محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

وقد يوجّه ذلك : بأنّ نظر العرف حيث كان يبتني على المسامحة ، فيرون المجمع في مورد الاجتماع والتصادق واحداً ويحكمون بامتناع الاجتماع ، وأمّا نظر العقل حيث إنّه كان مبنياً على الدقّة فيرى المجمع متعدداً ، ولذا يحكم بالجواز بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.

ويردّه : ما ذكرناه غير مرّة من أنّ نظر العرف لا يكون حجّة في موارد تطبيق المفاهيم على مصاديقها ، بداهة أنّ المجمع إذا كان متعدداً في الواقع فلا أثر لنظر العرف بكونه واحداً أصلاً ، ولا سيّما نظره المسامحي ، فالعبرة إنّما هي بوحدة المجمع وتعدده بحسب الواقع والحقيقة عند العقل ، كما هو ظاهر.

وقد يوجّه بتوجيه ثانٍ وملخّصه : هو دعوى أنّ العرف لا يفهم من قوله تعالى مثلاً : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )(١) إلاّوجوب حصة منها ـ وهي الحصة التي لا تكون في الأرض المغصوبة ـ فلا تنطبق على الصلاة فيها ، وعليه فلا ينطبق المأمور به على المنهي عنه أصلاً ، وهذا معنى امتناع اجتماعهما في شيء واحد عرفاً.

وبتعبير آخر : أنّ المتفاهم العرفي من الأدلة الدالة على وجوب الصلاة أو نحوها بعد ملاحظة النهي عن التصرف في مال الغير ، هو وجوب حصة خاصة منها ، وهي الحصة التي لا تقع في مال الغير ، وعليه فالحصة الواقعة فيه ليست مصداقاً للصلاة المأمور بها ، بل هي منهي عنها فحسب ، فإذن يستحيل اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، ومردّ هذا إلى تخصيص أدلة وجوب الصلاة مثلاً

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨

٣٨١

بغير موارد النهي عن التصرف في أرض الغير ، وهذا معنى امتناع اجتماعهما على شيء واحد.

ولنأخذ بالمناقشة عليه ، أمّا أوّلاً : فلأ نّه لا صلة لهذا الفرض بمحل البحث أبداً ، وذلك لأنّ محل البحث في المسألة إنّما هو فيما إذا كان لكل من متعلقي الأمر والنهي إطلاق يشمل مورد التصادق والاجتماع ، بأن يكون المجمع فيه مصداقاً للمأمور به من ناحية ، وللمنهي عنه من ناحية اخرى ، غاية الأمر إذا فرض أنّ المجمع واحد بالذات والحقيقة ، فيقع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة ، فعندئذ لا بدّ من الرجوع إلى قواعده وإجراء أحكامه ، وإذا فرض أنّه متعدد واقعاً وخارجاً ، فيقع التزاحم بينهما ، فلا بدّ عندئذ من الرجوع إلى قواعده وإجراء أحكامه.

وأمّا إذا فرض أنّ الأمر من الأوّل تعلق بحصة خاصة من الصلاة ، وهي الحصة التي لا تكون في الأرض المغصوبة ، فلا موضوع وقتئذ للنزاع في المسألة عن جواز الاجتماع وعدم جوازه ، وسراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته أصلاً ، إذ على هذا لا يعقل توهّم اجتماعهما في مورد واحد ، لفرض تقييد دليل الوجوب من الأوّل بغير موارد الحرمة ، ومن الواضح جداً أنّه لو كان المتفاهم العرفي من أدلة وجوب الصلاة أو نحوها ذلك لم يكن مجال وموضوع لهذه المسألة أصلاً كما لا يخفى.

وأمّا ثانياً : فلأنّ أصل هذه الدعوى فاسدة ، وذلك لأنّ المتفاهم العرفي من الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة ليس ذلك التقييد والتضييق ، ضرورة أنّ التقييد بحصة خاصة يحتاج إلى دليل يدل عليه ، وحيث إنّه لا دليل عليه فلا يمكن الحكم بالتقييد.

٣٨٢

ومن ناحية اخرى : أنّ ما دلّ على حرمة التصرف في أرض الغير لا يصلح أن يكون مقيداً له ، ضرورة أنّ نسبته إليه ليست كنسبة الخاص إلى العام والمقيد إلى المطلق ليكون المتفاهم العرفي منه ذلك التقييد ، بل المتفاهم عرفاً من كل منهما هو الاطلاق أو العموم بنحو يكون مورد الاجتماع داخلاً فيهما معاً ، ولا يصلح شيء منهما لأن يكون مقيداً للآخر فيه كما هو واضح ، وعليه فلا محالة تقع المعارضة بينهما في ذلك المورد إذا كان المجمع فيه واحداً بالذات والحقيقة. وأمّا إذا كان متعدداً ذاتاً وحقيقةً ، فعندئذ لو قلنا بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر أيضاً تقع المعارضة بينهما ، وأمّا إذا لم نقل بها كما هو كذلك فتقع المزاحمة بينهما إذا لم تكن مندوحة في البين.

ومن هنا يكون مردّ البحث في هذه المسألة إلى البحث عن نقطتين :

الاولى : هل المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد بالذات والحقيقة أو أنّه متعدد كذلك؟

الثانية : أنّه على تقدير كونه متعدداً هل يسري الحكم من أحدهما إلى الآخر أم لا؟ وسيأتي البحث عن هاتين النقطتين فيما بعد إن شاء الله تعالى (١) بصورة واضحة.

فالنتيجة هي أنّه لا أصل لهذا التفصيل أبداً.

السابعة : قد حققنا فيما تقدّم أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع واحداً.

الثاني : أن يلتزم بسراية الحكم من أحد المتلازمين بحسب الوجود إلى الملازم

__________________

(١) في ص ٣٩٦ ، ٤٥٣

٣٨٣

الآخر.

والقول بالجواز يرتكز على أمرين :

الأوّل : أن يكون المجمع لهما في مورد التصادق والاجتماع متعدداً.

الثاني : أن لا يسري الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.

وعلى ضوء هذا فيدخل في محل النزاع جميع أنواع الايجاب والتحريم ما عدا الايجاب والتحريم التخييريين ، فلنا دعويان :

الاولى : جريان النزاع في جميع أنواعهما ما عدا التخييريين منهما ، سواء أكانا نفسيين أم غيريين أم تعيينيين أم عينيين أم كفائيين.

الثانية : عدم جريانه في خصوص التخيريين منهما.

أمّا الدعوى الاولى : فلضرورة استحالة اجتماع اثنين منها في شيء واحد ، سواء أكانا من نوع واحد أو من نوعين ، لوضوح أنّه إذا فرض كون المجمع واحداً ، فكما أنّه لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم النفسيين فيه ـ كما عرفت ـ فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الغيريين ، بداهة أنّه لا يعقل أن يكون شيء واحد واجباً غيرياً وحراماً كذلك على القول بهما ، فانّ مردّ الأوّل إلى أمر الشارع باتيانه مقدّمة لواجب نفسي ، ومردّ الثاني إلى نهي الشارع عن فعله مقدّمة للاجتناب عن فعل حرام كذلك ، ومن الواضح جداً أنّه لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد ، ضرورة استحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً ولو كانا غيريين.

وإن شئت فقل : إنّ اجتماع الوجوب والحرمة الغيريين كما أنّه مستحيل من ناحية المنتهى مستحيل من ناحية المبدأ أيضاً ، فانّ كون شيء مقدّمة لواجب يقتضي محبوبيته ، كما أنّ كونه مقدّمة لحرام يقتضي مبغوضيته ، ومن المعلوم

٣٨٤

أنّه لا يمكن تأثير كل منهما في مقتضاه ، كما أنّه لا يمكن تأثير المصلحة والمفسدة في تحريم شيء واحد ووجوبه معاً.

وكذا لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الكفائيين ، لوضوح أنّه لا يمكن أن يكون في فعل واحد ما يقتضي وجوبه وما يقتضي تحريمه ويؤثر كل منهما في مقتضاه من دون فرق بين أن يكون المكلف بهما آحاد المكلفين كما في التكاليف العينية ، أو الطبيعي الجامع للأفراد كما في التكاليف الكفائية.

وأمّا الدعوى الثانية : فلعدم إمكان اجتماع الوجوب والحرمة التخييريين في شيء واحد ليقع التنافي بينهما ، والوجه فيه : هو أنّ الحرمة التخييرية تمتاز عن الوجوب التخييري في نقطة واحدة ، وتلك النقطة تمنع عن اجتماعهما في شيء واحد ، وهي : أنّ مردّ الحرمة التخييرية إلى حرمة الجمع بين فعلين باعتبار قيام مفسدة ملزمة بالمجموع ، لا بالجامع بينهما ، وإلاّ لكان كل من الفعلين محرّماً تعييناً ، لفرض أنّ النهي المتعلق بالجامع ينحل بانحلال أفراده ، فيثبت لكل فرد منه نهي مستقل. وفي المقام إذا فرض أنّ المفسدة قائمة بالطبيعي الجامع فلا محالة تسري إلى أفراده وتثبت لكل فرد منها ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد تقدّم أنّ المتفاهم العرفي من الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف النهي هو الانحلال وتعلق النهي بكل فرد من أفراد متعلقه العرضية والطولية.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ النهي لو تعلق بالجامع بينهما لا بالمجموع لكان كل منهما حراماً تعييناً لاتخييراً كما هو ظاهر ، فإذن مرجع النهي التخييري إلى النهي عن الجمع بين الفعلين ، ومردّ الوجوب التخييري إلى إيجاب الجامع بين شيئين أو أشياء ، لا إلى إيجاب كل منهما بخصوصه كما تقدّم بيان ذلك في بحث الواجب التخييري بشكل واضح.

٣٨٥

وبعد ذلك نقول : إنّه لا تنافي بين إيجاب الجامع بين شيئين وحرمة الجمع بينهما ، لا بحسب المبدأ ولا بحسب المنتهى. أمّا بحسب المبدأ فلأ نّه لا مانع من قيام مصلحة ملزمة بالجامع بينهما وقيام مفسدة ملزمة بالمجموع منهما ، ضرورة أنّ المانع إنّما هو قيام كلتيهما في شيء واحد ، لا قيام إحداهما بشيء والاخرى بشيء آخر وهذا واضح. وأمّا بحسب المنتهى فلفرض أنّ المكلف قادر على امتثال كلا التكليفين معاً ، لأنّه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر فامتثل كليهما. وعليه فلا تنافي بينهما أصلاً ، أي لا في المبدأ ولا في المنتهى. هذا بناءً على ما حققناه في بحث الواجب التخييري من أنّ الواجب هو الجامع بين فعلين أو أفعال.

وأمّا بناءً على أن يكون الواجب هو كل واحد منهما بخصوصه ، غاية الأمر عند الاتيان بأحدهما يسقط الآخر ، فأيضاً لا تنافي بينهما ، أعني بين الواجب التخييري كذلك والحرام التخييري. أمّا بحسب المنتهى فواضح ، وأمّا بحسب المبدأ فلأ نّه لا منافاة بين قيام مصلحة في كل واحد منهما خاصة بحيث مع استيفاء تلك المصلحة في ضمن الاتيان بأحدهما لا يمكن استيفاء الاخرى في ضمن الاتيان بالآخر ، وقيام مفسدة بالجمع بينهما في الخارج كما هو ظاهر.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ ملاك النزاع في المسألة يعم جميع أنواع الايجاب والتحريم ما عدا الايجاب والتحريم التخييريين.

الثامنة : قد يتوهّم أنّه لا بدّ من اعتبار قيد المندوحة في محل النزاع في هذه المسألة ، ضرورة أنّه بدونه يلزم التكليف بالمحال ، بيان ذلك : هو أنّه لا إشكال في اعتبار القدرة في متعلق التكليف واستحالة توجيهه نحو العاجز ، غاية الأمر أنّ اعتبارها على وجهة نظرنا إنّما هو من ناحية حكم العقل في ظرف الامتثال فحسب لا مطلقاً ، وأنّ المكلف في هذا الظرف لا بدّ أن يكون قادراً ، ولا يحكم باعتبار قدرته مطلقاً حتّى في ظرف الجعل ، كما أنّه لا يحكم باعتبار القدرة في

٣٨٦

متعلقه بأن يكون المتعلق حصة خاصة منه وهي الحصة المقدورة ، وعلى وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره إنّما هو من ناحية اقتضاء نفس التكليف ذلك ، ومن هنا يكون متعلقه على وجهة نظره خصوص الحصة المقدورة ، دون الأعم منها ومن غير المقدورة ، كما تقدّم تفصيل ذلك في بحث الضد بشكلٍ واضح (١).

وعلى كلا هذين المسلكين ، فإن كان المكلف قادراً على إيجاد متعلق التكليف في ضمن فردٍ ما خارجاً ، كما إذا فرض أنّه قادر على الاتيان بالصلاة في خارج الأرض المغصوبة ، فعندئذ لا مانع من توجيه التكليف بالصلاة إليه ، ولا يكون هذا من التكليف بالمحال. وأمّا إذا فرض أنّه غير قادر على الاتيان بالصلاة مثلاً لا في خارج الدار المغصوبة ، لعدم المندوحة له ، ولا فيها لأنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي ، فإذن لا يمكن توجيه التكليف بالصلاة إليه ، لأ نّه من التكليف بالمحال ، وعليه فلا معنى للنزاع في المسألة عن جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم جوازه ، ضرورة أنّ الأمر على هذا الفرض غير معقول ليقع النزاع في ذلك.

ولكن هذا التوهّم خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً ، والوجه في ذلك ما تقدّم من أنّ النزاع في المسألة إنّما هو في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وبالعكس ، وعدم سرايته ، وقد سبق أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين :

الأوّل : كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً.

الثاني : الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر. كما أنّ القول بالجواز يرتكز على أمرين هما : تعدد المجمع ، وعدم سراية الحكم من

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٣٤٤

٣٨٧

أحدهما إلى الآخر ، كما هو الصحيح ، ومن الواضح جداً أنّه لا دخل لوجود المندوحة في ذلك أبداً.

وبكلمة اخرى : أنّ اعتبار وجود المندوحة في مقام الامتثال أجنبي عما هو محل النزاع في المسألة ، فانّ محل النزاع فيها ـ كما عرفت ـ في السراية وعدمها ، وهما لا يبتنيان على وجود المندوحة أبداً ، بل يبتنيان على أمر آخر كما مرّ ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد ذكرنا أنّه يترتب على القول بالامتناع والسراية وقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع والتكاذب بينهما فيه بحسب مرحلة الجعل ، بحيث لا يمكن أن يكون كل منهما مجعولاً على نحو يشمل مورد الاجتماع ، فانّ ثبوت كل منهما في مرحلة الجعل يستلزم كذب الآخر في تلك المرحلة وعدم ثبوته فيها ، وهذا معنى التعارض بينهما ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض لتشخيص الكاذب عن الصادق ، وقد تقدّم بيان ذلك بشكل واضح.

وعلى القول بالجواز وعدم السراية وقوع التزاحم بينهما فيما إذا لم تكن مندوحة في البين ، لما عرفت من أنّه إذا كانت مندوحة فلا تزاحم أصلاً ، لفرض تمكن المكلف عندئذ من امتثال كليهما معاً ومعه لا مزاحمة بينهما. نعم ، إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ، لعدم تمكن المكلف وقتئذ من امتثال كليهما معاً ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّه على القول بالامتناع يترتب وقوع المعارضة بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع ، سواء أكانت هناك مندوحة أم لم تكن ، فلا أثر لوجود المندوحة وعدم وجودها بالاضافة إلى هذا القول أصلاً. وعلى القول بالجواز يترتب وقوع المزاحمة بينهما إذا لم تكن مندوحة في البين لا مطلقاً ، كما عرفت.

٣٨٨

وقد تحصّل من ذلك : أنّه إذا كانت مندوحة للمكلف في مقام الامتثال وجب عليه امتثال كلا التكليفين معاً ، لفرض أنّ كليهما فعلي في حقّه عندئذ بلا أيّة مزاحمة ، وأمّا إذا لم تكن مندوحة فتقع المزاحمة بينهما ، وعندئذ لا يمكن توجيه كلا التكليفين معاً إليه ، لأنّه من التكليف بالمحال ، فلا بدّ إذن من الرجوع إلى قواعد باب المزاحمة ، فيقدّم أحدهما على الآخر لمرجّح إن كان ، وإلاّ فهو مخيّر بين أن يصرف قدرته في امتثال هذا وأن يصرف قدرته في امتثال ذاك ، فعدم المندوحة في البين يوجب وقوع التزاحم بين التكليفين على القول بالجواز في المسألة لا أنّه يوجب عدم صحة النزاع فيها ، كما هو ظاهر.

التاسعة : قد يتخيّل أنّ النزاع في المسألة في الجواز والامتناع يبتني على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد ، بتقريب أنّه على القول بتعلق الأحكام بالأفراد والمصاديق لا مناص من الالتزام بالقول بالامتناع ، ضرورة أنّه لا يعقل أن يكون المجمع وهو الفرد الواحد الخارجي مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً ، ولم يقل أحد بجواز ذلك حتّى القائل بجواز الاجتماع ، وذلك لأ نّه إنّما يقول به بدعوى أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون لا مطلقاً ، فإذن لا يعقل النزاع في المسألة على هذا القول ، وهذا بخلاف ما إذا كان متعلق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلّية ، فانّه يبقى حينئذ مجال للبحث ، فانّ الأمر إذا تعلق بطبيعة ، والنهي تعلق بطبيعة اخرى ولكن اتّفق انطباقهما في الخارج على شيء ، فعندئذ يقع النزاع في سراية كل من الأمر والنهي من متعلقه إلى متعلق الآخر وعدم سرايته ، وقد تقدّم أنّ مردّ ذلك إلى أنّ تعدد متعلقي الأمر والنهي هل يوجب تعدد المجمع في مورد الاجتماع والتصادق أو لا يوجب ، فالقائل بالامتناع يدعي الثاني وأنّ تعدده لا يوجب تعدد المعنون في الخارج ، والقائل بالجواز يدّعي الأوّل وأنّ تعدده يوجب تعدد المعنون فيه.

٣٨٩

ولنأخذ بالمناقشة فيه : وهي أنّ هذا الخيال يرتكز على نقطة واحدة ، وهي أنّ معنى تعلق الأمر بالأفراد هو تعلقه بها بما لها من المشخّصات الخارجية واللوازم المفرّدة للطبيعة ، بحيث تكون تلك اللوازم داخلةً في متعلق الأمر لا أنّها ملازمة له ، وعليه فالغصب حيث إنّه من مقولة الأين مشخّص للصلاة في المكان المغصوب ومفرّد لها ، وقد عرفت أنّ المشخّص والمفرّد مقوّم لها وداخل في حيّز أمرها ، فإذن يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي في الخارج ـ وهو الصلاة المتشخّصة بالغصب ـ ومن البديهي أنّه يستحيل أن يتعلق الأمر والنهي بشيء واحد في آن واحد ، وأن يكون ذلك الشيء الواحد محبوباً ومبغوضاً معاً حتّى عند من يجوّز التكليف بالمحال كالأشعري فضلاً عن غيره ، لأنّ نفس هذا التكليف محال ، لا أنّه من التكليف بالمحال ، وعليه فلا يعقل النزاع.

وهذا بخلاف ما إذا تعلق الأمر بالطبيعة ، فانّ الغصب خارجاً وإن كان مشخّصاً لها ، إلاّ أنّه غير داخل في المطلوب وخارج عما تعلق به الأمر وعليه فالنزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه في المسألة عندئذ أمر معقول ، فانّه يرجع إلى النزاع في أنّه هل يسري الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر أم لا ، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع ، وعلى الثاني من القول بالجواز.

ولكن قد ذكرنا في بحث تعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد (١) أنّ تلك النقطة خاطئة جداً وليس لها واقع موضوعي أبداً ، وذلك لما حققناه هناك وملخّصه : هو أنّ تشخّص كل وجود بنفس ذاته وهويّته الشخصية لا بوجود آخر ، بداهة أنّ كل وجود يباين وجوداً آخر وكل فعلية تأبى عن فعلية اخرى ويستحيل اتحاد إحداهما مع الاخرى ، وأمّا الأعراض الملازمة لهذا الوجود فلا يعقل أن

__________________

(١) في ص ١٩٣

٣٩٠

تكون مشخّصة له ، ضرورة أنّ تلك الأعراض واللوازم أفراد لطبائع شتّى لكل منها وجود وماهية ، فيستحيل أن تكون من مشخّصاته ، وإطلاق المشخّص عليها مبني على ضرب من المسامحة.

وعلى الجملة : فكل وجود جوهري في الخارج ملازم لوجودات عديدة فيه ، وتلك الوجودات من أعراضه ككمّه وكيفه وأينه ووضعه ونحو ذلك ، ومن المعلوم أنّ لتلك الأعراض وجودات اخرى في مقابل ذلك الوجود الجوهري ومباينة له ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ كل وجود متشخّص بنفسه فلايحتاج في تشخّصه إلى شيء آخر ، ومن هنا قالوا إنّ تشخّص الماهية بالوجود ، وأمّا تشخّص الوجود فهو بنفس ذاته لا بشيء آخر وإلاّ لدار أو ذهب الأمر إلى ما لا نهاية له ، كما هو واضح ، وهذا معنى قولهم : الشيء ما لم يوجد لم يتشخص.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّه لا يعقل أن تكون تلك الوجودات من مشخّصات ذلك الوجود الجوهري ، لما عرفت من أنّ تشخّص كل منها في نفسه ، بل هي وجودات في قباله وملازمة له في الخارج.

وعلى هدى هذا البيان يظهر أنّه لا فرق بين تعلق الأمر بالطبيعة وتعلقه بالفرد أصلاً ، وذلك لأنّ وجودات تلك الأعراض كما أنّه على القول بتعلق الأمر بالطبيعة خارجة عن متعلقه وغير داخلة فيه ، غاية الأمر أنّها ملازمة لوجود الطبيعة في الخارج ، كذلك على القول بتعلقه بالفرد ، لما مرّ من أنّ تشخّص الفرد بوجوده لا بوجودات تلك الأعراض الملازمة له خارجاً ، فانّها وجودات في قبال وجود ذلك الفرد ومباينة له ، غاية الأمر أنّها ملازمة له في الخارج ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الأمر على الفرض تعلق بالفرد فحسب ، لا به وبما هو ملازم له في الوجود الخارجي كما هو واضح ، إلاّعلى القول بسراية

٣٩١

الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر ، ولكنّه مجرد فرض لا واقع له.

وعلى ذلك يترتب أنّ تلك الأعراض واللوازم خارجة عن متعلق الأمر وغير داخلة فيه ، فإذن لا فرق بين القول بتعلق الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد من هذه الناحية أبداً. وقد تبيّن لحدّ الآن : أنّه لا وقع لهذا التفصيل أصلاً ، ولا يرجع إلى معنىً محصّل.

وقد يتخيّل في المقام : أنّ القول بالامتناع يرتكز على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد ، والقول بالجواز يرتكز على القول بتعلقها بالطبائع ، بدعوى أنّ متعلق الأمر والنهي إذا كان هو الطبيعة فكل من متعلقي الأمر والنهي يغاير الآخر في مرحلة تعلق الحكم به ، فلم يجتمع الأمر والنهي في واحد ، وإنّما الاجتماع في مرحلة اخرى غير مرحلة تعلق الأمر والنهي بشيء. وأمّا على القول الآخر ـ وهو القول بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد ـ فبما أنّ متعلقهما هو الفرد فلا يمكن اجتماعهما على فرد واحد وتعلقهما به. فالنتيجة هي أنّه لا بدّ من الالتزام بهذا التفصيل.

ولكن هذا الخيال فاسد جداً وغير مطابق للواقع قطعاً ، والوجه في ذلك: هو أنّ هذا التفصيل بظاهره لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً ، إذ لا فرق بين تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع وتعلقهما بالأفراد من هذه الناحية أبداً ، ضرورة أنّ تعلقهما بالطبائع لا يقتضي تعدد المجمع في مورد الاجتماع كذلك ، كما أنّ تعلقهما بالأفراد لا يقتضي وحدة المجمع فيه ، فانّ وحدة المجمع في مورد الاجتماع ترتكز على كون التركيب بين متعلقي الأمر والنهي تركيباً حقيقياً ، وأمّا إذا لم يكن التركيب بينهما حقيقياً ، كما إذا تعلق الأمر بمقولة والنهي بمقولة اخرى ، فلا مناص من الالتزام بتعدده فيه ، ومن الواضح جداً أنّه لا يفرق في ذلك بين تعلق الأمر بطبيعي هذه المقولة أو بأفرادها. وكذا الحال في النهي ، ضرورة أنّه

٣٩٢

كما لا يمكن التركيب بين هذه المقولة وتلك واندراجهما تحت مقولة ثالثة ، كذلك لا يمكن التركيب بين فرد من هذه المقولة وفرد من تلك وكونهما موجودين بوجود واحد ، فإذن لا فرق بين تعلق الأحكام بالطبيعة وتعلقها بالأفراد من هذه الناحية أصلاً.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ ملاك وحدة المجمع في مورد الاجتماع أو تعدده فيه أمر آخر ، ولا صلة له بتعلق الأمر والنهي بالطبيعة أو بالفرد.

على أنّك عرفت سابقاً أنّ النواهي جميعاً متعلقة بالأفراد بحسب الواقع والحقيقة دون الطبائع بما هي ، لما ذكرناه من أنّ النهي المتعلق بطبيعة ينحل بانحلال أفراد تلك ، فيثبت لكل فرد منه نهي مستقل مغاير للنهي الثابت لفرد آخر وهكذا ...

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ ملاك تعدد المجمع هو انطباق عنوانين متغايرين عليه ، بتخيل أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون ، ولكن من الواضح جداً أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون العنوانان كلّيين أو جزئيين ، ضرورة أنّ انطباق طبيعتين كلّيتين إذا اقتضى تعدد المجمع في الخارج كذلك اقتضى تعدده فيه انطباق حصتين جزئيتين ، لما ذكرناه من أنّ الفرد حصة من الطبيعة ، وتلك الحصة بالنظر العقلي تنحل إلى ماهية وتقيّد بقيد خاص ، وهذا التقيد يوجب صيرورتها حصة في مقابل سائر الحصص. مثلاً الحصة المتقررة في ذات زيد تمتاز عن الحصة المتقررة في ذات عمرو ، والموجود بكل من الوجودين غير الموجود بالوجود الآخر ضرورةً ، وإلاّ لم يكن بينهما امتياز ، وهو باطل بالبداهة ، وعلى ذلك فانطباق الطبيعتين المتغايرتين على شيء لو كان مقتضياً لتعدده في الخارج لكان انطباق الحصتين المتغايرتين عليه واجتماعهما فيه أيضاً مقتضياً له لا محالة ، فما توهّم من أنّ الأوّل مقتضٍ له دون

٣٩٣

الثاني باطل جزماً.

وعلى الجملة : فلو كان صدق الطبيعتين الكلّيتين كالصلاة والغصب مثلاً على شيء مجدياً في رفع محذور استحالة اجتماع الوجوب والحرمة وموجباً لتعدده ، لكان صدق الطبيعتين الجزئيتين عليه مجدياً في ذلك وموجباً لتعدده ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً ، ضرورة أنّ الصلاة في الدار المغصوبة إذا كانت متحدة مع الغصب خارجاً فلا مناص من القول بالامتناع ، من دون فرق بين تعلّق الأمر بالطبيعة وتعلقه بالفرد ، غاية الأمر على الأوّل يكون الفرد مصداقاً للمأمور به ، وعلى الثاني يكون بنفسه مأموراً به ، وهذا لا تعلّق له بما نحن بصدد إثباته ، وإذا فرض أنّها غير متحدة معه في الخارج بأن يكون التركيب بينهما انضمامياً لا اتحادياً فلا مناص من القول بالجواز ، من دون فرق في ذلك بين القول بتعلق الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد.

فالنتيجة : أنّ هذا التفصيل بالتحليل العلمي لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً ، إلاّ أن يوجّه ذلك إلى معنىً معقول ، وهو ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ وجود كل فرد يمتاز في الخارج عن وجود فرد آخر ويباينه ، ولهذا الوجود فيه لوازم ولتلك اللوازم وجودات بأنفسها في قبال وجود ذلك الفرد ، ويعبّر عنها مسامحة بالمشخّصات ، وهي عبارة عن الأعراض الطارئة على هذا الوجود الجوهري ، ككمّه وكيفه وأينه وما شاكل ذلك.

وعلى هذا ، فإن قلنا بتعلق الأحكام بالطبائع فتلك الأعراض الملازمة لوجود الفرد خارجة عن حيّز الأمر ، فإذن لا مانع من تعلق النهي بها ، لفرض أنّ الأمر تعلق بشيء والنهي تعلق بشيء آخر ، غاية الأمر أنّه ملازم لوجود المأمور به في الخارج ، فلا يلزم محذور اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد. وعليه فلا مناص من القول بالجواز.

٣٩٤

وإن قلنا بتعلقها بالأفراد فتكون تلك الأعراض الملازمة لها في الخارج داخلة في متعلق الأمر ، بمعنى أنّ الأمر لم يتعلق بها فحسب ، بل تعلق بها مع لوازمها وأعراضها ، وعليه فإذا فرض تعلق النهي بتلك الأعراض ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، مثلاً الصلاة في الدار المغصوبة ملازمة للغصب فيها والتصرف في مال الغير ، فعندئذ إن قلنا بكون متعلق الأمر هو طبيعي الصلاة فلا يسري الأمر منه إلى الغصب الملازم لوجود ذلك الطبيعي في الخارج ، لفرض أنّ الأمر متعلق بالطبيعة فحسب ، وعليه فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد. وإن قلنا بكون متعلقه هو الفرد دون الطبيعي فحيث إنّه لم يتعلق به فحسب على الفرض ، بل تعلق به وبلوازمه ، فلا محالة يلزم اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ، وهو محال.

ولكن قد عرفت فساد ذلك وملخّصه : هو أنّه لا فرق في ذلك بين تعلق الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد أصلاً ، فكما أنّه على تقدير تعلقها بالطبائع تلك الأعراض واللوازم خارجة عن متعلقها ، فكذلك على تقدير تعلقها بالأفراد ، لما عرفت من أنّ تلك الوجودات ليست من مشخّصاتها ، ضرورة أنّ تشخص كل وجود بنفسه ، بل هي من عوارضها التي تعرّض عليها في الخارج وملازمة لوجوداتها فيه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الأوامر متعلقة بنفس الأفراد على القول به ، لا بها وبلوازمها الخارجية ، ضرورة أنّ القائلين بتعلقها بالأفراد لا يقولون بذلك كما هو المفروض ، وعليه فلا مجال لدعوى أنّه على القول بتعلق الأمر بالأفراد هو أنّه متعلق بها وبأعراضها معاً فيلزم عندئذ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو محال ، فإذن يبقى دعوى أنّ النهي المتعلق بهذا الفرد من الغصب يسري إلى لازمه ـ وهو الصلاة في مفروض الكلام ـ باعتبار أنّها لازمة لوجود الغصب

٣٩٥

في الخارج.

ولكن هذه الدعوى فاسدة ، وذلك لعدم الدليل على سراية الحكم المتعلق بالملزوم إلى لازمه ، كما أنّه لا دليل على سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر ، ضرورة أنّ المستفاد من الدليل هو ثبوت الحكم للملزوم فحسب ، وأمّا ثبوته للازمه فهو يحتاج إلى دليل آخر ، ومجرد كون شيء لازماً لشيء آخر لا يكون دليلاً على وجوب اتحادهما في الحكم ، لوضوح أنّ غاية ما يقتضي ذلك هو عدم إمكان اختلافهما فيه.

وعلى الجملة : فهذا التفصيل يبتني على أحد أمرين :

الأوّل : دعوى أنّ تلك الأعراض من مشخّصات الأفراد ومقوّماتها ، وعليه فلا محالة الأمر المتعلق بالأفراد متعلق بها أيضاً.

الثاني : دعوى سراية النهي المتعلق بالأفراد إلى ما ينطبق عليه المأمور به.

ولكن قد عرفت أنّ كلتا الدعويين خاطئة وغير مطابقة للواقع ، فإذن لا مجال لهذا التفصيل أصلاً.

وقد يتوهّم أنّ النزاع في المسألة يبتني على النزاع في مسألة أصالة الوجود أو الماهية ، فإن قلنا في تلك المسألة بأصالة الوجود فلا مناص في هذه المسألة من القول بالامتناع ، وإن قلنا في تلك المسألة بأصالة الماهية فلا مانع من الالتزام بالقول بالجواز ، بيان ذلك : هو أنّ القائل بأصالة الوجود يدّعي أنّ ما في الخارج هو الوجود ، والماهية منتزعة من حدوده ، وليس لها ما بازاء فيه أصلاً. والقائل بأصالة الماهية يدّعي أنّ ما في الخارج هو الماهية ، والوجود منتزع من إضافة الماهية إلى الموجد ، وليس له ما بازاء.

وبعد ذلك نقول : إنّه بناءً على أصالة الوجود في تلك المسألة ، وأنّ الصادر

٣٩٦

من الموجد هو الوجود لا غيره ، فلا محالة يكون هو متعلق الأمر والنهي دون الماهية ، لفرض أنّه لا عين ولا أثر لها في الخارج ، وعليه فبما أنّ الوجود في مورد الاجتماع واحد فلايعقل تعلق الأمر والنهي به ، ضرورة استحالة أن يكون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً ومحبوباً ومبغوضاً في آن واحد ، فإذن لا مناص من القول بالامتناع.

وأمّا بناءً على أصالة الماهية فلا محالة يكون متعلق الأمر والنهي هو الماهية لفرض انّه على هذا لا عين ولا أثر للوجود ، وعليه فبما أنّ الماهية المتعلقة للأمر كالصلاة مثلاً في مورد الاجتماع غير الماهية المتعلقة للنهي كالغصب فلا مانع من القول بالجواز ، واجتماع الأمر والنهي ، وذلك لأنّ الماهيات متباينات بالذات والحقيقة ، فلا يمكن اتحاد ماهية مع ماهية اخرى ، ولا يمكن اندراج ماهيتين متباينتين تحت ماهية واحدة ، فإذن في الحقيقة لا اجتماع للأمر والنهي في شيء واحد.

ولكن هذا التوهم خاطئ جداً ، والوجه في ذلك : هو أنّه على القول بأصالة الوجود وإن كانت حقيقة الوجود واحدة ، إلاّ أنّ لها مراتب عديدة وتتفاوت تلك المراتب بالشدّة والضعف ، وكل مرتبة منها تباين مرتبة اخرى. ومن ناحية اخرى : أنّ لكل مرتبة منها عرض عريض وأفراد كثيرة. ومن ناحية ثالثة : أنّ لكل وجود ماهية واحدة وحدّ فارد ، ويستحيل أن يكون لوجود واحد ماهيتان وحدّان. نعم ، وإن أمكن أن يكون لوجود واحد عنوانان أو عناوين متعددة ، إلاّ أنّه لا يمكن أن يكون له ماهيتان وحدّان ، ضرورة أنّ لكل ماهية وجوداً واحداً ولا يعقل أن يكون للماهيتين وجود ، وهذا واضح.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث : هي أنّ المجمع في مورد الاجتماع والتصادق إذا كان وجوداً واحداً فلا محالة يكون له ماهية واحدة ، وعليه فلا

٣٩٧

فرق بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية ، فكما أنّه على الأوّل يستحيل اجتماع الأمر والنهي ، فكذلك على الثاني ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

نتائج ما ذكرناه عدّة نقاط :

الاولى : أنّ محل النزاع في مسألتنا هذه إنّما هو في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وبالعكس وعدم سرايته ، لا ما يوهم عنوان المسألة في كلمات الأصحاب قديماً وحديثاً من كون النزاع فيها كبروياً ، لما عرفت من عدم تعقل كون النزاع فيها كذلك.

الثانية : أنّه قد تقدّم أنّ القول بالامتناع يبتني على أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون المجمع في مورد الاجتماع واحداً ، فإذا كان واحداً وجوداً وماهيةً لا مناص من القول بالامتناع.

الثاني : أنّه على تقدير كون المجمع متعدداً أن يلتزم بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر ، وعند منع أحدهما ينتفي القول بالامتناع.

والقول بالجواز يرتكز على أمرين :

الأوّل : أنّه أن لا يكون المجمع واحداً وإلاّ فلا مجال له.

الثاني : أنّه على تقدير كونه متعدداً لانقول بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر ، وعند انتفاء أحد الأمرين ينتفي القول بالجواز.

الثالثة : أنّ المسألة على القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض فتقع المعارضة بين دليلي الوجوب والحرمة ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد بابه وإجراء أحكامه كما تقدّم ، وعلى القول بالجواز تدخل في كبرى باب التزاحم ، فتقع المزاحمة بينها إذا لم تكن مندوحة في البين ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى

٣٩٨

قواعد باب المزاحمة وإجراء أحكامه.

الرابعة : أنّ نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة الآتية ـ وهي مسألة النهي في العبادات ـ هي أنّ البحث في مسألتنا هذه بحث عن تنقيح الصغرى لتلك المسألة باعتبار أنّها على القول بالامتناع تدخل في كبرى تلك المسألة وتكون من إحدى صغرياتها.

الخامسة : أنّ المراد من الواحد في محل الكلام في مقابل المتعدد ، بأن لايكون ما تعلق به الأمر غير ما تعلق به النهي ، لا في مقابل الكلّي.

السادسة : قد تقدّم أنّ مسألتنا هذه من المسائل الاصولية العقلية ، لتوفر شروط المسألة الاصولية فيها ، وليست من المسائل الكلامية أو الفقهية أو من المبادئ الأحكامية أو التصديقية كما مرّ.

السابعة : أنّ النزاع في المسألة في جواز الاجتماع أو امتناعه لا يبتني على وجود المندوحة في البين ، لما عرفت من أنّ كلاً من القول بالجواز والامتناع يرتكز على ركيزة أجنبية عن وجود المندوحة وعدم وجودها بالكلّية ـ وهي وحدة المجمع وتعدده ـ فانّ المجمع في مورد الاجتماع والتصادق إذا فرض أنّه واحد حقيقة فلا مناص من القول بالامتناع ، كانت هناك مندوحة أم لم تكن ، وإذا فرض أنّه متعدد كذلك فلا مناص من القول بالجواز ، بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم وهو متعلق النهي إلى لازمه ، وهو ما ينطبق عليه متعلق الأمر.

الثامنة : قد سبق أنّ النزاع يعمّ جميع أنواع الايجاب والتحريم ما عدا الايجاب والتحريم التخييريين ، فلا فرق بين كونهما نفسيين أو غيريين أو كفائيين ، فانّ ملاك استحالة الاجتماع في شيء واحد موجود في الجميع. وأمّا خروج الايجاب والتحريم التخييريين عن محل النزاع فلعدم إمكان اجتماعهما في

٣٩٩

شيء واحد ، كما عرفت فتكون السالبة بانتفاء الموضوع.

التاسعة : أنّ النزاع في المسألة لا يختص بما إذا كان الايجاب والتحريم مدلولين لدليل لفظي ، ضرورة أنّه يعمّ جميع أقسام الايجاب والتحريم ، سواء أكانا مدلولين لدليل لفظي أم لم يكونا.

العاشرة : أنّ مسألتنا هذه من المسائل العقلية ، فانّ الحاكم بالجواز أو الامتناع فيها إنّما هو العقل ، ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً ، غاية الأمر أنّها من العقليات غير المستقلة ، وليست من العقليات المستقلة ، كما تقدّم.

الحادية عشرة : أنّه لا فرق في جريان النزاع في المسألة بين القول بتعلق الأحكام بالطبائع وتعلقها بالأفراد ، وتوهّم أنّه على تقدير تعلقها بالأفراد لا مناص من القول بالامتناع فاسد ، لما سبق بشكل واضح.

قال المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في الأمر الثامن ما هذا نصّه : أنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلاّ إذا كان في كل واحد من متعلقي الايجاب والتحريم مناط حكمه مطلقاً حتّى في مورد التصادق والاجتماع ، كي يحكم على الجواز بكونه فعلاً محكوماً بالحكمين ، وعلى الامتناع بكونه محكوماً بأقوى المناطين ، أو بحكم آخر غير الحكمين فيما لم يكن هناك أحدهما أقوى ، كما يأتي تفصيله. وأمّا إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك فلا يكون من هذا الباب ، ولا يكون مورد الاجتماع محكوماً إلاّبحكم واحد منهما إذا كان له مناطه ، أو حكم آخر غيرهما فيما لم يكن لواحد منهما ، قيل بالجواز أو الامتناع ، هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الدلالة والاثبات ، فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان إذا احرز أنّ المناط من قبيل الثاني ، فلا بدّ من عمل المعارضة بينهما

٤٠٠