محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

وعليه فلا معنى لما ذكر من كونه واجداً للماء فلا يكون مأموراً بالتيمم. هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين جزأين أو شرطين أو شرط وجزء لواجب واحد.

وأمّا إذا دار الأمر بين جزء أو شرط وواجب آخر ، كما إذا كان عند المكلف ماء لايكفي للوضوء ولرفع عطش نفسه أو من هو مشرف على الهلاك معاً ، ففي مثل ذلك وإن وقعت المزاحمة بين وجوب صرف هذا الماء في الوضوء أو الغسل ووجوب صرفه في واجب آخر ، إلاّ أنّ تقديم صرفه في واجب آخر كرفع العطش أو نحوه على صرفه في الوضوء أو الغسل ليس من جهة ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل ، وبما أنّ الوضوء أو الغسل له بدل وهو التيمم فيقدّم عليه الواجب الآخر ، بل من ناحية ما ذكرناه غير مرّة من أنّ المراد من الوجدان في الآية المباركة المأخوذ في موضوع وجوب الوضوء أو الغسل ليس مطلق وجوده في الخارج ، بل المراد منه بمعونة القرائن الخارجية والداخلية وجوده الخاص وهو ما تمكن المكلف من استعماله عقلاً وشرعاً ، ولا يكفي التمكن العقلي فحسب.

وعلى هذا فبما أنّ المكلف مأمور بصرف هذا الماء في واجب آخر لم يعتبر فيه شيء ما عدا القدرة عليه تكويناً ، فلا محالة يكون عاجزاً عن صرفه في الوضوء أو الغسل ، فاذن تنتقل وظيفته إلى التيمم.

فالنتيجة : أنّ وجه تقديم وجوب صرف الماء في واجب آخر على وجوب صرفه في الوضوء أو الغسل ما ذكرناه من أنّ المكلف في هذا الحال غير واجد للماء ووظيفته حينئذ بمقتضى الآية المباركة هي التيمم لا غيره ، لا ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وقد تلخص مما ذكرناه : أنّ هذا الفرع أيضاً ليس من صغريات الكبرى المتقدمة.

٤١

المرجح الثاني :

ما إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر عقلاً ، فيقدّم ما كان مشروطاً بالقدرة عقلاً على ما كان مشروطاً بالقدرة شرعاً ، وبيان ذلك : أنّ الحكمين المتزاحمين لا يخلوان من أن يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً دون الآخر ، وأن يكون كلاهما مشروطاً بالقدرة شرعاً أو عقلاً ، فهذه أقسام ثلاثة :

أمّا القسم الأوّل : وهو ما كانت القدرة مأخوذة في أحدهما شرعاً دون الآخر ،فقد ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ الواجب المشروط بالقدرة عقلاً يقدّم على الواجب المشروط بها شرعاً.

وأفاد في وجه ذلك : أنّ ملاك الواجب المشروط بالقدرة عقلاً حيث إنّه تام لا قصور فيه أصلاً فلا مانع من إيجابه بالفعل ، فاذا كان وجوبه فعلياً فلا محالة يكون موجباً لعجز المكلف عن الاتيان بالواجب الآخر ومانعاً عن ثبوت الملاك له ، لتوقفه على القدرة عليه عقلاً وشرعاً على الفرض ، وهذا بخلاف الواجب المشروط بالقدرة عقلاً ، فانّ ثبوت الملاك له لا يتوقف على شيء ما عدا القدرة عليه عقلاً ، والمفروض أنّها موجودة ، فاذن ليس لوجوبه بالفعل أيّة حالة منتظرة أصلاً.

وعلى الجملة : فالواجب المشروط بالقدرة شرعاً يتوقف وجوبه فعلاً على تمامية ملاكه ، والمفروض أنّها تتوقف على عدم فعلية الواجب الآخر ، ومع فعلية ذاك الواجب لا ملاك له ، لعدم القدرة عليه عندئذ شرعاً ، والمفروض أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦ ، ٤ : ٢٧٦

٤٢

القدرة الشرعية دخيلة في ملاكه ، إذن لا وجوب له فعلاً ، ليكون مزاحماً مع الواجب المشروط بالقدرة عقلاً.

ومن ذلك يتقدّم الواجب المشروط بالقدرة عقلاً في مقام المزاحمة على الواجب المشروط بالقدرة شرعاً ولو كان أهم منه ، لما عرفت من عدم تمامية ملاكه وعدم تحقق موضوعه وهو القدرة شرعاً مع فعلية وجوب ذلك الواجب. ومن الواضح أنّه لا يفرق فيه بين أن يكون الواجب المشروط بالقدرة شرعاً أهم منه أو لا ، كما أنّه لا فرق بين أن يكون متأخراً عنه زماناً أو مقارناً معه أو متقدماً عليه ، فانّ ملاك التقدّم في جميع هذه الصور واحد ، وهو أنّ وجوب الواجب المشروط بالقدرة عقلاً بصرف تحققه ووجوده رافع لموضوع وجوب الواجب الآخر ، ومعه لا ملاك له أصلاً ، ومن هنا أنكر قدس‌سره جريان الترتب في أمثال هذه الموارد.

أقول : قد حققنا سابقاً (١) أنّه لا مانع من جريان الترتب في أمثال هذه الموارد ، وما أفاده قدس‌سره من عدم الجريان فيها لا أصل له أبداً ، ولذا قلنا هناك إنّه لا فرق في جريانه بين أن تكون القدرة الماخوذة في الواجب عقلية أو شرعية ، كما تقدّم ذلك بشكل واضح ، فلا حاجة إلى الاعادة.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره هنا من أنّ الواجب المأخوذ فيه القدرة عقلاً يتقدّم على الواجب المأخوذ فيه القدرة شرعاً في مقام المزاحمة ، وإن كان صحيحاً ولا مناص من الالتزام به ، إلاّ أنّ ما افاده قدس‌سره في وجه ذلك غير تام ، وهو أنّ ملاك الواجب المشروط بالقدرة عقلاً تام ولا قصور فيه ، فاذن لا مانع من إيجابه فعلاً ، وملاك الواجب المشروط بالقدرة شرعاً غير تام ، فلا يمكن إيجابه فعلاً.

__________________

(١) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٣٩٠ وما بعدها

٤٣

ووجه عدم تماميته هو ما ذكرناه غير مرّة من أنّه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام أصلاً مع قطع النظر عن ثبوتها ، وعليه فلا طريق لنا إلى استكشاف أنّ الواجب المأخوذ فيه القدرة عقلاً واجد للملاك في مقام المزاحمة ، والواجب المأخوذ فيه القدرة شرعاً فاقد له ، لينتج من ذلك أنّ وجوب الأوّل فعلي دون الثاني.

أضف إلى هذا أنّ تقديم أحد المتزاحمين على الآخر بمرجح لا يرتكز بوجهة نظر مذهب دون آخر ، بل يعم جميع المذاهب والآراء ، ضرورة عدم اختصاص البحث في مسألة التزاحم بوجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام للملاكات الواقعية ، بل يعمّ البحث عنها وجهة نظر جميع المذاهب حتّى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعيتين. وعلى هذا فلا وجه لما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من جعل التقديم مبنيّاً على وجهة نظر مذهبنا.

أمّا أنّ أصل الحكم بالتقديم في هذه الموارد صحيح فلأجل أنّه لا مانع من فعلية وجوب ما هو المشروط بالقدرة عقلاً في مقام المزاحمة مع الواجب المشروط بالقدرة شرعاً ، لفرض أنّه غير مشروط بشيء ما عدا القدرة التكوينية عليه ، وهي موجودة ، وهذا بخلاف وجوب ما هو المشروط بالقدرة شرعاً ، فانّ المانع من فعلية وجوبه موجود ، وهو فعلية وجوب ذاك الواجب ، لفرض أنّها توجب عجز المكلف عن الاتيان به في الخارج ، وعليه فلا يكون قادراً عليه ، ومع انتفاء القدرة ينتفي الوجوب لا محالة ، لاستحالة بقاء الحكم مع انتفاء موضوعه. هذا هو وجه التقديم في تلك الموارد ، وترى أنّه لا يبتني على وجهة نظر مذهب دون آخر. ولا يفرق فيه بين أن يكون الواجب المشروط بالقدرة شرعاً أهم منه أو لا يكون أهم ، كما أنّه لا يفرق بين أن يكون متأخراً عنه

٤٤

زماناً أو مقارناً معه أو متقدماً عليه ، فانّ ملاك التقديم في الجميع واحد ، وهو أنّ وجوب الاتيان بالواجب الآخر فعلاً أو وجوب التحفظ عليه في ظرفه كذلك لئلاّ يفوت مانع عنه وموجب لعجز المكلف عن امتثاله تشريعاً.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة شرعاً ،فلا يخلو من أن يكون أحدهما أسبق من الآخر زماناً أم لا.

أمّا الأوّل : فيقدّم فيه ما كان الأسبق من الآخر زماناً في الفعلية وتحقق موضوعه في الخارج ، وذلك لأنّ ما كان متقدّماً بالزمان على غيره صار فعلياً بفعلية موضوعه خارجاً ، وهو القدرة عليه تكويناً وتشريعاً. أمّا تكويناً فظاهر ، وأمّا تشريعاً فلأجل أنّ الرافع للقدرة الشرعية في المقام ليس إلاّوجود خطاب إلزامي فعلي في عرضه يقتضي الاتيان بمتعلقه ، فانّه يوجب عجز المكلف عن امتثاله تشريعاً فينتفي بانتفاء موضوعه ، والمفروض عدم وجود خطاب كذلك ، فاذن لا مانع من فعليته أصلاً ، ومثاله ما إذا وقع التزاحم بين القيام في صلاة الصبح مثلاً والقيام في صلاة الظهر ، بأن لا يقدر المكلف على الجمع بينهما في الخارج ، فلو صلّى صلاة الصبح قائماً فلا يقدر على القيام في صلاة الظهر ، وإن ترك القيام في صلاة الصبح فيقدر عليه في صلاة الظهر ، ففي مثل ذلك لا إشكال في وجوب تقديم القيام في صلاة الصبح على القيام في صلاة الظهر ، ولا يجوز تركه فيها تحفظاً على القدرة عليه في صلاة الظهر.

والوجه فيه واضح ، وهو أنّ وجوب صلاة الصبح مع القيام فعلي عليه بفعلية موضوعه ، وهو قدرته على إتيانها قائماً عقلاً وشرعاً ، وعدم مانع في البين ، لأنّ وجوب صلاة الظهر قائماً في ظرفه ليس بفعلي في هذا الحين ليكون مانعاً منه ، فانّه إنّما يصير فعلياً بعد دخول الوقت ، ومن الواضح جداً أنّه لا يجوز ترك الواجب الفعلي مقدمةً لحفظ القدرة على إتيان الواجب في ظرفه.

٤٥

فالنتيجة : أنّه كلّما وقع التزاحم بين واجبين طوليين بأن يكون أحدهما متقدماً على الآخر زماناً ، فلا إشكال في تقديم السابق على اللاّحق ، ولا يفرق فيه بين أن يكون الواجب اللاّحق أهم من السابق أم لا ، فانّ الملاك في الجميع واحد ، وهو أنّ الواجب اللاّحق حيث إنّه لا يكون فعلياً في هذا الحال فلا يكون مانعاً عن فعلية وجوب السابق ، وعليه فلا يجوز ترك صلاة الصبح في وقتها قائماً مقدمة لحفظ القدرة على صلاة الظهر كذلك ، وهذا واضح.

ولكن ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ هذا المرجح إنّما يكون مرجحاً فيما إذا لم يكن هناك جهة اخرى توجب تقديم أحد الواجبين على الآخر ولو كان متأخراً عنه زماناً ، ومثّل لذلك بما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر أو ما شابهه ، فانّ النذر وإن كان سابقاً بحسب الزمان على أشهر الحج ، كمن نذر في شهر رمضان مثلاً المبيت ليلة عرفة عند مشهد الحسين عليه‌السلام وبعد ذلك عرضت له الاستطاعة ، فانّه مع ذلك يقدّم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.

وأفاد في وجه ذلك : أنّ وجوب الوفاء في أمثال هذه الموارد مع اشتراطه بالقدرة شرعاً مشروط بعدم استلزامه تحليل الحرام أيضاً ، والوفاء بالنذر هنا حيث إنّه يستلزم ترك الواجب في نفسه ، مع قطع النظر عن تعلق النذر به ، فلا تشمله أدلة وجوب الوفاء به ، فاذن ينحل النذر بذلك ، ويصير وجوب الحج فعلياً رافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ وجوب الوفاء بالنذر غير مشروط بالقدرة شرعاً ، وعليه فلا وجه لتقديم وجوب الحج المشروط بالقدرة شرعاً في لسان الدليل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧

٤٦

عليه. ولو سلّمنا أنّ وجوب الوفاء أيضاً مشروط بها ، إلاّ أنّه لا وجه لتقديم وجوب الحج على وجوبه ، لفرض أنّ كل واحد منهما صالح لأن يكون رافعاً لموضوع الآخر في حد نفسه ، ولكن النذر من جهة تقدّمه زماناً يكون رافعاً للاستطاعة.

وأجاب عن الاشكال الأوّل ، بأنّ وجوب الوفاء تابع لما تعلق به النذر سعةً وضيقاً ، ومن المعلوم أنّ النذر تعلق بالفعل المقدور ، ضرورة أنّ حقيقته عبارة عن الالتزام بشيء لله تعالى ، ومن الطبيعي أنّ العاقل الملتفت لا يلتزم بشيء خارج عن اختياره وقدرته ، فنفس تعلق الالتزام بفعل يقتضي اعتبار القدرة فيه ، نظير ما ذكرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه ، ومن هنا قلنا إنّ متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم ، وعليه فلا محالة يكون متعلق النذر فيما نحن فيه حصة خاصة ، وهي الحصة المقدورة دون الأعم منها ومن غيرها ، وهذا عين اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعاً الكاشف عن اختصاص الملاك بخصوص الحصة المقدورة ، لا الجامع بينها وبين غير المقدورة.

وأجاب عن الاشكال الثاني ، وهو دعوى كون النذر رافعاً للاستطاعة بوجهين :

الأوّل : أنّ صحة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلقه راجحاً في نفسه في ظرف العمل ، وإلاّ فلا ينعقد ، وبما أنّ في المقام متعلقه ليس براجح في ظرف العمل فلا ينعقد ليزاحم وجوب الحج.

الثاني : أنّا لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا عدم اعتبار رجحان متعلق النذر في ظرف العمل في صحته وانعقاده وشمول أدلة وجوب الوفاء له ، وقلنا بكفاية رجحان متعلقه حين النذر وإن لم يكن راجحاً حين العمل ، فمع ذلك لا يمكن الحكم بصحته في المقام ، لاشتراط صحته بعدم كون متعلقه مخالفاً للكتاب أو

٤٧

السنّة ، وموجباً لترك الواجب أو فعل الحرام ، وبما أنّ متعلقه في مفروض الكلام يوجب في نفسه ترك الواجب باعتبار استلزامه ترك الحج ، فلا يمكن الحكم بصحته ووجوب الوفاء به ، وعليه فيقدّم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر أو ما شاكله.

وعلى الجملة : فلا مانع من فعلية وجوب الحج على الفرض غير وجوب الوفاء بالنذر ، وحيث إنّه مشروط بعدم كون متعلقه في نفسه محللاً للحرام ، فلا يكون فعلياً في مفروض المقام ليكون مانعاً عن فعلية وجوب الحج ومزاحماً له. وعلى هذا فلا محالة يكون وجوب الحج فعلياً ورافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه ، وأمّا وجوب الوفاء به فلا يعقل أن يكون رافعاً لملاك الحج ، ضرورة أنّ فعليته تتوقف على عدم التكليف بالحج ، لئلاّ يلزم منه تحليل الحرام ، فلو كان عدم التكليف بالحج من ناحية فعلية وجوب النذر لزم الدور.

وهذا الذي ذكرناه يجري في كل ما كان وجوبه مشروطاً بعدم كونه محللاً للحرام ، كموارد الشرط والحلف واليمين وما شابهها ، فعند مزاحمته مع ما هو غير مشروط به يقدّم غير المشروط به ، ولو فرض أنّه أيضاً مشروط بالقدرة شرعاً.

ثمّ قال ( قدس‌سره ) وأمّا ما عن السيِّد قدس‌سره في العروة (١) من أنّ المعتبر هو أن يكون متعلق النذر راجحاً في ظرف العمل ولو بلحاظ تعلق النذر به ، وبذلك صحّح جواز نذر الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات ، فيظهر فساده مما قدّمناه من أنّ المعتبر في صحة النذر وانعقاده هو كون متعلقه راجحاً وغير موجب لتحليل الحرام في نفسه مع قطع النظر عن تعلق النذر به ، وإلاّ لأمكن تحليل جميع المحرّمات بالنذر وهذا ضروري البطلان.

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٣٨١ المسألة [١٢٠٧] ، ٢ : ٣٤٨ [٣٢١٩]

٤٨

نلخّص نتيجة ما أفاده قدس‌سره في عدّة نقاط :

الاولى : تسليم أنّ التزاحم بين وجوب الوفاء بالنذر ووجوب فريضة الحج إنّما هو من صغريات التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، وليس من صغريات الكبرى المتقدمة ، وهي المزاحمة بين واجبين يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة عقلاً والآخر مشروطاً بها شرعاً.

الثانية : تسليم أنّه داخل في كبرى تزاحم واجبين يكون أحدهما أسبق زماناً من الآخر.

الثالثة : أنّ الأسبق زماناً إنّما يكون مرجّحاً ومقدّماً على الآخر فيما إذا لم تكن هناك جهة اخرى تقتضي تقديم الآخر عليه ، كما هو الحال فيما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر ، فانّ النذر وإن كان متقدّماً على الحج زماناً ، كما إذا كان قبل أشهر الحج ، إلاّ أنّ الوفاء به بما أنّه يستلزم ترك الواجب فلا ينعقد ليزاحم وجوب الحج.

الرابعة : أنّ وجوب الوفاء بالنذر أو ما يشبهه مشروط بكون متعلقه راجحاً في ظرف العمل ، وبما أنّ متعلق النذر في مفروض المقام ليس براجح في ظرف العمل ، لاستلزامه تحليل الحرام وهو ترك الحج ، فلايكون مشمولاً لأدلة وجوب الوفاء. ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا كفاية الرجحان حين النذر وإن لم يكن راجحاً حين العمل ، فمع ذلك لا يمكن الحكم بصحته ، لفرض اشتراط انعقاده بأن لايكون متعلقه في نفسه محللاً للحرام ، وبما أنّه في المقام موجب له فلاينعقد.

الخامسة : أنّ اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعاً إنّما هو باقتضاء نفس الالتزام النذري ، فانّه يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة ، نظير ما ذكرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه ، وهذا عين

٤٩

اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعاً.

السادسة : أنّ لازم ما ذكره السيِّد قدس‌سره في العروة هو جواز تحليل المحرّمات بالنذر ، وهذا باطل قطعاً.

ولنأخذ بالمناقشة في عدّة من هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فيرد عليها أنّ المقام غير داخل في كبرى تزاحم واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، والوجه فيه هو أنّ ذلك يبتني على ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً ، كما هو المناسب لمعناها لغةً ، فعندئذ لا محالة يكون المقام داخلاً في تلك الكبرى ، وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من تفسيرها بأن يكون عنده الزاد والراحلة مع أمن الطريق كما في الروايات (١) فلا يكون داخلاً

__________________

(١) منها : رواية هشام بن الحكم « عن أبي عبدالله عليه‌السلام في قوله عزّ وجل : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحاً في بدنه ومخلىً سربه له زاد وراحلة » (١) صحيحة.

ومنها : رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام في ضمن كتابه إلى المأمون « قال : وحجّ البيت فريضة على من استطاع إليه سبيلاً. والسبيل : الزاد والراحلة مع صحة البدن » (٢) صحيحة.

ومنها : رواية محمّد بن مسلم قال « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) قال : يكون له ما يحج به » (٣) صحيحة.

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) ، الوسائل ١١ : ٣٥ / أبواب وجوب الحج ب ٨ ح ٧ ، ٦ ، ١.

٥٠

_______________________________________________________

ومنها : رواية الحلبي عن أبي عبدالله عليه‌السلام عن قوله الله ( عزّ وجل ) : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ما السبيل؟ قال : أن يكون له ما يحج به » (١) صحيحة. وغيرها من الروايات الواردة في الباب.

أقول : لا يخفى أنّ صحة البدن المذكورة في الصحيحة الاولى والثانية ليست شرطاً لأصل وجوب فريضة الحج ، ضرورة أنّ تلك الفريضة واجبة على من كان عنده زاد وراحلة مع أمن الطريق مطلقاً ، أي سواء أكان صحيحاً في بدنه أم لم يكن ، ولذا تجب عليه الاستنابة عنها إذا منعه عن أدائها مرض أو نحوه ، وقد دلّت على ذلك روايات كثيرة :

منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث « قال : وإن كان موسراً وحال بينه وبين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره الله فيه فانّ عليه أن يحج عنه من ماله صرورة لا مال له » (٢) وغيرها من الروايات والنصوص.

نعم ، لو كنّا نحن وهاتين الصحيحتين ولم تكن هناك روايات اخر تدل على عدم سقوط وجوب الحج عن المكلف بتعذره عليه بمرض أو نحوه لقلنا بكونها شرطاً له على الاطلاق لتكون نتيجته سقوطه بتعذره ، ولكن عرفت أنّ الأمر ليس كذلك ، وأ نّه لا يسقط بسقوطه وتعذره.

وبتعبير آخر : أنّ صحة البدن شرط لوجوب أداء فريضة الحج على المكلف مباشرةً لا مطلقاً ، بمعنى أنّه لو كان صحيحاً في بدنه وجب عليه إتيانها بالمباشرة ، فلا تشرع في حقّه الاستنابة ، والصحيحتان المذكورتان ناظرتان إلى شرطيتها من هذه الجهة ،

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٥ / أبواب وجوب الحج ب ٨ ح ٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٦٣ / أبواب وجوب الحج ب ٢٤ ح ٢.

٥١

_______________________________________________________

وأمّا إذا لم يكن صحيحاً في بدنه فتجب عليه الاستنابة ، لدلالة جملة من الروايات على ذلك كما عرفت.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ صحة البدن ليست شرطاً لوجوب الحج على الاطلاق لتكون نتيجته سقوط وجوبه بفقدانها ، وإنّما هي شرط له على نحو المباشرة. هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الاستطاعة في الصحيحتين الأخيرتين وإن فسّرت بقوله عليه‌السلام : « يكون له ما يحج به » إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا التفسير ليس تفسيراً مغايراً لتفسيرها في الصحيحتين الاوليين ، بل هو عبارة اخرى عن تفسيرها بوجدان الزاد والراحلة مع أمن الطريق ، والوجه فيه واضح وهو أنّ قوله عليه‌السلام : « يكون له ما يحج به » ظاهر في أن يكون للمكلف ما يتمكن بسببه من أداء فريضة الحج فعلاً ، ومن الواضح جداً أنّه لا يتحقق إلاّبملكه الزاد والراحلة مع أمن الطريق ، إذ مع تحقق هذه الامور ووجدانها يتمكن من أداء تلك الفريضة فعلاً وإلاّ فلا.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّه يعتبر في وجوب فريضة الحج أمر آخر أيضاً زائداً على الامور المزبورة ، وهو وجود مؤونة العيال وكفايتهم حتّى يرجع إليهم بمقتضى قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن محبوب « فما السبيل؟ قال فقال عليه‌السلام : السعة في المال إذا كان يحج ببعض ويبقي بعضاً لقوت عياله ، أليس قد فرض الله الزكاة فلم يجعلها إلاّعلى من يملك مائتي درهم » (١) وهو يدل على اعتبار وجود مؤونة العيال إلى زمان الرجوع إليهم في وجوب الحج ، وانّه لا يكفي في وجوبه وجود ما يفي بحجه فحسب. وعليه فلا محالة تكون هذه الصحيحة مقيدة لاطلاقات الروايات المتقدمة بصورة ما إذا كان المال ـ

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣٧ و ٣٨ / أبواب وجوب الحج ب ٩ ح ١ ، ٢.

٥٢

فيها ، ضرورة أنّ وجوب الحج على هذا ليس مشروطاً بالقدرة شرعاً ، بل هو مشروط بوجدان الزاد والراحلة وأمن الطريق ، فعند وجود هذه الامور واجتماعها يجب الحج ، كان هناك واجب آخر في عرضه أم لم يكن.

وعلى هذا الأساس فلا يكون وجوب الوفاء بالنذر أو ما يشبهه مانعاً عن وجوب الحج ورافعاً لموضوعه ، فانّ موضوعه ـ وهو وجدان الزاد والراحلة مع أمن الطريق ـ موجود بالوجدان ، بل الأمر بالعكس ، فانّ وجوب الحج على هذا مانع عن وجوب الوفاء بالنذر ورافع لموضوعه ، حيث إنّ وجوب

_______________________________________________________

واسعاً بحيث يفي لحجه ولقوت عياله إلى زمان الرجوع معاً ، ولا يكفي مجرد وفائه للأوّل دون الثاني.

نعم ، لو كنّا نحن وإطلاقات تلك الروايات مع الغض عن هذه الصحيحة لكان مقتضاها وجوب الحج على من كان عنده مال يفي بحجه فحسب وإن لم تكن عنده كفاية عياله إلى يوم الرجوع ، إلاّ أنّ تلك الصحيحة تدل على اعتبار وجود الكفاية فيه.

وقد تحصّل مما ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّ وجود مقدار قوت العيال إلى وقت الرجوع شرط لوجوب فريضة الحج.

الثاني : أنّه لا وجه لتفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً كما هو المشهور ، لما عرفت من أنّ الروايات مطبقة على خلاف هذا التفسير ، وأ نّه تفسير خاطئ بالنظر إلى الروايات والنصوص الواردة في هذا الباب.

ونتيجة ما قدّمناه لحدّ الآن : هي أنّ الشرط لوجوب الحج على ما يستفاد من جميع روايات الباب هو وجدان الزاد الكافي لحجه ولقوت عياله إلى زمان الرجوع والراحلة مع أمن الطريق.

٥٣

الوفاء به منوط بكون متعلقه مقدوراً للمكلف عقلاً وشرعاً ، ومن الواضح أنّ وجوب الحج عليه معجّز مولوي عن الوفاء به فلايكون معه قادراً عليه ، فإذن ينتفي وجوب الوفاء به بانتفاء موضوعه.

ونتيجة ذلك هي : أنّ التزاحم بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر ليس داخلاً في الكبرى المزبورة ـ التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ـ بل هو داخل في الكبرى الاولى وهي التزاحم بين واجبين يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر مشروطاً بالقدرة عقلاً ، وذلك لما عرفت الآن من أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلاً فحسب ، ولا يعتبر في وجوبه ما عدا تحقق الامور المزبورة ، ووجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة عقلاً وشرعاً.

وقد تقدّم أنّه في مقام وقوع المزاحمة بينهما يتقدّم ما كانت القدرة المأخوذة فيه عقلية على ما كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية ، فانّ الأوّل يوجب عجز المكلف عن امتثال الثاني ، فيكون منتفياً بانتفاء موضوعه ، ولا يوجب الثاني عجزه عن امتثال الأوّل ، لأنّ المانع من فعليته إنّما هو عجزه التكويني ، والمفروض أنّه لا يوجب ذلك.

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ التزاحم بينهما من صغرى التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، لا يمكن المساعدة عليه.

وأمّا النقطة الثانية : فيرد عليها أنّ مسألة مزاحمة وجوب الحج مع وجوب الوفاء بالنذر أو ما شابهه خارجة عن كبرى مسألة التزاحم بين واجبين يكون أحدهما متقدّماً زماناً على الآخر ، وليس خروجها عن تلك الكبرى خروجاً حكمياً كما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره بل خروجها عنها خروج موضوعي بمعنى أنّها حقيقة ليست من صغريات تلك الكبرى ، وهي لا تنطبق عليها أبداً.

٥٤

والوجه في ذلك هو أنّ النذر وإن فرض تقدّمه على حصول الاستطاعة زماناً ، إلاّ أنّ العبرة إنّما هي بتقدّم زمان أحد الواجبين على زمان الآخر كتقدّم زمان صلاة الفجر على زمان صلاتي الظهرين مثلاً وهكذا ، ولا عبرة بتقدّم زمان أحد الوجوبين على زمان الآخر.

وعلى الجملة : أنّا لو تنزّلنا عمّا ذكرناه وسلّمنا أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعاً بناءً على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً كما هو المشهور ، فمع ذلك ليست المزاحمة بينه وبين وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه داخلة في الكبرى المتقدمة ، لما عرفت من عدم تقدّم زمان الوفاء بالنذر على زمان الحج وإن فرض تقدّم سبب وجوبه على سبب وجوب الآخر ، فانّه لا عبرة به ، والعبرة إنّما هي بتقدّم أحد الواجبين على الآخر زماناً ، والمفروض أنّهما في عرض واحد فلا تقدّم لأحدهما على الآخر أصلاً.

وعليه فلا يبقى مجال لتوهّم تقدّم وجوب الوفاء بالنذر على وجوب الحج بملاك تقدّم الواجب السابق على الواجب اللاّحق. فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ المقام داخل في الكبرى المزبورة فيما إذا فرض تقدّم النذر بحسب الزمان على أشهر الحج لا يرجع إلى أصل صحيح ، لما عرفت من أنّه غير داخل في تلك الكبرى حتّى على هذا الفرض والتقدير ، من جهة أنّ العبرة إنّما هي بتقدّم زمان أحد الواجبين على زمان الآخر ، ولا عبرة بتقدّم سبب أحدهما على سبب الآخر أصلاً ، كما مرّ.

ولا يفرق في ذلك بين القول باستحالة الواجب المعلق كما هو مختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) والقول بامكانه وصحّته ، كما هو المختار عندنا (٢) ، فانّه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٠١

(٢) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ١٧٣ وما بعدها

٥٥

على كلا القولين لا تقدّم لأحد الواجبين على الآخر بحسب الزمان ، غاية ما في الباب على القول بالاستحالة فكما لا وجوب فعلاً للوفاء بالنذر قبل تحقق ليلة عرفة ، فكذلك لا وجوب فعلاً للحج قبل تحقق وقته ومجيئه ، فإذن عدم تقدّم أحدهما على الآخر زماناً واضح ، وعلى القول بالامكان فكما أنّ وجوب الوفاء بالنذر فعلي قبل مجيء وقت الواجب ، فكذلك وجوب الحج فعلي قبل وقته ، فالوجوبان عرضيان وكل منهما قابل لرفع موضوع الآخر. ودعوى أنّ وجوب الوفاء بالنذر على هذا سابق على وجوب الحج باعتبار أنّ سببه مقدّم على سببه ، مدفوعة بأ نّه لا أثر لمجرد حدوث وجوبه قبل حصول الاستطاعة بعد فرض أنّه مزاحم بوجوب الحج بقاءً ، بل قد عرفت أنّه لا مزاحمة بين الواجبين إلاّفي زمانهما وهو زمان الامتثال والعمل لا في زمان وجوبهما كما هو ظاهر.

وبعد ذلك نقول : إنّه لا بدّ من تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه في مقام المزاحمة ، وذلك لوجهين :

الأوّل : أنّ وجوب النذر أو ما شابهه لو كان مانعاً عن وجوب الحج ورافعاً لموضوعه لأمكن لكل مكلف رفع وجوبه عن نفسه بايجاب شيء ما عليه بنذر أو نحوه في ليلة عرفة المنافي للاتيان بالحج ، كمن نذر أن يصلي ركعتين من النافلة مثلاً في ليلة عرفة في المسجد الفلاني ، كمسجد الكوفة أو نحوه ، أو نذر أن يقرأ سورة مثلاً في ليلة عرفة فيه أو في مكان آخر مثلاً وهكذا ، ومن الواضح جداً أنّ بطلان هذا من الضروريات فلا يحتاج إلى بيان وإقامة برهان ، كيف فانّ لازم ذلك هو أن لا يجب الحج على أحد من المسلمين ، إذ لكل منهم أن يمنع وجوبه ويرفع موضوعه بنذر أو شبهه يكون منافياً ومضاداً له ، وهذا ممّا قامت ضرورة الدين على خلافه ، كما هو ظاهر.

٥٦

الثاني : أنّه قد ثبت في محلّه أنّ صحة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلقه راجحاً ، فلو نذر ترك واجب أو فعل حرام لم يصح ، بل لو نذر ترك مستحب أو فعل مكروه كان كذلك ، فضلاً عن أن ينذر ترك واجب أو فعل محرّم. ومن هنا لو نذرت المرأة أن تصوم غداً ثمّ رأت الدم فلا ينعقد نذرها ولا يجب عليها الصوم في الغد بمقتضى وجوب الوفاء بالنذر ، لعدم رجحانه في هذه الحالة.

وعلى الجملة : فلا شبهة في اعتبار رجحان متعلقه في نفسه في انعقاده ، كزيارة الحسين عليه‌السلام والصلاة في المسجد مثلاً وما شاكلهما ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : يعتبر في صحته وانعقاده أيضاً أن لا يكون محللاً للحرام بمعنى أنّ الوفاء به لا يستلزم ترك واجب أو فعل محرم. والحاصل أنّه لا إشكال في فساد النذر أو الشرط المخالف للكتاب أو السنّة وما يكون محللاً للحرام ، وقد دلّت على ذلك عدّة من الروايات (١) ويترتب على هذا أنّ النذر في مفروض المقام بما أنّ متعلقه في نفسه محلل للحرام ، لاستلزامه ترك الواجب وهو الحج فلا ينعقد ، لما قد عرفت من اشتراط صحته بعدم كون متعلقه كذلك ، وعليه فلا مناص من تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.

أو فقل : إنّه لا مانع من فعلية وجوب الحج هنا على الفرض ما عدا وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه ، وحيث إنّه مشروط بعدم كون متعلقه في نفسه مستلزماً لترك واجب أو فعل حرام ، فلا محالة لا يكون فعلياً في هذا الفرض ـ أي فرض مزاحمته مع وجوب الحج ـ ليكون مانعاً عن فعلية وجوبه ، لاستلزام الوفاء به ترك الواجب وهو الحج ، وعليه فلا محالة يكون وجوب الحج فعلياً ورافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر ، كما هو واضح.

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٣١٧ / كتاب النذر ب ١٧

٥٧

وعلى هذا الأساس نستنتج من ذلك كبرى كلّية وهي أنّ كل واجب لم يكن وجوبه مشروطاً بعدم كون متعلقه في نفسه محللاً للحرام يتقدّم في مقام المزاحمة على واجب كان وجوبه مشروطاً بذلك ، كالواجبات الإلهية التي ليست بمجعولة في الشريعة المقدّسة ابتداءً ، بل هي مجعولة بعناوين ثانوية كالنذر والعهد والحلف والشرط في ضمن عقد وما شاكل ذلك ، فانّ وجوب الوفاء بتلك الواجبات جميعاً مشروط بعدم كونها مخالفة للكتاب أو السنّة ومحللة للحرام ، فتؤخذ هذه القيود العدمية في موضوع وجوب الوفاء بها.

وعلى ذلك يترتب أنّ تلك الواجبات لا تصلح أن تزاحم الواجبات التي هي مجعولة في الشريعة المقدّسة ابتداءً ، كالصلاة والصوم والحج وما شابه ذلك ، لعدم أخذ تلك القيود العدمية في موضوع وجوبها ، وعليه ففي مقام المزاحمة لا موضوع لتلك الواجبات ، فينتفي وجوب الوفاء بها بانتفاء موضوعه.

فالنتيجة : أنّ عدم مزاحمة تلك الواجبات معها لقصور أدلتها عن شمولها في هذه الموارد ـ أعني بها موارد مخالفة الكتاب أو السنّة وتحليل الحرام في نفسها ـ لانتفاء موضوعها ، لا لوجود مانع في البين ، ومن هنا قلنا إنّ أدلة وجوب الوفاء بها ناظرة إلى الأحكام الأوّلية ، ودالة على نفوذ تلك الواجبات ووجوب الوفاء بها فيما إذا لم تكن مخالفة لشيء من تلك الأحكام. وأمّا في صورة المخالفة فتسقط بسقوط موضوعها كما عرفت ، وتمام الكلام في ذلك في محلّه.

وأمّا النقطة الثالثة : وهي أنّ الأسبق زماناً إنّما يكون مرجحاً فيما إذا لم تكن هناك جهة اخرى تقتضي تقديم الآخر عليه ، فهي في غاية الوضوح ، لأنّ كل مرجح وإن كان يستدعي تقديم صاحبه على غيره ، إلاّ أنّ استدعاءه ليس على نحو العلة التامة ، بل هو على نحو الاقتضاء ، فلو كان هناك مانع من تقديمه

٥٨

أو كانت هناك جهة اخرى تقتضي تقديم غيره عليه فلا أثر له.

وعلى الجملة فلا شبهة في أنّ أسبقية أحد الواجبين زماناً على الواجب الآخر من المرجحات في مقام المزاحمة ، ولكن من المعلوم أنّها إنّما تقتضي التقديم فيما إذا لم يكن هناك مانع عن اقتضائها ذلك ، أو لم تكن هناك جهة اخرى أقوى منها تقتضي تقديم الواجب اللاّحق على السابق ، وهذا ظاهر.

وأمّا النقطة الرابعة : وهي أنّ صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحاً في ظرف العمل ولا يكون محللاً للحرام ، فهي تامة بالاضافة إلى ناحية ، وغير تامة بالاضافة إلى ناحية اخرى.

أمّا بالاضافة إلى ناحية أنّ الوفاء بالنذر في ظرفه مستلزم لترك الواجب وهو الحج فهي تامة ، لما عرفت من أنّ صحة النذر وأشباهه مشروطة بعدم كون الوفاء به محللاً للحرام ، وحيث إنّه في مفروض الكلام موجب لذلك فلا يكون منعقداً.

وأمّا بالاضافة إلى ناحية أنّ متعلقه ليس براجح في نفسه في ظرف العمل لاستلزامه ترك الواجب فهي غير تامة ، ضرورة أنّ المعتبر في صحته هو رجحان متعلقه في نفسه ، والمفروض أنّه كذلك في المقام ، ومجرد كونه مضاداً لواجب فعلي لا يوجب مرجوحيته ، إلاّبناءً على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، وقد تقدّم فساد هذا القول بشكل واضح (١) ، وقلنا هناك إنّ الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه بوجه. على أنّه نهي غيري لا ينافي الرجحان الذاتي كما هو واضح.

وأمّا النقطة الخامسة : وهي أنّ نفس الالتزام النذري يقتضي كون متعلقه

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٣٣٥

٥٩

حصة خاصة وهي الحصة المقدورة نظير اقتضاء نفس التكاليف ذلك ، فقد ظهر فسادها مما تقدّم وملخصه : أنّ ذلك لا يتمّ حتّى على مسلك المشهور من أنّ حقيقة التكليف عبارة عن البعث أو الزجر إلى الفعل أو عنه ، فضلاً عما حققناه من أنّ حقيقته عبارة عن اعتبار فعل على ذمة المكلف ، أو اعتبار تحريمه وبُعد المكلف عنه ، وإبرازه في الخارج بمبرز ، ولانعقل لغير ذلك معنىً محصلاً للتكليف.

ومن الطبيعي أنّ اعتبار شيء على الذمة لا يقتضي اشتراطه بالقدرة لا عقلاً ولا شرعاً ، ومن هنا قلنا إنّ القدرة لم تؤخذ في متعلق التكليف لا من ناحية العقل ولا من ناحية الشرع ، فالقدرة إنّما هي معتبرة في مقام الامتثال فحسب ، ولا يحكم العقل باعتبارها بأزيد من ذلك ، وقد سبق الكلام في ذلك بصورة مفصلة فلا حاجة إلى الاعادة.

ومن ذلك يظهر الكلام فيما نحن فيه ، وذلك لأنّ حقيقة النذر أو ما شابهه بالتحليل ليست إلاّعبارة عن اعتبار الناذر الفعل على ذمته لله تعالى ، وقد عرفت أنّ اعتبار شيء على الذمة لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه لا عقلاً ولا شرعاً ، ضرورة أنّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغيره على الذمة أصلاً ، فاذن لا يقتضي تعلق النذر بشيء اعتبار القدرة فيه عقلاً وشرعاً ، فما أفاده قدس‌سره من اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعاً من هذه الناحية غير تام.

على أنّ ما أفاده قدس‌سره هنا من اختصاص الملاك بخصوص الفعل المقدور مناقض لما أفاده سابقاً (١).

وملخص ما أفاده هناك : هو أنّ القدرة مرّة مأخوذة في متعلق الطلب لفظاً

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦

٦٠