محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

الاطلاق بدلياً في مورد ، وشمولياً في مورد آخر ، ومقتضياً للتعيين في مورد ثالث.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي أنّ الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في المقام شمولي لا بدلي ، وذلك لقرينة خارجية وخصوصية المورد ، وتلك القرينة الخارجية هي فهم العرف ، ضرورة أنّ المرتكز في أذهانهم من مثل هذه النواهي هو الانحلال والشمول ، ومنشأ فهم العرف ذلك وكون هذا من مرتكزاتهم هو ما ذكرنا من أنّ إرادة بقية الصور من تلك النواهي تحتاج إلى مؤونة اخرى خارجة عن عهدة الاطلاق ، هذا من جهة. ومن جهة اخرى : أنّ إرادة ترك فردٍ ما من أفرادها العرضية أو الطولية غير ممكنة ، كما عرفت. ومن جهة ثالثة : أنّ القرينة لم تنصب على إرادة حصة خاصة منها.

فالنتيجة على ضوئها : هي كون الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في هذه الموارد شمولياً ، وأنّ كل فرد من أفراد هذه الطبائع مانع مستقل ، فلا تكون مانعية هذا مربوطة بمانعية ذاك ، وعدم كل واحد منها مأخوذ في العبادة أو المعاملة على نحو الاستقلال والانحلال ، وهذا هو المتفاهم العرفي من هذه الروايات ، ضرورة أنّه لا فرق في نظر العرف بين الفرد الأوّل من النجس والفرد الثاني والثالث ... وهكذا في المانعية. وكذا لا فرق بين الفرد الأوّل من الميتة والفرد الثاني ، والفرد الأوّل مما لا يؤكل أو الحرير والفرد الثاني ... وهكذا.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ المستفاد عرفاً من إطلاق قوله عليه‌السلام « لا تصلّ في شيء منه ولا في شسع » (١) وقوله عليه‌السلام « لا تحلّ الصلاة في

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٣ / أبواب لباس المصلي ب ١ ح ٢

٣٤١

حرير محض » (١) ونحوهما هو الانحلال ، وأنّ لبس كل فرد من أفراد هذه الطبائع مانع عن الصلاة مستقلاً ، وعدم الفرق بين الوجود الأوّل والثاني من هذه الناحية أصلاً ، وهذا ظاهر.

وبكلمة اخرى : أنّ حال هذه النواهي من هذه الجهة حال النواهي الحقيقية الاستقلالية ، فكما أنّ المتفاهم عرفاً من إطلاق تلك النواهي هو العموم والشمول بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية ما لم تنصب قرينة على الخلاف ، فكذلك المتفاهم عرفاً من إطلاق هذه النواهي هو العموم والشمول.

والسر في ذلك واضح ، وهو أنّ الأحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية لا محالة تنحل بانحلال موضوعاتها في الخارج ، ومن الواضح أنّه لا فرق في ذلك بين الأحكام التحريمية والوجوبية ، فكما أنّ الاولى تنحل بانحلال موضوعها فيما إذا لم تنصب قرينة على خلافه ، فكذلك الثانية ، مثلاً وجوب الحج المجعول للمستطيع في قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٢) على نحو القضية الحقيقية لا محالة ينحل بانحلال أفراد المستطيع في الخارج ، فيثبت لكل منها حكم مستقل. وكذا وجوب الصلاة المجعول للمكلف البالغ العاقل القادر الداخل عليه الوقت على نحو القضية الحقيقية ، فانّه لا محالة ينحل بانحلال أفراده. وكذا وجوب الزكاة المجعول لمن بلغ ماله حدّ النصاب على نحو القضية الحقيقية ، وهكذا.

فلا فرق من هذه الناحية بين الأحكام التحريمية والأحكام الوجوبية أصلاً ،

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٦٧ / أبواب لباس المصلي ب ١١ ح ٢

(٢) آل عمران ٣ : ٩٧

٣٤٢

وإنّما الفرق بينهما في نقطة اخرى : وهي أنّ الأحكام التحريمية كما تنحل بانحلال موضوعها في الخارج فيما إذا كان لها موضوع ، كذلك تنحل بانحلال أفراد متعلقها فيه ، فالنهي عن سبّ المؤمن مثلاً كما ينحل بتعدد أفراد المؤمن في الخارج ، كذلك ينحل بانحلال أفراد السب ، ويكون كل فرد منه محرّماً.

نعم ، قد يكون انحلال النهي بانحلال متعلقه وتعدده من ناحية تعدد موضوعه وانحلاله في الخارج لا في نفسه ، وذلك كشرب الخمر مثلاً أو شرب النجس أو ما شاكل ذلك ، فانّه يتعدد بتعدد أفراد الخمر أو النجس خارجاً لا في ذاته ، ضرورة أنّ فرداً واحداً منه غير قابل لأن يتعدد شربه ، بل له شرب واحد ، نعم يتعدد باعتبار تعدد الحالات والأزمنة لا في نفسه ، والمكلف في اعتبار الشارع محروم عن جميع أفراد شربه في الخارج من العرضية والطولية.

وهذا بخلاف الأحكام الوجوبية ، فانّها لا تنحل بانحلال أفراد متعلقها في الخارج أصلاً ، إلاّفيما إذا قامت قرينة من الخارج على الانحلال.

فالنتيجة : هي أنّ الأوامر تنحل بانحلال موضوعاتها في الخارج فحسب ، ولا تنحل بانحلال متعلقاتها فيه ، وهذا بخلاف النواهي فانّها تنحل بانحلال موضوعاتها ومتعلقاتها معاً ، وفيما نحن فيه حيث إنّ مانعية لبس ما لا يؤكل والميتة والحرير والذهب والنجس وما شاكل ذلك في الصلاة جعلت لها على نحو القضية الحقيقية ، فمن الطبيعي هو أنّها تنحل بانحلال أفراد هذه الطبائع في الخارج ، فيكون لبس كل فردٍ منها مانعاً مستقلاً ، ولا تكون مانعيته مربوطة بمانعية الآخر ... وهكذا ، وهذا هو المتفاهم العرفي من كل قضية حقيقية من دون شبهة وخلاف.

وكذا لا شبهة في ظهور تلك النواهي في باب المعاملات ـ بالمعنى الأعم ـ في

٣٤٣

الانحلال ، ضرورة أنّ مانعية الغرر مثلاً تنحل بانحلال أفراد البيع في الخارج ، وكذا الجهل بالعوضين أو بأحدهما وما شاكل ذلك بعين الملاك المتقدِّم.

وقد يتخيّل في المقام أنّ المفروض أنّ هذه النواهي ليست بنواهٍ حقيقية ، بل هي نواه بحسب الصورة والشكل ، وفي الحقيقة أوامر غاية الأمر أنّ المولى أبرز تلك الأوامر بصورة النهي ، وقد تقدّم أنّه لا عبرة بالمبرز ـ بالكسر ـ أصلاً ، والعبرة إنّما هي بالمبرز ـ بالفتح ـ هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد سبق (١) أنّ نتيجة الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف الأوامر هي العموم البدلي وصرف الوجود ، لا العموم الشمولي ومطلق الوجود.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّه لا بدّ أن يكون المطلوب في أمثال هذه الموارد هو تقيّد العبادة أو المعاملة بصرف ترك هذه الامور في الخارج ، وهو يتحقق بتركها آناً ما ، فإذن المتعيّن في هذه الموارد وما شاكلها هو إرادة الصورة الاولى من الصور المتقدمة لا غيرها ، وهي ما كان المطلوب تقييد الواجب بصرف ترك تلك الامور خارجاً.

وعلى الجملة : فقد مرّ أنّ مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف الأمر هو العموم البدلي وصرف الوجود بمقتضى الفهم العرفي ، ومن المعلوم أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأمر متعلقاً بالفعل أو بالترك ، فإذن مقتضى الاطلاق في أمثال تلك الموارد أيضاً ذلك.

ولكن هذا الخيال خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً ، والوجه في ذلك :ما تقدّم من أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة ليست إلاّثبوت الاطلاق ، وأمّا كونه

__________________

(١) في ص ٢٩٥

٣٤٤

شمولياً أو بدلياً فلا تدل مقدّمات الحكمة على شيء من ذلك ، فإذن إثبات كون الاطلاق في المقام على النحو الأوّل أو الثاني يحتاج إلى قرينة خارجية تدل عليه ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : قد مرّ أنّ القرينة الخارجية قد دلّت على أنّ الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في موارد الأمر المتعلق بالفعل والوجود بدلي وفي موارد النهي شمولي.

ومن جانب ثالث : أنّ الأمر إذا تعلق بترك طبيعة في الخارج ، فلا محالة لا يخلو بحسب مقام الثبوت والواقع من أنّ المولى إمّا أن يريد ترك جميع أفرادها في الخارج من العرضية والطولية ـ سواء أكانت على نحو العموم المجموعي أو الاستغراقي ـ أو أن يريد ترك فردٍ ما منها ، أو أن يريد ترك حصة خاصة منها دون اخرى ، أو أن يريد صرف تركها ، ولا خامس في البين.

ومن جانب رابع : أنّه لا شبهة في أنّه لا يمكن أن يراد من ذلك الفرض الثاني وهو ترك فردٍ ما منها ، لأنّه حاصل وطلبه تحصيل للحاصل ، فلا يمكن أن يصدر من الحكيم ، وكذا لا يمكن أن يراد منه الفرض الثالث وهو ترك حصة خاصة منها ، لأنّ إرادته تحتاج إلى قرينة تدل عليها ، والمفروض أنّه لا قرينة هنا ، فإذن يدور الأمر بين أن يراد منه الفرض الأوّل ، وهو أن يكون المطلوب ترك جميع أفرادها العرضية والطولية ، وأن يراد منه الفرض الرابع وهو أن يكون المطلوب صرف تركها المتحقق بتركها آناً ما ، ومن الواضح جداً أنّ إرادة الفرض الرابع خلاف المتفاهم العرفي المرتكز في أذهانهم ، ضرورة أنّ المتفاهم العرفي من مثل قوله عليه‌السلام : « لا تصلّ في شيء منه ولا في شسع » (١) هو

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٣ / أبواب لباس المصلي ب ١ ح ٢

٣٤٥

تركه في جميع آنات الاشتغال بها ، ولا يختلج في بالهم أن يكون المراد منه تركه حال الاشتغال بالصلاة آناً ما ، ولا يلزم تركها في تمام آنات الاشتغال بها ، ومن المعلوم أنّ إرادة مثل هذا المعنى البعيد عن أذهان العرف تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليه ، وإلاّ فلا يمكن إرادته من الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة.

فالنتيجة على ضوء هذه الجوانب الأربعة : هي أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة ـ وهي الاطلاق ـ يختلف مقتضاها باختلاف موارد الأمر ، ففي موارد تعلقه بالفعل كان مقتضاها الاطلاق البدلي وصرف الوجود من جهة القرينة الخارجية ـ وهي فهم العرف من إطلاقه ذلك بعد ضميمة عدم إمكان إرادة إيجاد الطبيعة بجميع أفرادها العرضية والطولية في الخارج ـ وفي موارد تعلقه بالترك كان مقتضاها الاطلاق الشمولي ومطلق الترك من جهة الفهم العرفي والقرينة الخارجية.

وعلى الجملة : فقد عرفت أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة هي ثبوت الاطلاق فحسب ، وأنّ مراد المولى مطلق من ناحية تبعية مقام الاثبات لمقام الثبوت ، ولكن المتفاهم العرفي من هذا الاطلاق في موارد تعلق الأمر بالفعل هو الاطلاق البدلي وصرف الوجود ، لأجل خصوصية فيه ، والمتفاهم العرفي من الاطلاق في موارد تعلقه بالترك هو الاطلاق الشمولي وعموم الترك كذلك أي من جهة خصوصية فيه ، ولأجل ذلك تفترق موارد تعلق الأمر بالفعل عن موارد تعلقه بالترك.

ثمّ إنّه لا فرق في الأوامر المتعلقة بالفعل بين أن تكون أوامر استقلالية كالأمر بالصلاة والصوم وما شاكلهما ، وأن تكون أوامر ضمنية كالأوامر المتعلقة بأجزاء العبادات والمعاملات وشرائطهما ، مثل الأمر بالركوع والسجود والتكبيرة

٣٤٦

واستقبال القبلة والقيام والطهارة وما شاكلها ، فكما أنّ المتفاهم العرفي من الاطلاق في موارد الأوامر الاستقلالية هو الاطلاق البدلي وصرف الوجود ، فكذلك المتفاهم العرفي منه في موارد الأوامر الضمنية هو ذلك ، ضرورة أنّ المتفاهم العرفي من إطلاق قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) هو كون المطلوب صرف وجود الغسل وتحققه في الخارج ، واعتبار خصوصية اخرى يحتاج إلى دليل خاص كاعتبار التعداد والمسح بالتراب ونحو ذلك ، فإن كل هذا خارج عن الاطلاق ، فلا يستفاد منه ، فإن قام دليل من الخارج على اعتباره بالخصوص نأخذ به ، وإلاّ فلا نقول به ، وكذا الحال في مثل الأمر بالركوع والسجود ونحوهما ، فانّ المتفاهم منه عرفاً هو كون المطلوب صرف الوجود لا مطلق الوجود وهذا واضح ، كما أنّه لا فرق في الأوامر المتعلقة بالترك بين أن تكون استقلالية أو ضمنية من هذه الناحية أصلاً.

وقد تحصّل من ذلك امور :

الأوّل : أنّ كون الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في موردٍ بدلياً وفي موردٍ آخر شمولياً ليس ما تقتضيه نفس المقدّمات ، فانّ ما تقتضيه المقدّمات هو ثبوت الاطلاق في مقام الاثبات الكاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت ، وأمّا كونه بدلياً أو شمولياً فخارج عما تقتضيه المقدّمات بالكلّية ، بل هو تابع لخصوصيات الموارد ويختلف باختلافها.

الثاني : أنّ مقتضى الاطلاق في طرف الأمر ليس هو الاطلاق البدلي مطلقاً وفي تمام موارده ، بل هو يختلف باختلاف تلك الموارد ، ففي موارد تعلقه بالفعل كان مقتضاه بدلياً إلاّ إذا قامت قرينة من الخارج على خلافه ، وفي موارد تعلقه بالترك كان شمولياً.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢

٣٤٧

الثالث : أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأمر المتعلق بالترك أمراً ضمنياً ، وأن يكون أمراً استقلالياً ، فكما أنّ مقتضى الاطلاق في الأوّل من جهة الفهم العرفي هو العموم والشمول ، فكذلك مقتضى الاطلاق في الثاني ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، كما أنّه لا فرق في الأمر المتعلق بالفعل بين أن يكون أمراً استقلالياً كالأمر بالصلاة والصوم وما شابه ذلك ، وأن يكون أمراً ضمنياً كالأوامر المتعلقة بالعبادات والمعاملات بالمعنى الأعم ، فكما أنّ المتفاهم عرفاً من الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في الأوّل هو العموم البدلي وصرف الوجود ، فكذلك المتفاهم عرفاً من الاطلاق الثابت بها في الثاني ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

الرابع : أنّ نتيجة الاطلاق عرفاً في هذه الموارد ـ أعني موارد النهي عن العبادات والمعاملات ـ هو العموم الانحلالي دون العموم المجموعي ، لأنّ إرادته تحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يتكفل الاطلاق لبيانه.

فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن : أنّ مقتضى إطلاق هذه النواهي هو تقييد العبادات كالصلاة مثلاً والمعاملات بترك كل فرد من أفراد هذه الطبائع في الخارج من العرضية والطولية.

وعلى ضوء هذا البيان قد اتّضح أنّه لا شبهة في وجوب التقليل في أفراد هذه الموانع والاقتصار على مقدار الضرورة.

نعم ، لو كان المستفاد من تلك الأدلة هو الصورة الثالثة أو الرابعة لم يجب التقليل والاقتصار على قدر الضرورة كما مرّ ، ولكن عرفت أنّ المستفاد منها عرفاً هو الصورة الثانية مطلقاً ، أي في العبادات والمعاملات من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، بل الحال في المعاملات أوضح ، ضرورة أنّه

٣٤٨

لا يحتمل أن يكون الجهل مثلاً بأحد العوضين أو بهما معاً مانعاً عن صحة المعاملة في مورد واحد ... وهكذا.

ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده السيِّد العلاّمة الطباطبائي قدس‌سره في العروة (١) من وجوب التقليل بالمقدار الممكن والاقتصار على ما تقتضيه الضرورة هو الصحيح ولا مناص عنه ، إلاّ أنّ ما أفاده قدس‌سره من لزوم التقليل حكماً فضلاً عن التقليل موضوعاً لا يتم صغرى وكبرى ، كما تقدّم بشكل واضح فلا نعيد.

نعم ، لو قلنا بالتزاحم في أمثال هذه الموارد دون التعارض من ناحية ، وسلّمنا اتصاف النجاسة من هذه الجهة بالشدّة والضعف من ناحية اخرى ، فعندئذ لو دار الأمر بين إزالة الفرد الشديد وإزالة الفرد الضعيف ، لكان اللاّزم هو تقديم إزالة الفرد الشديد على إزالة الفرد الضعيف ، لأنّ إزالته أهم من إزالته ، ولا أقل من احتمال كونها أهم منها ، وهذا يكفي للتقديم في مقام المزاحمة.

وهذا بخلاف ما إذا قلنا بكون هذه الموارد داخلة في كبرى باب التعارض ، فانّه عندئذ لا وجه لتقديم إزالة الفرد الشديد على إزالة الفرد الضعيف في مقام المعارضة أصلاً ، وذلك لفرض أنّه لا فرق بينهما في أصل المانعية بالنظر إلى الأدلة ولا تكون شدّته زيادة فيها ، وعليه ففي مثل هذا الفرض نعلم إجمالاً بجعل الشارع أحدهما مانعاً ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة ، فإن كان الدليل على أحدهما لفظياً والدليل على الآخر لبياً يتقدّم الأوّل على الثاني ، لفرض أنّ المتيقن من الثاني هو غير هذا المورد ، فلا يشمل مثله.

وإن كان كلاهما لفظياً ، فإن كان التعارض بينهما بالاطلاق يسقطان معاً ،

__________________

(١) تقدّم المصدر في ص ٣٢٠

٣٤٩

فلا بدّ عندئذ من الرجوع في هذا المورد إلى الأصل فيه ، إلاّ إذا كان إطلاق أحدهما من الكتاب أو السنّة ، وإطلاق الآخر من غيرهما ، فيتقدّم الأوّل على الثاني ، وذلك لما استظهرناه من أنّ الروايات الدالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب أو السنّة تشمل المخالفة بالاطلاق أيضاً ، فإذن لا يكون هذا الاطلاق حجّة في نفسه مع قطع النظر عن المعارضة في مقابل إطلاق الكتاب أو السنّة.

وإن كان التعارض بينهما بالعموم فعندئذ لا بدّ من الرجوع إلى قواعد ومرجّحات باب المعارضة ، وإن كان أحد الدليلين مطلقاً والآخر عاماً فيتقدّم العام على المطلق ، لأنّه يصلح أن يكون بياناً للأوّل دون العكس. وإن كان كلاهما لبياً فلا بدّ وقتئذ من الرجوع إلى دليل آخر من أصل لفظي أو عملي ، لفرض أنّ المتيقن منهما غير هذا الفرض ، فلا إجماع فيه لا على مانعية هذا ولا على مانعية ذاك ، كما هو ظاهر.

نتائج ما ذكرناه لحدّ الآن عدّة نقاط :

الاولى : أنّ النهي عن فعل غالباً ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة فيه ، ولا ينشأ عن مصلحة إلزامية في تركه وإلاّ لكان تركه واجباً لا فعله محرّماً وهذا خلف. والأمر به ينشأ غالباً عن قيام مصلحة ملزمة في فعله ، لا عن قيام مفسدة كذلك في تركه ، وإلاّ لكان تركه محرّماً لا فعله واجباً.

الثانية : أنّ الأمر كما يتعلق بالفعل باعتبار وجود مصلحة إلزامية فيه فيكون ذلك الفعل واجباً سواء أكان وجوبه ضمنياً أم استقلالياً ، قد يتعلق بالترك كذلك أي باعتبار وجود مصلحة ملزمة فيه فيكون ذلك الترك واجباً ، سواء أكان وجوبه استقلالياً أم ضمنياً.

الثالثة : أنّ النواهي الواردة في أبواب العبادات جميعاً نواه إرشادية فتكون

٣٥٠

إرشاداً إلى مانعية أشياء كالقهقهة والحدث والتكلم ولبس ما لا يؤكل والنجس والميتة والحرير والذهب وما شاكل ذلك ، وليست تلك النواهي نواهٍ حقيقية ناشئة عن قيام مفسدة ملزمة فيها ، ضرورة أنّه لا مفسدة فيها أبداً ، بل مصلحة ملزمة في تقيد الصلاة بعدم هذه الامور.

ولعل النكتة في التعبير عن هذا التقييد بالنهي في مقام الاثبات لا بالأمر ، إنّما هي اعتبار الشارع كون المكلف محروماً عن هذه الامور حال الصلاة ولأجل ذلك أبرزه بالنهي الدال على ذلك ، ولكن بما أنّ هذا الاعتبار لم ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة فيها ، بل هو ناشئ عن قيام مصلحة ملزمة في هذا التقييد ومن ثمّ يكون مردّه إلى اعتبار حصة خاصة من الصلاة ، وهي الحصة المقيدة بعدم هذه الامور في ذمّة المكلف ، فلأجل ذلك يكون هذا نهياً بحسب الصورة والشكل ، لا بحسب الواقع والحقيقة.

ومما يدل على كون هذه النواهي إرشادية لا حقيقية وجود هذه النواهي في المعاملات بالمعنى الأعم ، ولا شبهة في كون تلك النواهي هناك نواهي إرشادية إلى مانعية ما تعلق به النهي كالغرر ونحوه ، وليست هي بنواهٍ حقيقية ، ضرورة أنّ بيع الغرر وما شاكل ذلك ليس من المحرّمات في الشريعة المقدّسة ، فالنهي عنه إرشاد إلى فساده.

نعم ، قد تكون المعاملة محرّمةً بنفسها كالمعاملة الربوية ، ولكن من المعلوم أنّ حرمتها ليست من ناحية هذا النهي ، بل هي من جهة دليل آخر يدل عليها ، ولذا قلنا إنّ حرمتها لا تستلزم فسادها ، ففسادها إنّما هو من ناحية هذا النهي ، لا من ناحية النهي الدال على حرمتها. ونظير ذلك في العبادات أيضاً موجود وهو لبس الحرير ، فانّه حرام على الرجال مطلقاً ـ أي سواء أكان في حال الصلاة أم كان في غيره ـ ومانع عن الصلاة أيضاً ، ولكن من الواضح جداً أنّ

٣٥١

حرمته الذاتية غير مستفادة من النهي عن لبسه حال الصلاة ، ضرورة أنّ هذا النهي لا يكون إلاّ إرشاداً إلى مانعيته عنها ، ولا يدل على حرمته أصلاً ، وحاله من هذه الناحية حال النهي عن بقية الموانع حال الصلاة ، بل لا بدّ من استفادتها من دليل آخر أو من قرينة خارجية ، كما هو ظاهر.

ومن ذلك يظهر حال الأوامر الواردة في أبواب العبادات بشتّى أشكالها ، أنّها أوامر إرشادية ، فتكون إرشاداً إلى الجزئية أو الشرطية ، كالأمر بالركوع والسجود والقيام واستقبال القبلة والطهور وما شاكلها ، فانّها إرشاد إلى جزئية الركوع والسجود للصلاة ، وشرطية القيام والاستقبال والطهور لها.

ومما يؤكّد ذلك : وجود هذه الأوامر في أبواب المعاملات ، فانّه لا إشكال في كون تلك الأوامر هناك إرشادية ، ضرورة أنّ مثل قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل » (١) أو نحوه ، لا يحتمل فيه غير الارشاد إلى نجاسة الأبوال ، وأنّ المطهر للثوب المتنجس بها هو الغسل ، وهكذا الحال في بقية الأوامر الواردة فيها.

الرابعة : أنّ التروك المأخوذة في متعلق الأمر مرّةً تكون مأخوذة على نحو الاستقلال بأن تكون تلك التروك واجبة بوجوب استقلالي ، ومرّة اخرى تكون مأخوذة على نحو القيدية بأن تكون واجبة بوجوب ضمني ، فالقسم الأوّل وقوعه في الشريعة في غاية القلّة ، وأمّا القسم الثاني فهو في غاية الكثرة في باب العبادات والمعاملات ، كما أنّ الوجودات المأخوذة في متعلق الأمر مرّةً تكون على نحو الاستقلال ، واخرى على نحو القيدية والجزئية ، والأوّل كالصلاة والصوم وما شاكلها ، والثاني كالركوع والسجود والقيام والطهور ونحوها ، وكلا

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢

٣٥٢

هذين القسمين كثير في الشريعة في باب العبادات والمعاملات ، كما هو واضح.

الخامسة : أنّ هذا الترك مأمور به سواء أكان مبرزه في الخارج صيغة الأمر أم صيغة النهي ، لما عرفت من أنّه لا شأن للمبرز ـ بالكسر ـ أصلاً ، وإنّما العبرة بالمبرز ـ بالفتح ـ.

السادسة : أنّ التروك المأخوذة في متعلق الأمر بكلا قسميها من الاستقلالي والضمني تتصور في مقام الثبوت والواقع على صور أربع ، وقد تقدّم أنّ الثمرة تظهر بين هذه الصور في موردين : أحدهما في مورد الاضطرار والاكراه. الثاني في مورد الشك كما سبق.

السابعة : أنّ وجوب التقليل في أفراد المانع بالمقدار الممكن والاقتصار على قدر الضرورة يرتكز على القول بالانحلال في المسألة دون بقية الأقوال ، كما أنّه على هذا القول إنّما يجب التقليل فيها بحسب الكم دون الكيف على تقدير تسليم اختلافها فيه ، كما تقدّم.

الثامنة : أنّ الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال في موارد التروك المتعلقة للأمر الضمني عند الشك ، يبتني على أن لايكون هناك أصل موضوعي ، مثلاً جريان أصالة البراءة أو الاشتغال في مسألة اللباس المشكوك كونه مما لا يؤكل أو الحرير أو الذهب ، يبتني على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي أو العدم النعتي بالتقريب المتقدِّم ، وإلاّ فلا موضوع له.

التاسعة : أنّ جواز الصلاة في اللباس المشكوك فيه مع قطع النظر عن جريان استصحاب العدم الأزلي أو النعتي يرتكز على القول بجريان أصالة البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، لا على انحلال المانعية أو عدم انحلالها.

العاشرة : أنّ المستفاد من الأدلة في مقام الاثبات في باب العبادات

٣٥٣

والمعاملات هو الصورة الثانية وهي انحلال مانعية هذه الطبائع بانحلال أفرادها في الخارج ، وأنّ تلك الأدلة إرشاد إلى مانعية كل فرد من أفرادها العرضية والطولية ، فانّ إرادة بقية الصور منها تحتاج إلى بيان زائد من المتكلم وقرينة اخرى ، وفي فرض عدمها كانت إرادة هذه الصورة متعيّنة.

الجهة الثالثة : قد تقدّم سابقاً أنّ الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف النهي كما أنّه يستدعي بمقتضى الفهم العرفي العموم بالاضافة إلى الأفراد العرضية ، كذلك يستدعي العموم بالاضافة إلى الأفراد الطولية ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، ضرورة أنّ إطلاق النهي في مقام الاثبات وعدم تقييد المنهي عنه بحصة خاصة دون اخرى وبزمان معيّن دون آخر ، كما أنّه كاشف عن الاطلاق والعموم في مقام الثبوت والواقع بالاضافة إلى الأفراد العرضية ، كذلك هو كاشف عنه فيه بالاضافة إلى الأفراد الطولية ، لتبعية مقام الاثبات للثبوت ، إلاّ أنّ العموم في متعلق الأمر يكون بدلياً كما عرفت ، وقد يكون مجموعياً ، كما أنّه في طرف الحكم الوضعي يكون مجموعياً من جهة.

ومثال الأوّل : قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) ومثال الثاني : قوله تعالى :( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(٣) ونحوهما مما دلّ على حكم وضعي كالطهارة والنجاسة والملكية وغيرها ، فانّ المستفاد عرفاً من إطلاق الآية الاولى وإن كان هو العموم الاستغراقي بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية من العقد ، ضرورة أنّه يثبت لكل فرد من أفراد العقد وجوب الوفاء

__________________

(١) المائدة ٥ : ١

(٢) البقرة ٢ : ٢٧٥

(٣) النساء ٤ : ٢٩

٣٥٤

على نحو الاستقلال ، فلا يكون وجوب الوفاء بهذا الفرد من العقد مربوطاً بفرد آخر ... وهكذا ، وهذا واضح ، ولكن المستفاد منه عرفاً بالاضافة إلى الوفاء الذي تعلق به الأمر هو العموم المجموعي ، لا الاستغراقي ، لوضوح أنّ الوجوب الثابت للوفاء بكل فرد من أفراد العقد في جميع الآنات والأزمنة وجوب واحد مستمر ، وليس الثابت في كل آنٍ وزمان وجوباً غير وجوب الوفاء الثابت له في زمان آخر.

وكذا المستفاد عرفاً من إطلاق الآية الثانية والثالثة وإن كان هو العموم الاستغراقي بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية من البيع والتجارة ، إلاّ أنّ الحلية الثابتة لكل فردٍ من أفراد البيع في جميع الآنات والأزمنة حلية واحدة مستمرة ، وليس الثابت له في كل آن وزمان حلية غير الحلية الثابتة له في آن آخر وزمان ثانٍ ... وهكذا ، ضرورة أنّ ثبوت الحلية له في كل آن وزمان لغو محض ، وكذا الحال في الطهارة والنجاسة ونحوهما ، فانّ الطهارة الثابتة لشيء في جميع الآنات والأزمنة طهارة واحدة مستمرة وليس الثابت له في كل آن طهارة واحدة ، وهكذا الأمر في النجاسة وغيرها.

وهذا بخلاف الاطلاق في طرف النهي فانّ المتفاهم العرفي منه كما أنّه ثبوت الحرمة لكل فرد من أفراد المنهي عنه ، كذلك ثبوت الحرمة له في كل زمان من الأزمنة وآن من الآنات ، كما تقدّم بشكل واضح.

ولكن لشيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام كلام ، وهو أنّ انحلال النهي بالاضافة إلى الأفراد العرضية إنّما هو من جهة أخذ ترك الطبيعة حال تعلق الطلب به فانياً في معنوناته التي هي عبارة عن ترك كل واحد من تلك الأفراد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٢٢

٣٥٥

الخارجية ، وأمّا انحلاله بالاضافة إلى الأفراد الطولية فهو إنّما يمكن بأحد وجهين :

الأوّل : أن يكون الزمان مأخوذاً في ناحية المتعلق بأن يكون شرب الخمر في كل زمان محكوماً بالحرمة.

الثاني : أن يؤخذ الزمان في ناحية الحكم بأن يكون الحكم المتعلق بترك الطبيعة باقياً في الأزمنة اللاّحقة ، وبما أنّه لا دليل على أخذ الزمان في ناحية المتعلق من جهة ، ولا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آناً ما من جهة اخرى ، فلا محالة يكون دليل الحكمة مقتضياً لبقاء الحكم في الأزمنة اللاّحقة.

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدّة صور :

الاولى : أنّ انحلال النهي بالاضافة إلى الأفراد العرضية إنّما هو من ناحية أخذ ترك الطبيعة فانياً في معنوناته حين تعلق الطلب به ، ولازم ذلك هو أنّ متعلق الطلب في الحقيقة هو ترك كل فرد من أفراد هذه الطبيعة في الخارج ، فانّ الطلب المتعلق به لا محالة يسري إلى جميع أفراده ومعنوناته ، لفرض أنّه اخذ فانياً في تلك المعنونات ، وهذا معنى انحلال النهي بانحلال ترك أفراد الطبيعة.

الثانية : أنّ انحلال النهي بالاضافة إلى الأفراد الطولية إنّما هو من جهة أحد الأمرين : إمّا أخذ الزمان في ناحية المتعلق ، أو أخذه في ناحية الحكم ، ولا ثالث ، ضرورة أنّ النهي لا يدل على الانحلال بالاضافة إلى تلك الأفراد ، وإنّما يدل عليه بالاضافة إلى الأفراد العرضية فحسب.

والسر في ذلك : هو أنّ الملحوظ حال تعلق الطلب بترك الطبيعة هو فناؤه في ترك كل فرد من أفرادها فحسب ، لافناؤه في ترك كل فرد منها في كل آن من الآنات وزمان من الأزمنة ، ولأجل ذلك يدل على الانحلال من الناحية الاولى

٣٥٦

دون الثانية.

الثالثة : أنّ أخذ الزمان في ناحية المتعلق يحتاج إلى دليل ، وحيث إنّه لا دليل عليه في المقام ، فدليل الحكمة يعيّن أخذه في ناحية الحكم فيدل على استمراره وبقائه في الآنات اللاّحقة والأزمنة المتأخرة.

ولنأخذ بالمناقشة في جميع هذه الصور :

أمّا الصورة الاولى : فيردّها ما تقدّم منّا (١) بشكل واضح ، وملخّصه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ أصل هذه النظرية فاسد ، لما سبق من أنّ النهي ليس عبارة عن طلب ترك الطبيعة ، ولا عبارة عن الزجر عنها ، بل هو عبارة عن اعتبار المولى حرمان المكلف عن الطبيعة وإبراز ذلك الاعتبار في الخارج بمبرزٍ ما من قول أو فعل.

وأمّا ثانياً : فلما عرفت من أنّ انحلال النهي بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية على جميع المذاهب والآراء إنّما هو مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة ، فانّ المتفاهم منه عرفاً ذلك بالاضافة إلى كلتيهما ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

وأمّا الصورة الثانية : فيرد عليها ما عرفت من أنّ استفادة العموم بالاضافة إلى الأفراد الطولية أيضاً بالاطلاق ، فانّ إطلاق المتعلق وعدم تقييده بحصة خاصة كما يقتضي العموم بالاضافة إلى الأفراد العرضية ، كذلك إطلاقه وعدم تقييده بزمان معيّن يقتضي العموم بالاضافة إلى الأفراد الطولية ، فما أفاده قدس‌سره من أنّ انحلال النهي بالاضافة إلى الأفراد الطولية يتوقف على أحد

__________________

(١) في ص ٢٧٢

٣٥٧

أمرين : إمّا أخذ الزمان في ناحية المتعلق ، أو أخذه في ناحية الحكم ، لايمكن المساعدة عليه بوجه ، لما مرّ من أنّه لا يتوقف على شيء منهما ، بل هو يتوقف على ثبوت الاطلاق ، فإذا كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على التقييد بزمان خاص دون آخر ، لا محالة كان مقتضى الاطلاق هو ثبوت الحكم لكل فرد من أفراد الطبيعة في كل آن وزمان.

أضف إلى ذلك : أنّه لا معنى لأخذ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم في أمثال هذه الموارد ، فانّ الزمان كالمكان بنفسه ظرف ، فلا يحتاج كونه كذلك إلى لحاظ زائد ، وعليه فإذا لم يقيد المولى الحكم بزمان خاص ، فطبعاً يكون الحكم ثابتاً في تمام الأزمنة والآنات.

ومن الواضح جداً أنّ هذا لا يحتاج إلى لحاظ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم وأخذه فيه كما هو ظاهر ، غاية الأمر قد يكون المتفاهم العرفي من ذلك هو استمرار الحكم على نحو العموم المجموعي ، وقد يكون المتفاهم منه هو استمراره على نحو العموم الاستغراقي ، كما هو الحال في أمثال هذه الموارد.

وأمّا الصورة الثالثة : فعلى تقدير تسليم أنّه لا بدّ من أخذ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم لأجل استفادة العموم باضافةٍ إلى الأفراد الطولية ، فيرد عليها : أنّ دليل الحكمة يعيّن أخذه في ناحية المتعلق دون ناحية الحكم ، وذلك لأن إطلاق المتعلق وعدم تقييده بزمان مخصوص يقتضي ثبوت الحكم له في كل زمان على نحو العموم الاستغراقي ، بأن يثبت له في كل زمان حكم مغاير لثبوت حكم له في زمان ثان ... وهكذا ، وهذا هو المتفاهم منه عرفاً ، ضرورة أنّ المتفاهم العرفي من النهي عن شرب الخمر مثلاً وسبّ المؤمن وما شاكلهما ، هو انحلال النهي بانحلال أفرادها بحسب الأزمنة ، فيكون النهي الثابت لسب

٣٥٨

المؤمن في هذا الزمان مغايراً للنهي الثابت له في زمان آخر ... وهكذا.

نعم ، إطلاق المتعلق في بعض الموارد يعيّن أخذه في ناحية الحكم كما في مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) وما شاكله كما عرفت.

فما أفاده قدس‌سره من أنّ دليل الحكمة يعيّن أخذه في ناحية الحكم لا يتم على إطلاقه ، بل الغالب هو العكس.

هذا تمام الكلام في معنى النهي ونقطة الامتياز بينه وبين الأمر.

__________________

(١) المائدة ٥ : ١

٣٥٩

اجتماع الأمر والنهي

ها هنا جهات من البحث :

الاولى : أنّ عنوان النزاع في هذه المسألة على ما حرّره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم كون النزاع فيها كبروياً ، بمعنى أنّ موضوع المسألة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ومحمولها الجواز أو الامتناع ، بمعنى أنّ القائلين بجواز الاجتماع يدّعون أنّه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، بدعوى أنّه لا مضادة بينهما ومعه لا مانع من اجتماعهما فيه. والقائلين بالامتناع يدّعون استحالة اجتماعهما فيه ، بدعوى وجود المضادة بينهما ، وعليه فمردّ النزاع في المسألة إلى دعوى المضادة بين الأحكام الشرعية بعضها مع بعض وعدم المضادة ، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع ، وعلى الثاني لا بدّ من القول بالجواز.

والتحقيق : أنّ النزاع في هذه المسألة لا يعقل أن يكون كبروياً ، بداهة استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد مطلقاً ، حتّى عند من يجوّز التكليف بالمحال كالأشعري ، وذلك لأنّ اجتماعهما في نفسه محال ، لا أنّه من التكليف بالمحال ، ضرورة استحالة كون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً للمولى معاً على جميع المذاهب والآراء فما ظنّك بغيره.

وعلى الجملة : فلا شبهة في استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، حتّى عند القائل بجواز الاجتماع في المسألة ، فانّه إنّما يقول به بملاك أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون ، وأمّا مع فرض وحدته فلا يقول بالجواز أصلاً.

٣٦٠