محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

ومن هنا قلنا في ذلك البحث إنّ الذات مأخوذة في مفهوم المشتق ، وإلاّ فلا يمكن حمله عليها ، لفرض تباينهما وجوداً عندئذ ، فانّ العرض الذي هو مفهوم المشتق على الفرض موجود بوجود ، والجوهر الذي هو موضوعه موجود بوجود آخر ، ومن المعلوم استحالة اتحاد وجود مع وجود آخر ، ضرورة أنّ كل وجود يأبى عن وجود آخر ، ولأجل ذلك قلنا إنّ مجرد لحاظه لا بشرط لا يوجب اتحاده مع موضوعه ليصح حمله عليه الذي ملاكه الاتحاد في الوجود ، بداهة أنّ اعتبار اللاّ بشرط لا يجعل المتغايرين في الوجود متحدين فيه واقعاً ، فانّ تغايرهما ليس بالاعتبار لينتفي باعتبار آخر ، وهذا واضح.

وأمّا النقطة السادسة : فيرد عليها : أنّ مناط التساوي بين المفهومين هو اشتراكهما في الصدق ، بمعنى أنّ كل ما يصدق عليه هذا المفهوم يصدق عليه ذاك المفهوم أيضاً ، فهما متلازمان من هذه الناحية ، وليس مناط التساوي بينهما اتحادهما في جهة الصدق ، ضرورة أنّه مناط الترادف بين المفهومين ، كالانسان والبشر ، حيث إنّ جهة الصدق فيهما واحدة وهو الحيوان الناطق ، بمعنى أنّهما مشتركان في حقيقة واحدة ، ولفظ كل منهما موضوع بازاء تلك الحقيقة باعتبار ، مثلاً لفظ الانسان موضوع للحيوان الناطق باعتبار ، ولفظ البشر موضوع له باعتبار آخر ، وهذا بخلاف المفهومين المتساويين كالضاحك والمتعجب مثلاً فانّ لكل منهما مفهوماً يكون في حد ذاته مبايناً لمفهوم الآخر ، ضرورة أنّ مفهوم الضاحك غير مفهوم المتعجب ، فلا اشتراك لهما في مفهوم واحد وحقيقة فاردة وإلاّ لكانا من المترادفين لا المتساويين ، كما أنّ جهة الصدق في أحدهما غير جهة الصدق في الآخر ، فانّ جهة صدق الضاحك على هذه الذات مثلاً هي قيام الضحك بها ، وجهة صدق المتعجب عليها هي قيام التعجب بها ، فلا اشتراك لهما في جهة الصدق أيضاً.

٤٨١

فالنتيجة : أنّ ملاك التساوي بين المفهومين هو عدم إمكان تحقق جهة الصدق في أحدهما في الخارج بدون تحقق جهة الصدق في الآخر ، لا أن تكون جهة الصدق فيهما واحدة.

وأمّا ملاك العموم والخصوص من وجه بين المفهومين ، فهو أن تكون جهة الصدق في كل منهما أعم من ناحية من جهة الصدق في الآخر ، ومتحدة من ناحية اخرى من جهة الصدق فيه ، كالحيوان والأبيض مثلاً فانّ طبيعة الحيوان الموجودة في مادة الاجتماع بعينها هي الطبيعة الموجودة في مادة الافتراق ، ولا تزيد ولا تنقص ، لفرض أنّ الفرد عين الطبيعي في الخارج ، فلا فرق بين الحصة الموجودة في مادة الاجتماع والحصة الموجودة في مادة الافتراق ، فإن كلتا الحصتين عين الطبيعة بلا زيادة ونقيصة. وكذا البياض الموجود في مادة الاجتماع بعينه هو البياض الموجود في مادة الافتراق وفي موضوع آخر ، فإن كلا الفردين عين طبيعته النوعية الواحدة ، ضرورة أنّ البياض الموجود في مادة الاجتماع ليس فرداً لطبيعة اخرى ، بل هو فرد لتلك الطبيعة وعينها خارجاً كبقية أفرادها ، فلا فرق بينه وبينها من هذه الناحية أصلاً.

فالنتيجة على ضوء ذلك : هي أنّه لا تعقل النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض ، بداهة أنّه لو كانت بين طبيعتين ـ جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض ـ النسبة بالعموم من وجه للزم اتحاد مقولتين متباينتين في الخارج ، أو اتحاد نوعين من مقولة واحدة ، وكلاهما محال ، فانّ لازم ذلك هو أن يكون شيء واحد ـ وهو الموجود في مورد الاجتماع ـ داخلاً تحت مقولتين أو نوعين من مقولة واحدة ، وهذا غير معقول ، لاستحالة أن يكون فرد واحد فرداً لمقولتين أو لنوعين ، بداهة أنّ فرداً واحداً فرد لمقولة واحدة أو لنوع واحد ، وإلاّ لزم تفصّله بفصلين في عرض واحد وهو مستحيل

٤٨٢

وهذا واضح ، فإذن تنحصر النسبة بين طبيعتين جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض بالتساوي أو التباين أو العموم المطلق ، فلا رابع لها.

كما أنّه تنحصر النسبة بالعموم من وجه بين مفهومين عرضيين كالأبيض والحلو والمصلي والغاصب وما شاكلهما ، وبين مفهوم عرضي ومفهوم ذاتي مقولي كالحيوان والأبيض ونحوهما.

ومن ضوء هذا البيان يظهر فساد ما ذكره قدس‌سره من تخصيص استحالة تحقق النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين ، وذلك لأنّها كما يستحيل أن تتحقق بين جوهرين ، كذلك يستحيل أن تتحقق بين عرضين أو جوهر وعرض كما عرفت الآن.

وأمّا النقطة السابعة : فقد ظهر مما تقدّم أنّ المراد من الجهة التقييدية في المقام ليس اندراج فرد واحد تحت ماهيتين متباينتين ، لما عرفت من استحالة ذلك ، بل المراد منها ما ذكرناه من أنّ ملاك صدق كل منهما على الموجود في مورد الاجتماع هو أنّه فرده أو منشأ انتزاعه ، وليس ملاك صدقه عليه جهة خارجية ، ولا نعني بالجهة التقييدية إلاّصدق الطبيعي على فرده وحصته والعنوان على نفس منشأ انتزاعه ، في مقابل الجهة التعليلية التي هي علّة صدق العنوان على شيء آخر غيرها كالعلم القائم بزيد الموجب لصدق عنوان العالم عليه ... وهكذا.

ومن هنا يظهر ما في كلام شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ جهة الصدق إذا كانت في صدق كل من المأمور به والمنهي عنه في مورد الاجتماع تقييدية فلا مناص من الالتزام بكون التركيب فيه انضمامياً لا اتحادياً ، وذلك لما عرفت أنّ هذا تام إذا كان كل من المأمور به والمنهي عنه من الماهيات المتأصلة ، وأمّا إذا كان من الماهيات الانتزاعية ، أو كان أحدهما دون الاخرى منها فلا يتم ، كما

٤٨٣

تقدّم بشكل واضح.

هذا تمام الكلام في هذه المسألة بحسب الكبرى الكلّية ، وملخّصه : هو أنّه لا ضابط فيها للقول بالامتناع ، ولا للقول بالجواز أبداً ، بل لا بدّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه لنرى أنّ المجمع فيه واحد أو متعدد ، وقد عرفت أنّه في بعض الموارد واحد وفي بعضها الآخر متعدد.

نعم ، إذا كان العنوان من العناوين الاشتقاقية فلا محالة يكون المجمع في مورد اجتماع اثنين منها واحداً وجوداً وماهية ، كما أنّه إذا كان من المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية الحقيقية فلا محالة يكون المجمع فيه متعدداً كذلك. وأمّا في غير هذين الموردين فلا ضابط لوحدته ولا لتعدده أصلاً ، بل لا بدّ من لحاظه في كل مورد لنحكم بالجواز أو الامتناع.

وأمّا النقطة الثامنة : فالكلام فيها في صغرى تلك الكبرى ، وهي ملاحظة أنّ الصلاة هل يمكن أن تتحد مع الغصب خارجاً أو لا ، وقد عرفت أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره ذهب إلى عدم إمكان اتحادهما ، بدعوى أنّ الصلاة من مقولةٍ والغصب من مقولة اخرى ، ويستحيل اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة واحدة. ولكنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ الصلاة وإن كانت مركبة من مقولات متعددة ، إلاّ أنّ الغصب ليس من المقولات في شيء ، بل هو مفهوم انتزاعي منتزع من مقولات متعددة كما أشرنا إليه ، وعليه فيمكن اتحاده مع الصلاة.

فلنا دعويان : الاولى : أنّ الصلاة مركبة من مقولات متعددة والغصب ليس مقولة. الثانية : إمكان اتحادهما في الخارج.

أمّا الاولى : فلأنّ الصلاة ليست حقيقة مستقلة ومقولة برأسها في قبال بقية

٤٨٤

المقولات كما هو واضح ، بل هي مركبة من مقولات عديدة ، منها : الكيف المسموع كالقراءة والأذكار. ومنها : الكيف النفساني كالقصد والنيّة. ومنها :الوضع كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه قد برهن في محلّه أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها ، وعليه فلا يمكن أن يكون المركب من تلك المقولات مقولة برأسها ، لاعتبار الوحدة في المقولة ولا وحدة للمركب منها ، ضرورة استحالة اتحاد مقولة مع مقولة اخرى. فإذن ليست للصلاة وحدة حقيقية بل وحدتها بالاعتبار ، ولذا لا مطابق لها في الخارج ما عدا هذه المقولات المؤلفة الصلاة منها. وأمّا الغصب فلأ نّه ممكن الانطباق على المقولات المتعددة ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن أن يكون من الماهيات الحقيقية لما عرفت من استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت حقيقة واحدة ، فلو كان الغصب من الماهيات المقولية لاستحال اتحاده مع مقولة اخرى وانطباقه عليها ، لاستلزام ذلك تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد واندراجه تحت ماهيتين نوعيتين وهو محال ، فإذن لا محالة يكون من المفاهيم الانتزاعية ، فقد ينتزع من الكون في الأرض المغصوبة الذي هو من مقولة الأين ، وقد ينتزع من أكل مال الغير أو لبسه الذي هو من مقولة اخرى ... وهكذا.

فالنتيجة : أنّه لا يعقل أن يكون الغصب جامعاً ماهوياً لهذه المقولات فلا محالة يكون جامعاً انتزاعياً لها.

ودعوى أنّه لا يمكن انتزاع مفهوم واحد من مقولات متعددة وماهيات مختلفة ، وعليه فلا يمكن انتزاع مفهوم الغصب من تلك المقولات ، وإن كانت صحيحة ولا مناص من الالتزام بها ، إلاّ أنّ الغصب لم ينتزع من هذه المقولات بأنفسها ، بل انتزاعه منها باعتبار عدم إذن المالك في التصرف بها ، ضرورة أنّه

٤٨٥

في الحقيقة منشأ لانتزاعه ، لا نفس التصرف بها بما هو ، والمفروض أنّه واحد بالعنوان ، وهذا ظاهر.

وأمّا الدعوى الثانية : فقد تقدّم (١) أنّ العنوان الانتزاعي قد يتّحد مع العنوان الذاتي المقولي ، بمعنى أنّ منشأ انتزاعه في الخارج هو ذلك العنوان الذاتي لا غيره ، وفي المقام بما أنّ عنوان الغصب انتزاعي فلا مانع من اتحاده مع الصلاة خارجاً أصلاً.

ولكن الكلام في أنّ الأمر في الخارج أيضاً كذلك أم لا ، وهذا يتوقف على بيان حقيقة الصلاة التي هي عبارة عن عدّة من المقولات ، لنرى أنّ الغصب يتّحد مع هذه المقولات خارجاً أو مع إحداها أو لا.

فنقول : من هذه المقولات مقولة الكيف النفساني وهي النيّة ، فانّها أوّل جزء للصلاة بناءً على ما حققناه في بحث الواجب التعبدي والتوصلي من أنّ قصد القربة مأخوذ في متعلق الأمر وليس اعتباره بحكم العقل ، ولا يشك أحد في أنّها ليست تصرفاً في مال الغير عرفاً ، لتكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب في الخارج ومصداقاً له ، ضرورة أنّ الغصب لا يصدق على الامور النفسانية كالنيّة والتفكر في المطالب العلمية أو نحو ذلك من الامور الموجودة في افق النفس ، وهذا من الواضحات الأوّلية فلا يحتاج إلى البيان.

ومنها : التكبيرة التي هي من مقولة الكيف المسموع ، ولا شبهة في أنّها ليست متحدة مع الغصب خارجاً ، ضرورة أنّه لا يصدق على التكلم في الدار المغصوبة أنّه تصرف فيها ليكون مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.

__________________

(١) في ص ٤٦٥

٤٨٦

ودعوى أنّ التكلم وإن لم يكن تصرفاً في الدار إلاّ أنّه تصرف في الفضاء باعتبار أنّه يوجب تموّج الهواء فيه ، والمفروض أنّ الفضاء ملك للغير كالدار ، فكما أنّ التصرف فيها غير جائز ومصداق للغصب ، فكذلك التصرف فيه خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً ، وذلك لأنّ الفضاء وإن كان ملكاً للغير والتصرف فيه غير جائز بدون إذن صاحبه ، إلاّ أنّ التكلم كما أنّه لا يكون تصرفاً في الدار كذلك لا يكون تصرفاً في الفضاء ، ضرورة أنّه لا يصدق عليه أنّه تصرف فيه وعلى تقدير صدق التصرف عليه عقلاً فلا يصدق عرفاً بلا شبهة ، ومن المعلوم أنّ الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال الغير منصرفة عن مثل هذا التصرف فلا تشمله أصلاً ، لأنّها ناظرة إلى المنع عما يكون تصرفاً عند العرف ، وما لا يكون تصرفاً عندهم فلا تشمله وإن كان تصرفاً بنظر العقل ، كمسح حائط الغير باليد مثلاً فانّه ليس تصرفاً عند العرف ، ولذا لا تشمله الأدلة ، فلا يكون محكوماً بالحرمة وإن كان تصرفاً عند العقل.

والحاصل : أنّ التكلم في الدار المغصوبة ليس تصرفاً فيها ولا في فضائها لا عقلاً ولا عرفاً أوّلاً ، وعلى فرض كونه تصرفاً فيه عقلاً فلا ريب في أنّه ليس تصرفاً عرفاً ، ومعه لا يكون مشمولاً لتلك الأدلة ثانياً. ومن هنا لو نصب أحد مروحةً في مكان توجب تموّج الهواء في فضاء الغير فلا يقال إنّه تصرّف في ملك الغير ، وهذا واضح.

ومن ذلك يظهر حال جميع أذكار الصلاة كالقراءة ونحوها ، ضرورة أنّ الغصب لا يصدق عليها.

وبكلمة اخرى : أنّ الغصب هنا منتزع من ماهية مباينة لماهية التكلم في الخارج ، فانّ الغصب في المقام منتزع من الكون في الدار ، وهو من مقولة الأين ،

٤٨٧

والتكلم من مقولة الكيف المسموع فيستحيل اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت مقولة واحدة.

فالنتيجة : أنّ التكبيرة وما شاكلها غير متحدة مع الغصب خارجاً.

ومنها : الركوع والسجود والقيام والقعود ، والصحيح أنّها أيضاً غير متحدة مع الغصب خارجاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ هذه الأفعال من مقولة الوضع ، فانّها هيئات حاصلة للمصلي من نسبة بعض أعضائه إلى بعضها الآخر ونسبة المجموع إلى الخارج ، والوضع عبارة عن هيئة حاصلة للجسم من نسبة بعض أجزائه إلى بعضها الآخر ، ونسبة المجموع إلى الخارج وهذه الهيئات هي حقائق تلك الامور التي تعتبر في الصلاة ، ومن الواضح جداً أنّ تلك الهيئات ليست بأنفسها مصداقاً للغصب ومتحدة معه في الخارج ومنشأ لانتزاعه ، ضرورة عدم صدق التصرف عليها بما هي لتكون كذلك ، بل يستحيل أن تتحد مع الغصب ، لفرض أنّه في المقام منتزع من الكون في الأرض المغصوبة وهو من مقولة الأين ، وتلك الهيئات من مقولة الوضع ، وعليه فيستحيل اتحادهما خارجاً.

ونتيجة ذلك : هي أنّ هيئة الركوع والسجود والقيام والجلوس ليست في أنفسها مع قطع النظر عن مقدّماتها من الهوي والنهوض مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.

وقد يتخيّل في المقام أنّها من مقولة الفعل ، وليست من مقولة الوضع ، فإذن لا محالة تكون مصداقاً للغصب وتصرّفاً في مال الغير.

ولكنّه تخيّل خاطئ جداً ، فانّه ناشٍ من الخلط بين ما يكون من قبيل الفعل الصادر بالارادة والاختيار ، وما يكون من مقولة الفعل التي هي من إحدى المقولات التسع العرضية ، والهيئات المزبورة وإن كانت من الأفعال الاختيارية

٤٨٨

الصادرة بالارادة والاختيار ، إلاّ أنّها مع ذلك ليست من مقولة الفعل ، ضرورة أنّه لا منافاة بين أن يكون الشيء من قبيل الفعل الصادر بالاختيار ، ولا يكون من مقولته ، للفرق بين الأمرين ، وهو أنّ الملاك في كون الفعل اختيارياً هو صدوره من الانسان بالارادة والاختيار ، والملاك في كون الشيء من مقولته هو أن يكون حصوله بالتأثير على نحو التدريج كتسخين المسخن ما دام يسخن ونحو ذلك ، ومن المعلوم أنّ أحد الملاكين أجنبي عن الملاك الآخر بالكلّية ولا مساس لأحدهما بالآخر أبداً ، ولذا لا يعتبر في كون شيء من مقولة الفعل أن يكون من الأفعال الاختيارية أصلاً كما هو واضح.

وعلى الجملة : فالفعل الاختياري لا يكون مساوقاً لمقولة الفعل ، بل النسبة بينهما عموم من وجه ، فانّ الشيء قد يكون من مقولته ولا يكون اختيارياً كالهيئات العارضة للأجسام الخارجية ، وقد يكون اختيارياً وليس من مقولته ، بل من مقولة اخرى كمقولة الوضع أو الكيف أو نحوها.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ الصلاة لا تتحد مع الغصب خارجاً ، لا من ناحية النيّة ، ولا من ناحية التكبيرة والقراءة وما شاكلهما ، ولا من ناحية الركوع والسجود والقيام والقعود.

بقي في المقام أمران :

الأوّل : أنّه لا شبهة في أنّ الهوي إلى الركوع والسجود أو النهوض عنهما إلى القيام والجلوس تصرّف في ملك الغير ويكون مصداقاً للغصب ، ضرورة أنّ الحركة في الدار المغصوبة من أوضح أنحاء التصرف فيها ، وبما أنّ الهوي والنهوض نحو من الحركة فلا محالة يكونان متحدين مع الغصب خارجاً ومن مصاديقه وأفراده ، إلاّ أنّ الكلام في أنّهما من أجزاء الصلاة كبقية أجزائها أو من مقدّماتها ، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع ، لفرض أنّ الصلاة

٤٨٩

عندئذ متحدة مع الغصب في الخارج ومصداق له ولو باعتبار بعض أجزائها ، ومعه لا بدّ من القول بالامتناع أي بامتناع [ اجتماع الأمر والنهي في ] الصلاة في الأرض المغصوبة ، لاستحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً. وعلى الثاني فلا مناص من القول بالجواز ، وذلك لأنّ الهوي والنهوض وإن كانا تصرفاً في ملك الغير ، إلاّ أنّهما ليسا من أجزاء المأمور به ليلزم اتحاده مع المنهي عنه ، بل هما من مقدّمات وجوده في الخارج.

وقد ذكرنا في بحث مقدّمة الواجب (١) أنّ حرمة المقدّمة لا تنافي إيجاب ذيها إذا لم تكن منحصرة ، وأمّا إذا كانت منحصرة فتقع المزاحمة بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها ، كما لو توقف إنقاذ الغريق مثلاً على التصرف في مال الغير ، ولم يكن له طريق آخر يمكن إنقاذه منه ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب التزاحم وأحكامه.

وعلى الجملة : فالهوي الذي هو مقدّمة للركوع والسجود ، والنهوض الذي هو مقدّمة للقيام ، إذا كانا من أفعال الصلاة وأجزائها يتعين القول بالامتناع في المسألة ، وإذا كانا من المقدّمات يتعين القول بالجواز فيها ، ولذا لو فرض تمكن شخص من الركوع والسجود والقيام والجلوس بدونهما ، لكان مجزئاً لا محالة ، ولا يجب عليه الاتيان بهما ، لفرض عدم دخلهما في المأمور به لا جزءاً ولا شرطاً. وعلى هذا الضوء فلا بدّ من أن يدرس ناحية كونهما من أجزاء الصلاة أو من مقدّماتها.

الصحيح هو أنّهما من المقدّمات ، وذلك لأنّ الظاهر من أدلة جزئية الركوع والسجود والقيام والجلوس هو أنّ نفس هذه الهيئات جزء فحسب ، لا مع

__________________

(١) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٢٤٧

٤٩٠

مقدّماتها من الهوي والنهوض ، لفرض أنّ هذه العناوين اسم لتلك الهيئات خاصة لا لها ولمقدّماتها معاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ المذكور في لسان الأدلة إنّما هو نفس تلك العناوين على الفرض ، لا هي مع مقدّماتها.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ المستفاد من تلك الأدلة ليس إلاّجزئية هذه العناوين فحسب دون مقدّماتها كما لا يخفى ، وتمام الكلام في ذلك في محلّه.

وعلى هدى هذا البيان قد ظهر أنّه لا شبهة في صحة الصلاة في الدار المغصوبة إذا فرض أنّها لم تكن مشتملة على الركوع والسجود ذاتاً ، كصلاة الميت على تقدير كونها صلاة ، وإن ذكرنا في موضعه أنّها ليست بصلاة ، بل هي دعاء حقيقة ، أو عرضاً كما إذا كان المكلف عاجزاً عنهما وكانت وظيفته الصلاة مع الايماء والاشارة بدلاً عنهما ، لفرض أنّ الصلاة عندئذ كما أنّها ليست مصداقاً للتصرف في مال الغير ، كذلك ليست متوقفة عليه ، وأمّا إذا كانت مشتملة على الركوع والسجود فوقتئذ تقع المزاحمة بين حرمة التصرف في مال الغير ووجوب الصلاة ، فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المزاحمة من تقديم الأهم أو محتمل الأهمّية أو نحو ذلك على غيره إن كان ، وإلاّ فيتعين التخيير.

وعلى الجملة : فعلى ما حققناه من أنّ الهوي والنهوض ليسا من أفعال الصلاة وأجزائها ، لا مناص من القول بالجواز من هذه الناحية في المسألة ، وعليه فإذا لم تكن مندوحة في البين تقع المزاحمة بين وجوب الصلاة وحرمة التصرف ، كما عرفت.

الثاني : أنّ الظاهر عدم صدق السجدة الواجبة على مجرّد مماسة الجبهة الأرض ، بل يعتبر في صدقها الاعتماد عليها ، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على أرض الغير نحو تصرف فيها فلا يجوز ، وعليه فتتحد الصلاة المأمور بها مع الغصب المنهي عنه في الخارج ، فإذن لا مناص من القول بالامتناع ، ولا يفرق في ذلك

٤٩١

بين كون ما يصح عليه السجود نفس أرض الغير أو شيئاً آخر ، ضرورة أنّه على كلا التقديرين يكون الاعتماد على أرض الغير ، وعلى هذا فلا يكفي في القول بالجواز مجرد الالتزام بكون الهوي والنهوض من المقدّمات لا من الأجزاء ، بل لا بدّ من فرض عدم كون السجود على أرض الغير أيضاً.

ونتيجة ذلك : هي جواز الاجتماع فيما إذا لم تكن الصلاة مشتملة على السجود ذاتاً كصلاة الميت على تقدير كونها صلاة ، أو عرضاً كما إذا كان المكلف عاجزاً عنه ، أو فرض أنّه متمكن من السجود على أرض مباحة أو مملوكة كما إذا كان في انتهاء الأرض المغصوبة ، وفي غير هذه الصور لا بدّ من القول بالامتناع ، لفرض أنّ المأمور به فيها ـ أي في هذه الصور ـ متحد مع المنهي عنه خارجاً ، وكون شيء واحد وهو السجود مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه وهو محال.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّه لا يمكن أن تكون الحركة الواحدة مصداقاً للصلاة والغصب معاً ، وذلك لأنّ ما أفاده قدس‌سره يرتكز على نقطة واحدة ، وهي أنّ الغصب من مقولة برأسها وهي مقولة الأين ، وعلى هذا فيستحيل اتحاده مع الصلاة خارجاً.

ولكن قد عرفت أنّ هذه النقطة خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، ضرورة أنّ الغصب مفهوم انتزاعي منتزع من مقولات متعددة ، وليس من المفاهيم المتأصلة والماهيات المقولية ، وعليه فلا مانع من اتحاده مع الصلاة في الخارج أبداً ، بأن يكون منشأ انتزاعه بعينه ما تصدق عليه الصلاة ، بل قد مرّ أنّه متحد خارجاً مع السجدة فيها ، ومع الهوي والنهوض بناءً على كونهما من أجزائها ، كما أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ الصادر من المكلف في الدار

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٣٦

٤٩٢

المغصوبة حركتان إحداهما مصداق للغصب والاخرى مصداق للصلاة من الغرائب ، بداهة أنّ الصادر من المكلف في الدار ليس إلاّحركة واحدة وهي مصداق للغصب ، فلا يعقل أن تكون مصداقاً للصلاة المأمور بها.

على أنّه لو كانت هناك حركة اخرى تكون مصداقاً لها في نفسها فلا محالة تكون مصداقاً للغصب أيضاً ، لوضوح أنّ كل حركة فيها تصرف فيها ومصداق له ، فإذن كيف يمكن فرض وجود الحركتين فيها تكون إحداهما مصداقاً للغصب فحسب ، والاخرى مصداقاً للصلاة كذلك.

وخلاصة ما ذكرناه لحدّ الآن : هي أنّ القول بالامتناع في مسألتنا هذه أعني الصلاة في الأرض المغصوبة يتوقف على الالتزام بأحد أمرين :

الأوّل : أن نقول بكون الهوي والنهوض من أفعال الصلاة وأجزائها لا من المقدّمات ، وعلى هذا فلا بدّ من القول بالامتناع.

الثاني : أن نقول بأنّ السجود لا يصدق على مجرد وضع الجبهة على الأرض بدون الاعتماد عليها ، فانّ الاعتماد عليها مأخوذ في مفهوم السجدة ، فلو وضع جبهته عليها بدون اعتماد لم تصدق عليه السجدة ، بل هو مماسة لها ، لا أنّه سجدة.

أمّا الأمر الأوّل : فقد عرفت أنّهما ليسا من الأفعال والأجزاء ، بل هما من المقدّمات ، فإذن من هذه الناحية لا مانع من القول بالجواز أصلاً.

وأمّا الأمر الثاني : فقد عرفت أنّ الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهوم السجدة فلا تصدق السجدة بدون الاعتماد عليها ، وهذا واضح. وعليه فلا تجوز الصلاة المشتملة على السجدة في الأرض المغصوبة ، لاستحالة كون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به ، كما أنّها إذا لم تكن مشتملة عليها فلا مانع من جوازها

٤٩٣

فيها ، أو إذا فرض أنّ المكلف متمكن من السجدة على الأرض المباحة أو المملوكة.

فالنتيجة من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن قد أصبحت : أنّ الصلاة في الدار المغصوبة إذا كانت مشتملة على السجود فلا مناص من القول بالامتناع ، وأمّا إذا لم تكن مشتملة عليه ذاتاً أو عرضاً ، أو كان المكلف متمكناً منه على أرض مباحة أو مملوكة فلا مانع من القول بالجواز.

نتائج ما ذكرناه إلى الآن عدّة نقاط :

الاولى : أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ مسألة الاجتماع ترتكز على ركيزة واحدة ، وهي أن يكون المجمع مشتملاً على مناط كلا الحكمين معاً خاطئ جداً ، وذلك لما حققناه من أنّ البحث في هذه المسألة لا يختص بوجهة نظر مذهب دون آخر ، بل يعم جميع المذاهب والآراء حتّى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد مطلقاً.

والسر فيه ما ذكرناه من أنّ مردّ البحث في هذه المسألة إلى البحث عن أنّ المجمع في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهية أو متعدد كذلك ، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع مطلقاً وعلى جميع المذاهب ، ضرورة أنّ استحالة اجتماع الضدّين لا تختص بمذهب دون آخر ، وعلى الثاني لا بدّ من القول بالجواز بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى اللاّزم.

الثانية : أنّ ما ذكره قدس‌سره من أنّ مسألة التعارض ترتكز على كون المجمع مشتملاً على مناط أحد الحكمين في مورد الاجتماع أيضاً خاطئ ، وذلك لأنّ البحث عن هذه المسألة كالبحث عن مسألة الاجتماع لا يختص بوجهة نظر مذهب دون آخر ، ضرورة أنّ ملاك التعارض هو عدم إمكان جعل الحكمين

٤٩٤

معاً في مورد الاجتماع ، ومن المعلوم أنّ هذا لا يتوقف على وجود ملاك لأحدهما فيه ، لوضوح استحالة جعلهما معاً لشيء واحد ، سواء فيه القول بتبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد والقول بعدمها ، فانّ خلاف الأشعري مع الإمامية إنّما هو في العقل العملي ، أعني به التحسين والتقبيح العقليين ، ولأجل ذلك أنكر مسألة التبعية لابتنائها على تلك المسألة ، أعني مسألة التحسين والتقبيح ، لا في العقل النظري ، أعني به إدراكه إمكان الأشياء واستحالتها ، والمفروض أنّ جعل الحكمين المتضادين لشيء واحد محال عقلاً ، وكذا الحال في مسألة التزاحم ، فانّها لا تختص بوجهة نظر دون آخر ، بل تعم جميع المذاهب والآراء حتّى مذهب الأشعري ، وذلك لما ذكرناه من أنّ مبدأ انبثاق المزاحمة بين الحكمين مع عدم التنافي بينهما في مقام الجعل إنّما هو عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال.

الثالثة : أنّ الدليل لا يكون متكفلاً لفعلية الحكم أصلاً ، ضرورة أنّ فعليته تتبع فعلية موضوعه في الخارج وأجنبية عنه بالكلّية ، فانّ مفاده ـ كما ذكرناه غير مرّة ـ ثبوت الحكم على نحو القضية الحقيقية ، ولا نظر له إلى فعليته ووجوده في الخارج أصلاً ، كما أنّه لا يمكن أن يكون الدليل متكفلاً للحكم الاقتضائي وهو اشتمال الفعل على المصلحة والمفسدة ، ضرورة أنّ بيان ذلك ليس من شأن الشارع ووظيفته ، فانّ وظيفته بيان الأحكام الشرعية ، لا بيان مصالح الأشياء ومفاسدها ومضارها ومنافعها ، وبذلك ظهر ما في كلام المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في المقدّمة التاسعة فلاحظ.

الرابعة : أنّ ثمرة المسألة على القول بالجواز صحة العبادة في مورد الاجتماع مطلقاً ولو كان عالماً بالحرمة فضلاً عما إذا كان جاهلاً بها ، ولكن خالف في ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره وقال ببطلان العبادة في صورة العلم بالحرمة ،

٤٩٥

وبصحتها في صورة الجهل بها والنسيان ، وأفاد في وجه ذلك ما حاصله : أنّه لايمكن تصحيح العبادة بالأمر ، لفرض أنّ متعلق الأمر هو الحصة الخاصة وهي الحصة المقدورة ، ولا يمكن بالترتب لعدم جريانه في المقام ، ولا يمكن بالملاك لفرض أنّ صدور المجمع منه قبيح ، ومع القبح الفاعلي لا تصحّ العبادة ، كما أنّها لا تصح مع القبح الفعلي.

فالنتيجة : أنّه لا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع على هذا القول فضلاً عن القول بالامتناع ، ولكن قد تقدّم أنّ نظريته قدس‌سره هذه خاطئة جداً ولم تطابق الواقع أصلاً ، لما عرفت من أنّه يمكن الحكم بصحتها من ناحية الأمر ، لما عرفت من إطلاق المتعلق وعدم المقتضي لتقييده بخصوص الحصة المقدورة ، ومن ناحية الترتب لما ذكرناه هناك من أنّه لا مانع من الالتزام به في المقام أصلاً ومن ناحية الملاك ، لما عرفت من عدم القبح الفاعلي بالاضافة إلى إيجاد ما ينطبق عليه المأمور به.

الخامسة : قد ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره أنّه تصحّ العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز مطلقاً ، أي في العبادات والتوصليات ، وإن كان معصية للنهي أيضاً ، وتبطل على القول بالامتناع مع العلم بالحرمة ، وكذا مع الجهل بها إذا كان عن تقصير مع ترجيح جانب النهي ، وتصح إذا كان عن قصور ، ولكن قد ذكرنا سابقاً عدم تمامية جميع ما أفاده قدس‌سره فلاحظ.

السادسة : أنّ الصحيح في المقام هو ما ذكرناه من صحة العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز مطلقاً ، أي بلا فرق بين كون المكلف عالماً بالحرمة أو جاهلاً بها أو ناسياً ، وكذا بلا فرق بين كون الحرمة أهم من الوجوب أو بالعكس أو كونهما متساويين ، وباطلة على القول بالامتناع مع ترجيح جانب النهي مطلقاً ، أي من دون فرق بين العلم بالحرمة والجهل بها ، كان جهله عن

٤٩٦

قصور أو عن تقصير. نعم ، صحيحة على هذا الفرض في صورة واحدة وهي صورة النسيان ، كما أنّها صحيحة على هذا القول مع ترجيح جانب الوجوب.

السابعة : أنّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره قد اختار في المسألة القول بالامتناع ، بدعوى أنّ تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ، بل المعنون واحد في مورد الاجتماع وجوداً وماهيةً. ولكن قد عرفت أنّ ما أفاده لا يخرج عن مجرد الدعوى لفرض عدم إقامة برهان عليه ، ولأجل ذلك قلنا إنّه لا يتم إلاّ على نحو الموجبة الجزئية.

الثامنة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد اختار في المسألة القول بالجواز ، بدعوى أنّ النسبة بين متعلقي الأمر والنهي إذا كانت عموماً من وجه فلا محالة يكون التركيب بينهما انضمامياً ، لفرض أنّ جهة الصدق في صدق كل منهما في مورد الافتراق بعينها هي جهة الصدق في صدق كل منهما في مورد الاجتماع ، وعليه فيستحيل اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت حقيقة واحدة ، وإلاّ لزم أن لا تكون جهة صدقهما في مورد الاجتماع تلك الجهة التي كانت في مورد الافتراق وهذا خلف. وهذا بخلاف ما إذا كانت النسبة بالعموم من وجه بين موضوعي الحكمين كقولنا : أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ، حيث إنّ النسبة بين العالم والفاسق عموم من وجه ، فانّ التركيب بينهما في مورد الاجتماع لا محالة يكون اتحادياً وهو العالم الفاسق ، لانطباق كلا العنوانين عليه ، فلا يمكن أن يكون إكرامه واجباً وحراماً معاً.

التاسعة : قد تقدّم أنّ نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره إنّما تتم في المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية ، فانّ تعدد العنوان منها يستلزم تعدد المعنون في الخارج لا محالة ، لاستحالة أن يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع اتحادياً ، وأمّا إذا كان أحدهما عنواناً عرضياً والآخر ذاتياً أو كان كلاهما عنواناً

٤٩٧

انتزاعياً ، فلا يستلزم تعددهما تعدد المعنون ، بل يمكن أن يكون المعنون واحداً ويمكن أن يكون متعدداً ، ومن هنا قلنا إنّه لا ضابط للمسألة لا للقول بالامتناع ولا للقول بالجواز ، بل لا بدّ من ملاحظة المجمع في كل مورد لنرى أنّه واحد وجوداً وماهية أو متعدد كذلك ، لنحكم على الأوّل بالامتناع وعلى الثاني بالجواز ، ولأجل ذلك الصحيح هو القول بالتفصيل في المسألة في مقابل القول بالامتناع والجواز مطلقاً.

نعم ، ما ذكره قدس‌سره من أنّ النسبة بالعموم من وجه إذا كانت بين موضوعي الحكمين ، فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع اتحادياً متين جداً ، كما سبق بشكل واضح.

العاشرة : أنّ الغصب عنوان انتزاعي وليس من الماهيات المقولية ، بداهة أنّه ينطبق على مقولات متعددة ، فلو كان مقولة بنفسه يستحيل أن ينطبق على مقولة اخرى.

الحادية عشرة : قد تقدّم أنّ الصلاة بتمام أجزائها غير متحدة مع الغصب خارجاً ، إلاّفي السجدة حيث إنّها متحدة معه في الخارج ومصداق له ، وعلى هذا الضوء فالصلاة إذا لم تكن مشتملة عليها ذاتاً أو عرضاً أو كانت السجدة على أرض مباحة مثلاً أو مملوكة ، فلا مانع من القول بالجواز أصلاً.

الثانية عشرة : قد سبق أنّ الهوي والنهوض من مقدّمات الصلاة لا من أجزائها.

الثالثة عشرة : أنّ الصحيح عدم سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الخارجية التي يعبّر عنها بالتشخصات مسامحة.

الرابعة عشرة : أنّ النسبة بالعموم من وجه لاتتصوّر بين جوهرين وعرضين

٤٩٨

وجوهر وعرض ، لفرض أنّهما متباينان ماهية ووجوداً فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر ، وقد تقدّم أنّ النسبة كذلك إنّما تتصور بين عنوانين عرضيين وعنوان عرضي وذاتي.

الخامسة عشرة : أنّ التركيب بين المادة والصورة حقيقي لا انضمامي ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره ، حيث يرى أنّ التركيب بينهما انضمامي ، ولكن قد عرفت أنّ نظره قدس‌سره في ذلك خاطئ ولا يمكن تصديقه بوجه.

بقي الكلام في امور :

الأوّل : التوضؤ أو الاغتسال بالماء المغصوب.

الثاني : التوضؤ أو الاغتسال من آنية الذهب أو الفضة.

الثالث : التوضؤ أو الاغتسال من الاناء المغصوب.

الرابع : التوضؤ أو الاغتسال في الدار المغصوبة.

الخامس : التوضؤ أو الاغتسال في الفضاء المغصوب.

أمّا الأوّل : فلا شبهة في القول بالامتناع وعدم جواز الوضوء أو الغسل منه ، ضرورة استحالة أن يكون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به ، ولا يمكن فيه القول بالجواز أبداً ، ولا مناص من تقديم دليل حرمة التصرف فيه على دليل وجوب الوضوء أو الغسل ، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ وجوب الوضوء والغسل مشروط بوجدان الماء بمقتضى الآية المباركة ، وقد قلنا إنّ المراد منه وجوده الخاص من جهة القرينة الداخلية والخارجية ، وهو ما يتمكن المكلف من استعماله عقلاً وشرعاً ، والمفروض في المقام أنّ المكلف لا يتمكن من استعماله شرعاً وإن تمكن عقلاً ، ومعه يكون فاقداً له ، فوظيفة الفاقد هو التيمم دون الوضوء أو الغسل ، وعليه فلا بدّ من الالتزام بفساد الوضوء أو الغسل به

٤٩٩

مطلقاً حتّى في حال الجهل ، ضرورة أنّ التخصيص واقعي والجهل بالحرمة لايوجب تغيير الواقع وصيرورة الحرام واجباً ولو كان عن قصور ، وهذا واضح.

نعم ، لو كان المكلف ناسياً لكون هذا الماء مغصوباً فتوضأ أو اغتسل به فلا إشكال في صحة وضوئه أو غسله إذا كان نسيانه عن قصور لا عن تقصير ، والوجه في ذلك : هو أنّ النسيان رافع للتكليف واقعاً فلا يكون الناسي مكلفاً في الواقع ، وهذا بخلاف الجهل فانّه رافع للتكليف ظاهراً ، فيكون الجاهل مكلفاً في الواقع ، وعليه فترتفع حرمة التصرف في هذا الماء واقعاً من ناحية النسيان ، ومعه لا مانع من شمول إطلاق دليل وجوب الوضوء له ، فانّ المانع عن شموله هو حرمة التصرف فيه ، والمفروض أنّها قد ارتفعت واقعاً من ناحية النسيان ، ومع ارتفاعها لا محالة يشمله لفرض عدم المانع منه حينئذ أصلاً ، ومعه لا محالة يكون صحيحاً. نعم ، لو كان نسيانه عن تقصير كما هو الحال في أكثر الغاصبين ، فلا يمكن الحكم بصحته ، وذلك لأنّ الحرمة وإن ارتفعت واقعاً من جهة نسيانه ، إلاّ أنّ ملاكه باقٍ وهو المبغوضية ، ومعه لا يمكن التقرب به.

فالنتيجة : أنّ التوضؤ أو الاغتسال بهذا الماء غير صحيح في صورة الجهل ولو كان عن قصور ، وصحيح في صورة النسيان إذا كان كذلك.

ولكن للشيخ الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام كلام ، وهو أنّه قدس‌سره مع التزامه بفساد العبادة على القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة مطلقاً ذهب إلى صحة الوضوء أو الغسل هنا بهذا الماء في صورة الجهل بالحكم أو الموضوع عن قصور ، ولعلّه قدس‌سره استند في ذلك إلى أحد أمرين :

الأوّل : دعوى أنّ الوضوء أو الغسل مشتمل على الملاك في هذا الحال ، هذا

__________________

(١) العروة الوثقى ( المحشّاة ) ١ : ٤٠٤ ذيل المسألة ٤

٥٠٠