محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

هل يجوز أمر الآمر

مع علمه بانتفاء شرطه

لا يخفى أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) قد ذكر أنّ هذه المسألة باطلة من رأسها ، وليس فيها معنىً معقول ليبحث عنه ، لا في القضايا الحقيقية التي كان الحكم فيها مجعولاً للموضوع المفروض الوجود خارجاً ولا في القضايا الخارجية.

أمّا في الاولى : فلما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ الحكم في القضية الحقيقية مجعول للموضوع المقدر وجوده بجميع قيوده وشرائطه ، مثلاً وجوب الحج في الآية المباركة : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٢) مجعول لعنوان المستطيع على نحو مفروض الوجود في الخارج.

ومن الطبيعي أنّ فعلية مثل هذا الحكم مشروطة بفعلية موضوعه ووجوده خارجاً ويستحيل تخلّفها عنه ، وعليه فعلم الآمر بوجود الموضوع أو بعدم وجوده أجنبي عن فعلية الحكم بفعلية موضوعه وعدم فعليته بعدم فعلية موضوعه بالكلّية ، وليس له أيّ دخل في ذلك ، ضرورة أنّ الحكم في مثل هذه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٠٤

(٢) آل عمران ٣ : ٩٧

١٨١

القضايا لم يجعل من الأوّل لفاقد الشرط والموضوع ، مثلاً وجوب الحج في المثال المزبور لم يجعل من الابتداء لفاقد الاستطاعة ، فإذن لا معنى للنزاع في أنّه هل تعقل فعلية الحكم مع علم الحاكم بانتفاء فعلية موضوعه في الخارج أم لا ، ضرورة أنّ علم الحاكم به أجنبي عن ذلك رأساً ، فانّ الملاك في فعلية الحكم إنّما هو فعلية موضوعه خارجاً ووجوده ، ضرورة استحالة تخلّفها عنه ، وعليه فلا تعقل صحّة توجيه هذا التكليف فعلاً إلى فاقد الشرط والموضوع ، بداهة أنّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي ، فعندئذ لو وجّه إليه تكليف فهو لا محالة يكون تكليفاً آخر غير الأوّل ، وهو خلاف مفروض الكلام.

وأمّا في الثانية : وهي القضايا الخارجية ، فلأنّ جعل الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم بوجود شرائط الحكم ، وأمّا وجود هذه الشرائط في الخارج أو عدم وجودها فيه أجنبي عنه رأساً وليس له أيّ دخل فيه ، فإذن لا معنى للبحث عن جوازه مع علمه بانتفاء تلك الشرائط خارجاً وعدم جوازه ، ضرورة أنّ البحث على هذا الشكل أجنبي عمّا هو دخيل في هذا الحكم بالكلّية ، وعليه فلا معنى له أصلاً كما لا يخفى.

ومن هنا قال (١) : إنّ ما ذكروه من الثمرة لتلك المسألة ـ وهي وجوب الكفارة على من أفطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية شرائط الوجوب له إلى الليل ـ ليست ثمرة لها ، بل هي ثمرة مترتبة على مسألة فقهية وهي أنّ التكليف بالصوم هل ينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد آنات اليوم ، أو هو تكليف واحد مشروط بشرط متأخر وهو بقاؤه على شرائط الوجوب إلى الليل.

__________________

(١) المحقق النائيني في المصدر السابق

١٨٢

وذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّه لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ، وإن نسب ذلك إلى الأشاعرة حيث إنّهم يجوّزون التكليف بالمحال ، ولا يرون فيه قبحاً أصلاً ، وقد أفاد في وجه ذلك ما ملخصه : وهو أنّ الشرط بما أنّه كان من أجزاء العلة التامة فيستحيل أن يوجد الشيء بدونه ، ضرورة استحالة وجود المعلول بدون وجود علته والمشروط بدون وجود شرطه ، فانّ المركب ينحل بانحلال بعض أجزائه ، وبما أنّ العلة التامة مركبة من المقتضي والشرط والمانع فلا محالة تنتفي بانتفاء كل منها ، وعليه فلا يعقل أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ، إلاّ أن يكون المراد من لفظ الأمر الأمر ببعض مراتبه وهو مرتبة الانشاء ، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الاخر وهو مرتبة الفعلية ، بأن يكون النزاع في أنّ أمر الآمر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرط فعليته وعدم بلوغه تلك المرتبة ، فإذن لا إشكال في جوازه بل في وقوع ذلك في الشرعيات والعرفيات ، ضرورة أنّ الأمر الصوري إذا كان الداعي له الامتحان أو نحوه لا البعث والتحريك حقيقةً واقع في العرف والشرع ، ولا مانع من وقوعه أصلاً.

الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة : هو أنّ الكلام فيها مرّةً يقع في شرائط الجعل ، ومرّةً اخرى في شرائط المجعول ، لما ذكرناه من أنّ لكل حكم مرتبتين : مرتبة الجعل ، ومرتبة المجعول.

أمّا الكلام في الاولى : فلا شبهة في انتفاء الجعل بانتفاء شرطه ، وذلك لأنّ الجعل فعل اختياري للمولى كبقية أفعاله الاختيارية ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ كل فعل اختياري مسبوق بالمبادئ النفسانية وهي الارادة بمقدّماتها من التصور والتصديق ونحوهما.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٧

١٨٣

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لا يمكن جعل الحكم من المولى مع انتفاء شيء من تلك المبادئ والمقدّمات ، ضرورة أنّه معلول لها ومشروط بها ، ومن الطبيعي استحالة وجود المعلول بدون وجود علّته ، ووجود المشروط بدون تحقق شرطه ، وهذا من الواضحات الأوّلية وغير قابل لأن يكون ذلك محل البحث والأنظار.

ومن هنا يظهر ما في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره حيث جعل هذا محل الكلام والنزاع هنا ، ولأجل ذلك حكم بعدم الجواز ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : أنّ ما ذكره قدس‌سره من الجواز فيما إذا لم يكن الأمر بداعي البعث والتحريك واقعاً بل كان بداعي الامتحان أو نحوه أيضاً خارج عن محل البحث ، ضرورة أنّ محل البحث في الجواز وعدمه إنّما هو في الأوامر الحقيقية التي يكون الداعي فيها البعث والتحريك نحو إيجاد متعلقاتها في الخارج حقيقة ، أمّا في الأوامر الصورية التي ليس الداعي فيها البعث نحو إيجاد متعلقاتها في شيء ، بل الداعي لها الامتحان أو غيره ، فلا إشكال في جوازها مع علم الآمر بانتفاء شروط فعليتها ، بل لا إشكال في وقوعها في العرف والشرع كما هو ظاهر.

فالنتيجة : أنّه لا مجال للنزاع في الأوامر التي لم يكن الداعي فيها وقوع متعلقاتها في الخارج ، بل الداعي لها مجرد الامتحان أو الاستهزاء أو شيء آخر ، كما أنّه لا مجال للنزاع في شرائط الجعل ، ولكن في الأوّل من ناحية أنّه لا إشكال في جواز تلك الأوامر بل في وقوعها خارجاً ، وفي الثاني من ناحية أنّه لا إشكال في عدم جوازه ، بل في امتناعه مع انتفاء شرطه ، كما عرفت.

وأمّا الكلام في الثانية : وهي شرائط المجعول ، فقد ذكرنا في بحث الواجب المطلق والمشروط أنّ كل شرط اخذ مفروض الوجود في مقام الجعل تستحيل

١٨٤

فعلية الحكم بدون فعليته ووجوده في الخارج ، لما ذكرناه هناك من أنّ فعلية الحكم في القضية الحقيقية تدور مدار فعلية موضوعه ووجوده ويستحيل تخلّفها عنه ، مثلاً وجوب الحج مشروط بوجود الاستطاعة بمقتضى الآية الكريمة : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(١) فتستحيل فعليته بدون فعلية الاستطاعة في الخارج ، وكذا وجوب الزكاة مشروط ببلوغ المال حدّ النصاب ، فإذا بلغ المال ذلك الحد تجب الزكاة عليه فعلاً ، وإلاّ فلا وجوب لها أصلاً. ووجوب الغسل مشروط بوجود الجنابة ، ووجوب الصوم مشروط بدخول شهر رمضان ، ووجوب الصلاة مشروط بدخول الوقت ... وهكذا ، فهذه الأحكام جميعاً تدور فعليتها خارجاً مدار فعلية موضوعها وتحققه فيه. ومن هنا قلنا إنّ كل قضية حقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له.

وعلى هذا الأصل ، فإذا علم الآمر بانتفاء شرط فعلية الحكم وأ نّه لو جعل فلا يصير فعلياً أبداً من ناحية عدم تحقق موضوعه في الخارج ، فهل يجوز له جعله أم لا؟

قد يقال بعدم إمكانه ، لأنّه لغو محض فلا يصدر من الحكيم ، وكذا الحال في القضية الخارجية فلا يجوز للمولى أن يأمر بزيارة الحسين عليه‌السلام مثلاً على تقدير السفر إلى كربلاء مع علمه بأ نّه لا يسافر ... وهكذا.

ولكنّ الصحيح في المقام هو التفصيل بين ما إذا كان انتفاء الشرط مستنداً إلى نفس جعل الحكم وكان هو الموجب له ، وما إذا كان مستنداً إلى عدم قدرة المكلف أو إلى جهة اخرى.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧

١٨٥

فعلى الأوّل : لا مانع من جعله أصلاً إذا كان الغرض منه عدم تحقق الشرط والموضوع في الخارج ، من دون فرق بين أن يكون الجعل على نحو القضية الحقيقية أو الخارجية ، كما إذا قال المولى لعبده أو الأب لابنه : إن كذبت مثلاً فعليك دينار ، مع علمه بأنّ جعل وجوب الدينار عليه على تقدير كذبه موجب لعدم صدور الكذب منه ، فيكون غرضه من جعله ذلك.

وكما إذا فرض أنّ جعل الكفارات في الشريعة المقدّسة على ارتكاب عدّة من المحرمات يوجب عدم تحققها في الخارج ، كوجوب القصاص المترتب على القتل الاختياري إذا فرض أنّه موجب لعدم تحقق القتل خارجاً ، ووجوب الحد للزاني وقطع اليد للسارق وما شاكل ذلك ، إذا فرض أنّ جعل هذه الامور أوجب عدم تحقق ما هو الموضوع والشرط لها وهو الزنا في المثال الأوّل والسرقة في المثال الثاني ونحوهما ، ومن المعلوم أنّه لا مانع من مثل هذا الجعل أصلاً ، بل هو مما تقتضيه المصلحة العامة كما في القضايا الحقيقية ، والمصلحة الخاصة كما في القضايا الخارجية ، ضرورة أنّ الغرض من جعل هذه الامور هو عدم تحقق موضوعها في الخارج ، فإذا فرض أنّ المولى علم بأنّ جعلها يوجب عدم تحقق موضوعها فيه مطلقاً فهو أولى بالجعل مما لم يعلم المولى أنّه يوجبه. فالنتيجة :أ نّه لا شبهة في إمكان ذلك ، بل في وقوعه خارجاً في العرف والشرع.

وعلى الثاني : وهو ما إذا كان انتفاء الشرط من غير ناحية اقتضاء الجعل له ، فهو لغو محض فلا يصدر من المولى الحكيم ، مثل أن يأمر بركعتين من الصلاة مثلاً على تقدير الصعود إلى السماء أو على تقدير اجتماع الضدّين أو نحو ذلك ، أو أن يأمر بوجوب الحج على تقدير الاستطاعة في الخارج مع علمه فرضاً بعدم تحققها فيه أصلاً ... وهكذا ، فانّه لا شبهة في أنّ جعل مثل هذا الحكم لغو صرف فلا يترتب عليه أيّ أثر شرعي ، ومعه يستحيل صدوره منه.

١٨٦

ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّ هذه المسألة باطلة من رأسها وليس فيها معنىً معقول ليبحث عنه ، لا يتم وذلك لأنّ النزاع في هذه المسألة لو كان في دخل علم الآمر بوجود الموضوع أو بعدم وجوده في فعلية الحكم وعدم فعليته لكان ما أفاده قدس‌سره في غاية الصحّة والمتانة ، وذلك لما عرفت من أنّ فعلية الحكم في القضايا الحقيقية تدور مدار فعلية موضوعه وتحققه في الخارج ، ولا دخل لعلم الآمر بوجوده أو بعدمه في ذلك أصلاً ، فإذن لا معنى للنزاع فيه كما هو واضح ، إلاّ أنّك عرفت أنّ النزاع في المسألة ليس في هذا بل هو فيما ذكرناه من أنّ جعل الحكم في القضية الحقيقية للموضوع المقدّر وجوده مع علم الجاعل بعدم تحقق الموضوع في الخارج أصلاً هل يجوز أم لا؟

ومن الظاهر أنّ النزاع في هذا نزاع في معنى معقول ، غاية الأمر أنّ جعل الحكم عندئذ لغو محض فلا يترتب عليه أثر ، ولكن من المعلوم أنّ هذا لا يوجب عدم كون النزاع في معنى معقول.

وبكلمة اخرى : أنّ النزاع في المقام ليس في معقولية فعلية الحكم مع علم الحاكم بانتفاء موضوعه في الخارج وعدم معقوليتها ، ليقال إنّ علم الآمر بوجود الموضوع خارجاً وعدمه أجنبي عن ذلك بالكلّية ، ضرورة أنّ الملاك في فعلية الحكم واقعاً فعلية موضوعه كذلك ، بل النزاع في جواز أصل جعل الحكم مع العلم بانتفاء شرط فعليته وعدم جوازه ، ومن الواضح أنّ هذا النزاع نزاع في أمر معقول.

ومن هنا يتبيّن أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ الحكم في القضية الخارجية

__________________

(١) تقدّم ذكر المصدر في ص ١٨١

١٨٧

يدور مدار علم الحاكم بوجود شروط الحكم ، وأمّا نفس وجودها في الخارج أو عدمها فيه فهو أجنبي عن الحكم بالكلّية ، لا يتم أيضاً وذلك لأنّ علم الحاكم الذي له دخل في جعل هذا الحكم ليس علمه بما هو صفة نفسانية قائمة بها مع قطع النظر عمّا تعلق به من الموجودات الخارجية ، ضرورة أنّ علمه بوجود شرطه في الخارج يدعو إلى جعل هذا الحكم ، كما أنّ علمه بعدم وجوده فيه داعٍ لعدم جعله ، فيما إذا لم يكن الغرض منه عدم تحقق شرطه وموضوعه كالأمثلة المتقدمة. فإذن يقع الكلام في أنّه هل يجوز للمولى أن يأمر عبده بفعلٍ مشروطاً بشيء مع علمه بانتفاء ذلك الشيء في الخارج وعدم تحققه فيه أصلاً أم لا ، ومن المعلوم أنّ النزاع فيه نزاع في أمر معقول.

وقد تحصّل مما ذكرناه امور :

الأوّل : أنّه لا فرق فيه بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة.

الثاني : أنّ الصحيح في المسألة هو التفصيل بين ما إذا كان انتفاء الشرط مستنداً إلى نفس الجعل ، وما إذا كان مستنداً إلى عجز المكلف أو نحوه ، كما سبق بشكل واضح.

الثالث : أنّه لا ثمرة لهذه المسألة أصلاً ، ولا تترتب على البحث عنها أيّة فائدة عملية ما عدا فائدة علمية. وأمّا ما ذكر من الثمرة لها من وجوب الكفارة على من أفطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية شرائط الوجوب له إلى الليل ، كما إذا أفطر أوّلاً ثمّ سافر أو وجد مانع آخر من الصوم كالمرض أو نحوه ، فليس ثمرة لتلك المسألة اصلاً ، وذلك لأنّ عروض المانع من الصوم في أثناء اليوم وإن كان يكشف عن عدم وجوبه عليه من الأوّل ، ضرورة أنّه واجب واحد ارتباطي ، ولذا لو طرأ على الصائم مانع من الصوم واضطرّ إلى

١٨٨

الإفطار في بعض آنات اليوم لم يلتزم أحد من الفقهاء بوجوب الامساك في باقي آنات هذا اليوم وهذا معنى ارتباطية وجوبه.

وأمّا وجوب الكفارة على من أفطر في نهار شهر رمضان متعمداً فلا يدور مدار وجوب الصوم عليه ولو مع انتفاء شرائطه ليكون ذلك ثمرةً لهذه المسألة ، بل هو على ما يستفاد من روايات الباب مترتب على الإفطار في نهار شهر رمضان عالماً وعامداً بلا عذر مسوّغ له ، وذلك لأنّ جواز الإفطار في الروايات معلّق على خروج المكلف عن حدّ الترخص ، فما دام لم يخرج عنه حرم عليه الافطار وإن علم بأ نّه يسافر بعد ساعة ، كما أنّ وجوب القصر في الروايات معلّق على ذلك ولذا يجب عليه التمام ما دام هو دون حدّ الترخص.

وبتعبير أوضح : أنّ المستفاد من الروايات الواردة في المقام هو ثبوت الملازمة بين وجوب القصر وجواز الإفطار ، وبين وجوب التمام وعدم جوازه ، ففي كل موردٍ وجب القصر جاز الإفطار وفي كل موردٍ وجب التمام حرم الإفطار.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ وجوب الكفارة مترتب على الإفطار العمدي في نهار شهر رمضان بلا عذر مسوّغ له ، سواء أطرأ عليه مانع من الصوم بعد ذلك أم لم يطرأ ، وذلك لاطلاق الروايات الدالة عليه.

ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) ـ من ابتناء وجوب الكفارة في هذا الفرض على أنّ التكليف بالصوم هل ينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد آنات اليوم ، أو هو تكليف واحد متعلق بمجموع الآنات ، فعلى الأوّل تجب الكفارة عليه دون الثاني ، إلاّ إذا فرض قيام دليل على وجوب

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٠٤

١٨٩

الامساك في بعض اليوم أيضاً ـ لا يمكن تصديقه بوجه ، وذلك لما عرفت من أنّ موضوع وجوب الكفارة هو الإفطار العمدي في شهر رمضان من دون عذر شرعي له على ما يستفاد من الروايات ، وعليه فكون التكليف بالصوم تكليفاً واحداً أو متعدداً أجنبي عن ذلك بالكلّية ولا دخل له في وجوب الكفارة أو عدم وجوبها أصلاً ، ضرورة أنّ المناط في وجوبها صدق العنوان المزبور ، ومن الواضح أنّه لا يفرق فيه بين كون التكليف واحداً أو متعدداً بتعدد الآنات.

ونتيجة البحث عن هذه المسألة عدّة نقاط :

الاولى : أنّ محل النزاع فيها الأوامر الحقيقية التي يكون الغرض منها إيجاد الداعي للمكلف للاتيان بمتعلقاتها في الخارج ، وأمّا الأوامر الصورية التي ليس الغرض منها ذلك بل الغرض منها مجرد الامتحان أو نحوه ، فهي خارجة عن محل النزاع ولا إشكال في جوازها مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها.

الثانية : أنّ محل الكلام في المسألة ليس في شرائط الجعل ، كما عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ضرورة استحالة الجعل بدون تلك الشرائط ، هذا من جهة. ومن جهة اخرى : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ فعلية الحكم في القضية الحقيقية بفعلية موضوعه وعلم الآمر بوجود الموضوع في الخارج أو عدم علمه به أجنبي عن ذلك ، ولذا قال : إنّه ليس في المسألة معنىً معقول ليبحث عنه ، أيضاً ليس من محل الكلام في شيء كما عرفت.

الثالثة : أنّ محل النزاع فيها إنّما هو في تحقق أصل الأمر بداعي إيجاد متعلقه في الخارج مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليته ، ومن الواضح أنّ النزاع فيه نزاع في أمر معقول ، ولا يفرق فيه بين أن تكون القضية حقيقية أو خارجية كما سبق.

١٩٠

الرابعة : أنّ ما ذكروه من الثمرة لهذه المسألة ـ وهي أنّ من أفطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية شرائط وجوب الصوم له إلى الليل ، كما إذا أفطر في حين أنّه علم بأ نّه يسافر بعد ساعة أو يوجد مانع آخر منه ، فعلى القول بالجواز تجب الكفارة عليه ، وعلى القول بعدمه فلا ـ ليس ثمرةً لها أصلاً ، وذلك لما ذكرناه من أنّها تدور مدار أنّ المستفاد من الروايات هو ترتب الكفارة على مطلق الإفطار العمدي ولو علم بطروء مانع عن الصوم بعده ولا يتمكن من إتمامه ، أو أنّها مترتبة على الإفطار العمدي الخاص وهو ما لم يطرأ عليه مانع عنه أصلاً ، فعلى الأوّل تجب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان ثمّ سافر ، وعلى الثاني فلا.

١٩١

هل الأوامر متعلقة

بالطبائع أو الأفراد

غير خفي أنّ هذا النزاع بظاهره مما لا معنى له ، وذلك لأنّه لا شبهة في أنّ مراد القائلين بتعلق الأوامر بالأفراد ليس تعلقها بالموجودات الخارجية ، ضرورة أنّ الموجود الخارجي مسقط للأمر فلا يعقل تعلق الأمر به ، كما أنّ مراد القائلين بتعلقها بالطبائع ليس تعلقها بالطبائع الصرفة ومن حيث هي مع قطع النظر عن حيثية انطباقها على ما في الخارج ، ضرورة أنّ مثل هذه الطبيعة غير قابل لأن يتعلق بها الأمر.

ولكنّ الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة هو أنّه يمكن تقرير النزاع فيها من ناحيتين :

الاولى : من جهة ابتناء ذلك على القول بوجود الكلّي الطبيعي في الخارج والقول بعدم وجوده ، فعلى الأوّل يتعلق الأمر بالطبيعة ، وعلى الثاني بالفرد ، بيان ذلك : هو أنّه لا شبهة في أنّ كل وجود في الخارج بذاته وشخصه يمتاز عن وجود آخر ويباينه ، ويستحيل اتحاد وجود فيه مع وجود آخر ، ضرورة أنّ كل فعلية تأبى عن فعلية اخرى وكل وجود يباين وجوداً آخر ويأبى عن الاتحاد معه.

وبعد ذلك نقول : إنّه لا إشكال في أنّ الوجود بواقعه وحقيقته ـ لا بمفهومه

١٩٢

الانتزاعي ـ وجود للفرد حقيقةً وذاتاً ، بداهة أنّ إسناد الوجود إليه إسناد واقعي حقيقي ، مثلاً زيد موجود حقيقةً وعمرو موجود كذلك ... وهكذا ، وهذا مما لا إشكال فيه ، سواء فيه القول بوجود الطبيعي في الخارج أو القول بعدم وجوده.

وبكلمة أوضح : أنّ كل حصة في الخارج تباين حصة اخرى منها وتمتاز عنها بهويتها الشخصية ووجودها الخاص ، مثلاً الحصة المتقررة من الانسانية في ذات زيد تباين الحصة المتقررة في ذات عمرو ... وهكذا ، وتمتاز عنها بنفس هويتها ووجودها ، ولكن من الطبيعي أنّ امتياز أيّة حصة عن حصة اخرى ليس بالذات والحقيقة وإنّما هو بالوجود ، ضرورة أنّ امتياز كل شيء به بقانون أنّ الشيء ما لم يوجد لم يتشخص ، وقد عرفت أنّ الوجود هو نفس التشخص ، فلذا قلنا إنّ امتياز وجود عن وجود آخر إنّما هو بنفس ذاته وتشخصه ، وعليه فلا محالة يكون امتياز حصة عن اخرى أو فرد عن آخر باضافة الوجود الحقيقي إليها ، فانّ الحصة بالتحليل العقلي تنحل إلى ماهية وإضافة ، أعني إضافتها إلى الوجود ، وتلك الاضافة توجب صيرورتها حصةً وفرداً بحيث لو لم تكن تلك الاضافة فلاحصة في الخارج ولا فرد ، فملاك فردية زيد مثلاً وكونه حصة من الانسان إنّما هو إضافة الوجود الواقعي إليه إضافةً حقيقيةً.

ومن هنا قلنا إنّ امتياز الحصة عن الاخرى بالوجود ، ولكن امتياز وجودها عن وجود الاخرى بالذات والحقيقة بقانون أنّ كل ما بالغير لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات. أو فقل : إنّ تشخص الحصة وتفرّدها بالوجود لا غيره ، وأمّا تشخص الوجود وتفرّده فهو بنفس ذاته لا بشيء آخر ، وإلاّ لدار أو تسلسل كما لا يخفى.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الحصص والأفراد موجودة في الخارج حقيقةً

١٩٣

بوجوداتها الواقعية ، وهذا مما لا كلام فيه على كلا القولين ، أي سواء فيه القول بوجود الطبيعي خارجاً أو القول بعدم وجوده ، وإنّما الكلام في أنّ هذا الوجود المضاف إلى الفرد ويكون وجوداً له هل هو وجود للطبيعي أيضاً ، بأن يكون له إضافتان : إضافة إلى الحصة ، وبتلك الاضافة يكون وجوداً للفرد ، وإضافة إلى الطبيعي ، وبها يكون وجوداً له ، أو هو ليس وجوداً للطبيعي إلاّبالعرض والمجاز ، ولا يصح إسناده إليه على نحو الحقيقة ، فالقائل بوجود الطبيعي في الخارج يدّعي الأوّل وأنّ كل وجود مضاف إلى الفرد فهو وجود للطبيعي على نحو الحقيقة ، مثلاً وجود زيد كما أنّه وجود له حقيقةً وجود للانسان كذلك ... وهكذا ، غاية الأمر أنّ هذا الوجود الواحد باعتبار إضافته إلى الفرد متشخص وممتاز عن غيره في الخارج ، وباعتبار إضافته إلى الطبيعي لا امتياز ولا تشخص له بالنسبة إلى غيره أصلاً كما هو واضح ، والقائل بعدم وجوده يدّعي الثاني وأ نّه لا تصح إضافة هذا الوجود ـ أعني الوجود المضاف إلى الفرد ـ إلى الطبيعي حقيقةً ، وأ نّه ليس وجوداً له بل هو وجود للفرد فحسب.

وعلى الجملة ، فبالتحليل العقلي النزاع المعقول في وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده فيه ليس إلاّ النزاع في هذه النقطة وهي ما ذكرناه ، ضرورة أنّه لم يدّع أحد أنّه موجود في الخارج بوجود مباين لوجود فرده ، كما أنّ القول بأ نّه موجود بوجود واحد لا بعينه باطل من رأسه ، ضرورة أنّ الواحد لا بعينه لا مصداق له في الخارج ولا تعيّن له ، والوجود له تعيّن ومصداق فيه ، ففرض وجوده خارجاً يناقض فرض عدم تعيّنه فيه فلا يجتمعان.

وعليه فالنزاع المعقول ينحصر بتلك النقطة ، فالمنكر لوجوده يدّعي أنّه لا يصح إسناد الوجود إليه حقيقةً ، والقائل به يدّعي أنّه يصح ذلك بمعنى أنّ

١٩٤

الوجود في الخارج وإن كان واحداً ، إلاّ أنّ له نسبتين نسبة إلى الفرد ونسبة إلى الطبيعي ، وكلتا النسبتين حقيقية ، ومن المعلوم أنّ تعدد النسبة لا يوجب تعدد الوجود ، وهذا واضح.

والصحيح في المسألة : أنّ الطبيعي موجود في الخارج حقيقةً ، وذلك لصحة حمل الوجود عليه ، فلا فرق بين قولنا : زيد موجود ، وقولنا : الانسان موجود ، فكما أنّ الأوّل على نحو الحقيقة فكذلك الثاني ، ولذا لا يصح سلبه عنه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه لا شبهة في صحة حمله على الفرد ، فيقال : زيد انسان ، ومن المعلوم أنّه يعتبر في صحة الحمل الاتحاد في الوجود الخارجي وإلاّ فالحمل غير صحيح ، وهذا لعلّه من الواضحات.

وبعد ذلك نقول : إنّه على القول بوجود الطبيعي في الخارج يتعلق الأمر به ، وعلى القول بعدم وجوده فيه يتعلق بالحصة والفرد ، ولكن بإحدى الحصص الخارجية لا بالمعيّن منها. فالنتيجة على كلا القولين هي التخيير بين تلك الحصص والأفراد عقلاً. أمّا على القول الأوّل فواضح. وأمّا على القول الثاني فلفرض أنّ الأمر لم يتعلق بالحصة الخاصة ، بل تعلق بواحدة منها لا بعينها ، ومن المعلوم أنّ تطبيقها على هذه وتلك بيد المكلف ، ولا نعني بالتخيير العقلي إلاّهذا.

ومن هنا يظهر أنّه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلاً ، ولا تترتب عليها أيّة ثمرة عملية ، ضرورة أنّه على كلا القولين لا بدّ من الاتيان بالفرد والحصة في الخارج ، سواء أكان الأمر متعلقاً بالطبيعي أم بالفرد ، وذلك لاستحالة إيجاد الطبيعي في الخارج معرىً عن جميع الخصوصيات والتشخّصات لتظهر الثمرة بين القولين. نعم ، لو أمكن ذلك فرضاً فعلى القول الأوّل يسقط لا محالة الأمر دون القول الثاني ، إلاّ أنّه مجرد فرض لا واقع له أبداً ، فإذن لا ثمرة لتلك المسألة

١٩٥

أصلاً.

وإن كان الصحيح هو تعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد ، وتشهد على ذلك مراجعة الوجدان ، فانّ الانسان إذا راجع وجدانه يرى أنّه إذا أراد شيئاً تعلقت إرادته بطبيعي ذلك الشيء لا بحصة متشخصة منه ، فلو طلب الماء مثلاً يرى أنّ متعلق طلبه هو الطبيعي من دون ملاحظة خصوصية خارجية فيه ككونه في إناء خاص أو من ماء مخصوص أو ما شابه ذلك مما لا دخل له في مطلوبه.

وقد تحصّل من ذلك امور :

الأوّل : أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج بوجود فرده.

الثاني : أنّ الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد.

الثالث : أنّه لا ثمرة لهذا البحث أصلاً بل هو بحث علمي فلسفي.

الناحية الثانية : ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّ مردّ النزاع في هذه المسألة إلى أنّ الأوامر هل تتعلق بالطبائع مع قطع النظر عن مشخصاتها ولوازم وجوداتها في الخارج ، بحيث تكون تلك اللوازم والمشخصات خارجةً عن دائرة متعلقاتها ، وإنّما هي موجودة معها قهراً ، لاستحالة كون الشيء موجوداً بلا تشخص ، أو تتعلق بالأفراد مع تلك المشخصات ، بحيث تكون المشخصات مقوّمةً للمطلوب والمراد ، وداخلة في دائرة المتعلقات.

فالقائل بتعلق الأمر بالطبيعة أراد تعلقه بذات الشيء مع قطع النظر عن مشخصاته ، بحيث لو تمكن المكلف من إيجاده في الخارج بدون أيّ مشخص وأوجده لسقط الأمر وحصل الغرض ، لفرض أنّه أتى بالمأمور به وما هو

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٠٦

١٩٦

متعلق الأمر. والقائل بتعلقه بالفرد أراد تعلقه بالشيء مع مشخصاته فتكون مشخصاته أيضاً مأموراً بها.

وعلى هذا فتظهر الثمرة بين القولين في باب اجتماع الأمر والنهي ، وذلك لأنّه على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالطبائع دون الأفراد ، ففي مورد الاجتماع كالصلاة في الدار المغصوبة مثلاً لا يسري الأمر من متعلقه وهو طبيعة الصلاة إلى متعلق النهي وهو الغصب ولا العكس ، لفرض أنّهما طبيعتان مستقلتان غاية الأمر أنّ كل واحدة منهما مشخصة للُاخرى في مورد الاجتماع ، وقد عرفت أنّ الأمر والنهي لايسريان على هذا القول إلى مشخصات متعلقهما. فإذن لا مناص من القول بالجواز في تلك المسألة.

وأمّا على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد دون الطبائع فلا مناص من الالتزام بالقول بالامتناع في تلك المسألة ، وذلك لفرض أنّ الأمر على هذا القول متعلق بالصلاة مع مشخصاتها ، والمفروض أنّ الغصب في مورد الاجتماع مشخّص لها ، فإذن يكون متعلقاً للأمر ، والحال أنّه متعلق للنهي أيضاً ، فيلزم عندئذ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو محال ، ضرورة استحالة كون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً.

وعلى الجملة : فعلى القول الأوّل بما أنّ متعلق كلٍّ من الأمر والنهي هو الطبيعة دون مشخصاتها ، فلا محالة لا يلزم في مورد الاجتماع كون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه ، لفرض أنّ متعلق أحدهما غير متعلق الآخر فلا يتحدان في الخارج ، غاية الأمر أنّهما متلازمان في الوجود الخارجي وأنّ كلاً منهما مشخص للآخر. وعلى القول الثاني بما أنّ المشخصات أيضاً متعلقة للأمر والنهي ، فلا مناص من الالتزام بالامتناع في مورد الاجتماع لفرض أنّ متعلق كل منهما عندئذ مشخص للآخر ، وعليه فلا محالة يسري كل منهما من متعلقه إلى متعلق

١٩٧

الآخر ، فيلزم اجتماعهما في شيء واحد وهو محال.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ هذه الفرضية التي فرضها شيخنا الاستاذ قدس‌سره لو تمّت لأصبحت المسألة ذات ثمرة مهمة ، ولكنها فرضية خاطئة وغير مطابقة للواقع ، وذلك لما أشرنا إليه سابقاً على نحو الاجمال وإليك تفصيله :

وهو أنّ كل وجود سواء أكان جوهراً أم عرضاً متشخص في الخارج بذاته ، فلا يعقل أن يكون متشخصاً بوجود آخر ، وذلك لما عرفت من أنّ الوجود هو نفس التشخص وأنّ تشخص كل شيء به ، فلا يعقل أن يكون تشخصه بشيء آخر أو بوجود ثانٍ ، وإلاّ لدار أو تسلسل ، وعليه فتشخصه بمقتضى قانون أنّ كل ما بالغير وجب أن ينتهي إلى ما بالذات بنفس ذاته ، ولذا قلنا إنّ كل وجود في ذاته مباين لوجود آخر ، وكل فعلية بنفسها تأبى عن الاتحاد مع فعلية اخرى وتمتاز عنها بنفس ذاتها ، وهذا بخلاف الماهية فان تشخصها إنّما يكون بالوجود وامتيازها عن ماهية اخرى به لا بذاتها ، وهذا معنى قولنا : الشيء ما لم يوجد لم يتشخص. فالنتيجة هي أنّ تشخص الوجود بنفسه والماهية بتبع عروض الوجود لها.

وعلى ضوء هذه النتيجة أنّ الامور الملازمة للوجود الجوهري خارجاً التي لا تنفك عنه كأعراضه من الكمّ والكيف والأين والاضافة والوضع وغيرها ، موجودات اخرى في قبال ذلك الموجود ومباينة له ذاتاً وحقيقةً ، ومتشخصات بنفس ذواتها وأفراد لطبائع شتّى مختلفة لكل منها وجود وماهية ، فلا يعقل أن تكون مشخصات لذلك الوجود ، لما عرفت من أنّ الوجود هو نفس التشخص فلا يعقل أن يكون تشخصه بكمّه وكيفه وأينه ووضعه وما شابه ذلك ، ضرورة أنّ لهذه الأعراض وجودات مباينة بأنفسها لذلك الوجود وإن كانت قائمة به ، كما هو شأن وجود العرض ، وقد عرفت أنّ تشخص الوجود بنفس ذاته

١٩٨

فيستحيل أن يكون بوجود آخر.

وتوهم أنّ وجود العرض بما أنّه متقوّم بوجود الجوهر خارجاً فلأجل ذلك يكون متشخصاً به توهم خاطئ جداً ، ضرورة أنّ قيامه به في مرتبة متأخرة عن وجوده ، وعليه فلا يعقل أن يكون مشخصاً له. مثلاً تشخص زيد بنفس وجوده الخارجي لا ببياضه ولا بسواده ولا بكمّه ولا بأينه ولا بوضعه ، وإن كان كل وجود في الخارج لا ينفك عن هذه الامور ، ضرورة أنّ لكل منها وجوداً في قبال وجوده وكل وجود متشخص بنفس ذاته وفرد من أفراد إحدى المقولات التسع العرضية.

وعلى الجملة : فالوجود لا يعقل أن يكون متشخصاً بوجود آخر ، من دون فرق فيه بين أن يكون الوجودان من طبيعة واحدة أو من طبيعتين كما هو ظاهر. ومن هنا لم يتوهم أحد ولا يتوهم أنّ وجود جوهر مشخص لوجود جوهر آخر ، أو أنّ وجود عرض مشخص لوجود عرض آخر ، والسر فيه ما ذكرناه من أنّ كل وجود متشخص بذاته وممتاز بنفسه عن غيره ، ومن الواضح جداً أنّ هذا الملاك بعينه موجود بين وجود الجوهر ووجود العرض المتقوّم به ، فلا يعقل أن يكون وجود العرض القائم به مشخصاً له ، كما هو واضح. ومن ذلك يتبيّن أنّ إطلاق المشخصات على تلك الأعراض الملازمة له خارجاً مسامحة جداً ، لما عرفت من أنّها لا تعقل أن تكون مشخصات لوجود الجوهر أصلاً ، بل هي وجودات ملازمة له في الخارج فلا تنفك عنه.

وبعد بيان ذلك نقول : إنّ تلك اللوازم والأعراض كما أنّها خارجة عن متعلق الأمر على القول بتعلقه بالطبيعة ، كذلك هي خارجة عن متعلقه على القول بتعلقه بالفرد ، ضرورة أنّ محل الكلام في المسألة إنّما هو في تعلق الأمر

١٩٩

بالطبيعة أو بفردٍ ما من أفراد تلك الطبيعة ، وأمّا الطبائع الاخرى وأفرادها فجميعاً خارجة عن متعلق الأمر على كلا القولين ، بداهة أنّه لم يرد من القول بتعلقه بالفرد تعلقه بفردٍ ما من هذه الطبيعة وفردٍ ما من الطبائع الاخرى الملازمة لها في الوجود الخارجي.

ولنأخذ مثالاً لذلك كالصلاة مثلاً فانّ القائل بتعلق الأوامر بالطبائع يدعي أنّ الأمر تعلق بطبيعة الصلاة مع عدم ملاحظة أيّة خصوصية من الخصوصيات ، والقائل بتعلقها بالأفراد يدّعي أنّه تعلق بفردٍ ما من أفرادها ، ولا يدّعي أنّه تعلق بفردٍ ما من أفرادها وأفراد الطبائع الاخرى كالغصب أو نحوه ، ضرورة أنّه لا معنى لهذه الدعوى أبداً ، كيف فانّ الأمر على الفرض متعلق بالصلاة على كلا التقديرين ، وليس هو متعلقاً بها وبغيرها مما هو ملازم لها وجوداً وخارجاً ، وقد عرفت أنّ تلك الأعراض واللوازم وجودات اخرى وأفراد لطبائع غيرها ومقولات مختلفة لكلٍّ منها وجود وماهية مباين لوجود المأمور به وماهيته.

نعم ، لو بني النزاع في المقام على أنّ المتلازمين هل يجوز اختلافهما في الحكم أم لا ، تظهر الثمرة هنا ، فانّه لو بنينا على عدم جواز اختلافهما في الحكم ، وأنّ الحكم المتعلق بأحدهما يسري إلى الآخر ، فلا بدّ من الالتزام بالقول بالامتناع في مورد الاجتماع. وأمّا إذا بنينا على جواز اختلافهما في الحكم وعدم سرايته من أحدهما إلى الآخر ، فلا مناص من القول بالجواز فيه ، وهذه نعمت الثمرة ، إلاّ أنّ البناء على كون المتلازمين في الوجود لا بدّ أن يكونا متوافقين في الحكم وأ نّه يسري من أحدهما إلى الآخر ، خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً ، ضرورة أنّ الثابت إنّما هو عدم جواز اختلافهما في الحكم ، بأن يكون أحدهما

٢٠٠