محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

وأمّا المورد الثاني : فقد ذكرنا في بحث التعادل والترجيح (١) أنّ مرجحات باب التعارض تنحصر بموافقة الكتاب أو السنّة ، وبمخالفة العامة ، وليس غيرهما بمرجّح ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعم غيرهما من آيتين متعارضتين أو ظاهرين متعارضين أو إجماعين متعارضين ، بل لا يعم ما إذا كان أحد المتعارضين خبراً والآخر إجماعاً مثلاً.

فالنتيجة أنّ ها هنا دعاوى ثلاث :

الاولى : انحصار المرجّح بخصوص موافقة الكتاب أو السنّة ومخالفة العامة.

الثانية : أنّ غيرهما من صفات الراوي ونحوها ليس بمرجح.

الثالثة : أنّ الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعمّ غيرهما.

أمّا الدعوى الاولى : فلأ نّهما قد وردتا في صحيحة قطب الراوندي عن الصادق عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه » (٢) وقد ذكرنا هناك أنّ موافقة الكتاب والسنّة ومخالفة العامة من المرجحات ، وليستا في مقام تمييز الحجة عن اللاّ حجة ، كما تخيل المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) بدعوى أنّ ما ورد من الروايات من أنّ الخبر المخالف للكتاب زخرف وباطل أو لم نقله أو اضربوه على الجدار

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٤٩٥

(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٩

(٣) كفاية الاصول : ٤٤٤

٢١

ونحو ذلك من التعبيرات ، دال على أنّه ليس بحجة ، وكذا الحال في الخبر الموافق للقوم ، فانّ الوثوق والاطمئنان بصدور الخبر المخالف للقوم يوجب الاطمئنان بأنّ الخبر الموافق لهم إمّا غير صادر أو صدر تقيّة.

ولكن قد ذكرنا هناك أنّ المراد بالمخالفة في تلك الروايات ما كان على نحو التباين أو العموم من وجه ، فمثل هذا المخالف لم يمكن صدوره عن الأئمة عليهم‌السلام وأمّا المخالف على نحو العموم المطلق فلا إشكال في صدوره عنهم عليهم‌السلام ، كيف وقد خصص به في كثير من الموارد عمومات الكتاب والسنّة ، ومن الواضح جداً أنّ المراد من المخالفة في روايات الترجيح ليس المخالفة على النحو الأوّل ، بل المراد منها المخالفة على النحو الثاني ، وإلاّ لم يكن بيانها مناسباً لمقام الترجيح ، إذ المفروض أنّه عليه‌السلام كان في مقام بيان المرجّح لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر لا في مقام تمييز الحجّة عن اللاّ حجة.

ومما يؤيّد ذلك : أنّه لو كان المراد من المخالفة في تلك الطائفة هو المخالفة على النحو الأوّل لم يكن الخبر المشهور المخالف للكتاب أو السنّة حجة في نفسه ، ومعه كيف يحكم عليه‌السلام بتقديمه على الخبر الشاذ الموافق للكتاب أو السنّة كما هو مقتضى إطلاق المقبولة. ومن ذلك يعلم أنّ هذه الطائفة ليست في مقام تمييز الحجة عن اللاّ حجة ، وإلاّ لم يكن معنى لتقديم الخبر المشهور المخالف على الشاذ الموافق ، بل هي في مقام بيان المرجّح لأحد المتعارضين على الآخر.

وأمّا ما ذكره من أنّ الخبر الموافق للقوم لا يكون حجّة مع وجود الخبر المخالف لهم فهو من الغرائب ، ضرورة أنّ مجرد وجود الخبر المخالف لهم لا يوجب كون الموافق غير حجة ، لأنّ الأحكام الموافقة لهم في نفسها كثيرة

٢٢

جداً ، وعليه فيحتمل أن يكون الخبر الموافق لهم هو الحكم الواقعي دون المخالف ، وهذا واضح.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ الترجيح بغيرهما لم يرد في دليل معتبر ، وعلى تقدير وروده في دليل معتبر ليس من جملة المرجحات هنا ، بيان ذلك :

أمّا الشهرة فلم تذكر فيما عدا المرفوعة (١) والمقبولة (٢). أمّا المرفوعة فهي ضعيفة سنداً ، بل غير موجودة في الكتب المعتبرة ، ولذا ناقش في سندها صاحب الحدائق قدس‌سره (٣) الذي ادّعى القطع بصدور الروايات الموجودة في الكتب الأربعة ، وغيرها من الكتب المعتبرة.

وأمّا المقبولة فهي وإن كان الأصحاب يتلقونها بالقبول ، إلاّ أنّها أيضاً ضعيفة سنداً بعمر بن حنظلة حيث لم تثبت وثاقته ، ومع الغض عن سندها فالمذكور فيها هو الأخذ بالمجمع عليه ، ومن المعلوم أنّ المراد منه هو الخبر الذي أجمع الأصحاب على روايته عن المعصومين عليهم‌السلام وصدوره منهم. وعلى هذا فالمراد منه هو الخبر القطعي الصدور ، فإذن تقديمه على الشاذ ليس من باب الترجيح ، كما هو ظاهر.

ومن هنا يظهر حال صفات الراوي كالأعدلية والأفقهية والأوثقية ونحوها أيضاً ، فانّ الترجيح بها لم يذكر في غير المقبولة والمرفوعة من الأخبار العلاجية. أمّا المرفوعة فقد عرفت حالها. وأمّا المقبولة فمع الغض عن سندها لم تجعل الترجيح بالصفات من مرجحات الروايتين ، وإنّما جعلت الترجيح بها من

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١

(٣) الحدائق ١ : ٩٩ المقدّمة السادسة

٢٣

مرجحات الحكمين حيث قال عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما » إلخ.

وأمّا الدعوى الثالثة : فلأنّ موضوع الترجيح في الأخبار العلاجية خصوص الخبرين المتعارضين ، فالتعدي منهما إلى غيرهما يحتاج إلى دليل ، وحيث لا دليل عليه فلا بدّ من الاقتصار عليهما ، فانّ الدليل الخارجي مفقود على الفرض ، وروايات الترجيح لا إطلاق فيها ولا عموم ، فإذن لا يمكن رفع اليد عن مقتضى الأصل الأوّلي في غيرهما. ويأتي الكلام في جميع ذلك في بحث التعادل والترجيح إن شاء الله تعالى بصورة مفصّلة. والغرض من التعرّض هنا بهذا المقدار الاشارة إلى أنّ مسألة التعارض كما تمتاز عن مسألة التزاحم بذاتها كذلك تمتاز عنها بمرجحاتها.

وأمّا الجهة الخامسة : فيقع الكلام فيها في نقطتين :

الاولى : ما هو مقتضى القاعدة في مسألة التزاحم.

الثانية : ما هو مرجحاتها.

أمّا النقطة الاولى : فمقتضى القاعدة فيها التخيير مع قطع النظر عن مرجحات تلك المسألة ، والوجه فيه واضح ، وهو انّ المانع عن الاتيان بالمتزاحمين إنّما هو عدم قدرة المكلف على امتثالهما معاً ، وأمّا من ناحية اخرى فلا مانع أصلاً ، وعليه فبما أنّ المكلف قادر على إتيان أحدهما عند ترك الآخر يتعيّن عليه بحكم العقل ، ضرورة أنّه لم يعتبر في الامتثال ما عدا قدرة المكلف عليه في ظرفه ، وحيث إنّه قادر على امتثال أحدهما فلا يكون معذوراً في تركه.

أو فقل : إنّ فعلية كلا التكليفين في باب المزاحمة مستحيلة ، وفعلية أحدهما

٢٤

بفعلية موضوعه وهو قدرة المكلف على امتثاله ضرورية ، فإذن يجب بحكم العقل امتثال هذا التكليف الفعلي ، فاذا فرض عدم الترجيح لأحدهما على الآخر يحكم العقل بالتخيير بينهما ، وأ نّه مخيّر في إعمال قدرته في امتثال هذا وامتثال ذاك.

أمّا النقطة الثانية : فقد ذكروا لها مرجّحات :

المرجح الأوّل :

ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) وهو كون أحد الواجبين ممّا لا بدل له والآخر ممّا له بدل ، فيقدم الأوّل على الثاني في مقام المزاحمة ، وهذا يتحقق في أحد موضعين :

أحدهما : ما إذا كان لأحد الواجبين بدل في عرضه دون الآخر ، كما إذا كان أحدهما واجباً تخييرياً ، والآخر واجباً تعيينياً ، ففي مثل ذلك إذا وقعت المزاحمة بين الواجب التعييني وبعض أفراد الواجب التخييري ، قدّم الواجب التعييني على التخييري ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ وجوب الواجب التخييري لا يقتضي لزوم الاتيان بخصوص الفرد المزاحم ، وإنّما يقتضي لزوم الاتيان بالجامع بينه وبين غيره ، والمفروض أنّ وجوب الواجب التعييني يقتضي الاتيان بخصوص ذلك الفرد المزاحم ، ومن المعلوم أنّ ما لا اقتضاء فيه لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء ، فالنتيجة أنّ في مقام المزاحمة بين التكليفين يقدّم ما ليس له البدل على ما له البدل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤

٢٥

ثانيهما : ما إذا كان لأحد الواجبين بدل في طوله دون الواجب الآخر ، وقد مثّل لذلك بما إذا وقع التزاحم بين الأمر بالوضوء أو الغسل والأمر بتطهير البدن للصلاة ، وحيث إنّ للوضوء أو الغسل بدلاً وهو التيمم فلا يمكن مزاحمة أمره مع أمر تطهير البدن ، فيقدّم الأمر بالطهارة الخبثية على الأمر بالطهارة الحدثية ، وإن كان الثاني أهم من الأوّل ، وذلك لما عرفت من أنّ ما لا اقتضاء فيه لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء.

وذكر ( قدس‌سره ) فرعاً آخر أيضاً لهذه الكبرى وهو : ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية ، كما إذا صار الوقت ضيّقاً بحيث لو توضأ أو اغتسل لم يدرك من الركعات إلاّركعة واحدةً ، وأمّا إذا تيمم بدلاً عن الوضوء أو الغسل فيدرك تمام الركعات في الوقت ، ففي مثل ذلك يقدّم إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية على إدراك ركعة مع الطهارة المائية ، لأنّ للصلاة مع الطهارة المائية بدلاً وهو الصلاة مع الطهارة الترابية ، وأمّا الصلاة في الوقت فحيث إنّه لا بدل لها فتقدّم على الصلاة مع الطهارة المائية في مقام المزاحمة ، لأنّ ما له البدل لا يصلح أن يزاحم ما لا بدل له.

وقد يشكل في المقام بأنّ لادراك تمام الركعات في الوقت أيضاً بدلاً وهو إدراك ركعة واحدة فيه بمقتضى الروايات الدالة على أنّ من أدرك ركعةً واحدةً في الوقت فقد أدرك تمام الصلاة (١) ، فاذن يدور الأمر بين واجبين لكل منهما بدل ، فلا وجه لتقديم الأمر بالصلاة في الوقت على الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢١٧ / أبواب المواقيت ب ٣٠

٢٦

وأجاب ( قدس‌سره ) عن هذا الاشكال : بأنّ بدلية إدراك الركعة الواحدة عن تمام الصلاة في الوقت إنّما هي في فرض عجز المكلف عن إدراك تمام الصلاة فيه لا مطلقاً ، والمفروض أنّ المكلف قادر على إدراك تمامها فيه ، وعليه فلا موجب لسقوط الأمر باتيان تمام الصلاة في وقتها ، فاذا لم يسقط فلا محالة يسقط الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية ، لعجز المكلف عنها تشريعاً وإن لم يكن عاجزاً تكويناً ، وهذا كافٍ في الانتقال إلى بدلها وهو الصلاة مع الطهارة الترابية ، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأمر بالطهارة المائية مشروط بالتمكن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً ، ولا يكفي التمكن العقلي فحسب.

وملخص ما ذكرناه هو أنّه قدس‌سره طبّق الكبرى الكلّية ـ وهي أنّ ما لا بدل له يقدّم على ما له بدل في مقام المزاحمة ـ على فروع ثلاثة :

الأوّل : أنّ الواجب التخييري إذا زاحم ببعض أفراده الواجب التعييني فيقدّم التعييني عليه وإن كان الواجب التخييري أهم منه ، كما إذا كان لشخص عشرة دنانير ودار أمرها بين أن يصرفها في مؤونة من تجب عليه مؤونته وبين أن يصرفها في كفارة شهر رمضان ، وحيث إنّ لكفارة شهر رمضان بدلاً وهو صوم شهرين متتابعين أو عتق رقبة مؤمنة ، فلا يمكن مزاحمة وجوبها لوجوب المؤونة ، فيقدّم صرفها في المؤونة على صرفها في الكفارة ، لأنّ وجوب الكفارة لا يقتضي لزوم الاتيان بخصوص فردها المزاحم ، وهذا بخلاف وجوب المؤونة ، فانّه يقتضي لزوم الاتيان بخصوص ذلك الفرد.

الثاني : ما إذا كان عند المكلف مقدار من الماء لا يكفي للوضوء وتطهير البدن معاً ، فعندئذ يدور أمره بين أن يصرفه في الوضوء ويصلي مع البدن المتنجس ، وأن يصرفه في تطهير البدن ويصلي مع التيمم ، وبما أنّ للوضوء بدلاً

٢٧

وهو التيمم فيتعين صرفه في إزالة الخبث عن البدن ، لأنّ ما له بدل لا يصلح لأن يزاحم ما لا بدل له.

الثالث : ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية ، وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية ، وبما أنّ للطهارة المائية بدلاً وهو الطهارة الترابية ولا بدل للوقت ، فيتعيّن تقديم الوقت على الطهارة المائية ، فيصلي في الوقت مع الطهارة الترابية.

أقول : الكلام فيما ذكره قدس‌سره يقع في مقامين : الأوّل : في أصل الكبرى التي ذكرها قدس‌سره. الثاني : في الفروع التي ذكرها وأ نّها هل تكون من صغريات تلك الكبرى أم لا.

أمّا المقام الأوّل : فلا إشكال في أصل ثبوت الكبرى وأنّ ما ليس له بدل يقدّم على ما له بدل فيما إذا دار الأمر بينهما ، والوجه فيه ما عرفت من أنّ ما لا اقتضاء له لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء ، وكيف كان فالكبرى مسلّمة.

وأمّا المقام الثاني : فيقع الكلام فيه في موارد : الأوّل : في الفرع الأوّل. الثاني : في الفرع الثاني. الثالث : في الفرع الثالث.

أمّا المورد الأوّل : فقد تبيّن مما قدّمناه أنّ هذا الفرع وما شاكله ليس داخلاً تحت كبرى مسألة التزاحم لتجري عليه أحكامه ، وذلك لما عرفت من أنّ التزاحم بين التكليفين الفعليين لا يعقل إلاّمن جهة عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، فلو كان المكلف قادراً عليه فلا مزاحمة بينهما أبداً ، والمفروض فيما نحن فيه قدرة المكلف على امتثال الواجب التعييني والتخييري معاً من دون أيّة مزاحمة ، نعم خصوص الفرد المزاحم للواجب التعييني وإن كان غير مقدور للمكلف إلاّ أنّه ليس بواجب على الفرض ، وما

٢٨

هو واجب ـ وهو الجامع بينه وبين غيره من الأفراد ـ مقدور له ولو من جهة القدرة على بعض أفراده.

أو فقل : إنّ ما هو مزاحم للواجب التعييني ليس بواجب ، وما هو واجب ليس بمزاحم له ، ومن هنا قلنا إنّه لا تزاحم بين الواجب الموسّع والمضيّق كالصلاة والازالة مثلاً. والأصل في جميع ذلك هو ما ذكرناه من أنّ التزاحم لا ينشأ إلاّمن ناحية عدم تمكن المكلف من امتثال كلا التكليفين معاً ، وأمّا إذا كان متمكناً منه فلا تزاحم ولا تنافي بينهما أبداً.

وعلى هذا الأساس فالفرع المزبور أو ما شاكله ليس من صغريات باب المزاحمة لتنطبق عليه الكبرى المتقدمة ، فما أفاده قدس‌سره من تطبيق تلك الكبرى عليه في غير محلّه ، لعدم كونه صغرىً لها.

وأمّا المورد الثاني : فيمكن المناقشة فيه من وجهين :

الأوّل : أنّ التزاحم لا يعقل أن يكون بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو الغسل بما هو ، ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب كذلك ، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط جميعاً أوامر إرشادية فترشد إلى جزئيتها وشرطيتها ، وليست بأوامر نفسية ، ومن الواضح جداً أنّ المزاحمة لا تعقل بين الأوامر الارشادية بما هي ، لأنّ مخالفتها لا توجب العقاب ، وموافقتها لا توجب الثواب ، بل لا تجب موافقتها بما هي لتقع المزاحمة بين موافقة هذا وموافقة ذاك في مقام الامتثال ، وإنّما تعقل بين واجبين أو واجب وحرام نفسيين بحيث كان المكلف متمكناً من امتثال كل منهما في نفسه مع قطع النظر عن الآخر ، إلاّ أنّه لم يتمكن من الجمع بينهما في الامتثال.

وعلى هذا فالمزاحمة هنا لو سلّمت فانّما هي في الحقيقة بين الصلاة مع الطهارة الحدثية والصلاة مع الطهارة الخبثية ، فالتعبير عن ذلك بوقوع المزاحمة

٢٩

بين الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية لا يخلو عن مسامحة واضحة ، ضرورة أنّه لا شأن لهما ما عدا كونهما من قيود الصلاة ، فلا معنى لوقوع المزاحمة بينهما في نفسهما مع قطع النظر عن وجوب الصلاة.

وعلى الجملة : فالمزاحمة بين أجزاء وشرائط الصلاة مثلاً بعضها ببعض مع قطع النظر عن وجوبها مما لا تعقل ، ضرورة أنّه لا وجوب لها مع قطع النظر عن وجوب الصلاة. وعلى هذا فلا معنى لوقوع المزاحمة بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو الغسل مثلاً ، ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب مع الغض عن وجوب الصلاة ، لعدم كونهما في هذا الحال واجبين لتقع المزاحمة بينهما. وأمّا مع ملاحظة وجوبها فالتزاحم بين وجوب الصلاة مع الطهارة المائية ووجوب الصلاة مع طهارة البدن أو الثوب ، فاذا كان الأمر كذلك فلا وجه لتقديم الثانية على الاولى بدعوى أنّ ما ليس له بدل يقدّم على ما له بدل ، وذلك لفرض أنّ لكل واحدة منهما بدلاً ، فكما أنّ للصلاة مع الطهارة المائية بدلاً وهو الصلاة مع الطهارة الترابية ، فكذلك للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب بدل وهو الصلاة مع البدن أو الثوب النجس على المختار وعارياً على المشهور ، فاذن لايكون هذا الفرع أو ما شاكله من صغريات الكبرى المتقدمة ، ولاتنطبق تلك الكبرى عليه.

نعم ، لو كان التزاحم بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو الغسل ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب مع قطع النظر عن وجوب الصلاة ، لكان من صغريات تلك الكبرى ، ولكنك عرفت أنّ التزاحم بينهما غير معقول.

الثاني : أنّ التزاحم كما ذكرناه في غير موضع إنّما يجري بين واجبين نفسيين كالصلاة والازالة مثلاً أو بين واجب وحرام ، وأمّا بين أجزاء وشرائط واجب واحد فلا يعقل جريان التزاحم فيه.

٣٠

والوجه في ذلك : هو أنّ جميع تلك الأجزاء والشرائط واجب بوجوب واحد على سبيل الارتباط ثبوتاً وسقوطاً ، غاية الأمر أنّ الأجزاء بنفسها متعلقة لذلك الوجوب ، والشرائط باعتبار تقيدها بمعنى أنّ الوجوب تعلق بالأجزاء متقيدة بتلك الشرائط ، ومن الواضح جداً أنّ ذلك الوجوب الواحد يسقط بتعذر واحد من تلك الأجزاء أو الشرائط بقانون أنّ الأمر بالمركب يسقط لا محالة بتعذر واحد من أجزائه أو شرائطه ، لاستحالة تعلق الوجوب به في ظرف تعذر أحد أجزائه أو قيوده ، لأنّه تكليف بالمحال فلا يصدر من الحكيم.

وعلى هذا فمقتضى القاعدة سقوط الوجوب عن المركب كالصلاة وما شاكلها عند تعذر جزء أو شرط منه ، كما هو مقتضى كون أجزائه ارتباطية. فاذن ثبوت الوجوب للباقي يحتاج إلى دليل ، وقد دلّ الدليل في خصوص باب الصلاة على عدم السقوط ووجوب الاتيان بالباقي ، فعندئذ بما أنّ فيما نحن فيه قد تعذر أحد قيدي الصلاة ـ هما الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية ـ فمقتضى القاعدة الأوّلية سقوط وجوبها ، فيحتاج وجوب الباقي إلى دليل ، والدليل موجود هنا ، وهو ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال (١) ، بل يكفينا لاثبات عدم سقوطها في المقام الروايات الخاصة الدالة على وجوب الاتيان بها في الثوب أو البدن المتنجس أو عارياً ، وما دلّ على لزوم الاتيان بالطهارة الترابية مع تعذر الطهارة المائية. وعليه فيعلم إجمالاً بجعل أحد هذين الشرطين في الواقع دون الآخر.

إذن لا محالة يقع التعارض بين دليليهما ، إذ لم يعلم أنّ أيّهما مجعول في هذا الحال في مقام الثبوت والواقع ، فما دلّ على شرطية الطهارة الحدثية في هذا الحال لا محالة معارض بما دلّ على شرطية الطهارة الخبثية ، وعليه فلا بدّ من

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥

٣١

الرجوع إلى مرجحات باب التعارض إن لم يكن التعارض بينهما بالاطلاق ، وإلاّ فيسقطان معاً ، فلا تصل النوبة إلى الترجيح ، فاذن ما معنى وقوع المزاحمة بينهما ، بداهة أنّ المزاحمة بين تكليف وتكليف آخر فرع ثبوتهما في الواقع ومقام الجعل من دون أيّ تنافٍ في البين لتقع المزاحمة بين امتثال هذا وامتثال ذاك.

وعلى الجملة : فالأمر المتعلق بالصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط قد سقط لا محالة بتعذر واحد من شرطيها ـ هما الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية ـ بمقتضى القاعدة الأوّلية ، غاية ما في الباب قد دلّ دليل من الخارج على وجوب الباقي من الأجزاء والشرائط ، ومن الواضح جدّاً أنّ هذا الوجوب غير الوجوب الأوّلي المتعلق بالواجد والتمام ، فانّه قد سقط من ناحية تعذر المركب ، ومن المعلوم أنّ جزئية الأجزاء وشرطية الشرائط قد سقطتا بتبع سقوطه لا محالة ، ضرورة استحالة بقاء الأمر الانتزاعي في ظرف سقوط منشئه.

وعليه فالجزئية والشرطية للأجزاء والشرائط الباقيتين لا محالة مجعولتان بجعل ثانوي وبدليل خارجي دال على وجوب الباقي وعدم سقوطه ، ويعلم من ذلك طبعاً أنّ المجعول في المقام شرطية أحد الأمرين في الواقع ، إمّا شرطية الطهارة الحدثية ، وإمّا شرطية الطهارة الخبثية ، فشرطية كلتيهما غير معقولة لفرض عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ، فلا يمكن أن يتعلق الأمر بالمركب منهما ، فلا محالة يكون المجعول شرطية إحداهما لا محالة ، ونتيجة ذلك أنّ المورد غير داخل في كبرى التزاحم.

وخلاصة ما ذكرناه : هي أنّ الكبرى المتقدمة وإن كانت مسلّمة ، إلاّ أنّها لا تنطبق على هذا الفرع وما يشبهه ، بل قد عرفت أنّه غير داخل في كبرى مسألة التزاحم فضلاً عن تلك الكبرى.

٣٢

وأمّا المورد الثالث : وهو ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية ، فيرد عليه بعينه ما أوردناه على المورد الثاني من الوجهين.

أمّا أوّلاً : فلما عرفت من أنّه كما أنّ للصلاة مع الطهارة المائية بدلاً وهو الصلاة مع الطهارة الترابية ، فكذلك لادراك تمام الصلاة في الوقت بدل وهو إدراك ركعة واحدة منها في الوقت ، فاذن لا تنطبق الكبرى المزبورة عليه.

وأمّا ثانياً : فلما عرفت من أنّ التزاحم لا يجري بين أجزاء واجب واحد أو شرائطه ، فاذا تعذر على المكلف الجمع بين الطهارة المائية والوقت ، فمقتضى القاعدة الأوّلية سقوط الأمر بالصلاة ، فلو كنّا نحن والحال هذه لم نقل بوجوب الباقي من الأجزاء والشرائط ، ولكن الدليل الخارجي قد دلنا على وجوب الباقي وعدم سقوط الصلاة بحال. ومن ذلك يعلم إجمالاً بجعل جزئية أحدهما في الواقع ، وحيث إنّه مردد بين الطهارة المائية والوقت فتقع المعارضة بين دليليهما. فالنتيجة أنّ هذا الفرع أيضاً ليس من صغريات الكبرى المتقدمة.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه : أنّ ما ذكره قدس‌سره من الفروع الثلاثة ليس شيء منها صغرى للكبرى التي ذكرها ، وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل ولا تنطبق تلك الكبرى على شيء منها.

نعم ، النتيجة في الفرع الأخير بعينها هي النتيجة التي ذكرها قدس‌سره وهي تقديم ما لا بدل له على ما له بدل ، ولكن بملاك آخر ، لا بالملاك الذي أفاده ، بيان ذلك : هو أنّ الله تعالى جعل في كتابه العزيز للصلوات الخمس أوقاتاً خاصة بحسب المبدأ والمنتهى بقوله : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى

٣٣

غَسَقِ اللَّيْلِ )(١) وقد ورد في الروايات أنّ وقت صلاتي الظهرين من دلوك الشمس إلى غروبها ، ووقت العشاءين من الغروب إلى غسق الليل ، ووقت صلاة الصبح من أوّل الفجر إلى طلوع الشمس (٢) ، فهذه هي أوقات الصلوات الخمس ، ولا يرضى الشارع بتأخيرها عنها آناً ما ، بل هي غير مشروعة فيما عدا تلك الأوقات ، إلاّفيما إذا قام دليل خاص على المشروعية كما في القضاء أو نحوه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه تعالى قد جعل الطهارة من الحدث شرطاً مقوّماً لها بقوله : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (٣) فجعل في هذه الآية المباركة الطهارة من الحدث شرطاً للصلاة ، وقد ذكرنا أنّها من أركان الصلاة وبانتفائها تنتفي ، ولذا ورد « أنّ الصلاة على ثلاثة أثلاث : ثلث منها الركوع وثلث منها السجود وثلث منها الطهور » (٤).

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أنّ الطهارة شرط لتلك الصلوات التي عيّنت لها أوقات معيّنة ، وأ نّه يجب على المكلف الاتيان بها في تلك الأوقات مع الطهارة المائية إن كان واجداً للماء ، ومع الطهارة الترابية إن كان فاقداً لها ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ المراد من وجدان الماء وجوده الخاص ، وهو ما إذا تمكن

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨

(٢) الوسائل ٤ : ١٥٦ / أبواب المواقيت ب ١٠

(٣) المائدة ٥ : ٦

(٤) الوسائل ٦ : ٣١٠ / أبواب الركوع ب ٩ ح ١

٣٤

المكلف من استعماله عقلاً وشرعاً ، وذلك بقرينة داخلية وخارجية. أمّا القرينة الداخلية فهي ذكر المريض في الآية المباركة ، فانّ الماء غالباً موجود عنده ، ولكنه لا يتمكن من استعماله عقلاً أو شرعاً. وأمّا القرينة الخارجية فهي عدّة من الروايات الدالة على ذلك. وعلى هذا فان تمكّن المكلف من استعمال الماء عقلاً وشرعاً فهو واجد له ، ووظيفة الواجد الوضوء أو الغسل ، وإن لم يتمكن من استعماله عقلاً أو شرعاً فهو فاقد له ، ووظيفة الفاقد التيمم ، فالآية المباركة في مقام بيان أنّ المكلف على نوعين : الواجد والفاقد ولا ثالث لهما ، ومن الواضح أنّ التقسيم قاطع للشركة.

وعليه فاذا ضممنا ما يستفاد من هذه الآية المباركة بضميمة القرائن الداخلية والخارجية إلى ما يستفاد من الآية الاولى بضميمة الروايات الواردة فيها من أنّ لكل صلاة وقتاً خاصاً تجب في ذلك الوقت الخاص لا فيما عداه ، فالنتيجة هي أنّ المكلف إذا تمكن في ذلك الوقت من استعمال الماء عقلاً وشرعاً فهو واجد له ووظيفته عندئذ الوضوء أو الغسل ، وإن لم يتمكن فيه من استعماله عقلاً أو شرعاً فهو فاقد له ، ووظيفته حينئذ التيمم.

ومن هنا قلنا إنّ المراد من عدم الوجدان في الآية المباركة عدم الوجدان بالاضافة إلى الصلاة التي قام المكلف إلى إتيانها لا مطلقاً ، فلو لم يتمكن المكلف من إيقاع الصلاة في وقتها مع الطهارة المائية فهو غير واجد بالاضافة إلى الصلاة ، وإن كان واجداً بالاضافة إلى غيرها ، وعلى هذا بما أنّ فيما نحن فيه لا يتمكن المكلف من إيقاع الصلاة في وقتها مع الطهارة المائية من جهة ضيق الوقت يتعين عليه إيقاعها فيه مع الطهارة الترابية.

وهذه النتيجة نتيجة ضم هذه الآية ـ أعني بها آية الوضوء ـ إلى الآية الاولى ، مع ملاحظة القرائن والنصوص الواردة في أطرافهما.

٣٥

وعلى هذا الأساس تبيّن أنّه إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية ، فيقدّم الأوّل على الثاني ، والوجه فيه ما عرفت من أنّ المستفاد من الآيتين المباركتين بعد ضم إحداهما إلى الاخرى مع ملاحظة القرائن والروايات الواردة في المقام ، هو أنّ الواجب على المكلف إيقاع تمام الصلاة في الوقت مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء ، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه ، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها أصلاً ، فلو أخّرها عنه ولو بمقدار ركعة واحدة لبطلت لا محالة ، بل اتيانها عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرّم ، ضرورة سقوط الأمر المتعلق بها في الوقت ، فيحتاج وجوبها في هذا الحال إلى أمر آخر.

وعلى هذا فاذا فرضنا أنّ الوضوء أو الغسل موجب لتفويت الوقت أو تفويت مقدار منه بحيث لا يقدر على إدراك تمام الصلاة في مقدار آخر منه ، فلا يجوز ولا يكون مشروعاً ، وعليه فلا محالة تنتقل وظيفته إلى التيمم ، لعدم تمكنه وقتئذ من الوضوء أو الغسل شرعاً ، وإن تمكن عقلاً. هذا بحسب ما تقتضيه القاعدة الأوّلية.

وأمّا بحسب النصوص ، فانّ جملةً منها وإن دلّت على أنّ إدراك ركعة واحدة من الصلاة في الوقت بمنزلة إدراك تمام الركعات (١) إلاّ أنّ الظاهر منها بمقتضى الفهم العرفي اختصاص ذلك بمن لم يتمكن من إتيان تمامها في الوقت ، واضطرّ إلى التأخير إلى زمان لا يبقى من الوقت إلاّبمقدار إدراك ركعة واحدة ، فالشارع جعل لمثله إدراك ركعة واحدة بمنزلة إدراك تمام الركعات إرفاقاً وتوسعةً له ،

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢١٧ / أبواب المواقيت ب ٣٠

٣٦

وأمّا من تمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت ، ولكنّه أخّر باختياره وإرادته إلى أن ضاق الوقت بحيث لم يبق منه إلاّبمقدار إتيان ركعة واحدة فيه ، فلا يكون مشمولاً لتلك الروايات ، ضرورة أنّها لم تكن في مقام بيان الترخيص والتوسعة للمكلفين في تأخير صلواتهم إلى أن لا يسع الوقت إلاّبمقدار ركعة واحدة منها.

وعلى الجملة : فلا شبهة في ظهور الروايات في اختصاص هذا الحكم بغير المتمكن من أداء تمام الصلاة في الوقت ، وأنّ الشارع جعل هذا توسعةً له ، وأنّ إدراكه ركعة واحدة في الوقت بمنزلة إدراكه تمام الركعات فيه. بل يمكن استظهار ذلك ـ أعني الاختصاص بالمضطر وبغير المتمكن ـ من نفس التعبير بكلمة « أدرك » حيث إنّه يظهر من موارد استعمالات هذه الكلمة أنّها تستعمل فيما إذا لم يتمكن الانسان منه ابتداءً ، ثمّ بعد الفحص والطلب تمكن منه ، كما إذا طلب أحد غريمه ثمّ وجده فيقال إنّه أدرك غريمه ، وأمّا إذا لم يطلبه ولكنه صادفه من باب الاتفاق ، فلا يقال إنّه أدركه ، بل يقال إنّه صادف غريمه ، أو إذا نظر في مسألة علمية مثلاً وبعد النظر والدقّة وصل إلى ما هو المقصود منها فيقال إنّه أدرك المقصود ، وأمّا إذا خطر بباله صدفةً ومن دون تفكّر ونظر فلا يقال إنّه أدركه ، وهكذا.

وفي المقام قوله عليه‌السلام : « من أدرك ركعةً واحدةً من الغداة في الوقت فقد أدرك تمام الركعات » (١) ظاهر في اختصاص الحكم بغير المتمكن ، وأمّا من تمكّن من إدراك تمام الركعات في الوقت ولكنّه أخّرها باختياره وإرادته إلى زمان لا يسع الوقت إلاّبمقدار ركعة واحدة ، فلا يصدق عليه أنّه أدرك ركعةً

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢١٧ / أبواب المواقيت ب ٣٠ ح ٢

٣٧

واحدةً في الوقت ليكون مشمولاً للرواية ، لما عرفت من أنّ كلمة « أدرك » بحسب موارد استعمالها إنّما تستعمل في وجدان شيء بالاجتهاد والطلب ، فلا تصدق على وجدانه صدفة ومن باب الاتفاق. وكيف ما كان ، فلا إشكال في ظهور الروايات فيما ذكرناه ، وهي وإن كانت اثنتان منها ضعيفتين (١) إلاّ أنّ واحدة منها موثقة (٢) وهي كافية لاثبات المسألة.

__________________

(١) [ وهما ] رواية الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين ( عليه‌السلام ) : « من أدرك من الغداة ركعةً قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامّة » ضعيفة بأبي جميلة المفضّل ابن صالح.

ورواية عمار الساباطي عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث : « قال : فإن صلّى ركعة من الغداة ثمّ طلعت الشمس فليتم الصلاة وقد جازت صلاته ، وإن طلعت الشمس قبل أن يصلي ركعة فليقطع الصلاة ولا يصلي حتّى تطلع الشمس ويذهب شعاعها » ضعيفة بعلي بن خالد. وسائل الشيعة ٤ : ٢١٧ / أبواب المواقيت ب ٣٠ ح ٢ ، ٣.

أقول : إنّ الموثقة وإن وردت في صلاة الغداة خاصة ، إلاّ أنّه من الواضح جداً أنّه لا خصوصية لها في ذلك أصلاً ، وأنّ الحكم بالادراك يعمّ جميع الصلوات اليومية والفرائض الخمس بلا خصوصية في البين ، وذكر الغداة فحسب في الموثقة إنّما كان من باب المثال ولا موضوعية له أبداً ، ولعلّه لنكتة الاشارة إلى كثرة الابتلاء بتلك المسألة في الغداة خاصة دون البقية كما هو كذلك ، وعليه فلا وجه لتوهم اختصاص الحكم بالغداة وعدم شموله للبقية

(٢) [ وهي ] رواية عمار بن موسى عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث « قال : فإن صلّى ركعة من الغداة ثمّ طلعت الشمس فليتم وقد جازت صلاته ». الوسائل ٤ : ٢١٧ / أبواب المواقيت ب ٣٠ ح ١

٣٨

وعلى أساس هذا البيان قد ظهر أنّ هذه الروايات أجنبية عن مقامنا تماماً ، ولا يدل شيء منها على تقديم إدراك ركعة مع الطهارة المائية على إدراك تمام الركعات مع الطهارة الترابية ، والوجه في ذلك ما عرفت الآن من اختصاص موضوع تلك الروايات بخصوص المضطر وغير المتمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : قد تقدّم أنّ المستفاد من الآيتين المتقدمتين بضميمة الروايات والنصوص الواردة في المسألة هو أنّ المكلف إن تمكن في الوقت من الطهارة المائية فوظيفته الطهارة المائية ، وإن لم يتمكن منها فوظيفته الطهارة الترابية.

فالنتيجة على هدى هذين الجانبين : هي أنّ المكلف إن لم يتمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة المائية لضيقه وتمكن من إدراك تمامها مع الطهارة الترابية كان المتعين هو الثاني ، والروايات المزبورة كما عرفت مختصة بالمضطر وغير المتمكن من إدراك التمام ، والمفروض في المقام أنّه متمكن من إدراكه ، غاية الأمر مع الطهارة الترابية دون المائية.

ومن الواضح جداً أنّه لا يفرق في التمكن من الصلاة في الوقت بين أن يكون مع الطهارة المائية وأن يكون مع الطهارة الترابية ، وعلى كلا التقديرين فلا يكون مشمولاً لتلك الروايات ، لاختصاصها كما مرّ بغير المتمكن مطلقاً ولو مع الطهارة الترابية كما هو مقتضى إطلاقها ، فإذن لا دوران في المقام لنرجع إلى المرجّح ، ونقدّم ما ليس له بدل على ما له بدل.

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من دوران الأمر بين إدراك ركعة واحدة في الوقت مع الطهارة المائية ، وإدراك تمام الركعات فيه مع الطهارة الترابية لا موضوع له أصلاً.

ونتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن : هي أنّ ما ذكره قدس‌سره من الفروع الثلاثة

٣٩

ليس شيء منها صغرى للكبرى المتقدمة ، وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل.

ثمّ إنّ من الغريب ما عن بعض المحدثين (١) في المقام من الحكم بسقوط الصلاة في هذا الفرض ، بدعوى أنّه فاقد للطهورين ، أمّا الطهارة المائية من الوضوء أو الغسل فلا يتمكن منها ، لأنّها توجب تفويت الصلاة عن الوقت وهو غير جائز ، وأمّا الطهارة الترابية فغير مشروعة ، لأنّ مشروعيتها منوطة بفقدان الماء وعدم وجدانه ، والمفروض هنا أنّ المكلف واجد للماء ، إذن تسقط الصلاة عنه باعتبار أنّه فاقد الطهورين.

ووجه غرابته ما ذكرناه في غير مورد من أنّ المراد من الوجدان ليس وجوده الخارجي ، بل المراد منه من جهة القرائن الداخلية والخارجية وجوده الخاص ، وهو ما تمكن المكلف من استعماله في الوضوء أو الغسل عقلاً وشرعاً ، وفي المقام بما أنّه لا يتمكن من استعماله شرعاً ، لأجل أنّه يوجب تفويت الوقت وهو غير جائز ، فلا محالة تنتقل وظيفته إلى التيمم.

وعلى الجملة : فقد تقدّم أنّ المكلف مأمور بالصلاة في أوقاتها بمقتضى الآيات والروايات ، وأنّ تلك الصلاة مشروطة بالطهارة المائية في فرض التمكن منها عقلاً وشرعاً ، وبالطهارة الترابية في فرض فقدان الماء وعدم التمكن من استعماله عقلاً أو شرعاً ، وفيما نحن فيه بما أنّ المكلف لا يتمكن ـ من جهة المحافظة على الصلاة في وقتها ـ من الطهارة المائية ، فتجب عليه الطهارة الترابية ، ضرورة أنّ مشروعية الطهارة الترابية إنّما هي من جهة المحافظة على الوقت ، وإلاّ لتمكن المكلف من استعمال الماء في زمان لا محالة.

__________________

(١) وهو الشيخ حسين آل عصفور ، راجع شرح العروة ١٠ : ١٥٤

٤٠