محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

لا يحكم العقل باحتفاظ القدرة عليه ، وبدون حكمه فلا مانع من امتثال الواجب الفعلي أصلاً ، ففي مثل تلك الموارد تفترق نظريتنا عن نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره فعلى نظريتنا بما أنّ الوجوب فعلي والواجب أمر متأخر ، فهو لا محالة يكشف عن وجود الملاك فيه وكونه تاماً ، وإلاّ لم يعقل كون وجوبه فعلياً. وعلى نظريته قدس‌سره حيث إنّه لا وجوب فعلاً ، فلا كاشف عن كونه واجداً للملاك في وقته ، وعليه فلا وجه لتقديمه على المهم وهو الواجب الفعلي.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ تقديم الأهم على المهم إذا كان متأخراً عنه زماناً منوط على نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره باحراز الملاك فيه من الخارج ، وإلاّ فلا يمكن الحكم بالتقديم أصلاً ، بل يتعين العكس كما لا يخفى. وكيف كان فعلى فرض كونه مشتملاً على الملاك في ظرفه يتقدّم على المهم لا محالة ولو كان متأخراً عنه زماناً ، وكلامنا في المقام على نحو الفرض والتقدير والكبرى الكلّية من دون نظر إلى مصاديقها وأفرادها.

هذا ، ولكن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) هنا قد مثّل لذلك ـ أي لتزاحم واجبين طوليين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً ـ بما إذا لم يكن المكلف متمكناً من القيام في جزأين طوليين من الصلاة.

ولا يخفى ما في هذا المثال ، أمّا أوّلاً : فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ التزاحم لا يجري في أجزاء واجب واحد أو شرائطه.

وأمّا ثانياً : فلأ نّه منافٍ لما ذكره قدس‌سره (٢) من اشتراط أجزاء الصلاة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٣

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٩

٨١

بالقدرة شرعاً ، وعليه فلا مناص من تقديم ما هو أسبق زماناً على غيره ولو كان ذلك الغير أهم منه ، كما عرفت.

فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن : أنّ الواجب الأهم يتقدّم في مقام المزاحمة على المهم مطلقاً ولو كان متأخراً عنه زماناً ، فيما إذا كان مشروطاً بالقدرة عقلاً ، سواء أكان المهم أيضاً كذلك أم لا. نعم ، إذا كان الأهم مشروطاً بالقدرة شرعاً فلا يتقدّم على المهم في فرض تأخره عنه زماناً ، بل يتقدّم المهم عليه ولو كان مشروطاً بها شرعاً.

وأمّا إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين محتمل الأهمّية دون الآخر ، فهل يكون مرجحاً لتقديمه عليه أم لا؟ فقد ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّه بناءً على القول بالتخيير الشرعي في المتساويين يكون المقام داخلاً في كبرى مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين التي ذكرناها في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فإن قلنا في تلك المسألة بالاشتغال والتعيين فلا بدّ أن نقول به في هذه المسألة أيضاً ، وإن قلنا هناك بالبراءة والتخيير فلابدّ أن نقول به في المقام أيضاً ، وعلى الجملة فمسألتنا هذه من صغريات كبرى تلك المسألة ، فيبتني الحكم فيها على الحكم في تلك من البراءة أو الاشتغال.

وأمّا بناءً على القول بالتخيير العقلي في المتساويين فقد ذكر قدس‌سره أنّه لا إشكال في تقديم ما تحتمل أهمّيته على غيره ، والوجه في ذلك : هو أنّ التكليفين المتزاحمين إذا كانا متساويين فلا إشكال في سقوط إطلاقيهما وحكم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦

٨٢

العقل بالتخيير بينهما ، بمعنى حكمه بثبوت كل واحد منهما مترتباً على ترك الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه ، من دون فرق بين أن يكون من جانب واحد أو من جانبين كما في مثل المقام ، ضرورة أنّ العقل لا يجوّز رفع اليد عن أصل التكليفين معاً ، فانّه بلا موجبٍ ومقتضٍ ، ومن الواضح أنّه لا يجوز رفع اليد عن التكليف بلا سبب يقتضي رفعه ، فالمقتضي ـ وهو المزاحمة ـ في المقام لا يقتضي إلاّرفع اليد عن ثبوت كل منهما على تقدير الاتيان بالآخر لا مطلقاً ، وهذا عبارة اخرى عن ثبوت كل منهما على تقدير ترك الآخر ، ويترتب على ذلك أنّ المكلف مخيّر بين امتثال هذا وامتثال ذاك.

وأمّا إذا كان أحدهما محتمل الأهمّية دون الآخر ، ففي مثل ذلك لا شبهة في أنّ الاتيان بالطرف المحتمل أهمّيته يوجب القطع بسقوط التكليف عن الطرف الآخر ، وذلك لأنّ ما أتى به على تقدير كونه أهم في الواقع ونفس الأمر فهو الواجب دون غيره ، وعلى تقدير كونه مساوياً له فهو مصداق للواجب لا محالة.

وإن شئت قلت : إنّه بناءً على التخيير العقلي عند تزاحم الواجبين المتساويين والالتزام بالترتب من الجانبين إذا علم أهمّية أحدهما دون الآخر ، فقد علمنا بسقوط الاطلاق عن الآخر ، وباشتراطه بعدم الاتيان بمتعلق الأوّل ، وأمّا ما يحتمل أهمّيته فلم يحرز سقوط إطلاقه فلا بدّ من الأخذ به. وهذا هو أساس تقديم محتمل الأهمّية على غيره في مقام المزاحمة. إلى هنا قد تمّ بيان ما أفاده قدس‌سره مع توضيح منّا.

ونناقش ما أفاده قدس‌سره من ناحيتين :

الاولى : أنّه لا تظهر الثمرة فيما نحن فيه بين القول بالتخيير الشرعي في المتساويين ، والقول بالتخيير العقلي فيهما على وجهة نظره قدس‌سره (١) في

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٠٧

٨٣

مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين ، حيث إنّه قدس‌سره قد التزم في تلك المسألة بالاحتياط ، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة على ما نطق به كلامه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وبما أنّ مسألتنا هذه على الفرض الأوّل داخلة في كبرى تلك المسألة ، فلا مناص له من الالتزام بالاحتياط فيها ، ولزوم الأخذ بالطرف المحتمل أهمّيته ، وعليه فالنتيجة على هذا القول بعينها هي النتيجة على القول بالتخيير العقلي ، وهي تعين الأخذ بالطرف المحتمل أهمّيته دون الطرف الآخر ، فاذن لا فرق بين القولين من هذه الناحية أصلاً.

الثانية : أنّ المقام على القول المزبور ـ أعني القول بالتخيير الشرعي في المتساويين ـ وإن كان داخلاً في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين ، إلاّ أنّ التعيين والتخيير في خصوص المقام حيث إنّهما كانا في مقام التزاحم والامتثال ، فلا مناص من الالتزام بعدم جريان البراءة عن التعيين ووجوب الأخذ به ، وإن قلنا بجريان البراءة في تلك الكبرى ، كما فصّلنا الكلام من هذه الناحية في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين (١).

وتوضيح ذلك : هو أنّ مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام جعل الحجية وإنشائها في مرحلة التشريع والاعتبار ، كما لو شككنا في أنّ حجية فتوى الأعلم هل هي تعيينية ، أو أنّ المكلف مخير بين الأخذ بها والأخذ بفتوى غير الأعلم.

الثاني : ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال والفعلية من

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٥١٩

٨٤

جهة التزاحم.

الثالث : ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل والتشريع ، فلا يعلم أنّ التكليف مجعول للجامع بلا أخذ خصوصية فيه أو مجعول لحصة خاصة منه ، كما لو شككنا في أنّ وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة هل هو تعييني أو تخييري.

وبعد ذلك نقول : إنّا قد ذكرنا في غير مورد أنّ البراءة لا تجري في القسمين الأوّلين ، ولا بدّ فيهما من الالتزام بوجوب الاحتياط ، وأمّا في القسم الأخير فالصحيح هو جريان البراءة فيه ، فها هنا دعويان :

الاولى : عدم جريان أصالة البراءة في القسمين الأوّلين.

الثانية : جريان البراءة في القسم الأخير.

أمّا الدعوى الاولى : فقد ذكرنا غير مرّة أنّ الشك في حجية شيء في مقام الجعل والتشريع مساوق للقطع بعدم حجيته فعلاً ، ضرورة أنّه مع هذا الشك لا يمكن ترتيب آثار الحجة عليه ، وهي إسناد مؤداه إلى الشارع ، والاستناد إليه في مقام الجعل ، للقطع بعدم جواز ذلك ، لأنّه تشريع محرّم ، ومن المعلوم أنّا لا نعني بالحجية الفعلية إلاّترتيب تلك الآثار عليها ، وعليه فاذا دار الأمر بين حجية شيء كفتوى الأعلم مثلاً تعييناً ، وحجيته تخييراً ، فلا مناص من الأخذ به ، وطرح الطرف الآخر ، للقطع بحجيته واعتباره فعلاً ، إمّا تعييناً أو تخييراً ، والشك في حجية الآخر كفتوى غير الأعلم واعتباره ، وقد عرفت أنّ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها ، وهذا واضح.

وكذا الحال في مقام الامتثال ، فانّه إذا دار الأمر بين امتثال شيء تعييناً أو تخييراً ، فلا مناص من التعيين والأخذ بالطرف المحتمل تعيينه ، ضرورة أنّ الاتيان

٨٥

به يوجب القطع بالأمن من العقاب واليقين بالبراءة ، وذلك لأنّه على تقدير كونه أهم من الآخر فهو الواجب ، وعلى تقدير كونه مساوياً له فهو مصداق للواجب وأحد فرديه ، ومن المعلوم أنّ الاتيان به كافٍ في مقام الامتثال ، وهذا بخلاف الطرف الذي لا تحتمل أهمّيته أصلاً ، فانّ الاتيان به لا يوجب القطع بالبراءة والأمن من العقاب ، لاحتمال أن لايكون واجباً في الواقع أصلاً ، وانحصار الوجوب بالطرف الأوّل ، ومن الواضح جداً أنّ العقل يستقل في مرحلة الامتثال بلزوم تحصيل اليقين بالبراءة والأمن من العقوبة بقانون أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، وبما أنّ المفروض في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال اشتغال ذمة المكلف بالواجب ، فيجب عليه بحكم العقل تحصيل البراءة عنه والأمن من العقوبة ، وحيث إنّه لا يمكن إلاّباتيان الطرف المحتمل أهمّيته ، فلا محالة ألزمه العقل بالأخذ به وإتيانه ، وهذا معنى حكم العقل بالتعيين وعدم جواز الرجوع إلى البراءة في مسألة التعيين والتخيير في مرحلة الامتثال والفعلية.

وبتعبير واضح : أنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال والفعلية منحصر بباب التزاحم بين التكليفين لا غير ، ومن الواضح أنّ المزاحمة بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب لا تقتضي إلاّسقوط إطلاق أحدهما إذا كان في البين ترجيح ، وسقوط إطلاق كليهما إذا لم يكن ترجيح في البين.

وعلى هذا الأساس أنّه إذا كان أحد التكليفين المتزاحمين معلوم الأهمّية فلا إشكال في تقديمه على الآخر كما سبق ، وأمّا إذا كان أحدهما محتمل الأهمّية دون الآخر فيدور أمر المكلف بين الاتيان به والاتيان بالطرف الآخر ، ولكنه إذا أتى به مأمون من العقاب ، ومعذور في ترك الآخر ، وذلك لأنّ جواز الاتيان بهذا الطرف معلوم على كل تقدير ، أي سواء أكان أهم في الواقع أم كان مساوياً

٨٦

له ، وبالطرف الآخر غير معلوم ، ومن الواضح جداً أنّ العقل يلزم بامتثال هذا الطرف وإتيانه ، لأنّه يوجب الأمن من العقاب على كل تقدير ، وحصول القطع بالبراءة ، دون الاتيان بذاك الطرف ، لاحتمال أنّه غير واجب في الواقع ، وانحصار الوجوب بالطرف المزبور ، ومعه لا يكون الاتيان به موجباً لحصول القطع بالبراءة ، وقد عرفت أنّ همّ العقل في مقام الامتثال تحصيل الأمن من العقوبة والقطع بالفراغ.

ونظير المقام ما إذا شكّ في البراءة من جهة الشك في القدرة على الامتثال ، كما إذا شكّ في وجوب النفقة من جهة الشك في وجود المال عنده ، وأ نّه قادر على دفعها أم لا ، فلا يمكن له أن يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوبها ، وذلك لأنّ المفروض أنّ ذمته قد اشتغلت بوجوب النفقة ، ومن الواضح أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ، فاذن لا يمكن حصول البراءة إلاّبالفحص والاستعلام عن وجود المال عنده ، والوجه فيه هو أنّ مجرد احتمال كونه عاجزاً عن امتثال التكليف الثابت على ذمته لا يكون عذراً له في تركه وعدم امتثاله عند العقل ما لم يحرز عجزه عنه وعدم قدرته عليه ، ضرورة أنّ ترك امتثال التكليف لا بدّ أن يستند إلى مؤمّن ، ومن المعلوم أنّ مجرد احتمال العجز لا يكون مؤمّناً ، فاذن لا مناص من الأخذ بالاحتياط.

فقد تحصّل مما ذكرناه : أنّه بناءً على وجهة نظرنا أيضاً لا تظهر الثمرة بين القول بالتخيير الشرعي في المتساويين ، والقول بالتخيير العقلي فيهما ، فعلى كلا القولين لا مناص من الاحتياط والأخذ بالطرف المحتمل أهمّيته ، غاية الأمر بناءً على التخيير العقلي سقوط أحد الاطلاقين معلوم وسقوط الآخر مشكوك فيه ، ومع الشك لا بدّ من الأخذ به ، وبناءً على التخيير الشرعي سقوط أحد التكليفين معلوم وسقوط الآخر مشكوك فيه ، وما لم يثبت سقوطه لا يعذر من

٨٧

مخالفته ، ولكن النتيجة واحدة.

وأمّا الدعوى الثانية : وهي جريان البراءة في القسم الأخير من الأقسام المتقدمة ، فلأنّ الشك فيه يرجع إلى الشك في كيفية جعل التكليف ، وأ نّه تعلق بالجامع أو بخصوص فرد خاص ، كما لو شككنا في أنّ وجوب كفارة الإفطار العمدي في شهر رمضان متعلق بالجامع بين صوم شهرين متتابعين وإطعام ستّين مسكيناً ، أو متعلق بخصوص صوم شهرين ، وحيث إنّ مرجع ذلك إلى الشك في إطلاق التكليف وعدم أخذ خصوصية في متعلقه ، وتقييده بأخذ خصوصية فيه ، والإطلاق والتقييد على ما ذكرناه وإن كانا متقابلين بتقابل التضاد ، إلاّ أنّ التقييد بما أنّ فيه كلفة زائدة فهي مدفوعة بأصالة البراءة عقلاً ونقلاً ، وهذا بخلاف الاطلاق حيث إنّه ليس فيه أيّة كلفة لتدفع بأصالة البراءة ، فإذن ينحل العلم الاجمالي بجريان الأصل في أحد طرفيه دون الآخر ، وتفصيل الكلام في ذلك في بحث البراءة والاشتغال (١) والغرض من التعرّض هنا الاشارة إلى عدم صحة ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الأخذ بالاحتياط في دوران الأمر بين التعيين والتخيير مطلقاً.

وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا كان الواجبان المتزاحمان متساويين ولم تحتمل أهمّية أحدهما على الآخر أصلاً ، أو احتملت أهمّية كل منهما بالاضافة إلى الآخر ، فلا مناص من الالتزام بالتخيير فيه ، ضرورة أنّه لا يجوز رفع اليد عن كليهما معاً فهذا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في أنّ هذا التخيير عقلي أو شرعي.

وقد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) في المقام أنّ التخيير عقلي على

__________________

(١) مصباح الاصول ١ : ٥٢٠

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٥

٨٨

عكس ما اختاره في المسألة المتقدمة ، وهي ما إذا كان كل من الواجبين المتزاحمين مشروطاً بالقدرة شرعاً.

وغير خفي أنّ كون التخيير في المقام عقلياً أو شرعياً يرتكز على القول بامكان الترتب واستحالته.

فعلى الفرض الأوّل لا بدّ من القول بكون التخيير عقلياً ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ لازم هذا الفرض ثبوت كل من التكليفين المتزاحمين على نحو الترتب والاشتراط ، بمعنى أنّ فعلية كل منهما مشروطة بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه خارجاً ، فانّ معنى الترتب من الجانبين يرجع إلى تقييد إطلاق كل من التكليفين بعدم امتثال الآخر ، ومن المعلوم أنّ هذا التقييد ليس أمراً حادثاً بحكم العقل فعلاً ، بل هو نتيجة اشتراط التكاليف بالقدرة عقلاً من الأوّل ، فانّ ذلك الاشتراط يقتضي هذا التقييد من الجانبين إذا كانا متساويين ، ومن جانب واحد إذا كان أحدهما واجداً للترجيح ، وليس معنى التخيير هنا تبديل الوجوب التعييني بالتخييري ليقال إنّه غير معقول ، ضرورة أنّه باقٍ على حاله ، غاية الأمر أنّ المزاحمة تقتضي رفع اليد عن إطلاقه لا عن أصله ، فانّ الضرورة تتقدر بقدرها ، بل معناه هو تخيير المكلف في إعمال قدرته في امتثال هذا أو ذاك ، وهذا نتيجة عدم قدرته على امتثال كليهما معاً من جانب ، وعدم الترجيح لأحدهما على الآخر من جانب ثانٍ ، وعدم جواز رفع اليد عنهما معاً من جانب ثالث.

وعلى الفرض الثاني لا مناص من الحكم بكون التخيير شرعياً ، والوجه فيه هو أنّ لازم هذا الفرض سقوط كلا التكليفين المتزاحمين معاً ، فلا هذا ثابت ولا ذاك ، ولكن حيث إنّا نعلم من الخارج أنّ الشارع لم يرفع اليد عن كليهما

٨٩

معاً ، لأنّ الموجب لذلك ليس إلاّعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ومن الواضح جداً أنّ هذا لا يوجب ذلك ، فانّ الضرورة تتقدر بقدرها ، وهي لا تقتضي إلاّرفع اليد عن أحدهما دون الآخر ، لكونه مقدوراً له عقلاً وشرعاً ، وبذلك نستكشف أنّ الشارع قد أوجب أحدهما لا محالة ، وإلاّ لزم أن يفوت غرضه ، وهو قبيح من الحكيم ، وهذا معنى كون التخيير شرعياً.

إلى هنا قد تبيّن أنّ التكليفين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً ، فإن كانا عرضيين وكان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمّية فلا إشكال في تقديمه عليه ، وأمّا إذا كانا متساويين من جميع الجهات فلا إشكال في التخيير كما مرّ. وأمّا إن كانا طوليين ، فإن كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمّية فأيضاً يتقدّم عليه على تفصيل قد تقدّم فلاحظ. هذا كلّه فيما إذا كانت القدرة المعتبرة في الواجب المتأخر قدرة مطلقة كما هو المفروض لا قدرة خاصة.

وأمّا إذا كانت القدرة المعتبرة فيه قدرة خاصة وهي القدرة في ظرف العمل لا مطلقاً ، كما لو نذر أحد صوم يومي الخميس والجمعة ، ثمّ علم بأ نّه لا يقدر على صوم كلا اليومين معاً ، ففي مثل ذلك لا إشكال في لزوم تقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر ، فيقدّم في المثال صوم يوم الخميس على صوم يوم الجمعة ، لكونه مقدّماً عليه زماناً ، وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القيام في صلاة الظهر وتركه في صلاة العصر ، أو بين ترك القيام في صلاة المغرب وتركه في صلاة العشاء ، بأن لا يقدر المكلف على الاتيان بكلتا الصلاتين مع القيام ، فيقدّم ما هو أسبق زماناً على الآخر.

والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ المكلف حيث إنّه كان قادراً على الصوم

٩٠

يوم الخميس ، والقيام في صلاة الظهر أو المغرب ، فلا عذر له في تركه أصلاً ، لفرض أنّ وجوبهما فعلي ، ولا مانع من فعليته أصلاً ، ضرورة أنّ المانع هنا ليس إلاّ التكليف بالصوم أو القيام في ظرف متأخر ، ومن المعلوم أنّه لا يصلح أن يكون مانعاً ، لفرض عدم وجوب احتفاظ القدرة على امتثاله في ظرفه ، لما عرفت من أنّ القدرة المعتبرة فيه إنّما هي القدرة في ظرف العمل لا مطلقاً ، فإذن كما لا يجب حفظ القدرة قبل مجيء وقته ، كذلك لا يجب تحصيلها.

فعلى هذا لا مناص من الالتزام بلزوم تقديم المتقدم زماناً على الآخر ، ولا عذر له في ترك امتثاله باحتفاظ القدرة على امتثال الواجب المتأخر أبداً ، لعدم المقتضي لذلك أصلاً ، ففي الأمثلة المزبورة لا بدّ من الاتيان بالصوم يوم الخميس ، وبالقيام في صلاة الظهر أو المغرب ، ولا يجوز الاحتفاظ بالقدرة بتركهما على الصوم يوم الجمعة ، والقيام في صلاة العصر أو العشاء ، ومن المعلوم أنّه بعد الاتيان بالواجب المتقدم يعجز المكلف عن امتثال الواجب المتأخر ، فينتفي عندئذ بانتفاء موضوعه وهو القدرة في ظرفه.

ومن هذا القبيل ما إذا دار الأمر بين ترك الصوم في العشرة الاولى من شهر رمضان وتركه في العشرة الثانية ، كما إذا فرضنا أنّ شخصاً لا يتمكن من الصوم في كلتا العشرتين معاً ، ولكنّه قادر عليه في إحداهما دون الاخرى ، فانّه لا بدّ من تقديم الصوم في العشرة الاولى على الصوم في العشرة الثانية ، فانّ وجوب الصوم في العشرة الاولى فعلي بفعلية موضوعه ، ولا حالة منتظرة له أبداً ، وهذا بخلاف وجوبه في العشرة الثانية ، فانّه غير فعلي من جهة عدم فعلية موضوعه ، وعليه فلا عذر له في تركه في الاولى باحتفاظ القدرة عليه في الثانية ، ضرورة أنّ القدرة المعتبرة على الصوم في كل يوم القدرة في ظرفه ، فإن كان المكلف قادراً على الصوم في اليوم الأوّل أو الثاني فهو مكلف به ، وإلاّ فلا تكليف به أصلاً ،

٩١

ولا يجوز له الاحتفاظ بالقدرة بترك الصوم في اليوم الأوّل على الصوم في اليوم الثاني ، بل لا بدّ له من الاتيان به في اليوم الأوّل ، فان تمكن منه بعده في اليوم الثاني أيضاً فهو ، وإلاّ فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة ، وكذا الحال في المثال المزبور ، فانّه لا بدّ من الاتيان بالصوم في العشرة الاولى ، فإن تمكن بعده من الاتيان به في العشرة الثانية أيضاً فهو ، وإلاّ فينتفي التكليف به بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة في ظرفه ـ ولا يجوز له حفظ القدرة على الصوم في الثانية بتركه في الاولى ، ولو فعل ذلك كان معاقباً عليه ، لأنّه ترك التكليف الفعلي من دون عذر ، وحينئذ ـ أي حين تركه في الاولى ـ وجب عليه في الثانية لا محالة ، لقدرته عليه فعلاً ، ولا عذر له في تركه أصلاً ، فلو تركه كان معاقباً عليه أيضاً.

فالنتيجة : أنّه لو ترك الصوم في العشرة الاولى والثانية معاً يستحق عقابين ، وهذا ليس عقاباً على ما هو خارج عن الاختيار والقدرة ليكون قبيحاً من الحكيم ، فانّ استحقاقهما إنّما هو على الجمع بين تركه في الاولى وتركه في الثانية ، وهو مقدور له بالوجدان ، ولا يكون العقاب عليه من العقاب على ما ليس بالاختيار.

نظير ما ذكرناه في بحث الترتب من أنّ المكلف عند ترك الأهم والمهم معاً يستحق عقابين ، وقلنا هناك إنّ هذا لا يكون عقاباً على ما ليس بالاختيار ، لأ نّه على الجمع بين التركين ، وهو مقدور له بالبداهة ، لا على ترك الجمع بينهما ليكون غير مقدور كما تقدّم. وفيما نحن فيه تعدد العقاب عند ترك كلا الواجبين من جهة الجمع بين التركين ، لا من جهة ترك الجمع بينهما ليكون عقاباً على غير مقدور ، وهذا واضح.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّه لا مسوّغ للمكلف في أن يترك الصوم في العشرة الاولى ، ويحفظ قدرته عليه في العشرة الثانية أو الأخيرة ، بل لا بدّ له من

٩٢

الاتيان به في الاولى ، ومعه يعجز عن الاتيان به في الثانية.

ومن ذلك يظهر الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك الطهارة المائية في الظهرين ، وتركها في العشاءين ، كما إذا كان عنده مقدار من الماء لا يكفي لكلتيهما معاً ، فلو صرفه في الوضوء أو الغسل للظهرين فلا يبقى للعشاءين ، وإن احتفظ به للعشاءين ، فلا يتمكن من الاتيان بالظهرين مع الوضوء أو الغسل.

والوجه فيه واضح ، وهو أنّ المكلف واجد للماء فعلاً بالاضافة إلى صلاتي الظهرين ، وقد ذكرنا أنّ المراد من وجدان الماء في الآية المباركة هو الوجدان بالاضافة إلى الصلاة المكلف بها فعلاً لا مطلقاً ، كما أنّ المراد من عدم الوجدان فيها ذلك ، والمفروض هنا أنّ المكلف واجد للماء بالاضافة إلى صلاتي الظهرين المكلف بهما فعلاً ، فيكون مشمولاً لقوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ )(١) إلى آخر الآية ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : أنّ الوجدان المعتبر في توجه التكليف بالصلاة هو الوجدان في وقتها ، فلا أثر للوجدان قبله ، ولا يكون الوجدان قبل الوقت موجباً لتوجه التكليف بالصلاة إليه فعلاً ، ضرورة أنّه لا وجوب لها قبل دخول وقتها.

فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين : هي أنّه مكلف بصلاتي الظهرين مع الطهارة المائية لكونه واجداً للماء ، ووظيفة الواجد هي الطهارة المائية لا غيرها ، ولايكون مكلفاً بالعشاءين فعلاً ، لعدم دخول وقتهما ، فانّه لا أثر لوجدانه الماء بالاضافة إليهما ، والمفروض أنّه بعد الاتيان بالظهرين يصير فاقداً للماء ، ووظيفة الفاقد هي الطهارة الترابية دون غيرها. وعلى هذا فلا مسوّغ لترك صلاتي

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦

٩٣

الظهرين مع الطهارة المائية والاتيان بهما مع الطهارة الترابية ، ليحتفظ بالماء لصلاتي العشاءين ، لما عرفت من عدم المقتضي للحفظ أصلاً ، بل المقتضي لصرفه في الوضوء أو الغسل للظهرين موجود ، وهو فعلية التكليف بهما مع الطهارة المائية.

وكذا الحال في بقية الأجزاء والشرائط ، فلو دار الأمر بين ترك جزء أو شرط كالقيام أو نحوه في صلاة الظهر مثلاً ، وتركه في صلاة المغرب فالأمر كما تقدّم ، بمعنى أنّ وظيفته الفعلية تقتضي الاتيان بصلاة الظهر قائماً ، ولا يجوز له ترك القيام فيها بحفظ القدرة عليه لصلاة المغرب ، بل في الحقيقة لا مزاحمة في البين ، ضرورة أنّ المزاحمة إنّما تعقل بين التكليفين الفعليين ، ليكون لكلٍ منهما اقتضاء للاتيان بمتعلقه في الخارج ، وأمّا إذا كان أحدهما فعلياً دون الآخر فلا اقتضاء لما لا يكون فعلياً ، ومن المعلوم أنّ ما لا اقتضاء فيه لا يعقل أن يزاحم ما فيه الاقتضاء ، هذا كلّه فيما إذا كان أحد الواجبين المزبورين فعلياً دون الواجب الآخر.

وأمّا إذا كان وجوب كليهما فعلياً كصلاتي الظهرين مثلاً أو العشاءين بعد دخول وقتهما ، فهل الأمر أيضاً كذلك أم لا؟ وجهان.

الصحيح هو الوجه الأوّل ، بيان ذلك : هو أنّا إذا فرضنا أنّ الأمر يدور بين الطهارة المائية مثلاً في صلاة الظهر ، والطهارة المائية في صلاة العصر ، أو بين الطهارة المائية في صلاة المغرب ، والطهارة المائية في صلاة العشاء ، بأن لايتمكن المكلف من الجمع بين هاتين الصلاتين مع الطهارة المائية ، ففي مثل ذلك لا مناص من الالتزام بتقديم صلاة الظهر مع الطهارة المائية على صلاة العصر ، أو المغرب على العشاء ، ولا تجوز المحافظة عليها لصلاة العصر أو العشاء بتركها في صلاة الظهر أو المغرب.

٩٤

والوجه فيه هو أنّ وظيفة المكلف فعلاً هي الاتيان بصلاة الظهر فحسب ، لفرض أنّه ليس مأموراً باتيان صلاة العصر قبل الاتيان بالظهر لاعتبار الترتيب بينهما ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : المفروض أنّه في هذا الحال واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلاً وشرعاً ، ومن الواضح أنّ وظيفته عندئذ بمقتضى الآية المباركة هي الوضوء أو الغسل ، ولا يشرع في حقّه التيمم.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لا أثر لكون المكلف واجداً للماء فعلاً بالإضافة إلى صلاة العصر ، لما ذكرناه من أنّ المستفاد من الآية المباركة بضميمة الروايات أنّ المراد بوجدان الماء هو وجدانه بالاضافة إلى الصلاة المأمور بها فعلاً ، والمفروض أنّ فيما نحن فيه المأمور به فعلاً هو صلاة الظهر دون العصر ، ضرورة أنّه لا يجب الاتيان به قبل الظهر ، فإذن هو واجد للماء بالإضافة إلى الظهر ، ومن المعلوم أنّ وظيفة الواجد هي الوضوء أو الغسل دون التيمم ، وقد ذكرنا أنّ تقسيم المكلف إلى الواجد والفاقد في الآية المباركة قاطع للشركة ، فلا يكون الواجد شريكاً مع الفاقد في شيء ، وبالعكس. وعليه فيجب صرف الماء في الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر ، ومعه لا محالة يكون فاقداً له بالاضافة إلى العصر ، ومن الواضح أنّ وظيفة الفاقد هي التيمم لا غيره.

بل لا مزاحمة في الحقيقة بين الأمر بصلاة الظهر مع الطهارة المائية والأمر بصلاة العصر معها ، ضرورة أنّه لا مقتضي من قبل الأمر بصلاة العصر حتّى يستدعي احتفاظ الماء لها في ظرفها ، ليزاحم استدعاء الأمر بصلاة الظهر صرف هذا الماء فعلاً في الوضوء أو الغسل ، ومن الواضح جداً أنّه لا مزاحمة بين ما فيه الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه.

وعلى الجملة : فلا يخلو الأمر من أنّ المكلف إمّا أن يصلي الظهر مع الطهارة المائية ، أو يصلي مع الطهارة الترابية ، أو لا يصلي أصلاً ، ولا رابع لها. فعلى

٩٥

الأوّل لا محالة يكون المكلف فاقداً للماء بالاضافة إلى صلاة العصر ، فوظيفته التيمم. وعلى الثاني بما أنّ صلاته باطلة ، لأنّ وظيفته كانت الطهارة المائية ، لكونه واجداً للماء على الفرض ، فلا تكون الطهارة الترابية مشروعة له ، فلا يجوز له الاتيان بالعصر مع الطهارة المائية ، لعدم جواز الاتيان به قبل الاتيان بالظهر ، والمفروض أنّ الأمر بالظهر باقٍ على حاله ، وعليه بما أنّه لا يكون مكلفاً فعلاً بالعصر ، فلا يكون مانع من قبله من صرف الماء في الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر ، ومن هنا يظهر حال الصورة الأخيرة كما هو واضح ، وكذا حال بقية الأجزاء والشرائط.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّه لا مزاحمة حقيقة في أمثال هذه الموارد أصلاً ، هذا كلّه فيما إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب المتأخر القدرة الخاصة ، وهي القدرة في ظرف العمل.

وأمّا إذا كانت القدرة المأخوذة فيه القدرة المطلقة ، بأن استكشفنا من القرائن الداخلية أو الخارجية أنّه واجد للملاك الملزم في ظرفه بمجرد القدرة عليه ولو آناً ما ، ففي مثل ذلك قد عرفت أنّه لا وجه لتقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر ، بل لا بدّ من ملاحظة الأهمّية في البين.

والوجه في ذلك هو أنّ العقل كما يحكم بصرف القدرة في امتثال الواجب المتقدم ، كذلك يحكم باحتفاظها للواجب المتأخر ، ضرورة أنّه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه ، فكما أنّه يحكم بقبح الأوّل فكذلك يحكم بقبح الثاني ، وعليه فلا أثر للسبق الزماني هنا أصلاً. فاذن إن كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمّية فيقدّم عليه ، بلا فرق بين كونه متقدماً عليه زماناً أو متأخراً عنه ، وبلا فرق بين القول بامكان الترتب والقول باستحالته ، وإلاّ فيحكم العقل بالتخيير بينهما ، كما تقدّم بشكل واضح.

٩٦

ولكن لشيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام كلام ، وهو أنّ التزاحم إذا كان بين واجبين طوليين متساويين في الملاك ، كما إذا دار الأمر بين القيام في الركعة الاولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية ، أو بين ترك واجب متوقف على ارتكاب محرّم مساوٍ معه في الملاك ، فلا مناص من الالتزام بتقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر.

وقد أفاد في وجه ذلك ما توضيحه : هو أنّ الواجبين المتزاحمين إذا كانا عرضيين ، ففي صورة التساوي وعدم كون أحدهما أهم من الآخر لا مناص من الالتزام بالتخيير ، ضرورة أنّه لا وجه في هذا الفرض لتقديم أحدهما على الآخر أصلاً. وأمّا إذا كانا طوليين ، فإن كانا متساويين فلا بدّ من تقديم الواجب المتقدم على المتأخر زماناً ، وذلك لأنّ التكليف بالمتقدم فعلي ولا موجب لسقوطه أصلاً ، لأنّ سقوط كل من التكليفين المتزاحمين إنّما هو بصرف القدرة في امتثال الآخر ، كما أنّ ثبوت كل منهما إنّما هو عند ترك امتثال الآخر وعدم صرف القدرة فيه ، بناءً على ما هو الصحيح من إمكان الترتب وجوازه ، وعدم الفرق فيه بين أن يكون من طرف أو من طرفين ، وبما أنّ التكليف بالواجب المتأخر متأخر خارجاً ، لفرض أنّ متعلقه متأخر عن متعلق التكليف بالمتقدم ، فلا يكون له مسقط في عرضه ، ضرورة أنّ امتثاله في ظرفه لا يكون مسقطاً له ، كما أنّ ترك امتثاله فيه لايعقل أن يكون شرطاً لثبوته له ، إلاّبناءً على إمكان الشرط المتأخر والمفروض أنّه قدس‌سره يرى استحالته وعدم إمكانه.

وعلى الجملة : ففي زمان الواجب المتقدم لا مانع من صرف القدرة في امتثاله أصلاً ، لفرض عدم إمكان صرف القدرة في امتثال الواجب المتأخر

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٧

٩٧

فعلاً ، والمفروض أنّ المسقط لوجوبه ليس إلاّ امتثاله خارجاً كما عرفت ، وحيث إنّه لا يمكن بالفعل فلا مسقط له أصلاً إلاّ أن يكون امتثاله في ظرفه شرطاً لسقوطه على نحو الشرط المتأخر ، ولكنّك عرفت أنّه يرى استحالة ذلك ، فاذن يتعين امتثال المتقدم بحكم العقل.

ومن هنا يظهر أنّه لا يمكن الالتزام بالترتب من الطرفين في مثل الفرض ، وذلك لأنّ معنى الترتب من الطرفين هو أنّ ثبوت التكليف بكل منهما مشروط بترك امتثال الآخر خارجاً وعدم الاتيان بمتعلقه ، وهذا لا يعقل في مثل المقام ، ضرورة أنّ ثبوت التكليف بالمتقدم لا يعقل أن يكون مشروطاً بترك امتثال التكليف بالمتأخر في ظرفه إلاّعلى نحو الشرط المتأخر ، وهو محال على وجهة نظره قدس‌سره.

نعم ، إذا كان المتأخر أقوى ملاكاً من المتقدم فلا بدّ من تقديمه عليه ، والوجه في ذلك هو أنّ التزاحم في الحقيقة عندئذ إنّما هو بين التكليف بالمتقدم ووجوب حفظ القدرة فعلاً على امتثال التكليف بالمتأخر ، وبما أنّ ملاك المتأخر أهم من ملاك الواجب الفعلي ، فلا محالة يكون وجوب حفظ القدرة عليه أهم من وجوب الواجب الفعلي ، فيتقدّم عليه في مقام المزاحمة.

فالنتيجة المستفادة من مجموع ما أفاده قدس‌سره هنا هي أنّ التزاحم لا يعقل بين تكليفين طوليين ، إلاّ إذا كان المتأخر أهم من المتقدم لتقع المزاحمة بين وجوب حفظ القدرة عليه فعلاً ، ووجوب الواجب المتقدم ، وأمّا إذا كانا متساويين ، أو كان المتقدم أهم من المتأخر ، فلا تزاحم بينهما أبداً ، بل يتعين امتثال الواجب المتقدم بحكم العقل ، دون الواجب المتأخر ، ولأجل ذلك لا يجري الترتب بينهما كما عرفت.

٩٨

ولنأخذ بالمناقشة فيما أفاده قدس‌سره وهي أنّا قد حققنا سابقاً أنّ كون أحد الخطابين مشروطاً بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه لم يرد في لسان دليل من الأدلة ، لنقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره ، بل هو من ناحية حكم العقل بعدم إمكان تعلق الخطاب الفعلي بأمرين متضادين إلاّعلى هذا الفرض والتقدير ، ضرورة استحالة تعلقه بكل منهما فعلاً وفي عرض الآخر.

والوجه في ذلك : هو أنّ العقل مستقل بلزوم حفظ خطاب المولى بالمقدار الممكن ، وعدم جواز رفع اليد لا عن أصله ولا عن اطلاقه ما لم تقتضه الضرورة ، وهذا ظاهر.

وعلى أساس ذلك بما أنّ في مقام المزاحمة بين التكليفين لا يتمكن المكلف من التحفظ على كليهما معاً ، فلا مناص من الالتزام برفع اليد عن أحدهما والأخذ بالآخر إذا كان ذلك الآخر واجداً للترجيح ، فانّ هذا غاية ما يمكنه. وأمّا إذا لم يكن واجداً له فلا مناص من الالتزام بالتخيير بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد تقدّم منّا غير مرّة أنّه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه ، فكما أنّه يحكم بقبح الأوّل ، فكذلك يحكم بقبح الثاني.

ومن ناحية ثالثة : قد حققنا في بحث الواجب المطلق والمشروط (١) أنّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر ، بل لا مناص عنه في المركبات التدريجية كالصلاة وما شاكلها ، كما تقدّم هناك.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث : هي أنّ في صورة كون التكليفين

__________________

(١) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ١٣٥ مبحث الشرط المتأخر

٩٩

المتزاحمين متساويين لا مناص من القول بالتخيير ـ مطلقاً ـ من دون فرق بين أن يكونا عرضيين أو طوليين.

والسر في ذلك ما عرفت من أنّ القول بالتخيير هنا عقلاً يرتكز على القول بالترتب ، وقد ذكرنا أنّه لا فرق فيه بين أن يكون من طرف واحد ، كما إذا كان أحدهما أهم من الآخر ، وأن يكون من طرفين ، كما إذا كانا متساويين ، وقد سبق أنّ معنى الترتب عند التحليل عبارة عن تقييد إطلاق التكليف بأحدهما بترك امتثال التكليف بالآخر ، وعدم الاتيان بمتعلقه خارجاً في فرض كون أحدهما أهم من الآخر ، وتقييد اطلاق التكليف بكل منهما بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه في فرض كونهما متساويين.

ومن المعلوم أنّ هذا التقييد والاشتراط ليس ناشئاً فعلاً بحكم الشرع أو العقل ، بل هو نتيجة اشتراط التكاليف من الأوّل بالقدرة ، ومن هنا قلنا إنّ هذا التخيير ليس معناه تبديل الوجوب التعييني بالتخييري ، بل كل منهما باقٍ على وجوبه التعييني ، غاية الأمر نرفع اليد عن إطلاق وجوب كل منهما بتقييده بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، بل معناه اختيار المكلف في إعمال قدرته في امتثال هذا أو ذاك ، باعتبار أنّ القدرة الواحدة لا تفي بامتثال كليهما معاً ، ولا يفرق في ذلك بين كونهما عرضيين أو طوليين ، غاية الأمر على الثاني لا بدّ من الالتزام بجواز الشرط المتأخر ، حيث إنّ شرطية عدم الاتيان بالواجب المتأخر في ظرفه لفعلية وجوب المتقدم لا تعقل إلاّعلى هذا القول ، ولكن قد تقدّم أنّ الصحيح هو جوازه ، وأ نّه لا مانع منه أصلاً ، بل لا مناص من الالتزام به في بعض الموارد ، كما مرّ بشكل واضح ، وعليه فلا فرق بين كونهما عرضيين أو طوليين ، فعلى كلا التقديرين لا بدّ من الالتزام بالترتب ، وبثبوت كلا التكليفين على شكل اشتراط ثبوت كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر في ظرفه.

١٠٠