محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

في مورد الكلام تقييديتان ، فلا بدّ من الالتزام بجواز الاجتماع بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى اللاّزم. ثمّ قال قدس‌سره والعجب منه أنّه لم يتعرض لهذه الجهة في كلامه في المقام أصلاً لا نفياً ولا إثباتاً.

ونتيجة ما أفاده قدس‌سره لحدّ الآن : هي أنّه لا بدّ من القول بالجواز في المسألة ، فانّ لازم كون جهة الصدق في صدق كل من المأمور به والمنهي عنه في مورد الاجتماع تقييدية هو تعدد المجمع وجوداً وماهية ، ومعه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي ، ولا يلزم منه اجتماع الضدّين أصلاً ، وقد برهن على كون الجهة فيهما تقييدية بأنّ ماهية واحدة لا تختلف باختلاف وجوداتها وافرادها في الخارج ، فانّ صدقها على جميعها بملاك واحد ، من دون فرق بين الفرد الموجود في مورد الاجتماع والفرد الموجود في مورد الافتراق ، كما عرفت.

عدّة نقاط فيما أفاده قدس‌سره :

الاولى : أنّ جهة الصدق في صدق العناوين الاشتقاقية جهة تعليلية ، ولأجل ذلك لا مانع من انطباق عنوانين منها على معنون واحد وجوداً وماهيةً ، فلا يقتضي تعددها تعدده أصلاً. نعم ، تعددها مقتضٍ لتعدد الأعراض القائمة به ، لفرض أنّ كلاً من هذه العناوين منتزع من قيام عرض من تلك الأعراض به.

الثانية : أنّ جهة الصدق في صدق المبادئ جهة تقييدية ، ضرورة استحالة صدق مبدأ على مبدأ آخر واتحادهما في الخارج ، وعليه فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضمامياً ، لفرض أنّ تعددهما يقتضي تعدد المجمع في الخارج ، ومعه لا يمكن فرض اتحادهما فيه أبداً.

الثالثة : أنّ محل الكلام في هذه المسألة في الجواز والامتناع إنّما هو فيما إذا

٤٦١

كان متعلق الأمر والنهي من المبادئ وكانت النسبة بينهما عموماً من وجه ، لا من المفاهيم الاشتقاقية ، لفرض أنّ المجمع لعنوانين منها في مورد الاجتماع واحد من ناحية أنّ جهة الصدق فيهما تعليلية ، وإذا كان المجمع واحداً وجوداً وماهيةً ، فلا يمكن القول بالجواز فيه حتّى من القائل به ، فانّه إنّما يقول به بدعوى أنّ المجمع متعدد وجوداً وماهيةً لا مطلقاً ، كما هو واضح.

الرابعة : أنّ محل النزاع في مبادئ المشتقات إنّما يكون فيما إذا كانت تلك المبادئ من سنخ الأفعال الاختيارية ، لا فيما إذا كانت من سنخ الصفات الجسمانية أو النفسانية ، لفرض أنّ محلّ الكلام في اجتماع متعلقي الأمر والنهي في مورد واحد ، ومن المعلوم أنّهما لا يمكن أن يتعلقا إلاّبالأفعال الاختيارية.

الخامسة : أنّ ماهيات المبادئ المأخوذة بشرط لا لاتختلف باختلاف الموارد ، ففي مورد الاجتماع والافتراق ماهية واحدة ، كما عرفت. وهذا بخلاف ماهية معروضها ، فانّها تختلف في الخارج بمعنى أنّ وحدة ماهية العرض نوعاً لاتستلزم وحدة ماهية المعروض كذلك ، كما أنّ تعددها لايستلزم تعددها ، ومن هنا يكون التركيب بين العرضين في مورد الاجتماع انضمامياً نظير التركيب بين الهيولى والصورة ، وإن كان التركيب بين العنوانين الاشتقاقيين اتحادياً.

السادسة : أنّ ملاك التساوي بين المفهومين هو أنّ صدق كل منهما على أفراده بمناط واحد وجهة فاردة ، وملاك العموم من وجه بينهما هو أنّ صدق كل منهما على أفراده بمناطين وجهتين لا معاندة بينهما ، وإلاّ فهما ملاك التباين كما لا يخفى ، وملاك العموم المطلق هو أنّ كل ما يصدق عليه أحدهما يكون داخلاً تحت المفهوم الآخر ، ومن ذلك يتبين أنّه لا يمكن أن تكون النسبة بين جوهرين عموماً من وجه ، لتباينهما في الخارج وعدم إمكان صدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر.

٤٦٢

السابعة : أنّ الجهة التقييدية في المقام على عكس الجهة التقييدية في باب المطلق والمقيد ، حيث إنّها في المقام توجب توسعة المجمع ودخوله تحت الماهيتين ، وهناك توجب تضييق المطلق واختصاص الحكم بحصة خاصة منه دون اخرى كما هو واضح.

الثامنة : أنّه لا يمكن أن يكون التركيب بين الصلاة والغصب اتحادياً ، ضرورة أنّ الصلاة من مقولة والغصب من مقولة اخرى وهي مقولة الأين ، ومن المعلوم أنّ المقولات متباينات بالذات ، فلا يمكن اتحاد اثنتين منها في الوجود ، وعلى هذا فيستحيل صدق كليهما على حركة واحدة في مورد الاجتماع ، وإلاّ لزم تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد وهو محال ، مضافاً إلى ما ذكرناه من أنّ الحركة في كل مقولة من المقولات عين تلك المقولة خارجاً ، وليست جنساً لها ، لفرض أنّ الأعراض بسائط خارجية وأنّ ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.

ولنأخذ بالمناقشة في بعض هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي في غاية الصحة والمتانة ، وذلك ضرورة أنّ جهة الصدق في صدق العناوين الاشتقاقية على ذواتها لا محالة جهة تعليلية ، بداهة أنّه لا يمكن تعقل النسبة بالعموم من وجه بين عنوانين منها إلاّ إذا كانت الذات في مورد الاجتماع واحدة ، وإلاّ فليست النسبة بينهما كذلك كما هو واضح.

أمّا النقطة الثانية : فيرد عليها أنّ نظريته قدس‌سره في تلك النقطة إنّما تتمّ في الماهيات المتأصلة والمقولات الحقيقية ، فانّ المبادئ إذا كانت من تلك المقولات يستحيل اتحاد اثنين منها في الخارج وصدق أحدهما على الآخر ، ضرورة استحالة اتحاد مقولتين خارجاً وصدق إحداهما على الاخرى ، من دون فرق في ذلك بين أن تكونا عرضين أو جوهرين أو إحداهما جوهراً والاخرى

٤٦٣

عرضاً ، والسر فيه : ما عرفت غير مرّة من أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات والحقيقة ، وليس فوقها جنس آخر لتكون تلك المقولات داخلة فيه.

وعلى هذا الضوء فكما أنّه لا يمكن صدق مقولة الجوهر على مقولة العرض ، فكذلك لا يمكن صدق كل من أقسامهما على الآخر بعين هذا الملاك ، فلا تصدق النفس على العقل ، والصورة على المادة ، والكم على الكيف ، والأين على الوضع ... وهكذا.

ومن هذا البيان قد تبين حال المبادئ المتأصلة كالبياض والعلم والشجاعة والحلاوة والكرم وما شاكل ذلك ، فانّ هذه المبادئ وأمثالها بما أنّها مبادئ متأصلة وماهيات حقيقية مقولية فلا محالة تعددها يستلزم تعدد المعنون والمطابق في الخارج ، لما عرفت الآن من استحالة اتحاد ماهية متأصلة مع ماهية متأصلة اخرى خارجاً ، فلايمكن اتحاد الحلاوة مع البياض والعلم مع الشجاعة ... وهكذا ، وعليه فالتركيب الحقيقي بين اثنين منها غير معقول ، لاستلزام ذلك اندراج مقولتين متباينتين تحت مقولة واحدة وهو محال.

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ التركيب بين متعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع تركيب انضمامي لا غيره ، إنّما يتم فيما إذا كان متعلقاهما من المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية ، حيث قد عرفت أنّ التركيب الحقيقي بين تلك المبادئ غير معقول.

وإن شئت فقل : إنّ تعدد العنوان في مورد الاجتماع إنّما يقتضي تعدد المعنون فيه بحسب الخارج إذا كان من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية ، ضرورة أنّه على هذا لا بدّ من الالتزام بتعدده وكون التركيب انضمامياً ، وأمّا إذا لم يكن من هذه العناوين أو كان أحد العنوانين منها دون الآخر ، ففي مثل ذلك

٤٦٤

لايستدعي تعدد العنوان تعدد المعنون والمطابق في الخارج أصلاً ، بل لابدّ عندئذ من ملاحظة أنّ المطابق لهما في مورد الاجتماع والتصادق واحد أو متعدد ، فإن كان واحداً فلا مناص من القول بالامتناع ، وإن كان متعدداً فلا مناص من القول بالجواز ، بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى اللاّزم.

وعلى الجملة : فالعنوانان في مورد الاجتماع إذا كانا متأصلين فلا محالة يقتضيان تعدد المجمع فيه وجوداً أو ماهيةً ، فإذن يتعين القول بالجواز. وأمّا إذا كانا انتزاعيين أو كان أحدهما انتزاعياً والآخر متأصلاً فلا يقتضيان تعدد المجمع أبداً ، بل لا بدّ وقتئذ من تحقيق نقطة واحدة ، وهي ملاحظة أنّ منشأ انتزاعهما على الفرض الأوّل ـ وهو ما إذا كان كلا العنوانين انتزاعياً ـ هل هو واحد في الخارج وجوداً وماهيةً أو متعدد فيه كذلك ، ومنشأ انتزاع العنوان الانتزاعي على الفرض الثاني ـ وهو ما إذا كان أحدهما انتزاعياً ـ هل هو متحد مع العنوان الذاتي خارجاً ، بأن يكونا موجودين بوجود واحد ، أو غير متحد معه بأن يكون منشأ انتزاعه مبايناً للعنوان الذاتي وجوداً وماهيةً ، فعلى الأوّل بما أنّ المطابق لهما واحد في مورد الاجتماع والتصادق فلا بدّ من القول بالاستحالة والامتناع في المقام ، وعلى الثاني بما أنّه متعدد فيه فلا مانع من القول بالجواز أصلاً.

وبكلمة واضحة : أنّ العنوانين المتصادقين في مورد لا يخلوان من أن يكونا من العناوين الذاتية والمقولات الحقيقية ، وأن يكون أحدهما من العناوين الذاتية والآخر من العناوين الانتزاعية ، وأن يكون كلاهما من العناوين الانتزاعية ولا رابع في البين ، فالنتيجة أنّ الصور في المقام ثلاثة :

الاولى : وهي ما إذا كان كلاهما من العناوين المتأصلة ، قد تقدّم آنفاً أنّ

٤٦٥

تعدد العنوان المقولي في موردٍ لا محالة يوجب تعدد المعنون والمطابق فيه ، بداهة أنّه كما يستحيل اتحاد مقولة مع مقولة اخرى واندراجهما تحت مقولة ثالثة ، كذلك يستحيل اتحاد نوع من مقولة مع نوع آخر من هذه المقولة ، أو فرد من هذه المقولة مع فرد آخر منها ... وهكذا ، وذلك لما برهن في محلّه من أنّه لا بدّ في المركب الحقيقي من أن تكون له جهة وحدة حقيقية ، لوضوح أنّه لولا تلك الجهة لكان التركيب اعتبارياً ، ومن الواضح جداً أنّ جهة الوحدة الحقيقية لاتكون إلاّ إذا كان أحد جزأي المركب بالقوّة والآخر بالفعل ، ليكونا موجودين بوجود واحد ، وأمّا إذا كان كلاهما بنحو الفعلية والتحصل فيستحيل أن تكون بينهما جهة وحدة حقيقية ، ضرورة أنّ كل فعلية تأبى عن فعلية اخرى.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّه لا يمكن اتحاد فردين من مقولة واحدة فضلاً عن مقولتين. أضف إلى ذلك : ما ذكرناه من أنّ المقولات أجناس عاليات فلا يمكن أن يكون فوقها جنس آخر.

الثانية : وهي ما إذا كان أحد العنوانين من العناوين المتأصلة والآخر من العناوين الانتزاعية ، قد تقدّم على صفة الاجمال أنّ تعدد العنوان كذلك لا يقتضي تعدد المعنون والمطابق في الخارج ، بل لا بدّ من ملاحظة أنّ العنوان الانتزاعي هل ينتزع من مرتبة ذات العنوان المتأصل في الخارج أو من شيء آخر مباين له وجوداً ، بمعنى أنّ منشأ انتزاعه مباين للعنوان الذاتي خارجاً.

فعلى الأوّل : لا محالة يكون التركيب بينهما اتحادياً في مورد الاجتماع ، بمعنى أنّ المجمع فيه واحد وجوداً وماهية ، غاية الأمر يكون صدق أحدهما عليه ذاتياً والآخر عرضياً ، ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين :

أحدهما : ما إذا فرض أنّ شرب الماء بما هو مأمور به ، وفي هذا الفرض لو شرب أحدٌ الماء المغصوب فلا محالة ينطبق عليه عنوانان : أحدهما العنوان

٤٦٦

الذاتي وهو الشرب ، والآخر العنوان الانتزاعي وهو الغصب ، لما سيجيء إن شاء الله تعالى من أنّ الغصب ليس من إحدى المقولات التسع العرضية ، بل هو عنوان انتزاعي منتزع من التصرف في مال الغير ، ومن هنا أمكن انطباقه على الماهيات المتعددة المقولية. وفي المقام بما أنّه منتزع من نفس العنوان الذاتي في مورد الاجتماع وهو شرب هذا الماء ، لا من شيء آخر مباين له وجوداً ، فلا محالة يتحد معه خارجاً ، ويكون المطابق لهما واحداً وجوداً وماهية. وعليه فلا مناص من القول بالامتناع ، بداهة استحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.

فما أفاده قدس‌سره من استحالة اتحاد المبادئ بعضها مع بعضها الآخر لا يتمّ في هذا المثال وما شاكله. نعم ، إنّما يتمّ في المبادئ المتأصلة كما سبق.

وثانيهما : التوضؤ بماء الغير بدون إذنه ، فانّه مجمع للعنوان الذاتي والانتزاعي معاً ، أمّا العنوان الذاتي فهو عبارة عن نفس التوضؤ الذي له واقع موضوعي في الخارج وينطبق عليه انطباق الطبيعي على أفراده والكلّي على مصاديقه ، وأمّا العنوان الانتزاعي فهو عبارة عن الغصب الذي لا واقع له ما عدا منشأ انتزاعه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه منتزع من نفس هذا العنوان الذاتي في الخارج وهو التوضؤ بهذا الماء.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ العنوانين في المقام منطبقان على شيء واحد وجوداً وماهيةً ، وعليه فلا مناص من القول بالامتناع. وعلى الجملة : فالنسبة بين هذين العنوانين وإن كانت بالعموم من وجه ، وأنّ لكل منهما ماهية مستقلة في مورد الافتراق ، إلاّ أنّهما متحدان في مورد الاجتماع باعتبار أنّ منشأ انتزاع العنوان الانتزاعي هو نفس العنوان الذاتي في الخارج ، ولا واقع له ما عداه ، والأصل في جميع ذلك هو ما أشرنا إليه من أنّ المبدأ إذا كان من العناوين

٤٦٧

الانتزاعية التي لا واقع موضوعي لها ما عدا منشأ انتزاعها أمكن انطباقه على المقولات المتعددة ، لفرض أنّه تابع لمنشأ انتزاعه ، فإن كان منشأ انتزاعه من مقولة الأين فينطبق عليه ، وإن كان من مقولة اخرى فكذلك ... وهكذا ، كما هو الحال في الغصب ، فانّه قد ينطبق على مقولة الأين وهي الكون في الأرض المغصوبة ، وقد ينطبق على مقولة اخرى غيرها كلبس مال الغير أو أكله أو شربه مع أنّه لايلزم من ذلك اتحاد المقولتين أو تفصّل الجنس الواحد بفصلين في عرض واحد أصلاً ، لاختصاص ذلك بما إذا كان المبدءان كلاهما من المبادئ المتأصلة المقولية ، لا فيما إذا كان أحدهما متأصلاً والآخر منتزعاً.

فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه : أنّه لايمكن في مثل هذين المثالين أن يكون العنوان الانتزاعي متعلقاً للنهي مثلاً والعنوان الذاتي الذي هو منشأ انتزاعه متعلقاً للأمر.

وعلى الثاني : وهو ما كان منشأ انتزاع العنوان العرضي مغايراً للعنوان الذاتي في الوجود ، فالتركيب عندئذ في مورد الاجتماع لا محالة يكون انضمامياً ، لفرض عدم اتحاد ما تعلق به الأمر مع ما تعلق به النهي ، ويكون مصداق أحدهما في الخارج غير مصداق الآخر وجوداً وماهيةً ، غاية الأمر أنّهما متلازمان في الوجود في مورد الاجتماع ، وقد تقدّم غير مرّة أنّ الصحيح هو عدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر. وعليه فلا مناص من القول بالجواز ، ومثاله التكلم في الدار المغصوبة إذا فرض أنّه مأمور به ، فانّ التكلم وإن كان عنواناً متاصلاً لفرض أنّه من مقولة الكيف المسموع ، إلاّ أنّه ليس منشأ لانتزاع عنوان الغصب خارجاً ، ضرورة أنّه ليس تصرفاً في الدار ليكون مصداقاً له ومنشأ لانتزاعه ، بل المنشأ له إنّما هو الكون فيها الذي هو من مقولة الأين ، ومن الواضح أنّه مغاير للتكلم بحسب الوجود الخارجي ، لفرض أنّه من مقولة

٤٦٨

والتكلم من مقولة اخرى ، والمفروض استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت حقيقة واحدة. وعلى هذا فلا مانع من أن يكون العنوان الذاتي متعلقاً للأمر والعنوان الانتزاعي متعلقاً للنهي أصلاً ، لفرض أنّ منشأ العنوان الانتزاعي مغاير مع العنوان الذاتي في الخارج وجوداً وماهيةً ، ومعه لا يلزم من اجتماعهما في مورد كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.

ومن هذا القبيل الأكل في الأرض المغصوبة ، فانّه ليس تصرفاً فيها بنظر العرف ليكون منشأ لانتزاع عنوان الغصب ، بل الغصب منتزع من أمر آخر مغاير له وجوداً وهو الكون فيها ، فلا يلزم من فرض تعلق الأمر بالأكل اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.

الثالثة : وهي ما إذا كان كلا العنوانين من الماهيات الانتزاعية ، أيضاً لا بدّ من ملاحظة أنّ العنوانين المتصادقين في مورد الاجتماع هل ينتزعان من موجود واحد في الخارج ، بمعنى أنّ ذلك الموجود الواحد باعتبارٍ منشأ لانتزاع أحدهما ، وباعتبار آخر منشأ لانتزاع الآخر ، أو ينتزع كل منهما من موجود مباين لما ينتزع منه الآخر ، فعلى الأوّل لا محالة يكون التركيب بينهما اتحادياً ، لفرض أنّ منشأ انتزاعهما واحد في الخارج وجوداً وماهيةً من ناحية ، وعدم تعلق الحكم بالعنوان الانتزاعي بما هو من ناحية اخرى ، وعليه فلا مناص من القول بالامتناع ، ضرورة استحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً ومحبوباً ومبغوضاً. وعلى الثاني فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضمامياً ، وذلك لاستحالة التركيب الحقيقي بين الموجودين المتباينين ، سواء أكانا من مقولة واحدة أم من مقولتين.

وبتعبير آخر : أنّ العنوانين إذا كان كلاهما انتزاعياً فلا يخلوان من أن يكونا منتزعين من شيء واحد في الخارج باعتبارين مختلفين ، أو أن يكون كل منهما

٤٦٩

منتزعاً من شيء.

أمّا الصورة الاولى : فلا بدّ من الالتزام باستحالة الاجتماع فيه ، وذلك لأنّ متعلق الأمر والنهي في الحقيقة إنّما هو منشأ انتزاعهما ، والمفروض أنّه واحد وجوداً وماهيةً ، لا العنوانان المتصادقان عليه لفرض أنّ العنوان الانتزاعي لا يخرج عن افق النفس إلى ما في الخارج ليكون صالحاً لأن يتعلق به الأمر أو النهي.

ولتوضيح ذلك : نأخذ مثالاً وهو الافطار في نهار شهر رمضان بمال الغير ، فانّه مجمع لعنوانين أعني عنواني الغصب والافطار ومصداق لهما معاً ، ضرورة أنّ هذا الفعل الواحد وجوداً وماهيةً وهو الأكل كما يكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب باعتبار تعلقه بمال الغير بدون إذنه ، كذلك يكون منشأ لانتزاع عنوان الافطار في نهار شهر رمضان باعتبار وقوعه فيه ، فانتزاع كل من هذين العنوانين من ذلك الفعل الواحد معلول لجهة خاصة مغايرة لجهة اخرى ، ومن الواضح جداً أنّ انتزاعهما من شيء واحد وصدقهما عليه بجهتين لا ينافي كون المصداق الخارجي واحداً ذاتاً ووجوداً.

والوجه في ذلك ظاهر ، وهو أنّ النسبة بالعموم من وجه لا يمكن أن تتحقق إلاّ بين عنوانين انتزاعيين هما من قبيل الخارج المحمول ، أو بين عنوان انتزاعي وعنوان مقولي ، بداهة أنّه لا مانع من صدق عنوانين انتزاعيين على موجود واحد في الخارج ، وكذا لا مانع من صدق عنوان عرضي على ما يصدق عليه العنوان الذاتي ، ومن هنا يستحيل تحقق النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين وعرضين وجوهر وعرض ، وذلك لوضوح أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات والحقيقة ، فلا يمكن اتحاد مقولتين منها خارجاً ، وعليه فلا يمكن أن يكون شيء واحد مصداقاً للجوهر والعرض معاً ، ضرورة أنّ ما

٤٧٠

يكون مصداقاً للجوهر يستحيل أن يكون مصداقاً للعرض وبالعكس ، كما أنّ ما يكون مصداقاً للكم مثلاً يستحيل أن يكون مصداقاً للكيف ... وهكذا.

بل الأمر كذلك بالاضافة إلى أنواع هذه المقولات وأفرادها ، فلا يمكن اتحاد نوع من مقولة مع نوع آخر من هذه المقولة ، فانّ الأنواع وإن كانت مشتركة في الجنس ، إلاّ أنّها متباينات من ناحية الفصل ، لفرض أنّ نوعية الأنواع بواسطة الفصل ، فلو فرض اتحاد نوع مع نوع آخر للزم تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد وهو محال ، بداهة أنّ فعلية الشيء بفصله فانّه المقوّم والمحصّل له ، أو أنّه منتزع من حدّه الحقيقي ، ومن المعلوم أنّه لا يعقل أن يكون لشيء واحد وجودان ومحصّلان في الخارج ، أو حدّان ، كما هو واضح. وكذا لا يمكن اتحاد فرد من مقولة مع فرد آخر منها ، لما تقدّم من استحالة التركيب الحقيقي بين أمرين فعليين في الخارج ، لأنّ كل فعلية تأبى عن فعلية اخرى ، وبما أنّهما فعليان وموجودان فيه فلا يعقل التركيب الحقيقي بينهما.

وقد تحصّل من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ النسبة بالعموم من وجه لا تعقل بين جوهرين وعرضين وجوهر وعرض.

الثاني : أنّ النسبة بالعموم من وجه إنّما تعقل بين عنوانين عرضيين وعنوان عرضي وعنوان ذاتي مقولي ، وعليه فلا مانع من انطباق عنوان الغصب والافطار على شيء واحد في مورد الاجتماع ، فعندئذ لو تعلق الأمر بأحدهما كالافطار مثلاً والنهي بالآخر كالغصب ، فلا محالة تقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع ، لاستحالة أن يكون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذاكان منشأ انتزاع كل منهما مغايراً لمنشأ

٤٧١

انتزاع الآخر ، فلا مانع من القول بالجواز لفرض أنّ التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضمامي ، فيكون مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه ، ومعه لا مناص من القول به بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من متعلقه إلى مقارناته الوجودية.

ومثال ذلك : الافطار في المكان المغصوب بمال مباح أو مملوك له ، فانّ عنوان الافطار هنا منتزع من شيء وعنوان الغصب من شيء آخر مباين له ، حيث إنّ الأوّل منتزع من الأكل الموجود في الخارج ، والمفروض أنّه ليس تصرّفاً في مال الغير ليكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب ومصداقاً له ، والثاني منتزع من الكون في هذا المكان ، فانّه مصداق للتصرف في مال الغير ومنشأً لانتزاعه ، وعليه فلا يلزم من اجتماع هذين العنوانين في مورد كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً ، لفرض أنّ المأمور به غير المنهي عنه بحسب الوجود الخارجي ، فلا يعقل كون التركيب بينهما اتحادياً ، غاية الأمر أنّ وجوده في هذا المورد ملازم لوجود المنهي عنه ، وقد عرفت غير مرّة أنّ الحكم لا يسري من الملازم إلى الملازم الآخر ، وعليه فلا مانع من القول بالجواز في مثل هذا المثال أصلاً.

نعم ، عنوان الغاصب والمفطر منطبقان على شخص واحد في مورد الاجتماع ، إلاّ أنّهما أجنبيان عن محل الكلام رأساً ، فمحل الكلام في عنواني الغصب والافطار والمفروض أنّهما لا ينطبقان على شيء واحد هنا كما عرفت.

إلى هنا قد تبين أنّه ليس لنا ضابط كلّي للقول بالامتناع ولا للقول بالجواز في المسألة أصلاً ، بل لا بدّ من ملاحظة العنوانين المتعلقين للأمر والنهي في مورد الاجتماع ، فإن كانا من المبادئ المتأصلة والمقولات الحقيقية فقد عرفت أنّ تعدد تلك المبادئ يستلزم تعدد المعنون والمطابق في الخارج لا محالة ، ضرورة

٤٧٢

استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة اخرى أو تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد.

وأمّا إذا كان أحدهما عنواناً انتزاعياً والآخر مقولياً فلا بدّ من النظر في أنّ العنوان الانتزاعي هل ينتزع من مطابق العنوان الذاتي أو من شيء آخر مباين له ، وليس لذلك ضابط كلّي ، فإن كان منتزعاً من مطابق العنوان الذاتي فلا محالة يكون المجمع في مورد الاجتماع واحداً ، ومعه لا مناص من القول بالامتناع ، وإن كان منتزعاً من شيء آخر كان المجمع متعدداً ، ومعه لا مناص من القول بالجواز. وأمّا إذا كان كلاهما معاً انتزاعياً فأيضاً لا بدّ من النظر إلى أنّهما منتزعان من شيء واحد في الخارج وجوداً وماهيةً أو من شيئين كذلك ، فعلى الأوّل لا بدّ من القول بالامتناع ، وعلى الثاني من القول بالجواز.

ومن ضوء هذا البيان يظهر ما في نظرية كل من شيخنا الاستاذ والمحقق صاحب الكفاية قدس‌سرهما حيث ذهب الأوّل إلى القول بالجواز مطلقاً ، والثاني إلى القول بالامتناع كذلك.

أمّا نظرية المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره فلما سبق آنفاً (١) من أنّ العنوانين إذا كانا من المبادئ المتأصلة والمقولات الواقعية يستحيل اتحادهما في الخارج وانطباقهما على موجود واحد ، فلا محالة تعدد مثل هذا العنوان يستلزم تعدد المعنون ، وأمّا إذا كان أحدهما انتزاعياً والآخر مقولياً أو كان كلاهما انتزاعياً فيختلف الحال باختلاف الموارد والمقامات ، ففي بعض الموارد والمقامات يكون المعنون لهما واحداً ، وفي بعضها الآخر يكون متعدداً ، فلا ضابط لذلك أصلاً ، فتعدد العنوان في هذه الموارد لا يقتضي تعدد المعنون ولا يقتضي وحدته ،

__________________

(١) في ص ٤٦٣ وما بعدها

٤٧٣

فيمكن أن يكون واحداً ، ويمكن أن يكون متعدداً.

فما أفاده قدس‌سره من أنّ تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ولا ينثلم به وحدته ، لا كلّية لهذه الكبرى أبداً ، كما تقدّم بشكل واضح.

نعم ، إنّ لتلك الكبرى كلّية في العناوين الاشتقاقية خاصة ، فانّ تعدد تلك العناوين لا يستلزم تعدد المعنون أصلاً ، والسر فيه ما عرفت من أنّ صدق كل منها على معروضه معلول لعلّة قائمة بمعروضه وخارجة عن ذاته ، مثلاً صدق العالم على شخصٍ معلول لقيام العلم به ، ومن الواضح جداً أنّ العلم خارج عن ذات هذا الشخص ومباين له وجوداً ، فانّ وجوده وجود جوهري ووجود العلم وجود عرضي ، ومن الضروري استحالة اتحاد الجوهر مع العرض خارجاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ تعدد العرض لا يستلزم تعدد معروضه ، بداهة أنّ قيام أعراض متعددة كالعلم والشجاعة والسخاوة وما شاكل ذلك بذات واحدة ومعروض فارد من الواضحات الأوّلية ، فلا حاجة إلى إقامة برهان وزيادة بيان.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ تعدد العناوين الاشتقاقية والمفاهيم الانتزاعية واجتماعها في موردٍ لايوجب تعدد المعنون فيه ، بل لا بدّ أن يكون المعنون واحداً وجوداً وماهية في مورد اجتماعهما ، وإلاّ فلا تعقل النسبة بالعموم من وجه بينهما كما هو واضح ، ضرورة أنّ المعنون لو لم يكن واحداً فيه وكان متعدداً وجوداً وماهية لكانت النسبة بينهما التباين ، بمعنى أنّ كل عنوان منها مباين لعنوان آخر منها في الصدق ، فلا يجتمعان في مورد واحد.

وأمّا نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره فقد ذكرنا أنّها إنّما تتم في ناحية خاصة ، وهي ما إذا كان العنوانان المتصادقان في مورد الاجتماع من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية ، وأمّا إذا كان أحدهما انتزاعياً والآخر مقولياً ، أو

٤٧٤

كان كلاهما انتزاعياً ، فلا تتم أصلاً كما تقدّم.

فما جعله قدس‌سره من الضابط لكون التركيب بين متعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع انضمامياً لا اتحادياً ـ وهو ما كان العنوانان المنطبقان عليه من المبادئ الاختيارية وبينهما عموم من وجه ـ لا واقع موضوعي له أصلاً ، لما تقدّم من أنّ في كثير من الموارد يكون متعلقا الأمر والنهي من المبادئ الاختيارية ، وبينهما عموم من وجه ، ومع ذلك يكون مطابقهما في الخارج واحداً ، وقد ذكرنا لذلك عدّة أمثلة ، منها : التوضؤ بالماء المغصوب ، فانّه مجمع لمبدأين اختياريين بينهما عموم من وجه ، أعني بهما التوضؤ والغصب ، ومع ذلك فهما ينطبقان على موجود واحد في الخارج. ومنها : شرب الماء المغصوب فيما إذا كان الشرب في نفسه مأموراً به ، فانّه مجمع لمبدأين : أحدهما الشرب ، والآخر الغصب ، والمفروض أنّهما منطبقان على شيء واحد. ومنها : غير ذلك كما تقدّم.

فما أفاده قدس‌سره من استحالة اتحاد المبادئ بعضها مع بعضها الآخر منقوض بهذه الأمثلة وما شاكلها ، فانّ متعلقي الأمر والنهي فيها مبدءان ، ومع ذلك فهما متحدان في الخارج ومنطبقان على شيء واحد وجوداً وماهيةً.

ومن هنا التجأ قدس‌سره إلى الالتزام بخروج مثل هذه الأمثلة عن محل الكلام ، بدعوى أنّ المعنون في مورد الاجتماع فيها بما أنّه واحد وجوداً وماهيةً فمع فرض كونه منهياً عنه لا يعقل كونه مصداقاً للمأمور به.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ شيئاً واحداً إذا كان منهياً عنه يستحيل أن يكون مأموراً به وإن كان في غاية الصحة ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب خروج مثل هذه الأمثلة عن محل الكلام ، ضرورة أنّه لا فرق بين الصلاة والشرب من هذه الناحية أصلاً ، وكذا بينهما وبين الوضوء ، فكما أنّ الصلاة والغصب داخلان في محل النزاع ، فكذلك الشرب والغصب والتوضؤ والغصب ،

٤٧٥

غاية الأمر أنّ المطابق في المثالين الأخيرين بما أنّه واحد في الخارج وجوداً وماهية ، فلا مناص فيه من القول بالامتناع ، وأمّا في الصلاة والغصب ، فإن كان الأمر أيضاً كذلك فلا مناص من القول به أيضاً ، وإلاّ فلا بدّ من القول بالجواز ، فوحدة المجمع في مورد الاجتماع توجب القول بالامتناع لا الخروج عن محل الكلام كما لا يخفى.

فالنتيجة : هي أنّه لا ضابط لكل من القول بالامتناع والقول بالجواز في المسألة أصلاً ، فما جعله شيخنا الاستاذ والمحقق صاحب الكفاية قدس‌سرهما من الضابط لكل من القولين قد عرفت فساده بشكل واضح وأ نّه لا كلّية له أصلاً ، فإن تعدد العنوان كما لا يقتضي تعدد المعنون كذلك لا يقتضي وحدته ، فإذن لا أثر لتعدد العنوان ، بل لا بدّ من ملاحظة أنّ المجمع في مورد الاجتماع واحد أو متعدد.

ومن هنا قلنا سابقاً إنّ مردّ البحث في المسألة في الحقيقة إلى البحث عن وحدة المجمع في مورد الاجتماع والتصادق وتعدده ، وعليه فالحكم بالامتناع أو الجواز في كل مورد منوط بملاحظة ذلك المورد خاصة ، فإن كان المجمع فيه واحداً يتعين فيه الحكم بالامتناع ، وإن كان متعدداً يتعين فيه الحكم بالجواز.

وأمّا النقطة الثالثة : فالأمر كما أفاده قدس‌سره ، وذلك ضرورة أنّ العناوين الاشتقاقية خارجة عن محل الكلام في المسألة ، لما تقدّم من أنّ جهة الصدق فيها على معروضاتها جهة تعليلية ، بمعنى أنّ الموجب لصدق تلك العناوين عليها أمر خارج عنها ومباين لها وجوداً ، وهذا بخلاف جهة الصدق في صدق المبادئ فإنّها تقييدية ، يعني أنّ صدقها على الموجود في الخارج صدق الطبيعي على فرده والكلّي على مصداقه ، كصدق البياض على البياض الموجود في الخارج والسواد على السواد الموجود فيه ... وهكذا ، وليست جهة الصدق

٤٧٦

فيها أمراً خارجاً عنها ومبايناً لها وجوداً ، وهذا معنى كون الجهة تقييدية.

وأمّا العناوين الاشتقاقية فبما أنّ جهة الصدق فيها تعليلية فلا يمكن توهّم اجتماع الأمر والنهي في مورد اجتماع اثنين من هذه العناوين ، لفرض أنّ الأمر والنهي لم يتعلقا بالجهتين التعليليتين ، بل تعلقا بنفس المعروض لهما ، والمفروض أنّه واحد وجوداً وماهيةً ، ومن المعلوم استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد حتّى على مذهب من يرى جواز التكليف بالمحال كالأشعري فضلاً عن غيره ، لفرض أنّ نفس هذا التكليف محال ، وقد ذكرنا سابقاً أنّ القائل بالجواز إنّما يقول به بدعوى أنّ المجمع متعدد وجوداً وماهيةً ، وأنّ ما ينطبق عليه المأمور به غير المنهي عنه خارجاً ، وأمّا إذا كان المجمع واحداً كذلك فلا يقول أحد بجواز الاجتماع فيه حتّى القائل بالجواز في المسألة ، وبما أنّ المعروض للعنوانين الاشتقاقيين في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهيةً ، فلا محالة يخرج عن محل البحث في هذه المسألة ، ضرورة أنّه لم يقل أحد بجواز الاجتماع فيه حتّى القائلين بالجواز ، بل يدخل في باب المعارضة ، وتقع المعارضة بين إطلاق دليل الأمر وإطلاق دليل النهي ، فلابدّ عندئذ من رفع اليد عن إطلاق أحدهما لمرجح إن كان ، وإلاّ فيسقطان معاً.

ومن هنا لم نر أحداً من الفقهاء ـ فيما نعلم ـ ذهب إلى دخول ذلك في محل البحث في هذه المسألة ، بأن يبني على جواز اجتماع الأمر والنهي فيه على القول بالجواز فيها ، والوجه فيه ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ القائل بالجواز يدعي تعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيةً ، ومع وحدته لا يقول بالجواز أصلاً ، ولذا قلنا سابقاً إنّ مردّ البحث في هذه المسألة إلى البحث عن وحدة المجمع في الواقع والحقيقة وتعدده كذلك.

وعلى الجملة : فلا إشكال في خروج العناوين الاشتقاقية عن محل البحث

٤٧٧

والكلام ، فانّ جهة الصدق فيها حيث إنّها تعليلية فلا محالة يكون المجمع واحداً في مورد الاجتماع ، ومن المعلوم استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد ، سواء فيه القول بالجواز أو الامتناع في مسألتنا هذه ، مثلاً إذا ورد الأمر باكرام العلماء وورد النهي عن إكرام الفسّاق ، وفرضنا انطباق هذين العنوانين على شخص واحد كزيد مثلاً ، فانّه من جهة كونه عالماً يجب إكرامه ، ومن جهة كونه فاسقاً يحرم إكرامه ، ومن الظاهر أنّه لا يمكن أن يكون إكرامه واجباً وحراماً معاً ولا يلتزم به أحد حتّى القائل بالجواز في تلك المسألة ، أي مسألة الاجتماع ، بل لا بدّ من رفع اليد عن أحدهما لمرجّح من مرجّحات باب التعارض ، ومثل هذه المعارضة كثير في أبواب الفقه ، ولم يتوهّم أحد دخوله في هذه المسألة ليبني على الجواز فيه ، بناءً على القول بالجواز فيها ، ولذا يعامل معه معاملة التعارض ، سواء أكان من القائلين بالجواز فيها أم الامتناع ، وهذا واضح.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في الأمر الثالث من أنّ الظاهر لحوق تعدد الاضافات بتعدد العناوين ، فلو كان تعدد العنوان كافياً مع وحدة المعنون في القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، لكان تعدد الاضافات أيضاً كافياً في ذلك ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، وعليه فيكون أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق من باب الاجتماع لا من باب التعارض ، وجه الظهور : ما عرفت من أنّ تعدد الاضافات والجهات التعليلية لا يكفي في القول بالجواز مع كون المجمع واحداً ، فانّ القائل بالجواز يدّعي تعدده وجوداً وماهيةً وأنّ ما ينطبق عليه المأمور به غير المنهي عنه في الخارج ، وأمّا إذا كان واحداً فلا يقول بالجواز. فإذن مثل هذا المثال خارج عن مسألة الاجتماع

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٩

٤٧٨

بالكليّة ، ولا يقول فيه بالجواز أحد فيما نعلم.

وأمّا النقطة الرابعة : وهي ما كانت المبادئ من الأفعال الاختيارية دون الصفات الجسمانية والنفسانية ، فهي من الواضحات ، ضرورة أنّ الأمر والنهي لم يتعلقا بالصفات الخارجة عن القدرة ، سواء أكانت جسمانية أو نفسانية ، وهذا ليس لخصوصية في المقام ، بل من ناحية حكم العقل بكون متعلق التكليف لا بدّ أن يكون مقدوراً للمكلف في ظرف الامتثال ، وحيث إنّ تلك الصفات خارجة عن قدرته واختياره فلا محالة لا يتعلق التكليف بها ، فهذا ليس شرطاً زائداً على أصل اشتراط التكليف بالقدرة.

وأمّا النقطة الخامسة : وهي أنّ ماهية المبادي بما أنّها ماهية واحدة فهي محفوظة أينما تحققت وسرت ، فهي إنّما تتمّ في المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية الحقيقية ، ضرورة أنّها لا تختلف باختلاف وجوداتها في الخارج وتنطبق على تلك الوجودات جميعاً بملاك واحد ، ومحفوظة بتمام ذاتها وذاتياتها في ضمن كل واحد منها ، لفرض أنّ الطبيعي عين فرده في الخارج ، كما سنشير إلى ذلك في النقطة السادسة بشكل واضح.

وأمّا في المبادئ غير المتأصلة والماهيات الانتزاعية فهي لا تتم ، وذلك لأنّه لا مانع من انتزاع مفهوم واحد من ماهيات مختلفة ومقولات متعددة ، كالغصب مثلاً فانّه قد ينتزع من مقولة الأين ـ وهو الكون في الأرض المغصوبة ـ وقد ينتزع من مقولة اخرى كأكل مال الغير أو لبسه أو نحو ذلك ، ومن المعلوم أنّ منشأ انتزاعه على الأوّل غير منشأ انتزاعه على الثاني ، ضرورة أنّه على الأوّل من مقولة ، وعلى الثاني من مقولة اخرى ، فإذن لا يلزم أن يكون منشأ انتزاعه ماهية نوعية واحدة محفوظة في تمام موارد تحققه ، لتكون نتيجته استحالة اتحاد

٤٧٩

المجمع في مورد اجتماعهما ، كما هو الحال فيما إذا كانا من المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية.

وعليه فلا بدّ من النظر في أنّ العنوانين منتزعان من ماهية واحدة ، أو من ماهيتين متباينتين ، هذا إذا كان كلاهما انتزاعياً. وأمّا إذا كان أحدهما انتزاعياً دون الآخر فلا بدّ من النظر في أنّ منشأ انتزاعه متحد مع العنوان الذاتي المقولي خارجاً أم لا ، وقد عرفت أنّه لا ضابط لذلك أصلاً ، ولأجل هذا ففي أيّ مورد كان المجمع واحداً نحكم بالامتناع ، وفي أيّ مورد كان متعدداً نحكم بالجواز.

فالنتيجة : أنّ هذه النقطة هي الأساس لما اختاره قدس‌سره في المسألة وهو القول بالجواز.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّ التركيب بين الصورة والمادة انضمامي لا يمكن تصديقه بوجه ، وذلك لما حققناه في بحث المشتق (١) من أنّ التركيب بينهما اتحادي ولأجل ذلك يصح حمل إحداهما على الاخرى ، وحمل المجموع على النوع ، بداهة أنّه لولا اتحادهما في الخارج وكونهما موجودتين بوجود واحد لم يصح حمل إحداهما على الاخرى أبداً ، ولا حمل المجموع على النوع ، لما ذكرناه هناك من أنّ ملاك صحة حمل الشائع الصناعي هو اتحاد المحمول والموضوع في الوجود الخارجي ، ضرورة أنّهما متباينان بحسب المفهوم ، فلو كانا متباينين بحسب الوجود الخارجي أيضاً لما أمكن حمل أحدهما على الآخر أبداً ، لوضوح أنّ المعتبر في صحة الحمل المغايرة بين الموضوع والمحمول من جهة ، لبطلان حمل الشيء على نفسه ، والوحدة من جهة اخرى لعدم جواز حمل المباين على المباين.

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٣٢٧

٤٨٠