلم إنّما هو بتعدد الغرض وجهة البحث ووحدتهما ، لا باختلاف الموضوع والمحمول وعدم اختلافهما ، كما هو واضح.

وبكلمة اخرى : أنّ صِرف تعلق الأمر والنهي بطبيعتين مختلفتين على نحو العموم من وجه أو المطلق في هذه المسألة ، وعلى نحو الاطلاق والتقييد في تلك المسألة ، لا يوجب الامتياز بينهما إذا فرض عدم اختلافهما من جهة البحث ، ضرورة أنّه إذا فرض أنّ جهة البحث فيهما ترجع إلى نقطة واحدة ، فلا معنى عندئذ لجعل هذه المسألة مسألة اخرى في قبال تلك ، كما هو ظاهر.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الضابط لامتياز هذه المسألة عن تلك ، هو ما

٣٦٣

ذكرناه ، من أنّ جهة البحث في هذه المسألة غير جهة البحث في تلك المسألة ، فإذن لا بدّ من عقدها مسألة اخرى في قبالها ، كما تقدّم بصورة مفصّلة.

وقد يتخيّل أنّ نقطة الفرق بين هاتين المسألتين هي أنّ البحث في مسألتنا هذه عقلي ، فانّ الحاكم بالجواز أو الامتناع فيها إنّما هو العقل ، بملاك تعدد المجمع في مورد التصادق والاجتماع ووحدته فيه ، وليست للفظ أيّة صلة في البحث عنها ، والبحث في المسألة الآتية لفظي ، بمعنى أنّ النهي المتعلق بعبادة ، هل يدل على فسادها أم لا.

ولكن هذا الخيال خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً ، والوجه في ذلك :

أمّا أوّلاً : فلأن هذه المسألة تغاير تلك المسألة ذاتاً ، فلا اشتراك لهما ، لا في الموضوع ولا في المحمول ولا في الجهة ولا في الغرض ، وهذا معنى الامتياز الذاتي ، ومعه لا نحتاج إلى امتياز عرضي بينهما ، وهو أنّ البحث في إحداهما عقلي وفي الاخرى لفظي ، فانّ الحاجة إلى مثل هذا الامتياز إنّما هو في فرض الاشتراك بينهما ذاتاً ، وأمّا إذا فرض أنّه لا اشتراك بينهما أصلاً فلا معنى لجعل هذا جهة امتياز بينهما ، كما هو واضح.

وأمّا ثانياً : فلما سيجيء عن قريب إن شاء الله تعالى (١) من أنّ البحث في تلك المسألة أيضاً عقلي ، ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً ، ضرورة أنّ الجهة المبحوث عنها فيها إنّما هي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة ، ومن الواضح جداً أنّ البحث عن تلك الجهة لا يختص بما إذا كانت الحرمة مدلولاً لدليل لفظي ، بل يعمّ الجميع ، بداهة أنّ المبحوث عنه في تلك المسألة والمهم فيها إنّما هو البحث عن ثبوت الملازمة وعدمه ، ومن

__________________

(١) راجع المجلد الرابع من هذا الكتاب ص ١٣٥

٣٦٤

المعلوم أنّه لا يفرق فيه بين أن تكون الحرمة مستفادة من اللفظ أو من غيره ، وإن كان عنوان البحث فيها على ما حرّره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم اختصاص محل النزاع بما إذا كانت الحرمة مدلولاً لدليل لفظي ، إلاّ أنّ هذا من جهة الغلبة ، حيث إنّ الحرمة غالباً مستفادة من اللفظ دون غيره ، كما هو ظاهر.

الثالثة : قد تقدّم أنّ متعلق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلّية التي يمكن انطباقها على الأفراد والمصاديق الخارجية بشتّى ألوانها وأشكالها ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ تلك الطبائع الكلّية قد قيّدت بقيودات كثيرة وجودية وعدمية ، مثلاً الصلاة مقيدة بقيودات وجودية ، كالطهور والقيام واستقبال القبلة والاستقرار وما شاكل ذلك ، وقيودات عدمية ، كترك لبس ما لا يؤكل والحرير والذهب والميتة والنجس ، وترك القهقهة والتكلم ونحو ذلك.

ومن ناحية ثالثة : أنّ تلك القيودات لا توجب إلاّتضييق دائرة انطباقها على أفرادها في الخارج ولا توجب خروجها عن الكلّية.

وعلى الجملة : فانّ للطبائع الكلّية عرضاً عريضاً ، ولكل حصة منها نحو سعة وكلّية ، وأنّ التقييد مهما بلغ عدده لا يوجب إلاّتضييق دائرة الانطباق على ما في الخارج ، إلاّ إذا فرض بلوغ التقييد إلى حد يوجب انحصار المقيد في الخارج بفرد واحد ، ولكنّه مجرد فرض لعلّه غير واقع أصلاً.

ومن هنا تكون التقييدات الواردة على الصلاة من نواح عديدة : ١ ـ من ناحية الزمان حيث إنّها واجبة في زمان خاص لا مطلقاً. ٢ ـ من ناحية المكان حيث إنّه يشترط في صحتها أن تقع في مكان مباح. ٣ ـ من ناحية المصلي فلا تصح من كل شخص كالحائض ونحوها. ٤ ـ من ناحية نفسها حيث إنّها مقيدة

٣٦٥

بقيودات عديدة كثيرة وجودية وعدمية ، لا توجب إلاّتضييق دائرة انطباقها على ما في الخارج ، ولا توجب خروجها عن الكلّية وإمكان انطباقها على الأفراد الكثيرة في الخارج.

ومن ناحية رابعة : أنّ المراد من الواحد في محل الكلام هو مقابل المتعدد لا في مقابل الكلّي ، بمعنى أنّ المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد وليس بمتعدد ، بأن يكون مصداق المأمور به في الخارج غير مصداق المنهي عنه وإلاّ لخرج عن محل الكلام ولا إشكال عندئذ أصلاً.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي أنّ المجمع في مورد الاجتماع والتصادق كلّي قابل للانطباق على كثيرين وليس واحداً شخصياً ، ضرورة أنّ الصلاة في الأرض المغصوبة ليست واحدة شخصاً بل هي واحدة نوعاً ولها أفراد عرضية وطولية تصدق عليها ، لما عرفت من أنّ التقييد لا يوجب إلاّتضييق دائرة الانطباق ، فتقييد الصلاة بكونها في الدار المغصوبة لايوجب خروجها عن الكلّية ، وإنّما يوجب تضييق دائرة انطباقها على خصوص الأفراد الممكنة التحقق فيها من العرضية والطولية ، فانّها كما تصدق على الصلاة قائماً فيها ، تصدق على الصلاة قاعداً وعلى الصلاة مع فتح العينين ومع غمضهما وفي هذه الدار وتلك ... وهكذا ، وعلى الصلاة في هذا الآن ، وفي الآن الثاني والثالث ... وهكذا.

وبكلمة اخرى : أنّ الواحد قد يطلق ويراد منه ما لا يكون متعدداً ، فيقال إنّ الصلاة في الأرض المغصوبة واحدة فلا تكون متعددة ، بمعنى أنّه ليس في الدار شيئان أحدهما كان متعلق الأمر والثاني متعلق النهي ، بل فيها شيء واحد ـ وهو الصلاة ـ يكون مجمعاً لمتعلقيهما ، فالغرض من التقييد بكون المجمع لهما واحداً ، في مقابل ذلك ، أي في مقابل ما ينطبق المأمور به على شيء والمنهي عنه على شيء آخر ، لا في مقابل الكلّي كما ربّما يتوهّم.

٣٦٦

وقد يطلق الواحد ويراد منه ما لا يكون كلّياً فيقال هذا واحد ليس بكلّي قابل للانطباق على كثيرين ، والنسبة بين الواحد بهذا المعنى والواحد بالمعنى الأوّل هي عموم مطلق ، فانّ الأوّل أعم من هذا لشموله الواحد بالشخص والواحد بالنوع والواحد بالجنس ، دون هذا فانّه خاص بالأوّل فحسب. وبعد ذلك نقول : إنّ المراد من الواحد في محل الكلام هو الواحد بالمعنى الأوّل دون الثاني ، بمعنى أنّ هذه الحصة من الصلاة مثلاً وهي الصلاة في الأرض المغصوبة مجمع لمتعلقي الأمر والنهي ومورد لتصادقهما ، وإن كانت في نفسها كلّياً قابلاً للانطباق على الأفراد الكثيرة في الخارج العرضية والطولية ، كما عرفت.

فالنتيجة : أنّ هذه الحصة بما لها من الأفراد مجمع لهما ومحل للتصادق والاجتماع في مقابل ما إذا لم يكن كذلك ، بأن يكون مصداق المأمور به حصة ، ومصداق المنهي عنه حصة اخرى مباينة للُاولى بما لها من الأفراد الدفعية والتدريجية.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل السجدة والقتل والكذب وما شاكلها من الطبائع الكلّية التي يتعلق الأمر بحصة منها والنهي بحصة اخرى منها عن محل الكلام في المسألة ، فانّ هذه الطبائع وإن كانت واحدةً بالنوع أو الجنس ، إلاّ أنّها ليست مجمعاً لمتعلقي الأمر والنهي معاً ، فانّ الأمر تعلق بحصة منها وهي السجود لله تعالى ، والنهي تعلق بحصة اخرى منها وهي السجود لغيره تعالى ، وهاتان الحصتان متباينتان فلا تجتمعان في موردٍ واحد ، ولا تنطبق إحداهما على ما تنطبق عليه الاخرى ، وليس هنا شيء يكون مجمعاً لمتعلقي الأمر والنهي ، ومحلاً لاجتماعهما فيه ، ضرورة أنّ طبيعي السجود بما هو ليس مجمعاً للأمر والنهي ليكون داخلاً في محل البحث في هذه المسألة ، بل الأمر كما عرفت تعلق بحصة ، والنهي تعلق بحصة مباينة لها ، فلا تجتمعان في مورد أصلاً.

٣٦٧

وكذا الحال في القتل ، فانّ الأمر تعلق بحصة خاصة منه ـ وهي قتل الكافر أو غيره ممن وجب قتله ـ والنهي تعلق بحصة اخرى منه ـ وهي قتل المؤمن ـ ومن الواضح أنّهما لا تتصادقان على شيء واحد ، ولا تجتمعان في محل فارد فإذن ليس هنا شيء واحد اجتمع فيه الأمر والنهي ، بل الأمر تعلق بحصة يمكن انطباقها على أفرادها الكثيرة في الخارج العرضية والطولية ، والنهي تعلق بحصة اخرى كذلك. وكذا الحال في الكذب ونحوه.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ الغرض من تقييد المجمع بكونه واحداً إنّما هو التحرز عن مثل هذه الموارد التي لا يتوهّم اجتماع الأمر والنهي فيها في شيء واحد ، لا التحرز عن مطلق الواحد النوعي أو الجنسي كما عرفت.

وقد تحصّل من ذلك أمران :

الأوّل : أنّه إذا كان مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه في الخارج ومبايناً له ، فهو خارج عن مفروض الكلام في المسألة ، ولا كلام ولا إشكال فيه أبداً.

الثاني : أنّ محل الكلام فيها ما إذا كان مصداق المأمور به والمنهي عنه واحداً ، وذلك الواحد يكون مجمعاً لهما ، سواء أكانت وحدته شخصية أو صنفية أو نوعية أو جنسية ، لما مرّ من أنّ المراد من الواحد في مقابل المتعدد ـ وهو ما إذا كان مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه خارجاً ـ لا في مقابل الكلّي ، وسواء أكانت وحدته حقيقية أم انضمامية.

الجهة الرابعة ، التي أهمّ الجهات في مسألتنا هذه : قد تقدّم أنّ القول بالامتناع في المسألة يرتكز على سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به ، وعلى هذا فلا محالة تقع المعارضة بين دليلي الحكمين كالوجوب

٣٦٨

والحرمة مثلاً ، لما عرفت من أنّ مردّ هذا القول إمّا إلى القول باتحاد المجمع حقيقةً ، أو القول بسراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر. وعلى كلا التقديرين لا محالة يكون أحد الدليلين كاذباً في مورد الاجتماع ، وذلك لاستحالة أن يكون المجمع عندئذ مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً ، فإذن الأخذ بمدلول كل منهما في ذلك المورد يستلزم رفع اليد عن مدلول الآخر فيه مع بقاء موضوعه.

ومن هنا ذكرنا في بحث التعادل والترجيح (١) أنّ التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين في مقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد بالذات والحقيقة أو بالعرض والمجاز ، بمعنى أنّ كل واحد من الدليلين يدل على نفي مدلول الدليل الآخر بالمطابقة أو بالالتزام ، فيكون مدلول الدليل الآخر منتفياً مع بقاء موضوعه بحاله لا بانتفائه. وهذا هو الضابط الرئيسي لمسألة التعارض وواقعه الموضوعي ، ومن المعلوم أنّه ينطبق في هذه المسألة على القول بالامتناع ، فانّ المجمع على هذا يكون واحداً ، كما هو المفروض.

وعليه فلا محالة يدل كل من دليلي الأمر والنهي على نفي مدلول الدليل الآخر مع بقاء موضوعه بحاله. فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة ، فإن كان التعارض بينهما بالاطلاق كما هو الغالب يسقطان معاً ، فيرجع إلى الأصل في المسألة من أصل لفظي إن كان ، وإلاّ فإلى أصل عملي. وإن كان بالعموم يرجع إلى أخبار الترجيح إذا كان التعارض بين الخبرين ، وإلاّ فإلى قواعد اخر على تفصيل في محلّه. وإن كان أحدهما مطلقاً والآخر عاماً فيتقدّم العام على المطلق ، لأنّه يصلح أن يكون بياناً له دون العكس ، وإن كان أحدهما لبياً والآخر لفظياً ، فيتقدّم الدليل اللفظي على الدليل اللبي ، كما هو واضح. وإن كان

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٤١٧

٣٦٩

كلاهما لبياً فلا بدّ من الرجوع في المسألة إلى الأصل من أصل لفظي أو عملي.

والقول بالجواز يرتكز على عدم سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به ، لما سبق من أنّ مردّ هذا القول إلى تعدد المجمع حقيقة في مورد الاجتماع والتصادق ، وعليه فلا محالة تقع المزاحمة بين إطلاقي الدليلين في مقام الامتثال والفعلية ، وقد تقدّم (١) في بحث الضد بشكل واضح أنّ نقطة انبثاق التزاحم بين الحكمين تنحصر في عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال ، فإن صرف قدرته في امتثال هذا يعجز عن امتثال ذاك ، وإن عكس فبالعكس ، فيكون انتفاء كل منهما عند إعمال المكلف قدرته في امتثال الآخر بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ لا بانتفائه مع بقاء موضوعه على حاله ، وإلاّ لكان بينهما تعارض وتعاند في مقام الجعل ، ولذا قلنا إنّه لا تنافي بين الحكمين المتزاحمين بحسب مقام الجعل أصلاً ، فكل منهما مجعول لموضوعه على نحو القضية الحقيقية من دون أيّة منافاة ومعاندة بينهما في هذا المقام أبداً ، والمنافاة بينهما إنّما طرأت في مقام الامتثال من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً.

ومن هنا قلنا إنّه لا منافاة بينهما ذاتاً وحقيقة ، والمنافاة إنّما هي بالعرض والمجاز ، ولأجل ذلك اختصت المزاحمة والمنافاة بينهما بالاضافة إلى العاجز ، فلا مزاحمة بينهما بالاضافة إلى القادر أصلاً.

وهذا بخلاف باب التعارض ، فانّه تنافي الحكمين بحسب مقام الجعل مع قطع النظر عن وجود أيّ شيء في الخارج وعدمه فيه ، ولذا لا يختص التعارض بين الحكمين بالاضافة إلى شخص دون آخر. وقد تقدّم الكلام في تمام هذه النقاط في بحث الضد بصورة مفصّلة فلا نعيد. هذا إذا لم تكن مندوحة للمكلف في

__________________

(١) راجع ص ٣

٣٧٠

مقام الامتثال ، وأمّا إذا كانت مندوحة له بأن يتمكن من امتثال كلا التكليفين معاً ، غاية الأمر أحدهما بنفسه والآخر ببدله ، فهل يدخل ذلك في كبرى مسألة التزاحم أم لا؟ وجهان.

فقد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) الوجه الأوّل ، بدعوى أنّه لا فرق في تحقق المزاحمة بين حكمين بين أن تكون هناك مندوحة للمكلف أم لم تكن ، ومن هنا قال قدس‌سره إنّ أوّل مرجحات باب التزاحم هو ما إذا كان لأحد الحكمين المتزاحمين بدل دون الحكم الآخر ، فيتقدّم ما ليس له بدل على ما له بدل في مقام المزاحمة ، وهذا إنّما يتحقق في أحد موردين :

الأوّل : ما إذا زاحم بعض أفراد الواجب التخييري الواجب التعييني ، كما إذا وقعت المزاحمة بين صرف المال الموجود عنده في نفقة عياله وصرفه في إطعام ستّين مسكيناً مثلاً بعد فرض أنّه لا يكفي إلاّلأحدهما فحسب ، وحيث إنّ للثاني بدلاً في عرضه ـ وهو صوم شهرين متتابعين ـ فيتقدّم الأوّل عليه في صورة المزاحمة مطلقاً ولو كان ما له البدل أهم منه.

الثاني : ما إذا وقعت المزاحمة بين الأمر بالوضوء أو الغسل ، والأمر بغسل الثوب أو البدن للصلاة ، وبما أنّ للوضوء أو الغسل بدلاً في طوله ـ وهو التيمم ـ فيتقدّم الأوّل عليه ، فتنتقل الوظيفة إلى التيمم.

أقول : أمّا المورد الأوّل : فقد تقدّم الكلام فيه (٢) بشكل واضح في بحث الضد عند التكلم عن مرجحات باب التزاحم ، وقلنا هناك إنّه خارج عن كبرى هذا الباب ، وذلك لما ذكرناه في بحث الواجب التخييري من أنّ الواجب هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤

(٢) في ص ٢٥

٣٧١

الجامع بين الفعلين أو الأفعال ، لا كل واحد منهما ، مثلاً الواجب في خصال الكفارة هو الواحد لا بعينه ، لا كل واحد منها خاصة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد ذكرنا أنّ منشأ التزاحم بين الحكمين إنّما هو عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّه لا تزاحم في أمثال هذا المورد ، لفرض أنّ المكلف قادر على امتثال كلا الواجبين معاً ، ومعه لا مزاحمة بينهما أبداً ، ضرورة أنّه كما يكون قادراً على امتثال الأمر بالنفقة والاتيان بمتعلقه في الخارج ، كذلك يكون قادراً على امتثال الأمر بالجامع بين الخصال والاتيان بمتعلقه فيه ، فما هو واجب ـ وهو الجامع بينها ـ لا يكون مزاحماً للأمر بصرف هذا المال في النفقة ومانعاً عنه ، وما هو مزاحم له ومانع عنه ـ وهو إطعام ستّين مسكيناً ـ ليس بواجب ، فإذن لا يعقل التزاحم في هذه الموارد.

نعم ، التزاحم إنّما يكون في تطبيق هذا الجامع على خصوص هذا الفرد ـ وهو الاطعام ـ ولكن التطبيق بما أنّه باختيار المكلف وإرادته ، ولا يكون ملزماً في تطبيقه على هذا الفرد ، لا من قبل الشرع ، ولا من قبل العقل ، فله الخيار في التطبيق على هذا أو ذاك ، ولكن حيث إنّ تطبيقه على خصوص هذا الفرد في المقام مزاحم لامتثال الواجب الآخر ومستلزم لتركه فلا يجوز بحكم العقل ، بل هو ملزم بتطبيقه على غيره لئلاّ يزاحم الواجب ، كما هو واضح. وتمام الكلام في ذلك قد تقدّم في بحث الضد فلاحظ.

وأمّا المورد الثاني : فقد تقدّم الكلام فيه (١) أيضاً بصورة واضحة في بحث الضد ، وقلنا هناك إنّ أمثال هذا المورد داخلة في كبرى باب التعارض دون

__________________

(١) في ص ١٠٦

٣٧٢

باب التزاحم ، فراجع ولا حاجة إلى الاعادة.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ مسألة الاجتماع على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به تدخل في كبرى باب التعارض وتكون من إحدى صغرياتها ، فلا بدّ عندئذ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب. وعلى القول بالجواز وعدم السراية تدخل في كبرى باب التزاحم ، إذا لم تكن للمكلف مندوحة في البين بأن لا يتمكن من الاتيان بالصلاة في خارج الأرض المغصوبة ، وأمّا إذا كانت له مندوحة بأن كان متمكناً من الاتيان بها في الخارج فلا تزاحم أبداً.

الخامسة : هل إنّ مسألتنا هذه من المسائل الاصولية ، أو من المسائل الفقهية ، أو من المسائل الكلامية ، أو من المبادئ التصديقية؟ وجوه وأقوال.

قيل : إنّها من المسائل الفقهية ، بدعوى أنّ البحث في هذه المسألة في الحقيقة عن عوارض فعل المكلف وهي صحة العبادة في المكان المغصوب وفسادها فيه ، وهذا هو الضابط لكون المسألة فقهية لا غيرها.

ويردّه : ما تقدّم من أنّ البحث فيها ليس عن صحة العبادة وفسادها ابتداءً ، بل البحث فيها متمحض في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته ، ومن الواضح جداً أنّ البحث من هذه الناحية لايرتبط بعوارض فعل المكلف أبداً ، ولا يكون بحثاً عنها أصلاً ، بل الصحة التي هي من عوارض فعله تترتب على القول بعدم السراية ، ونتيجة لهذا القول ، وهذا ملاك كون هذه المسألة مسألة اصولية لا غيرها ، وذلك لما تقدّم من أنّ الميزان في كون المسألة اصولية ترتب نتيجة فقهية عليها ، ولو باعتبار أحد طرفيها من دون ضم كبرى مسألة اصولية اخرى ، وكيف كان فعدم كون هذه المسألة من المسائل الفقهية من الواضحات الأوّلية.

٣٧٣

الثاني : أنّها من المسائل الكلامية ، بتقريب أنّ البحث فيها عن استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وإمكانه عقلاً. ومن الظاهر أنّ البحث عن هذه الجهة ـ أعني الاستحالة والامكان ـ يناسب المسائل الكلامية دون المسائل الاصولية ، ضرورة أنّ الاصولي لا بدّ أن يبحث عما يترتب عليه أثر شرعي ، وليس المناسب له البحث عن إمكان الأشياء واستحالتها.

وغير خفي أنّ البحث في هذه المسألة وإن كان عقلياً ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً ، إلاّ أنّه مع ذلك ليس من المسائل الكلامية ، والوجه فيه هو أنّ الضابط في كون المسألة كلامية هو أن يكون البحث فيها عن أحوال المبدأ والمعاد ، ومسألتنا هذه وإن كانت مسألة عقلية ، إلاّ أنّ البحث فيها ليس بحثاً عن أحوال المبدأ والمعاد في شيء ، بل البحث فيها ـ كما عرفت ـ إنّما هو عن سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم السراية ، ومن المعلوم أنّه لا مساس لها على كلا القولين بالعقائد الدينية والمباحث الكلامية.

وبكلمة اخرى : أنّ المسائل الكلامية وإن كانت مسائل عقلية ، إلاّ أنّه ليس كل مسألة عقلية مسألة كلامية ، بل هي طائفة خاصة منها ، وهي ما يترتب على البحث عنها معرفة المبدأ والمعاد ، وبذلك نميّز المسائل الكلامية عن غيرها ، فكل مسألة يترتب على البحث عنها هذا الغرض فهي من المسائل الكلامية ، وإلاّ فلا ، وحيث إنّ هذا الغرض لا يترتب على البحث عن مسألتنا هذه فلا تكون منها.

نعم ، يمكن إرجاع البحث في هذه المسألة إلى البحث عن أحوال المبدأ والمعاد ، بتقريب أن يجعل البحث فيها عن قبح صدور الأمر والنهي منه تعالى بالاضافة إلى شيء واحد وعدم قبح ذلك منه تعالى ، وبهذه العناية وإن كانت من المسائل الكلامية ، إلاّ أنّ البحث فيها ليس عن هذه الجهة في شيء ، بل قد عرفت أنّ

٣٧٤

البحث فيها عن السراية وعدمها بعد ما تعلق الأمر بطبيعة والنهي بطبيعة اخرى واتّفق انطباقهما على شيء ، فعندئذ يقع الكلام في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد ذكرنا أنّ الضابط لكون المسألة اصولية أو كلامية أو غيرهما إنّما هو جهة البحث في تلك المسألة ، فإن كانت الجهة مما يترتب عليه الغرض الاصولي تكون المسألة اصولية ، وإن كانت مما يترتب عليه الغرض الكلامي تكون كلامية ... وهكذا ، كما هو واضح. وحيث إنّه يترتب على البحث عن هذه المسألة غرض اصولي ، فهي من المسائل الاصولية ، لا غيرها.

الثالث : أنّها من المبادئ الأحكامية ، والمراد بها ما يكون البحث فيه عن حال الحكم ، كالبحث عن أنّ وجوب شيء هل يستلزم وجوب مقدّمته ، أو حرمة ضدّه أم لا ، والبحث في هذه المسألة في الحقيقة بحث عن حال الأحكام من حيث إمكان اجتماع اثنين منها في شيء واحد وعدم إمكانه. وعليه فتكون المسألة من المبادئ الأحكامية ، كما هو الحال في بقية مباحث الاستلزامات العقلية.

ويردّه : أنّ المبادئ لاتخلو من أن تكون مبادئ تصورية أو مبادئ تصديقية فلا ثالث لهما ، والمبادئ التصورية عبارة عن تصور نفس الموضوع والمحمول بذاتهما وذاتياتهما ، والمبادئ التصديقية هي التي تكون مبدأ للتصديق بالنتيجة ، فانّها عبارة عن الصغرى والكبرى المؤلف منهما القياس المنتج للعلم بالنتيجة. ومن تلك المبادئ المسائل الاصولية بالاضافة إلى المسائل الفقهية باعتبار أنّها تكون مبدأً للتصديق بثبوت تلك المسائل ، وتقع في كبرى القياس الواقع في طريق استنباطها ، وبهذا الاعتبار تكون المسائل الاصولية مبادئ تصديقية لعلم الفقه ، لوقوعها في كبرى قياساتها التي تستنتج منها المسائل الفقهية.

٣٧٥

ولا نعقل المبادئ الأحكامية في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية ، بداهة أنّه إن اريد من المبادئ الأحكامية تصور نفس الأحكام كالوجوب والحرمة ونحوهما ، فهو من المبادئ التصورية ، إذ لا نعني بها إلاّتصور الموضوع والمحمول كما مرّ. وإن اريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه ـ ومنه الحكم بسراية النهي إلى متعلق الأمر في محل الكلام ـ فهي من المبادئ التصديقية لعلم الفقه ، كما هو الحال في سائر المسائل الاصولية.

الرابع : أنّها من المبادئ التصديقية لعلم الاصول ، وليست من مسائله. وقد اختار هذا القول شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) وأفاد في وجه ذلك ما حاصله :هو أنّ هذه المسألة على كلا القولين لا تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الشرعي بلا واسطة ضم كبرى اصولية ، وقد تقدّم أنّ الضابط لكون المسألة اصولية هو وقوعها في طريق الاستنباط بلا واسطة ، والمفروض أنّ هذه المسألة ليست كذلك ، فانّ فساد العبادة لا يترتب على القول بالامتناع فحسب ، بل لا بدّ من ضم كبرى اصولية إليه وهي قواعد كبرى مسألة التعارض ، فانّ هذه المسألة على هذا القول تدخل في كبرى تلك المسألة ، وتكون من إحدى صغرياتها. وعليه ففساد العبادة إنّما يترتب بعد إعمال قواعد التعارض وتطبيقها في المسألة لا مطلقاً ، وهذا شأن كون المسألة من المبادئ التصديقية دون المسائل الاصولية ، كما أنّها على القول بالجواز تدخل في كبرى مسألة التزاحم.

ويرد عليه : ما ذكرناه غير مرّة من أنّه يكفي في كون المسألة اصولية وقوعها في طريق الاستنباط ، وتعيين الوظيفة بأحد طرفيها وإن كانت لا تقع بطرفها الآخر ، ضرورة أنّه لو لم يكن ذلك كافياً في اتّصاف المسألة بكونها

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٢٨

٣٧٦

اصولية ، بل يعتبر فيه وقوعها في طريق الاستنباط بطرفها الآخر أيضاً ، للزم خروج عدّة من المسائل الاصولية عن كونها اصولية ، منها : مسألة حجية خبر الواحد فانّها لا تقع في طريق الاستنباط على القول بعدم حجيته ولا يترتب عليها أيّ أثر شرعي على هذا القول. ومنها : حجية ظواهر الكتاب ، فانّه على القول بعدمها لا يترتب عليها أيّ أثر شرعي ، وغيرهما من المسائل ، مع أنّه لا شبهة في كونها من المسائل الاصولية ، بل هي من أهمّها.

نتيجة ذلك : هي أنّ الملاك في كون المسألة اصولية وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها ، في مقابل ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصة ، كمسائل بقية العلوم ، والمفروض أنّ مسألتنا هذه كذلك ، فانّه يترتب عليها أثر شرعي ، وهو صحة العبادة على القول بالجواز وتعدد المجمع وإن لم يترتب أثر شرعي عليها على القول بالامتناع ، وهذا يكفي في كونها مسألة اصولية.

وقد تبيّن لحدّ الآن : أنّ هذه المسألة كما أنّها ليست مسألة فقهية ، كذلك ليست مسألة كلامية ، ولا من المبادئ الأحكامية ، ولا من المبادئ التصديقية.

الخامس : أنّها من المسائل الاصولية العقلية ، وهذا هو الصحيح.

فلنا دعويان :

الاولى : أنّها مسألة عقلية ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً.

الثانية : أنّها مسألة اصولية تترتب عليها نتيجة فقهية بلا واسطة.

أمّا الدعوى الاولى : فهي واضحة ، ضرورة أنّ الحاكم باستحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وإمكانه إنّما هو العقل ، فانّه يدرك استحالة الاجتماع فيما إذا كان المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً ، وجوازه فيما إذا كان

٣٧٧

المجمع فيه متعدداً.

وبتعبير آخر : أنّ القضايا العقلية على ضربين :

أحدهما : القضايا المستقلة العقلية ، بمعنى أنّ في ترتب النتيجة على تلك القضايا لانحتاج إلى ضم مقدّمة خارجية ، بل هي تتكفل لاثبات النتيجة بأنفسها ، وهذا معنى استقلالها ، وهي مباحث التحسين والتقبيح العقليين التي يبحث فيها عن حكم العقل بحسن شيء أو قبحه ، في مقابل الأشاعرة حيث إنّهم ينكرون تلك القضايا ويدّعون أنّ العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها أصلاً.

وثانيهما : القضايا العقلية غير المستقلة ، بمعنى أنّ في ترتب النتيجة عليها نحتاج إلى ضم مقدّمة خارجية ، وإلاّ فلا تترتب عليها بأنفسها أيّة نتيجة فقهية ، وهي كمباحث الاستلزامات العقلية ، كمبحث مقدّمة الواجب ومبحث الضد ونحوهما ، فانّ الحاكم في هذه المسائل هو العقل لا غيره ، ضرورة أنّه يدرك وجود الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته وبين وجوبه وحرمة ضدّه ... وهكذا. وليس المراد من عدم استقلال تلك القضايا أنّ العقل في إدراكه غير مستقل ، فانّه لا معنى لعدم استقلاله في إدراكه ، بداهة أنّه لا يتوقف في إدراكه الملازمة بينهما أو الاستحالة والامكان ـ كما في مسألتنا هذه ـ على أيّة مقدّمة خارجية ، بل المراد من عدم استقلالها ما عرفت من أنّها تحتاج في ترتب نتيجة فعلية عليها إلى ضم مقدّمة شرعية ، كما هو واضح.

وأمّا الدعوى الثانية : فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ المسألة الاصولية ترتكز على ركيزتين :

الاولى : أن تقع في طريق استنباط الأحكام الكلّية الإلهية ، وتكون الاستفادة من باب الاستنباط والتوسيط ، لا من باب الانطباق ، وبهذه الركيزة تمتاز

٣٧٨

المسائل الاصولية عن القواعد الفقهية ، فانّ استفادة الأحكام منها من باب التطبيق لا التوسيط. هذا مضافاً إلى أنّ الأحكام المستفادة منها أحكام شخصية لا كلّية.

الثانية : أن يكون وقوعها في طريق الاستفادة بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اصولية اخرى ، وبهذه الركيزة تمتاز عن مسائل بقية العلوم ، فانّها وإن كانت دخيلةً في استنباط الأحكام وواقعةً في طريق استفادتها ، إلاّ أنّها لا بنفسها ، بل بضميمة مسألة اصولية.

وبعد ذلك نقول : إنّ في مسألتنا هذه تتوفر كلتا هاتين الركيزتين ، فانّها تقع في طريق الاستنباط بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اصولية اخرى ، لما عرفت من أنّه تترتب عليها صحة العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز وتعدد المجمع بلا ضميمة مسألة اخرى ، وإن لم يترتب عليها أثر شرعي على القول بالامتناع ، ولكنّك عرفت أنّ ترتب الأثر الشرعي على أحد طرفيها يكفي في كونها مسألة اصولية.

السادسة : قد سبق أنّ مسألتنا هذه من المسائل العقلية باعتبار أنّ الحاكم باستحالة اجتماع الأمر والنهي أو إمكانه إنّما هو العقل ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً.

ومن هنا يظهر أنّ النزاع في المسألة لا يختص بما إذا كان الايجاب والتحريم مدلولين لدليل لفظي من كتاب أو سنّة ، بل يعمّ الجميع ـ أي سواء أكانا مدلولين لدليل لفظي أم لم يكونا ـ وإن كان عنوان المسألة يوهم اختصاص النزاع بما إذا كانا مستفادين من اللفظ ، إلاّ أنّه من ناحية الغلبة ، حيث إنّ الدليل عليهما في الغالب هو اللفظ دون غيره.

٣٧٩

وعلى ضوء ذلك قد تبيّن أنّه لا معنى لأن يقال إنّ القول بالامتناع في المسألة يرتكز على نظر العرف والقول بالجواز فيها يرتكز على نظر العقل ، والوجه فيه هو ما ذكرناه غير مرّة من أنّ نظر العرف إنّما يكون متبعاً في مقام تعيين مفاهيم الألفاظ سعةً وضيقاً ، لا في مثل مسألتنا هذه حيث إنّه لا صلة لها بعالم اللفظ أبداً ، وليس البحث فيها عن تعيين مفهوم الأمر ومفهوم النهي ، والبحث فيها إنّما هو عن سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته.

وقد تقدّم أنّهما ترتكزان على وحدة المجمع في مورد التصادق والاجتماع وتعدده فيه ، فإن كان واحداً بحسب الواقع والحقيقة فلا مناص من القول بالامتناع والسراية ، وإن كان متعدداً في الواقع ، فعندئذ لو قلنا بأنّ الحكم الثابت لأحد المتلازمين يسري إلى الملازم الآخر ، فأيضاً لا مناص من القول بالامتناع ، ولكن هذا مجرد فرض لا واقع له أصلاً.

وأمّا إذا قلنا بأ نّه لا يسري إلى الملازم الآخر كما هو الصحيح ، فلا بدّ من الالتزام بالقول بالجواز وعدم السراية ، ومن الطبيعي أنّ الملاك في السراية وعدمها وهو وحدة المجمع وتعدده إنّما هو بنظر العقل ، ضرورة أنّ اللفظ لا يدل على أنّه واحد في مورد الاجتماع والتصادق أو متعدد ، فانّ إدراك ذلك إنّما هو بنظر العقل ، فإن أدرك أنّه متعدد واقعاً كان المتعين هو القول بالجواز ، فلا معنى لحكم العرف بالامتناع في هذا الفرض ، وإن أدرك أنّه واحد واقعاً لم يكن مناص من القول بالامتناع ، لاستحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً ، فإذن لايعقل الحكم بالجواز ، وكيف كان فلا أصل لهذا التفصيل أصلاً.

٣٨٠