محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

باعتبار أنّه منتهٍ بالأخرة إلى اختياره ، فإذن لا مانع من الحكم باستحقاقه للعقاب من ناحيةٍ باعتبار أنّه منتهٍ إلى الاختيار ، وفساد عبادته من ناحية اخرى باعتبار أنّ هذا التصرف مبغوض للمولى ، فلا يمكن التقرب به ، وهذا واضح.

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فالظاهر بل المقطوع به أنّ عبادته صحيحة ، وذلك لفرض أنّ النسيان رافع للحرمة واقعاً ، فلا يكون المجمع في هذا الحال محرّماً كذلك ، ولا مبغوضاً لفرض أنّ نسيانه كان عن قصور لا عن تقصير ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ المجمع إذا كان جائزاً واقعاً فلا مانع من شمول إطلاق دليل الأمر به ، ضرورة أنّ المانع من شموله لهذا الفرد هو دليل الحرمة وتقديمه على دليل الوجوب وبذلك يقيد إطلاق دليله ، فإذا فرض سقوط دليله واقعاً كما في المقام ، فلا مانع من شمول إطلاقه له أصلاً.

وبتعبير آخر : قد ذكرنا أنّ المعتبر في صحة العبادة أمران أحدهما أن يقصد القربة ، والآخر أن يكون الفعل في نفسه قابلاً للتقرب به ، والمفروض أنّ كلا الأمرين في المقام موجود.

أمّا الأوّل : فلفرض أنّ المكلف قصد القربة. وأمّا الثاني : فلفرض أنّ الفعل في نفسه سائغ واقعاً ، ومعه لا مانع من التقرب به باتيانه بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة ، لفرض أنّها تشمله بعد سقوط دليل المقيّد لها واقعاً ، وهذا ظاهر.

ومن هنا حكمنا بصحة الوضوء في الماء المغصوب نسياناً إذا كان عن قصور ، وذلك لفرض أنّ التصرف فيه جائز واقعاً ، ومعه لا مانع من شمول إطلاق دليل وجوب الوضوء له.

فالنتيجة : أنّ ما نسب إلى المشهور من صحة الصلاة في الدار المغصوبة في

٤٤١

حال نسيان الحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور متين جداً ولا مناص عنه ، ولكن ما نسب إليهم من صحة الصلاة فيها في حال الجهل فقد عرفت أنّه غير تام.

لحدّ الآن قد تبيّن أنّ ما أفاده قدس‌سره في هذا الأمر من الثمرة لا يمكن إتمامه بدليل ، بل لا يترقب صدوره من مثله قدس‌سره.

وبعد ذلك نقول : إنّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) قد اختار في المسألة القول بالامتناع ، ورتّب ذلك القول على بيان مقدّمات :

الاولى : ما لفظه : أنّه لا ريب في أنّ الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر ، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث نحو واحدٍ في زمان والزجر عنه في ذاك الزمان ، وإن لم يكن بينهما مضادة ما لم تبلغ إلى تلك المرتبة ، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الانشائية قبل البلوغ إليها كما لا يخفى ، فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال ، بل من جهة أنّه بنفسه محال ، فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضاً.

ملخّص هذه المقدّمة : هو أنّ المضادة والمعاندة بين الأحكام الخمسة إنّما هي في مرتبة فعليتها وبلوغ تلك الأحكام حدّ البعث والزجر الحقيقيين ، فلا مضادة بينها في مرتبة الانشاء فضلاً عن مرتبة الاقتضاء ، واستحالة الجمع بين اثنين منها في هذه المرتبة في شيء واحد في زمانٍ من باب استحالة اجتماع الضدّين ، فلذا لا تختص بمذهب دون آخر ، بل هو محال مطلقاً حتّى على مذهب الأشعري المجوّز للتكليف بالمحال ، فانّ هذا في نفسه محال.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٥٨ ـ ١٥٩

٤٤٢

الثانية : ما نصّه : أنّه لا شبهة في أنّ متعلق الأحكام هو فعل المكلف وما هو في الخارج يصدر عنه وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه ، وهو واضح ، ولا ما هو عنوانه مما قد انتزع عنه بحيث لولا انتزاعه تصوراً واختراعه ذهناً لما كان بحذائه شيء خارجاً ، ويكون خارج المحمول كالملكية والزوجية والرقية والحرّية والمغصوبية إلى غير ذلك من الاعتبارات والاضافات ، ضرورة أنّ البعث ليس نحوه والزجر لا يكون عنه ، وإنّما يؤخذ في متعلق الأحكام آلةً للحاظ متعلقاتها ، والاشارة إليها بمقدار الغرض منها والحاجة إليها ، لا بما هو هو وبنفسه وعلى استقلاله وحياله.

مردّ هذه المقدّمة إلى أنّ الأحكام الشرعية لم تتعلق بالأسماء والألفاظ ، ولا بالعناوين الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج أصلاً ، وإنّما تتعلق تلك الأحكام بأفعال المكلفين الصادرة عنهم خارجاً ، ضرورة أنّ الغرض سواء أكان مصلحة أو مفسدة أم كان غيرهما لا يترتب على الأسماء والألفاظ المجردة ، ولا على العناوين الانتزاعية التي لا واقع موضوعي لها ، وإنّما يترتب على تلك الأفعال فحسب ، وهذا ظاهر.

الثالثة : ما لفظه : أنّه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون ، ولا تنثلم به وحدته ، فانّ المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد وتصدق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة ، بل بسيط من جميع الجهات ، ليس فيه حيث غير حيث وجهة مغايرة لجهته أصلاً ، كالواجب ( تبارك وتعالى ) فهو على بساطته ووحدته وأحديته تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية والجمالية ، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا ، لكنّها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد :

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

وكل إلى ذاك الجمال يشير

٤٤٣

ملخّص هذه المقدّمة : هو أنّ تعدد العنوان بشتّى أنواعه وأشكاله لا يوجب تعدد المعنون في الخارج ، ضرورة أنّه لا مانع من انطباق عناوين متعددة على معنون واحد خارجاً أصلاً ، ولا يوجب تعدده أبداً ، كانطباق عنوان الأب والابن والأخ والزوج والعالم والقادر وما شاكل ذلك على شخص واحد وذات فاردة كزيد مثلاً ، بل تنطبق على ذات واحدة بسيطة من تمام الجهات كذاته تعالى شأنه ، فانّ مفاهيم الصفات العليا الذاتية كالعالم والقادر ونحوهما ، والصفات الفعلية كالخالق والرازق والمتكلم والمريد وما شاكل ذلك ، تنطبق على ذاته الأحدية ، مع أنّها بسيطة في غاية البساطة. نعم ، تلك الذات البسيطة باعتبار انكشاف الأشياء لديها عالم ، وباعتبار قدرتها على التكوين والايجاد قادر ، وباعتبار خلقها الأشياء خالق ، وباعتبار رزقها العالم رازق ... وهكذا ، فالاختلاف والتعدد إنّما هو في الاضافة لا في الذات ، كما هو واضح ، وكيف كان ، فتعدد العنوان لا يستدعي تعدد المعنون بحسب الوجود الخارجي.

الرابعة : ما هذا نصه : أنّه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد إلاّماهية واحدة وحقيقة فاردة لايقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلاّتلك الماهية ، فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقية كانت عينه في الخارج كما هو شأن الطبيعي وفرده ، فيكون الواحد وجوداً واحداً ماهيةً وذاتاً لا محالة ، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلقا الأمر والنهي ، إلاّ أنّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهيةً وذاتاً ، ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية. ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة على القولين في تلك المسألة كما توهّم في الفصول ، كما ظهر عدم الابتناء على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج وعدم تعدده ، ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له ، وأنّ مثل الحركة في دار من أيّ مقولة كانت لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلف ذاتياتها ، وقعت

٤٤٤

جزءاً لصلاة أو لا ، كانت تلك الدار مغصوبة أو لا.

ولنأخذ بتوضيح هذه المقدّمة بما يلي : قد يتخيل في المقام كما عن الفصول (١) أنّ القول بالامتناع والجواز في مسألتنا هذه يرتكزان على القول بأصالة الوجود وأصالة الماهية ، ببيان أنّه لا شبهة في أنّ ماهية الصلاة غير ماهية الغصب ، فهما ماهيتان متباينتان يستحيل اتحادهما في الخارج ودخولهما تحت ماهية اخرى ، وعلى هذا فإن قلنا بأصالة الماهية في تلك المسألة ، فبما أنّ مناط تأصلها وتحصّلها نفسها في الخارج لا وجودها ، لأنّ الفرض أنّه لا واقع موضوعي له ولا مطابق له في الخارج والمطابق فيه إنّما هو للماهية ، فلا محالة يكون متعلق النهي غير متعلق الأمر تحصّلاً ، ضرورة استحالة اتحاد الماهيتين المتحصلتين خارجاً ودخولهما تحت ماهية ثالثة ، فإذن لا مناص من القول بالجواز. وأمّا إن قلنا بأصالة الوجود في تلك المسألة ، فبما أنّ اتحاد الماهيتين في الوجود الخارجي بمكان من الوضوح كاتحاد الماهية الجنسية مع الماهية الفصلية ، فلا مناص من القول بالامتناع ، وذلك لأنّ ماهية الصلاة وإن كانت مغايرة لماهية الغصب بما هما ماهيتان ، إلاّ أنّهما متحدتان في الخارج وتوجدان بوجود فارد ، ومن المعلوم أنّ وجوداً واحداً لايعقل أن يكون مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.

وإن شئت فقل : إنّ المحقق صاحب الفصول قدس‌سره قد ابتنى القول بالامتناع في المسألة على القول بأصالة الوجود باعتبار أنّ الوجود في مورد الاجتماع واحد ، والقول بالجواز على القول بأصالة الماهية باعتبار أنّ الماهية في مورد الاجتماع متعددة.

ولكن هذا الخيال خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، وذلك لأنّ

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٢٥ ـ ١٢٦

٤٤٥

ماهية الصلاة وماهية الغصب ليستا من الماهيات المتأصلة المقولية لتدخل في محل النزاع في تلك المسألة ، أعني مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية ، بل هما من الماهيات الانتزاعية والعناوين الاعتبارية التي لا مطابق لها في الخارج ما عدا منشأ انتزاعها ، سواء فيه القول بأصالة الوجود أو الماهية ، فإذن لا يجري فيهما النزاع في تلك المسألة ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد عرفت أنّه لا مانع من انطباق عناوين متعددة على معنون واحد وجوداً وماهيةً.

ومن ناحية ثالثة : أنّ محل النزاع في تلك المسألة إنّما هو في الماهيات المتأصلة المقولية.

ومن ناحية رابعة : أنّه لايعقل أن يكون لوجود واحد ماهيتان حقيقيتان أو حدّان كذلك ، بداهة أنّ لوجود واحد ماهية واحدة أو حدّ كذلك ، وهذا واضح.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي أنّ مسألتنا هذه أجنبية عن تلك المسألة بالكلّية ولا تبتني عليها أصلاً ، وذلك لأنّ المجمع إذا كان له وجود واحد فلا محالة يكون له ماهية واحدة أو حدّ كذلك ، ولا يعقل أن تكون له ماهيتان حقيقيتان أو حدّان كذلك ، سواء فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية ، ولا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً ، ضرورة أنّ الوجود الواحد لا يعقل أن يكون وجوداً لماهيتين متباينتين ، كيف فانّه إن كان وجوداً لهذه الماهية ، فلا يمكن أن يكون لتلك وبالعكس.

وأمّا إذا فرض أنّ للمجمع في مورد الاجتماع وجودين فلا محالة تكون له ماهيتان ، بداهة أنّ لكل وجود ماهية واحدة ، فلا يعقل أن تكون الماهية الواحدة ماهية لوجودين ، وعليه فلا مناص من القول بالجواز بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر ، ومن

٤٤٦

الواضح أنّه لا فرق في ذلك بين القول بأصالة الوجود في تلك المسألة وأصالة الماهية فيها.

فالنتيجة : أنّ المفروض في المسألة بما أنّ المطابق في مورد الاجتماع واحد ، سواء أكان ذلك المطابق مطابقاً للماهية بالذات وللوجود بالعرض ، بناءً على أصالة الماهية ، أم كان بالعكس بناءً على أصالة الوجود ، فلا يعقل فيه اجتماع الأمر والنهي وهذا واضح.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكر في الفصول (١) أيضاً من ابتناء القول بالجواز والامتناع على تعدد وجود الجنس والفصل وعدمه ، بدعوى أنّ مورد الأمر إذا كان الماهية الجنسية ، ومورد النهي الماهية الفصلية ، فإن كانت الماهيتان متحدتين في الخارج وموجودتين بوجود واحد ، فلا مناص من القول بالامتناع ، وإن كانتا متعددتين فيه بحسب الوجود فلا مناص من القول بالجواز.

وجه الظهور : ما عرفت آنفاً من أنّ ماهية الصلاة وماهية الغصب ليستا من الماهيات الحقيقية المقولية لتكون إحداهما جنساً والاخرى فصلاً ، بل هما من المفاهيم الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج أصلاً ليقال إنّهما موجودتان فيه بوجود واحد أو بوجودين.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ ماهية الصلاة وماهية الغصب من الماهيات الحقيقية المقولية ، إلاّ أنّ من الواضح جداً أنّ ماهية الصلاة ليست جنساً وماهية الغصب ليست فصلاً مقوّماً لها ، ضرورة أنّ الماهية الفصلية لا تنفك عن الماهية الجنسية ، فانّ نسبتها إليها نسبة الصورة إلى المادة ، ومن المعلوم استحالة انفكاك الصورة عن المادة ، مع أنّ الغصب ينفك عن الصلاة بكثير ، بحيث إنّ

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٢٥

٤٤٧

نسبة مادة اجتماعهما إلى مادة افتراقهما نسبة الواحد إلى الالوف ، وعليه فكيف يكون الغصب فصلاً والصلاة جنساً له ، كما أنّ توهم كون الحركة في مورد الاجتماع بما هي حركة جنساً والصلاتية والغصبية فصلان لها واضح الفساد ، وذلك لاستحالة أن يكون لشيء واحد فصلان مقوّمان ، فانّ فعلية الشيء إنّما هي بفصله وصورته ، ومن الواضح أنّه لا يعقل أن يكون لشيء واحد صورتان.

على أنّك عرفت أنّ مفهوم الصلاة والغصب من المفاهيم الانتزاعية ، ومن الطبيعي أنّ المفهوم الانتزاعي لا يصلح أن يكون فصلاً ، كيف فانّ فعلية الشيء ووجوده إنّما هي بفصله ، والمفروض أنّ الأمر الانتزاعي لا وجود له في الخارج ، ومعه لا يعقل كونه فصلاً.

فالنتيجة : هي أنّه لا أصل لابتناء القول بالجواز والامتناع في هذه المسألة على كون التركيب بين الجنس والفصل هل هو اتحادي أو انضمامي ، ضرورة أنّه لا صلة لإحدى المسألتين بالاخرى أبداً. على أنّه لا إشكال في كون التركيب بينهما اتحادياً.

نعم ، قد يقال : إنّ الأمر لو تعلق بالجنس في مقام والنهي تعلق بالفصل ، يبتني القول بالجواز والامتناع على كون التركيب بينهما اتحادياً أو انضمامياً ، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع ، لاستحالة اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ، وعلى الثاني فلا مانع من القول بالجواز ، لفرض أنّ متعلق الأمر عندئذ غير متعلق النهي وإن كانا متلازمين في مورد الاجتماع بحسب الوجود الخارجي ، ويحتمل أن يكون غرض المحقق صاحب الفصول قدس‌سره أيضاً ذلك ، لا أنّ غرضه هو أنّ الأمر في خصوص الصلاة والغصب كذلك ، وكيف كان فهذا أيضاً غير تام ، وذلك لأنّ المسألة على هذا الشكل تدخل في كبرى

٤٤٨

مسألة المطلق والمقيد ، فيجري عليهما أحكامها من حمل المطلق على المقيد. هذا مضافاً إلى أنّ الجنس والفصل متحدان في الخارج وموجودان بوجود واحد ، فلا يعقل أن يكونا موجودين بوجودين فيه.

وبعد ذلك نقول : إنّ النتيجة على ضوء هذه هي أنّه لا مناص من القول بالامتناع ، لفرض أنّ الأحكام متضادة فلايمكن اجتماع اثنين منها في شيء واحد بمقتضى المقدّمة الاولى ، ولفرض أنّ المجمع في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهيةً بمقتضى المقدّمة الثانية والثالثة والرابعة.

ثمّ ذكر أنّه قد يتوهّم أنّ محذور اجتماع الضدّين في شيء واحد يرتفع على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد ، ببيان أنّ الطبائع من حيث هي هي التي ليست إلاّذاتها وذاتياتها وإن كانت غير قابلة لأن تتعلق بها الأحكام الشرعية ، إلاّ أنّها مقيدة بالوجود الخارجي ـ على نحو كان القيد وهو الوجود خارجاً والتقيد به داخلاً ـ قابلة لأن تتعلق بها الأحكام ، وعلى هذا فلا يكون متعلقا الأمر والنهي متحدين أصلاً ، لا في مقام تعلق الأمر والنهي ، ولا في مقام عصيان النهي وإطاعة الأمر باتيان المجمع بسوء الاختيار.

أمّا في المقام الأوّل : فلتعدد متعلقهما بما هما متعلقان وإن كانا متحدين في الوجود ، إلاّ أنّك عرفت أنّ الوجود قيد خارج عن المتعلق والتقيد به داخل.

وأمّا في المقام الثاني : فلسقوط أحدهما بالاطاعة والآخر بالعصيان ، إذن فلا اجتماع بين الحكمين في واحد.

ولكن هذا التوهّم خاطئ ، وذلك لما سبق (١) من أنّ مورد الحكم إنّما هو فعل المكلف بواقعه وحقيقته الصادرة منه ، لا بعنوانه العارض عليه ، وقد عرفت

__________________

(١) في ص ٤٤٢

٤٤٩

أنّ الفعل في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهيةً ، وأنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدده ، والمفروض أنّ الصلاة والغصب ليستا من الماهيات الحقيقية المقولية لتكونا متعلقتين للأمر والنهي ، بل هما من المفاهيم الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج ، وإنّما تؤخذ في متعلقات الأحكام بما هي حاكيات وإشارات إلى ما هو المتعلق في الواقع ، لا بما هي على حيالها واستقلالها ، هذا تمام ما أفاده قدس‌سره في وجه القول بالامتناع ، ولعلّه أحسن ما قيل في المقام.

ولنأخذ بالنقد على بعض تلك المقدّمات وبذلك تبطل النتيجة التي أخذها قدس‌سره من هذه المقدّمات ، وهي القول بالامتناع مطلقاً ، بيان ذلك :

أمّا المقدّمة الاولى : فقد ذكرنا غير مرّة أنّ حديث تضاد الأحكام بعضها مع بعضها الآخر في نفسها وإن كان أمراً معروفاً بين الأصحاب قديماً وحديثاً ، إلاّ أنّه مما لا أصل له ، وذلك لما حققناه من أنّ الأحكام الشرعية امور اعتبارية فلا واقع لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، ومن الواضح جداً أنّه لا مضادة بين نفس اعتباري الوجوب والحرمة ذاتاً ، بداهة أنّه لا تنافي بين نفس اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف وبين اعتباره محرومية المكلف عنه بالذات ، مع قطع النظر عن مبدئهما ومنتهاهما ، فانّ الاعتبار خفيف المؤونة ، فلا مانع من اعتبار وجوب شيء وحرمته معاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ المضادة إنّما تكون طارئة على الموجودات التكوينية الخارجية كالبياض والسواد والحركة والسكون وما شاكل ذلك ومن صفاتها ، وأمّا الامور الاعتبارية فالمفروض أنّه لا واقع لها ما عدا اعتبار المعتبر ، ليكون بعضها مضاداً مع بعضها الآخر.

نعم ، المضادة بين الأحكام من ناحيتين :

الاولى : من جهة المبدأ ، أعني اشتمال الفعل على المحبوبية والمبغوضية.

٤٥٠

الثانية : من جهة المنتهى ، أعني مرحلة الامتثال والاطاعة.

أمّا من ناحية المبدأ : فلأنّ الوجوب والحرمة بناءً على وجهة نظر مذهب العدلية كاشفان عن المحبوبية والمبغوضية في متعلقه ، وعليه فلا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ، وذلك لاستحالة أن يكون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً معاً ، فمن هذه الناحية لايمكن اجتماعهما في شيء واحد وفي زمان فارد لا بالذات والحقيقة.

فالنتيجة أنّ المضادة بين الوجوب والحرمة إنّما هي بالعرض والمجاز ، فانّها في الحقيقة بين المحبوبية والمبغوضية والمصلحة الملزمة والمفسدة كذلك ، كما هو واضح.

وأمّا من ناحية المنتهى : فلأنّ اجتماعهما في شيء واحد يستلزم التكليف بالمحال وبغير المقدور ، لفرض أنّ المكلف في هذا الحال غير قادر على امتثال كليهما معاً.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّ المضادة بين الأحكام الشرعية إنّما هي في مرتبة فعليتها وبلوغها حدّ البعث والزجر ، مبني على نقطة واحدة وهي أن تكون الأحكام من قبيل الأعراض الخارجية ، فكما أنّ المضادة بين الأعراض إنّما كانت في مرتبة فعليتها ووجودها في الخارج ، لوضوح أنّه لا مضادة بين السواد والبياض قبل فعليتهما ووجودهما فيه ... وهكذا ، فكذلك المضادة بين الأحكام الشرعية إنّما تكون في مرتبة فعليتها ووجوداتها في الخارج ، فلا مضادة بين الوجوب والحرمة قبل وجودهما فيه وبلوغهما حدّ البعث والزجر.

ولكن تلك النقطة خاطئة جداً ، وذلك لأنّ الأحكام الشرعية ليست من سنخ الأعراض الخارجية لتكون المضادة بينها في مرتبة فعليتها ووجوداتها في الخارج ، لما ذكرناه من أنّ المضادة صفة عارضة على الموجودات الخارجية ،

٤٥١

فلا مضادة بينها قبل وجوداتها ، بل هي من الامور الاعتبارية التي ليس لها واقع موضوعي ، وقد تقدّم أنّه لا مضادة بينها بالذات والحقيقة ، والمضادة بينها إمّا من ناحية المبدأ أو من ناحية المنتهى. أمّا من ناحية المبدأ ، فالمضادة بينها إنّما هي في مرتبة جعلها ، فلا يمكن جعل الوجوب والحرمة على شيء واحد ، ومن الواضح أنّ المضادة في هذه المرتبة لا تتوقف على فعليتهما وبلوغهما حدّ البعث والزجر ، ضرورة أنّ المضادة بين نفس الجعلين ، فلا يمكن تحقق كليهما معاً. وأمّا من ناحية المنتهى ، فالمضادة بينها وإن كانت في مرتبة فعليتها ، إلاّ أنّها بالعرض والمجاز ، فانّها ناشئة عن عدم قدرة المكلف على الجمع بينها في مقام الامتثال وإلاّ فلا مضادة بينها أصلاً.

وعلى الجملة : فجعل الوجوب والحرمة لشيء واحد وجوداً وماهيةً مستحيل على جميع المذاهب والآراء ، بداهة أنّ استحالة اجتماع الضدّين في شيء واحد لا تختص بوجهة نظر دون آخر ، ولا تتوقف استحالة ذلك على فعليتهما أبداً وهذا ظاهر.

فما أفاده قدس‌سره من أنّ التضاد بين الأحكام إنّما هو في مرتبة فعليتها دون مرتبة الانشاء لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً كما لا يخفى.

وأمّا المقدّمة الثانية : فالأمر كما أفاده قدس‌سره من أنّ الأحكام لاتتعلق بالعناوين الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج بحيالها واستقلالها. نعم ، تؤخذ تلك العناوين في متعلقات الأحكام لا بما هي هي ، بل بما هي معرّفة ومشيرة إلى ما هو المتعلق في الواقع ، كما أنّها لا تتعلق بالأسماء والألفاظ كذلك ، وإنّما تتعلق بطبيعي الأفعال الصادرة عن المكلفين في الخارج.

وأمّا المقدّمة الرابعة : فالأمر أيضاً كما أفاده قدس‌سره والوجه فيه ما تقدّم من استحالة أن يكون لشيء واحد ماهيتان في عرض واحد أو حدّان

٤٥٢

كذلك. نعم ، يمكن أن يكون له ماهيات طولاً باعتبار أجناسه العالية والمتوسطة والقريبة ، ولكن لا يمكن أن يكون له ماهيتان نوعيتان عرضاً ، فانّ لازم ذلك هو أن يكون شيء واحد متفصّلاً بفصلين يكون كل منهما مقوّماً له ، ومن الواضح استحالة ذلك كاستحالة دخول شيء تحت مقولتين من المقولات العشرة ، ضرورة أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات والحقيقة ، فيستحيل اندراج مقولتين منها تحت مقولة واحدة ، كما أنّه يستحيل أن يكون شيء واحد مندرجاً تحت مقولتين منها ، فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن : أنّه كما يستحيل صدق المقولتين على شيء واحد كذلك يستحيل تفصّل شيء واحد بفصلين ولو كانا من مقولة واحدة.

وأمّا المقدّمة الثالثة : وهي أنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ، فغير تامة ، وذلك لأنّ هذه الكبرى لا تصدق إلاّعلى نحو الموجبة الجزئية ، ومعها لاتنتج النتيجة المزبورة وهي القول بالامتناع ، لفرض أنّه قدس‌سره لم يبرهن أنّ المعنون واحد في جميع موارد الاجتماع ، وغاية ما برهن أنّ تعدد العنوان لايقتضي تعدد المعنون ، ومن المعلوم أنّ عدم الاقتضاء أعم من أن يكون واحداً أو متعدداً ، فإذن لا بدّ من ملاحظة المجمع في مورد الاجتماع في نفسه ، ومجرد تعدد العنوان كما لا يكشف عن تعدد المعنون فيه ، كذلك لا يكشف عن وحدته ، فلا أثر له بالاضافة إلى تعدده ووحدته أصلاً.

ومن هنا استشكل شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بأ نّها لا تتم على إطلاقها ، وذلك لأنّ العنوانين المنطبقين على شيء في الخارج إن كانا من العناوين الانتزاعية والمفاهيم الاعتبارية التي تنتزع من الجهات التعليلية ولا واقع موضوعي لها ، فمن الواضح أنّ تعددها لا يوجب تعدد المعنون أبداً ، ومن هنا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٣٦

٤٥٣

قال قدس‌سره : إنّا قد ذكرنا في بحث المشتق أنّ صدق كل عنوان اشتقاقي على ذات معلول لقيام المبدأ بها بنحو من أنحاء القيام.

وعلى هذا الضوء فلا محالة تكون جهة الصدق والانطباق في صدق العناوين الاشتقاقية على ذات واحدة ، وانطباق تلك العناوين عليها تعليلية لا تقييدية ، إذ المفروض أنّ المعنون واحد ولا تعدد فيه أصلاً لا وجوداً ولا ماهية ، والتعدد إنّما هو في الأعراض القائمة بذلك الموجود الواحد التي توجب انتزاع تلك العناوين في الخارج ، فصدق كل عنوان معلول لعرض قائم به ، مثلاً صدق عنوان العالم عليه معلول لقيام العلم به ، وصدق عنوان العادل عليه معلول لقيام العدل به ، وصدق عنوان الشجاع معلول لقيام الشجاعة ... وهكذا. وعليه فيكون صدق كل من هذه العناوين على هذا الشخص الواحد معلولاً لعلّة غير ما هو علّة لصدق الآخر ، كما هو واضح.

فالنتيجة : هي أنّ الجهات في صدق العناوين الاشتقاقية بما أنّها جهات تعليلية فتعددها لايوجب تعدد المعنون في الخارج ، ومن هنا يكون التركيب بين العنوانين الاشتقاقيين كالأبيض والحلو والمصلي والغاصب وما شاكلهما في مورد الاجتماع اتحادياً ، لفرض أنّ المعنون واحد وجوداً وماهيةً ، والتعدد إنّما يكون في العرضين القائمين به.

وأمّا إذا كان العنوانان من العناوين الذاتية كالعلم والشجاعة والقدرة وما شابه ذلك ، فمن الطبيعي أنّ تعددها يوجب تعدد المعنون في الخارج ، ضرورة أنّ الجهات فيها تقييدية ، فلا يعقل اتحاد العنوانين منها خارجاً ، ولا يمكن أن يكون التركيب بينهما اتحادياً ، بداهة أنّ التركيب الاتحادي إنّما يعقل بين جزأين يكون أحدهما قوّة محضة والآخر فعلية كذلك كالمادة والصورة ، وأمّا الاتحاد بين أمرين فعليين فلا يعقل ، لوضوح أنّ كل فعلية تأبى عن فعلية اخرى.

٤٥٤

وعلى هذا الضوء فلا محالة تكون جهة الصدق في صدق كل من تلك المبادئ جهة تقييدية ، ومن الواضح أنّ الجهة التقييدية توجب تعدد المعنون خارجاً ، مثلاً ما ينطبق عليه عنوان العلم غير ما ينطبق عليه عنوان العدل في الخارج ، لاستحالة اتحادهما فيه ، غاية الأمر أنّهما يكونان متلازمين في الوجود في مورد الاجتماع ، والوجه في ذلك : هو أنّ المبدأ المأخوذ بشرط لا بما أنّه ماهية واحدة وحقيقة فاردة فلا محالة يكون محفوظاً بتمام ماهيته أينما سرى وتحقق ، ضرورة أنّ الصلاة الموجودة في الدار المغصوبة متحدة في الماهية والحقيقة مع الصلاة الموجودة في غيرها ، وكذا البياض الموجود في الثلج مثلاً في المكان المغصوب متحد في الماهية والحقيقة مع البياض الموجود في العاج أو نحوه ، وكذا الحال في بقية المبادئ منها الغصب فانّه ماهية واحدة أينما سرى وتحقق ، أي سواء أتحقق في ضمن الصلاة أم في ضمن فعل آخر.

وعلى هذا الأصل فلا محالة يكون التركيب بينهما ـ أي بين الصلاة والغصب مثلاً ـ في مورد الاجتماع انضمامياً ، نظير التركيب بين الهيولى والصورة ، ويستحيل اتحادهما في الخارج ، ليكون التركيب بينهما اتحادياً ، لما عرفت من استحالة التركيب الحقيقي بين أمرين فعليين.

وبكلمة اخرى : أنّ الصلاة من مقولة والغصب من مقولة اخرى وهي مقولة الأين ، ومن المعلوم أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بتمام الذات والحقيقة فيستحيل اندراج مقولتين منها تحت مقولة ، فإذا كانت الصلاة من مقولة والغصب من مقولة اخرى يستحيل اتحادهما في الوجود الخارجي واندراجهما تحت مقولة ثالثة.

وقد يتخيل في المقام أنّهما يصدقان على حركة واحدة شخصية ، وتلك الحركة الواحدة مصداق للصلاة والغصب معاً ، وعلى هذا فيكون التركيب بينهما

٤٥٥

في مورد الاجتماع اتحادياً.

ولكن هذا الخيال خاطئ جداً ، والوجه فيه : هو أنّ ذلك يستلزم تفصل الجنس الواحد ـ أعني الحركة ـ بفصلين في عرض واحد وهو محال ، ضرورة أنّه لا يمكن كون الحركة فيها جنساً لهما وما به اشتراكهما ، وإلاّ لزم ذلك المحذور.

أضف إلى ذلك : أنّ الأعراض بسائط خارجية ، فما به الاشتراك في كل مقولة منها عين ما به الامتياز في تلك المقولة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الحركة ليست مقولة برأسها في قبال تلك المقولات ، بداهة أنّ نسبة الحركة إلى المقولات التي تقبل الحركة نسبة الهيولى إلى الصور ، فكما أنّ الهيولى لا توجد في الخارج إلاّفي ضمن صورة ، فكذلك لا توجد الحركة إلاّفي ضمن مقولة ، ومن الواضح جداً أنّ الحركة في أيّة مقولة تحققت فهي عين تلك المقولة ، وليست أمراً زائداً عليها ، سواء أكانت في مقولة الجوهر على القول بالحركة الجوهرية أم كانت في مقولة الكم أو الكيف أو نحو ذلك ، ضرورة أنّ الحركة في مقولة الجوهر ليست شيئاً زائداً عليها ، بل هي عينها وحقيقتها ، وكذا الحركة في الكم والكيف والأين والوضع ، فانّها لا تزيد على وجودها ، بل هي عينها خارجاً.

وعلى هذا الضوء فالحركة الموجودة في ضمن الصلاة لا محالة تكون مباينة للحركة الموجودة في ضمن الغصب ، لفرض أنّ الصلاة من مقولةٍ والغصب من مقولة اخرى ، وعليه ففرض كون الحركة الواحدة مصداقاً لهما معاً يستلزم اتحاد المقولتين المتباينتين في الوجود ، وهو محال. فإذن لا وجه لدعوى أنّ الحركة الموجودة في الدار المغصوبة كما هي محققة لعنوان الغصب ، كذلك هي معروضة للصلاة فيها ، فلا تستلزم وحدة الحركة فيها اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة ثالثة ، وذلك لما عرفت آنفاً من أنّ الحركة ليست مقولة برأسها ، بل

٤٥٦

هي توجد في ضمن المقولات وتكون عينها خارجاً ، وعليه فوحدتها في مورد الاجتماع وكونها كذلك مصداقاً لهما لا محالة تستلزم اتحاد المقولتين ، كما هو واضح.

وبكلمة اخرى : أنّ جهة الصدق في العناوين الاشتقاقية بما أنّها جهة تعليلية فلا يوجب تعددها تعدد المعنون في الخارج ، وجهة الصدق في المبادئ بما أنّها جهة تقييدية ، فلا محالة تعددها يوجب تعدد المعنون فيه ، بيان ذلك :

أمّا في الاولى : فلأنّ معروض المبادئ وموضوعها في الخارج يختلف وجوداً وماهيةً باختلاف الموارد ، فكما أنّ وحدة العرض نوعاً لا تقتضي وحدة معروضه كذلك ، فالبياض يعرض للثلج والعاج وغيرهما ، كذلك تعدد العرض لايقتضي تعدد معروضه ، فيمكن قيام أعراض متعددة بمعروض شخصي واحد ، مثلاً الذات التي يقوم بها المبدأ في مورد اجتماع الحلاوة والبياض كالسكر ذات ، وفي مورد الافتراق من ناحية الحلاوة ذات اخرى كالدبس المغايرة للُاولى ، وفي مورد الافتراق من ناحية البياض ذات ثالثة كالعاج ... وهكذا.

وعلى الجملة : فالمعروض لايتعدد بتعدد المبادئ القائمة به ، ولذا يكون واحداً في مورد اجتماع الحلاوة والبياض ولا يتعدد بتعددهما.

وعلى هذا الضوء فالمجمع للعنوانين الاشتقاقيين اللذين بينهما عموم من وجه لا محالة يكون واحداً كالمجمع لعنواني الحلو والأبيض والمصلي والغاصب والمتحرك والساكن والعالم والعادل وما شاكل ذلك ، لفرض أنّ المعنون في مورد الاجتماع واحد والتعدد إنّما هو في العرض القائم به ، وقد عرفت أنّ تعدد العرض لا يوجب تعدد المعروض.

وأمّا في الثانية : فلوضوح أنّ كل مبدأ من مبادئ الاشتقاق مباين لمبدأ آخر منها وجوداً وماهيةً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه من الطبيعي

٤٥٧

أنّ ذلك المبدأ بتمام ذاته وذاتياته محفوظ في جميع موارد تحققه وسريانه ، ضرورة أنّ الحلاوة الموجودة في محل الاجتماع متحدة في الماهية مع الحلاوة الموجودة في محل الافتراق ، بداهة أنّ جهة صدق طبيعي الحلاوة على الحصة منه الموجودة في محل الافتراق ليست مغايرةً لجهة صدقه على الحصة منه الموجودة في محل الاجتماع ، بل هي واحدة وهي أنّ هذه الحصة كتلك عين الطبيعي في الخارج ، لفرض أنّ وجوده فيه عين وجود أفراده وحصصه ، وصدقه على جميع أفراده بملاك واحد وبجهة فاردة ، من دون فرق في ذلك بين الفرد منه الموجود في محل الافتراق والفرد منه الموجود في محل الاجتماع ، وهذا واضح. وكذا الصلاة الموجودة في المكان المغصوب متحدة في الماهية مع الصلاة الموجودة في المكان المباح ، والغصب الموجود في ضمن الصلاة متحد في الماهية مع الغصب الموجود في ضمن فعل آخر ... وهكذا ، لوضوح أنّ الحقيقة الواحدة لا تختلف في الصدق باختلاف وجوداتها ومواردها كما هو ظاهر.

وعلى هذا يترتب أنّ التركيب بين الصلاة والغصب أو البياض والحلاوة في مورد اجتماعهما انضمامي ، نظير التركيب بين الهيولى والصورة ، لفرض أنّ الصلاة الموجودة في محل الاجتماع بعينها هي الصلاة الموجودة في محل الافتراق ، وكذا الحال في الغصب ، وعليه فلا يعقل أن تتحد الصلاة مع الغصب ، وإلاّ لزم أن لا تكون الصلاة الموجودة في محل الاجتماع فرداً لطبيعة الصلاة ، وكذا الغصب الموجود فيه ليس فرداً لطبيعته ، وهذا خلف.

نعم ، يفترق التركيب الانضمامي بين العرضين عن التركيب الانضمامي بين الهيولى والصورة من ناحية أنّ نسبة الهيولى إلى الصورة نسبة القوّة إلى الفعل ، فانّ الهيولى قوّة محضة والصورة فعلية محضة ، وهذا بخلاف نسبة العرض إلى معروضه ، فانّها نسبة الشخص إلى المتشخص ، لا نسبة القوّة إلى الفعل ، لفرض

٤٥٨

أنّ كلاً من العرض ومعروضه فعلي في الخارج وموجود فيه ، غاية الأمر أنّه يتشخص بتشخص معروضه ، مثلاً الصلاة كما تتشخص بوقوعها في غير الدار المغصوبة كذلك تتشخص بوقوعها فيها ، وكذا الغصب كما يتشخص في ضمن غير الصلاة قد يتشخص في ضمنها.

فالنتيجة قد أصبحت من جميع ما ذكرناه : أنّ التركيب بين عنوانين اشتقاقيين تكون النسبة بينهما عموماً من وجه في مورد الاجتماع تركيب اتحادي ، بمعنى أنّ معروضهما في الخارج واحد وجوداً وماهيةً ، وإن كان منشأ انتزاعهما متعدداً فيه باعتبار أنّه لا يمكن انتزاع مفهومين متباينين من شيء واحد. وأمّا التركيب بين المبدأين اللذين تكون النسبة بينهما عموماً من وجه في مورد الاجتماع تركيب انضمامي لا محالة ، بداهة استحالة انتزاع مفهومين تكون النسبة بينهما عموماً من وجه من موجود واحد بجهة واحدة ، وإلاّ لكانا متساويين ، فانّ ملاك التساوي هو أن يكون صدق كل منهما على أفراده متحداً مع صدق الآخر على أفراده في ملاك الصدق وجهته ، وهذا بخلاف المفهومين اللذين تكون النسبة بينهما عموماً من وجه ، فانّ جهة الصدق في كل منهما مغايرة لجهة الصدق في الآخر.

وعلى الجملة : فالمفهومان لا يخلوان من أن تكون جهة الصدق في كل منهما على جميع أفراده واحدة ، أو أن تكون متعددة ، وعلى الفرض الثاني فامّا أنّ كل ما يصدق عليه أحدهما مندرج في الآخر ومن مصاديقه وأفراده ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، وعلى الأوّل لا محالة تكون النسبة بينهما التساوي ، لفرض أنّه يستحيل صدق أحدهما على شيء بدون صدق الآخر عليه ، وعلى الثاني تكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، لفرض عدم مادة الافتراق من جانب أحدهما. وعلى الثالث العموم والخصوص من وجه ، لفرض وجود مادة الافتراق

٤٥٩

من كلا الجانبين معاً.

ومن هنا يظهر أنّه لا تعقل النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين ، بداهة استحالة اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت حقيقة واحدة ، وهذا واضح.

ومن ضوء هذا البيان قد اتّضح أنّ القول بالجواز في المسألة يرتكز على أن تكون الجهتان تقييديتين في مورد الاجتماع ، والمفروض أنّهما كذلك ، وعليه فلا محالة يكون مصداق المأمور به غير المنهي عنه ، غاية الأمر أنّهما متلازمان وجوداً في الخارج ، وقد مرّ في غير مورد أنّ الصحيح هو عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر خصوصاً إذا كان التلازم بينهما اتفاقياً كما في المقام ، كما أنّ القول بالامتناع فيها يرتكز على أن تكون الجهتان تعليليتين فانّه على هذا لا محالة يكون المجمع واحداً وجوداً وماهية ، ومعه يستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.

ولأجل ذلك أشكل قدس‌سره على المحقق صاحب الكفاية بأنّ القول بالامتناع في المسألة يبتني على أن تكون الجهتان في مورد الاجتماع تعليليتين ، بأن يكون صدق كل منهما معلولاً لجهة خاصة قائمة بالمجمع ، ليكون التركيب بينهما اتحادياً لا انضمامياً ، ولكن عرفت أنّ الجهتين في محل الكلام تقييديتان ، وعلى هذا فلا مناص من القول بالجواز.

ثمّ إنّ المراد من التقييد في المقام غير التقييد في باب المطلق والمقيد ، حيث إنّ التقييد هناك بمعنى تضييق دائرة المطلق وعدم سريان الحكم المتعلق به إلى جميع أفراده ، وأمّا التقييد في المقام بمعنى التوسعة في متعلق الحكم واندراجه تحت ماهيتين ، ضرورة أنّ معنى كون الجهة في مورد الاجتماع تقييدية هو أنّها توجب تعدد المجمع فيه واندراجه تحت الماهيتين ، فنتيجة التقييد في كل من المقامين على عكس نتيجة التقييد في المقام الآخر ، وكيف كان فالجهتان بما أنّهما

٤٦٠