محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

هذا وذاك ، ولذا أيّ واحد منهم أتى به وأوجده فقد حصل الغرض وسقط الأمر لا محالة ، كما إذا أمر أحدهم باتيان ماء مثلاً ليشربه ، فانّه من المعلوم أنّ أيّ واحد منهم قام به فقد وفى بغرض المولى.

وأمّا في الشرع فأيضاً كذلك ، ضرورة أنّه لا مانع من أن يأمر الشارع المكلفين بايجاد فعل في الخارج كدفن الميت مثلاً أو كفنه أو ما شاكل ذلك ، من دون أن يتعلق غرضه بصدوره عن خصوص واحد منهم ، بل المطلوب وجوده في الخارج من أيّ واحد منهم كان ، فانّ نسبة ذلك الغرض الواحد إلى كل من المكلفين على السوية ، فعندئذ تخصيص الواحد المعيّن منهم بتحصيل ذلك الغرض خارجاً بلا مخصص ومرجح ، وتخصيص المجموع منهم بتحصيل ذلك مع أنّه بلا مقتضٍ وموجب باطل بالضرورة كما عرفت ، وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي أيضاً بلا مقتضٍ وموجب ، إذ بعد كون الغرض واحداً يحصل بفعل واحد منهم ، فوجوب تحصيله على الجميع لا محالة يكون بلا مقتضٍ وسبب ، فإذن يتعين وجوبه على الواحد لا بعينه المعبّر عنه بصرف الوجود ، ويترتب على ذلك أنّه لو أتى به بعض فقد حصل الغرض لا محالة وسقط الأمر ، لفرض أنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل الوجود ولو أتى به جميعهم ، كما إذا صلّوا على الميت مثلاً دفعةً واحدة كان الجميع مستحقاً للثواب ، لفرض أنّ صرف الوجود في هذا الفرض يتحقق بوجود الجميع دون خصوص وجود هذا أو ذاك ، وأمّا لو تركه الجميع لكان كل منهم مستحقاً للعقاب ، فانّ صرف الوجود يصدق على وجود كل منهم من ناحية ، والمفروض أنّ كلاً منهم قادر على إتيانه من ناحية اخرى.

فالنتيجة : هي أنّ الواجب الكفائي ثابت في اعتبار الشارع على ذمّة واحد من المكلفين لا بعينه ، الصادق على هذا وذاك ، نظير ما ذكرناه في بحث الواجب

٢٤١

التخييري من أنّ الواجب أحدهما لا بعينه المنطبق على هذا الفرد أو ذاك لا خصوص أحدهما المعيّن ، فلا فرق بين الواجب التخييري والواجب الكفائي إلاّ من ناحية أنّ الواحد لا بعينه في الواجب التخييري متعلق الحكم ، وفي الواجب الكفائي موضوعه.

بقي هنا فرع ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) هو أنّه إذا فرضنا شخصين فاقدي الماء فتيمّما ، ثمّ بعد ذلك وجدا ماءً لا يكفي إلاّلوضوء أحدهما ، فهل يبطل تيمم كل منهما أو لا يبطل شيء منهما أو يبطل واحد منهما لا بعينه دون الآخر؟ وجوه.

قد اختار قدس‌سره الوجه الأوّل ، وأفاد في وجه ذلك : أنّ في المقام اموراً ثلاثة : الأوّل : الأمر بالوضوء ، الثاني : الأمر بالحيازة ، الثالث : القدرة على الحيازة. لا إشكال في أنّ وجوب الوضوء مترتب على الحيازة الخارجية وكون الماء في تصرف المكلف ، ليصدق عليه أنّه واجد له فعلاً ، وأمّا وجوب الحيازة على كل منهما فمشروط بعدم سبق الآخر وحيازته ، وإلاّ فلا وجوب ، كما هو واضح ، وعلى هذا فلا يمكن وجوب الوضوء على كل منهما فعلاً ، لفرض أنّ الماء لا يكفي إلاّلوضوء أحدهما ، ولكن بطلان تيممهما لا يترتب على وجوب الوضوء لهما فعلاً ، بل هو مترتب على تمكن المكلف من استعمال الماء وقدرته عليه عقلاً وشرعاً ، والمفروض أنّ القدرة على الحيازة بالاضافة إلى كليهما موجودة فعلاً ، ضرورة أنّ كلاً منهما متمكن فعلاً من حيازة هذا الماء في نفسه مع قطع النظر عن الآخر ، وعدم كفاية الماء إلاّلوضوء واحد إنّما يكون منشأً لوقوع التزاحم بين فعلية حيازة هذا وذاك خارجاً ، لا بين القدرة على الحيازة ، لما عرفت من أنّها فعلية بالاضافة إلى كليهما معاً من دون أيّ تنافٍ في البين.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٧٣

٢٤٢

وعلى الجملة ، فبما أنّ بطلان التيمم في الآية المباركة أو نحوها منوط بوجدان الماء ، وقد ذكرنا أنّ المراد منه القدرة على استعماله عقلاً وشرعاً ، فلا محالة يبطل تيمم كل منهما ، لفرض أنّه واجد للماء ومتمكن من استعماله كذلك ، وهذا لا ينافي وقوع التزاحم بين الخطابين في ناحية الوضوء خارجاً ، وذلك لفرض أنّ تيمم كل مكلف مشروط بعدم الوجدان ، فإذا كان واجداً وقادراً على الاستعمال لا محالة يفسد تيممه ، ولا فرق فيه بين وقوع التزاحم بين الخطابين في ناحية الوضوء وعدم وقوعه أصلاً ، كما هو واضح.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده قدس‌سره وهي أنّ هذين الشخصين لا يخلوان من أن يتسابقا إلى أخذ هذا الماء المفروض وجوده أم لا ، فعلى الأوّل إن كان كل منهما مانعاً عن الآخر ، كما إذا فرض كون قوّة أحدهما مساويةً لقوّة الآخر ، فتقع الممانعة بينهما والمزاحمة إلى أن يضيق الوقت ، فلا يتمكن واحد منهما من الوصول إلى الماء ، فعندئذ لا وجه لبطلان تيممهما أصلاً ولا لبطلان تيمم أحدهما ، لفرض عدم تمكنهما من استعمال الماء ، وإذا كان أحدهما أقوى من الآخر فالباطل هو تيمم الأقوى دون الآخر ، أمّا بطلان تيمم الأقوى ، فلفرض أنّه واجد للماء فعلاً ، وأمّا عدم بطلان تيمم الآخر ، فلكشف ذلك عن عدم قدرته على الوضوء أو الغسل ، وأ نّه باقٍ على ما كان عليه من عدم الوجدان.

وعلى الثاني فيبطل كلا التيممين معاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ كلاً منهما قادر على حيازة هذا الماء واستعماله في الوضوء أو الغسل من دون مانع من الآخر ، لفرض عدم تسابقهما إلى أخذه وحيازته ولو لأجل عدم المبالاة بالدين ، وعليه فيصدق على كل منهما أنّه واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلاً وشرعاً ، ومعه لا محالة يبطل كلا التيممين معاً ، وقد ذكرنا في محلّه أنّ وجوب الوضوء وبطلان التيمم في الآية المباركة مترتبان على وجدان الماء ، فإذا كان المكلف واجداً له

٢٤٣

وجب الوضوء وبطل تيممه وإلاّ فلا ، وهذا واضح ، ولكن العجب من شيخنا الاستاذ قدس‌سره كيف فصّل بين بطلان التيمم ووجوب الوضوء ، مع أنّ وجوب الوضوء لا ينفك عن بطلان التيمم كما هو مقتضى الآية الكريمة ، كما أنّه لا وجه لما ذكره قدس‌سره من بطلان تيمم كليهما معاً ، لما عرفت من أنّه لا بدّ من التفصيل في ذلك.

ونتيجة هذا البحث عدّة نقاط :

الاولى : أنّ الأمر كما أنّه لا يمكن تحققه بدون متعلق ، كذلك لا يمكن تحققه بدون موضوع على جميع المذاهب والآراء.

الثانية : أنّه كما يمكن لحاظ متعلق الحكم تارةً على نحو العموم الاستغراقي واخرى على نحو العموم المجموعي ، وثالثة على نحو صرف الوجود ، يمكن لحاظ الموضوع أيضاً كذلك ، بأن يلحظ تارةً على نحو العموم الاستغراقي ، واخرى على نحو العموم المجموعي ، وثالثة على نحو صرف الوجود.

الثالثة : أنّ الواجب الكفائي ثابت على ذمّة أحد المكلفين لا بعينه الذي عبّر عنه بصرف الوجود ، لا على ذمّة جميع المكلفين ولا على ذمّة مجموعهم ولا على ذمّة الواحد المعيّن كما عرفت.

الرابعة : أنّ فرض تعدد الملاك فرض خارج عن محل الكلام ، مع أنّه لا شاهد عليه أصلاً كما مرّ.

الخامسة : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من بطلان تيمم شخصين كانا فاقدي الماء ، ثمّ وجدا ماءً لا يكفي إلاّلوضوء أحدهما فحسب ، مطلقاً لا وجه له أصلاً كما سبق ، كما أنّه لا أصل لما ذكره قدس‌سره من التفصيل بين بطلان التيمم ووجوب الوضوء.

٢٤٤

الواجب الموسّع والمضيّق

ينقسم الواجب باعتبار تحديده بزمان خاص وعدم تحديده به إلى موقّت وغير موقّت ، وينقسم الموقّت باعتبار زيادة الزمان المحدّد له على الزمان الوافي باتيان الواجب فيه وعدم زيادته عليه إلى موسّع ومضيّق ، والأوّل كالصلوات اليومية فانّ وقتها زائد على زمان فعلها فيتمكن المكلف من الاتيان بها في وقتها مرّات عديدة كما هو واضح ، والثاني كصوم شهر رمضان أو نحوه فانّ الزمان المحدد له مساوٍ لزمان الاتيان به بحيث يقع كل جزء منه في جزء من ذلك الزمان بلا زيادة ونقيصة.

قد يشكل في إمكان الواجب الموسّع تارةً ، وفي المضيّق اخرى.

أمّا في الأوّل : فبدعوى أنّه يستلزم جواز ترك الواجب في أوّل الوقت وهو ينافي وجوبه ، كيف فانّ الواجب ما لا يجوز تركه ، فإذا فرض أنّه واجب في أوّل الوقت كيف يجوز تركه.

وغير خفي ما فيه من المغالطة ، وذلك لأنّ الواجب هو الجامع بين المبدأ والمنتهى المعرى عنه جميع خصوصيات الأفراد من العرضية والطولية ، والواجب على المكلف هو الاتيان بهذا الجامع بين هذين الحدّين لا في كل آنٍ ووقت ليكون تركه أوّل الوقت تركاً للواجب ولو اتي به في آخر الوقت ، بل تركه فيه ترك لفرده وهو ليس بواجب على الفرض ، ولذا لو ترك المكلف الصلاة في أوّل الوقت وأتى بها في آخر الوقت فلا يقال إنّه ترك الواجب ، وقد تقدّم نظير هذا

٢٤٥

الاشكال في الواجب التخييري أيضاً فيما إذا فرض أنّ كل واحد من الفعلين واجب فكيف يجوز تركه مع الاتيان بالآخر ، مع أنّه لا يجوز ترك الواجب ، وقد أجبنا عنه بعين هذا الجواب ، وقلنا بأنّ الواجب هو الجامع بينهما لا خصوص هذا وذاك ، فإذن لو أتى المكلف بأحدهما وترك الآخر فلا يكون تاركاً للواجب.

وعلى الجملة : فلا فرق بين الأفراد العرضية والطولية من هذه الناحية أصلاً ، فكما أنّ الواجب هو الجامع بين الأفراد العرضية ، فكذلك هو الجامع بين الأفراد الطولية ، فكما أنّ المكلف مخيّر في تطبيقه على أيّ فرد من أفراده العرضية ، فكذلك هو مخيّر في تطبيقه على أيّ فرد من أفراده الطولية ، ولا يكون تركه في ضمن فرد والاتيان به ضمن فرد آخر تركاً للواجب ، من دون فرق في ذلك بين الأفراد العرضية والطولية أصلاً ، فإذن لا وجه لهذا الاشكال أبداً.

وأمّا في الثاني : وهو الاشكال في إمكان وجود المضيّق ، فبدعوى أنّ الانبعاث لا بدّ وأن يتأخّر عن البعث ولو آناً ما ، وعليه فلا بدّ من فرض زمان يسع البعث والانبعاث معاً ، أعني الوجوب وفعل الواجب ، ولازم ذلك هو زيادة زمان الوجوب على زمان الواجب ، مثلاً إذا فرض تحقق وجوب الصوم حين الفجر فلا بدّ وأن يتأخر الانبعاث عنه آناً ما وهو خلاف المطلوب ، ضرورة أنّ لازم ذلك هو خلوّ بعض الآنات من الواجب ، وإذا فرض تحقق وجوب الصوم قبل الفجر يلزم تقدّم المشروط على الشرط وهو محال ، وعليه فلا بدّ من الالتزام بعدم اشتراطه بدخول الفجر لئلاّ يلزم تقدّم المعلول على علّته ، ولازم ذلك هو عدم إمكان وجود الواجب المضيّق.

ويرد على ذلك أوّلاً : أنّ الملاك في كون الواجب مضيّقاً هو ما كان الزمان

٢٤٦

المحدد له وقتاً مساوياً لزمان الاتيان بالواجب ، بحيث يقع كل جزء منه في جزء من ذلك الزمان بلا زيادة ونقيصة ، وأمّا كون زمان الوجوب أوسع من زمان الواجب أو مساوياً له فهو أجنبي عمّا هو الملاك في كون الواجب مضيّقاً ، ومن هنا لا شبهة في تصوير الواجب المضيّق والموسّع على القول بالواجب المعلق ، مع أنّ زمان الوجوب فيه أوسع من زمان الواجب ، ولم يتوهّم أحد ولا يتوهّم أنّه لا يتصور المضيّق على هذه النظرية كما هو واضح.

وثانياً : أنّ تأخّر الانبعاث عن البعث ليس بالزمان ليلزم المحذور المزبور ، بل هو بالرتبة كما لايخفى. نعم ، العلم بالحكم وإن كان غالباً متقدماً على حدوثه ، أي حدوث الحكم زماناً ، إلاّ أنّه ليس مما لا بدّ منه ، بداهة أنّ توقف الانبعاث عند تحقق موضوع البعث كالفجر في المثال المزبور مثلاً على العلم به ـ أي بالبعث ـ رتبي ، وليس زمانياً كما هو واضح ، كتقدّم العلم بالموضوع على العلم بالحكم.

[ هل القضاء تابع للأداء ]

ثمّ إنّ مقتضي القاعدة هل هو وجوب الاتيان بالموقّت في خارج الوقت إذا فات في الوقت اختياراً أو لعذر أم لا ، مع قطع النظر عن الدليل الخاص الدال على ذلك كما في الصلاة والصوم؟ هذه هي المسألة المعروفة بين الأصحاب قديماً وحديثاً في أنّ القضاء تابع للأداء أو هو بأمر جديد؟ فيها وجوه بل أقوال :

الأوّل : وجوب الاتيان به مطلقاً. الثاني : عدم وجوبه كذلك. الثالث : التفصيل بين ما إذا كانت القرينة على التقيد متصلة وما إذا كانت منفصلة ، فعلى الأوّل إن كانت القرينة بصورة قضية شرطية فتدل على عدم وجوب إتيانه في خارج الوقت ، بناءً على ما هو المشهور من دلالة القضية الشرطية على المفهوم ، وأمّا

٢٤٧

إذا كانت بصورة قضية وصفية فدلالتها على ذلك تبتنيان على دلالة القضية الوصفية على المفهوم وعدم دلالتها عليه. وعلى الثاني ـ وهو كون القرينة منفصلة ـ فلا تمنع عن إطلاق الدليل الأوّل الدال على وجوبه مطلقاً في الوقت وفي خارجه ، ضرورة أنّ القرينة المنفصلة لا توجب انقلاب ظهور الدليل الأوّل في الاطلاق إلى التقييد ، بل غاية ما في الباب أنّها تدل على كونه مطلوباً في الوقت أيضاً. فإذن النتيجة في المقام هي تعدد المطلوب ، بمعنى كون الفعل مطلوباً في الوقت لأجل دلالة هذه القرينة المنفصلة ، ومطلوباً في خارجه لأجل إطلاق الدليل الأوّل ، وعليه فإذا لم يأت المكلف به في الوقت ، فعليه أن يأتي به في خارج الوقت ، وهذا معنى تبعية القضاء للأداء.

ولنأخذ بالنقد على هذا التفصيل وملخّصه : هو أنّه لا فرق فيما نحن فيه بين القرينة المتصلة والمنفصلة ، بيان ذلك : أنّ القرينة المتصلة كما هي تدل على التقييد وعلى كون مراد المولى هو المقيد بهذا الزمان ، كذلك القرينة المنفصلة فانّها تدل على تقييد إطلاق دليل المأمور به وكون المراد هو المقيد من الأوّل ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً. نعم ، فرق بينهما من ناحية اخرى ، وهي أنّ القرينة المتصلة مانعة عن ظهور الدليل في الاطلاق ، ومعها لاينعقد له ظهور ، والقرينة المنفصلة مانعة عن حجّية ظهوره في الاطلاق دون أصله ، ولكن من المعلوم أنّ مجرد هذا لا يوجب التفاوت بينهما في مفروض الكلام ، ضرورة أنّه لايجوز التمسك بالاطلاق بعد سقوطه عن الحجّية والاعتبار ، سواء أكان سقوطه عنها بسقوط موضوعها وهو الظهور ، كما إذا كانت القرينة متصلة ، أم كان سقوطه عنها فحسب من دون سقوط موضوعها ، كما إذا كانت القرينة منفصلة ، فالجامع بينهما هو أنّه لا يجوز التمسك بهذا الاطلاق.

وعلى الجملة : فالقرينة المنفصلة وإن لم تضر بظهور المطلق في الاطلاق ،

٢٤٨

إلاّ أنّها مضرّة بحجّيته ، فلا يكون هذا الظهور حجةً معها ، لفرض أنّها تكشف عن أنّ مراد المولى هو المقيد من الأوّل ، فإذن لا أثر لهذا الاطلاق أصلاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّها لا تدل على أنّه مطلوب في الوقت بنحو كمال المطلوب ، ليكون من قبيل الواجب في الواجب ، وإلاّ لانسدّ باب حمل المطلق على المقيد في تمام موارد القيود الثابتة بقرينة منفصلة ، سواء أكانت زماناً أو زمانيةً ، إذ على هذا لا بدّ من الالتزام بتعدد التكليف وأنّ التكليف المتعلق بالمقيد غير التكليف المتعلق بالمطلق ، غاية الأمر أنّ المقيد أكمل الأفراد.

مثلاً الأمر المتعلق بالصلاة مع الطهارة المائية أو مع طهارة البدن أو اللباس أو مستقبلاً إلى القبلة أو ما شاكل ذلك غير الأمر المتعلق بها على إطلاقها ، وعليه فلو أتى بالصلاة مثلاً فاقدةً لهذه القيود ، فقد أتى بالواجب وإن ترك واجباً آخر وهو الصلاة المقيدة بهذه القيود ، ومن المعلوم أنّ فساد هذا من الواضحات الأوّلية عند الفقهاء ، ولن يتوهّم ذلك في تلك القيود ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق بين كون القيد زماناً أو زمانياً من هذه الناحية أصلاً ، ولذا لو ورد : اعتق رقبةً مطلقاً وورد في دليل آخر اعتق رقبةً مؤمنةً ، لا يتأمل أحد في حمل الأوّل على الثاني ، وأنّ مراد المولى هو المقيد دون المطلق ، ولأجل ذلك لا يجزئ الاتيان به. وكيف كان ، فلا شبهة في أنّ ما دلّ على تقييد الواجب بوقت خاص كالصلاة أو نحوها لا محالة يوجب تقييد إطلاق الدليل الأوّل ويكشف عن أنّ مراد المولى هو المقيد بهذا الوقت دون المطلق ، ولا فرق في ذلك بين كون الدليل الدال على التوقيت متصلاً أو منفصلاً ، وهذا واضح.

فالنتيجة : أنّه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة ، فكما أنّ الاولى تدل على تقييد الأمر الأوّل ، وأنّ مراد المولى هو الأمر بالصلاة مثلاً في هذا الوقت لا مطلقاً ، فكذلك الثانية تدل على ذلك ، فإذن ليس هنا أمر آخر متعلق

٢٤٩

بالصلاة على إطلاقها ليكون باقياً بعد عدم الاتيان بها في الوقت على الفرض.

ولصاحب الكفاية قدس‌سره في المقام تفصيل آخر وإليك نص كلامه : ثمّ إنّه لا دلالة للأمر بالموقت بوجه على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به. نعم ، لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت ، وكان لدليل الواجب إطلاق ، لكان قضية إطلاقه ثبوت وجوب القضاء بعد انقضاء الوقت ، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.

وبالجملة : التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب ، كذلك ربّما يكون بنحو تعدد المطلوب بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوباً في الجملة وإن لم يكن بتمام المطلوب ، إلاّ أنّه لا بدّ في إثبات أنّه بهذا النحو من دلالة ، ولا يكفي الدليل على الوقت إلاّفيما عرفت ، ومع عدم الدلالة فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقّت بعد انقضاء الوقت ، فتدبّر جيّداً (١).

توضيح ما أفاده قدس‌سره هو أنّ التقييد بالوقت لا يخلو من أن يكون بدليل متصل أو منفصل ولا ثالث لهما.

أمّا على الأوّل ـ وهو ما إذا كان التقييد بدليل متصل ـ فلا يدل الأمر بالموقّت على وجوب الاتيان به في خارج الوقت ، إذ على هذا يكون الواجب هو حصة خاصة من طبيعي الفعل وهي الحصة الواقعة في هذا الوقت الخاص ، وعليه فإذا لم يأت به المكلف في ذلك الوقت فلا دليل على وجوب الاتيان به في خارجه ، وهذا واضح.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٤

٢٥٠

وأمّا على الثاني ـ وهو ما إذا كان التقييد بدليل منفصل ـ فلا يخلو من أن يكون له إطلاق بالاضافة إلى حالتي الاختيار وعدمه ، أو لا إطلاق له.

فعلى الأوّل لا يدل على وجوب الاتيان به في خارج الوقت ، لفرض أنّ ما دلّ على تقييده بزمان خاص ووقت مخصوص مطلق ، وباطلاقه يشمل حال تمكن المكلف من الاتيان به في الوقت وعدم تمكنه منه ، ولازم هذا لا محالة سقوط الواجب عنه عند مضي الوقت ، وعدم ما يدل على وجوبه في خارج الوقت ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون للدليل الأوّل إطلاق بالاضافة إلى الوقت وخارجه أم لم يكن له إطلاق ، كما لو كان الدليل الدال عليه لبياً من إجماع أو نحوه أو كان لفظياً ، ولكنّه لا يكون في مقام البيان من هذه الناحية ، والوجه في ذلك واضح على كلا التقديرين ، أمّا على تقدير عدم الاطلاق له فالأمر ظاهر ، إذ لا إطلاق له ليتمسك به ، فإذن المحكّم هو إطلاق الدليل المقيّد ، وأمّا على تقدير أن يكون له إطلاق فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ ظهور القرينة في الاطلاق يتقدّم على ظهور ذي القرينة فيه فلا تعارض بينهما بنظر العرف أصلاً.

وعلى الثاني ـ وهو ما إذا لم يكن له إطلاق بالاضافة إلى كلتا الحالتين ـ فالمقدار المتيقن من دلالته هو تقييد الأمر الأوّل بخصوص حال الاختيار والتمكن لا مطلقاً ، بداهة أنّه لا يدل على أزيد من ذلك ، لفرض عدم الاطلاق له ، وعليه فلا بدّ من النظر إلى الدليل الأوّل هل يكون له إطلاق أم لا ، فإن كان له إطلاق فلا مانع من الأخذ به لاثبات وجوب الاتيان به في خارج الوقت.

وبكلمة اخرى : أنّ مقتضى إطلاق الدليل الأوّل هو وجوب الاتيان بهذا الفعل كالصلاة مثلاً أو نحوها مطلقاً ـ أي في الوقت وخارجه ـ ولكن الدليل قد دلّ على تقييده بالوقت في خصوص حال الاختيار ، ومن الطبيعي أنّه لا بدّ من الأخذ بمقدار دلالة الدليل ، وبما أنّ مقدار دلالته هو تقييده بخصوص حال

٢٥١

الاختيار والتمكن من الاتيان به في الوقت ، فلا مانع من التمسك باطلاقه عند عدم التمكن من ذلك لاثبات وجوبه في خارج الوقت ، ضرورة أنّه لا وجه لرفع اليد عن إطلاقه من هذه الناحية أصلاً ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ هذا الكلام لا يختص بالتقييد بالوقت خاصة ، بل يعم جميع القيود المأخوذة في الواجب بدليل منفصل ، فانّ ما دلّ على اعتبار تلك القيود لا يخلو من أن يكون له إطلاق بالاضافة إلى حالتي الاختيار وعدمه أو لا يكون له إطلاق كذلك.

والأوّل كالطهارة مثلاً ، فانّ ما دلّ على اعتبارها في الصلاة واشتراطها بها كقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّبطهور » (١) ونحوه مطلق ، وباطلاقه يشمل صورة تمكن المكلف من الاتيان بالصلاة معها وعدم تمكنه من ذلك ، وعلى هذا فمقتضى القاعدة سقوط الأمر بالصلاة عند عدم تمكن المكلف من الاتيان بها معها ، بل قد ذكرنا أنّ الطهارة من الحدث مقوّمة لها ، ولذا ورد في بعض الروايات أنّها ثلث الصلاة (٢) ومن هنا قوّينا سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين وعدم وجوبها عليه. ولا يفرق في ذلك بين أن يكون للدليل الأوّل أيضاً إطلاق أو لا ، وذلك لأنّ إطلاق دليل المقيد حاكم على إطلاق دليل المطلق فيقدّم عليه كما هو واضح.

والثاني كالطمأنينة مثلاً وما شاكل ذلك ، فانّ ما دلّ على اعتبارها في الصلاة لا إطلاق له بالاضافة إلى حالة عدم تمكن المكلف من الاتيان بها معها ، وذلك لأنّ الدليل على اعتبارها هو الاجماع ، ومن المعلوم أنّ القدر المتيقن منه هو

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١

(٢) الوسائل ١ : ٣٦٦ / أبواب الوضوء ب ١ ح ٨

٢٥٢

تحققه وثبوته في حال تمكن المكلف من ذلك لا مطلقاً كما هو ظاهر. وعليه فلا بدّ من أن ننظر إلى دليل الواجب ، فإن كان له إطلاق فنأخذ به ونقتصر في تقييده بالمقدار المتيقن وهو صورة تمكن المكلف من الاتيان به لا مطلقاً ، ولازم هذا هو لزوم الاتيان به فاقداً لهذا القيد ، لعدم الدليل على تقييده به في هذا الحال ، ومعه لا مانع من التمسك باطلاقه لاثبات وجوبه فاقداً له. وهذا الذي ذكرناه لا يختص بباب دون باب ، بل يعم جميع أبواب الواجبات من العبادات ونحوها. وخلاصة ما ذكرناه هي أنّه لا فرق بين كون القيد زماناً وزمانياً من هذه الناحية أصلاً كما هو واضح ، هذا ما أفاده قدس‌سره مع توضيح منّي.

والانصاف أنّه في غاية الصحة والمتانة ولا مناص من الالتزام به. نعم ، بعض عباراته لا يخلو عن مناقشة وهو قوله قدس‌سره : وبالجملة التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب كذلك يكون بنحو تعدد المطلوب ... إلخ ، وذلك لما عرفت من أنّ الدليل الدال على التقييد ظاهر في تقييد الواجب من الأوّل ، سواء أكان الدليل الدال عليه متصلاً أم كان منفصلاً ، فلا فرق بين المتصل والمنفصل من هذه الناحية أصلاً ، وأمّا دلالته على كمال المطلوب في الوقت فهو يحتاج إلى عناية زائدة ، وإلاّ فهو في نفسه ظاهر في تقييد أصل المطلوب لا كماله ، ومن هنا لم يتوهّم أحد ولا يتوهّم ذلك في بقية القيود ، بأن يكون أصل الصلاة مثلاً مطلوباً على الاطلاق وتقييدها بهذه القيود مطلوباً آخر على نحو كمال المطلوب ، كيف فانّ لازم ذلك هو جواز الاتيان بالصلاة فاقدة لتلك القيود اختياراً ، وهذا كما ترى.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه : أنّ الدليل المقيد ظاهر في تقييد دليل الواجب من الابتداء ، ويدل على أنّ مراد المولى بحسب اللب والواقع هو المقيد دون المطلق ، ولا يفرق في ذلك بين كون الدليل الدال على التقييد متصلاً أو

٢٥٣

منفصلاً ، وكون القيد زماناً أو زمانياً ، غاية الأمر إذا كان منفصلاً ولم يكن له إطلاق وكان لدليل الواجب إطلاق ، فيدل على تقييده بحال دون آخر وبزمان دون زمان آخر ، وهكذا.

فالنتيجة في المقام هي : أنّ مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن الموقّت بانقضاء وقته ، وعدم وجوب الاتيان به في خارج الوقت إلاّفيما قامت قرينة على ذلك.

ثمّ إنّ فيما ثبت فيه القضاء لو ترك المكلف الواجب في الوقت ، فإن أحرزنا ذلك وجداناً أو تعبداً بأصل أو أمارة فلا إشكال في وجوب قضائه والاتيان به في خارج الوقت ، بلا فرق في ذلك بين القول بكون القضاء تابعاً للأداء والقول بكونه بأمر جديد ، وهذا واضح ولا كلام فيه ، والكلام إنّما هو فيما إذا لم يحرز ذلك لا وجداناً ولا تعبداً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه لا بدّ من فرض الكلام فيما إذا لم تجر قاعدة الحيلولة المقتضية لعدم الاعتبار بالشك بعد خروج الوقت ، فان مقتضاها عدم وجوب الاتيان به في خارج الوقت ، أو قاعدة الفراغ فيما إذا فرض كون الشك في صحة العمل وفساده بعد الفراغ عن أصل وجوده وتحقّقه في الوقت ، فانّ في مثله يحكم بصحته من ناحية تلك القاعدة ، وإلاّ فلا يجب الاتيان به في خارج الوقت.

فإذن لا بدّ من فرض الكلام فيما نحن فيه إمّا مع قطع النظر عن جريانهما ، أو فيما إذا لم تجريا ، كما إذا فرض أنّ شخصاً توضّأ بمائع معيّن فصلّى ، ثمّ بعد مضي الوقت حصل له الشك في أنّ هذا المائع الذي توضّأ به هل كان ماءً ليكون وضوءه صحيحاً ، أو لم يكن ماءً ليكون وضوءه فاسداً ، أو فرض أنّه صلّى إلى جهة ثمّ بعد خروج الوقت شكّ في أنّ القبلة هي الجهة التي صلّى إليها ، أو جهة اخرى وهكذا ، ففي أمثال ذلك لا يجري شيء منهما.

أمّا قاعدة الحيلولة ، فلأنّ موردها الشك في أصل وجود العمل في الخارج

٢٥٤

وتحققه ، لا فيما إذا كان الشك في صحته وفساده بعد الفراغ عن أصل وجوده ، فإذن لا يكون مثل هذين المثالين من موارد تلك القاعدة.

وأمّا قاعدة الفراغ ، فلما حققناه في محلّه (١) من أنّ قاعدة الفراغ إنّما تجري فيما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة ، كما إذا شكّ في صحة الصلاة مثلاً بعد الفراغ عنها من ناحية الشك في ترك جزء أو شرط منها ، ففي مثل ذلك تجري القاعدة ، لأنّ صورة العمل غير محفوظة ، بمعنى أنّ المكلف لا يعلم أنّه أتى بالصلاة مع القراءة مثلاً أو بدونها أو مع الطمأنينة أو بدونها وهكذا ، وهذا هو مرادنا من أنّ صورة العمل غير محفوظة.

وأمّا إذا كانت محفوظة وكان الشك في مطابقة العمل للواقع وعدم مطابقته له ، كما في مثل هذين المثالين فلا تجري القاعدة ، لفرض أنّ المكلف يعلم أنّه أتى بالصلاة إلى هذه الجهة المعيّنة أو مع الوضوء من هذا المائع ولا يشك في ذلك أصلاً ، والشك إنّما هو في أمر آخر وهو أنّ هذه الجهة التي صلّى إليها قبلة أو ليست بقبلة ، وهذا المائع الذي توضأ به ماء أو ليس بماء ، ومن المعلوم أنّ قاعدة الفراغ لا تثبت أنّ هذه الجهة قبلة وأنّ ما أتى به وقع إلى القبلة ومطابق للواقع ، لما عرفت من اختصاص القاعدة بما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة ، وأمّا إذا كانت كذلك وإنّما الشك كان في مصادفته للواقع وعدم مصادفته ، فلا يكون مشمولاً لتلك القاعدة ، وبما أنّ صورة العمل في هذين المثالين محفوظة كما عرفت ، وأنّ ما أتى به المكلف في الخارج معلوم كمّاً وكيفاً ولا يشك فيه أصلاً ، والشك إنّما هو في مصادفته للواقع وعدم مصادفته له ، وقاعدة الفراغ لا تثبت المصادفة ، فعندئذ يقع الكلام في هذين المثالين وما شاكلهما ، وأ نّه هل يجب

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٣٧٠ ـ ٣٧١

٢٥٥

قضاء تلك الصلوات خارج الوقت أم لا ، فإذن تظهر الثمرة بين القولين.

وذلك لأنّه لو قلنا بكون القضاء تابعاً للأداء ومطابقاً للقاعدة فيجب قضاء تلك الصلوات ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ التكليف المتعلق بها معلوم ولا يشك في ذلك أصلاً ، والشك إنّما هو في سقوطه وفراغ ذمّة المكلف عنه ، ومعه لا مناص من الالتزام بقاعدة الاشتغال ، لحكم العقل بأنّ الشغل اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني. نعم ، المعلوم سقوطه إنّما هو التكليف عن المقيد لاستحالة بقائه بعد خروج الوقت من ناحية استلزامه التكليف بالمحال ، وأمّا سقوط التكليف عن المطلق فغير معلوم ، لفرض أنّ ما أتى به المكلف لا نعلم بصحته ليكون مسقطاً له ، فإذن يدخل المقام في كبرى موارد الشك في فراغ الذمّة بعد العلم باشتغالها بالتكليف ، ومن المعلوم أنّ المرجع في تلك الكبرى هو قاعدة الاشتغال.

وأمّا إذا قلنا بأنّ القضاء بأمر جديد كما هو الصحيح ، لما ذكرناه من أنّ القرينة على التقييد سواء أكانت متصلة أم كانت منفصلة توجب تقييد الواجب من الأوّل ، فلا يمكن عندئذ التمسك باطلاقه إلاّفي صورة واحدة ، كما تقدّمت (١) بشكل واضح ، وعلى هذا فلا يجب الاتيان بها في خارج الوقت ، وذلك لأنّ المكلف شاك عندئذ في أصل حدوث التكليف بعد خروج الوقت ، لفرض أنّ التكليف بالموقت قد سقط يقيناً ، إمّا من ناحية امتثاله في وقته وحصول غرضه ، وإمّا من ناحية عدم القدرة عليه فعلاً ، فإذن لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه.

فالنتيجة : أنّ الثمرة تظهر بين القولين في المثالين المزبورين وما شاكلهما ، فانّه على القول الأوّل ـ أي القول بكون القضاء تابعاً للأداء ـ فالمرجع فيهما وفي ما

__________________

(١) في ص ٢٥٣

٢٥٦

شاكلهما قاعدة الاشتغال ، كما تقدّم بشكل واضح ، وعلى القول الثاني ـ أي القول بكونه أمر جديد ـ فالمرجع في أمثالهما قاعدة البراءة ، كما عرفت الآن.

وقد تحصّل مما ذكرناه عدّة امور :

الأوّل : أنّ التقييد ـ سواء أكان بمتصل أم بمنفصل ـ ظاهر في التقييد من الأوّل ، وأنّ مراد المولى هو المقيد لا غيره ، وحمله على تعدد المطلوب لا يمكن بلا قرينة تدل عليه من داخلية أو خارجية.

الثاني : أنّ لازم ذلك هو كون مقتضى القاعدة سقوط الواجب بسقوط وقته.

الثالث : أنّ نتيجة هذين الأمرين هو كون القضاء بأمر جديد ، وليس تابعاً للأداء ، كما هو واضح.

ثمّ إنّه فيما ثبت فيه وجوب القضاء كالصلاة والصوم ونحوهما إذا خرج الوقت وشكّ المكلف في الاتيان بالمأمور به في وقته ، فهل يمكن إثبات الفوت باستصحاب عدم الاتيان به أم لا؟

وجهان مبنيان على أنّ المتفاهم العرفي من هذه الكلمة ـ أعني كلمة الفوت ـ هل هو أمر عدمي ، الذي هو عبارة عن عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت ، أو أمر وجودي ملازم لهذا الأمر العدمي لا أنّه عينه؟ فعلى الأوّل يجري استصحاب عدم الاتيان به في الوقت ، إذ به يثبت ذلك العنوان ويترتب عليه حكمه وهو وجوب القضاء في خارج الوقت ، وعلى الثاني فلا يجري إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، لفرض أنّ الأثر غير مترتب على عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت ، بل هو مترتب على عنوان وجودي ملازم له في الواقع وهو عنوان الفوت ، ومن المعلوم أنّ إثبات ذلك العنوان باستصحاب عدم الاتيان به من أوضح أنحاء الأصل المثبت ولا نقول به.

٢٥٧

وعلى الجملة : فمنشأ الإشكال في المقام الاشكال في أنّ عنوان الفوت الذي هو مأخوذ في موضوع وجوب القضاء هل هو أمر وجودي عبارة عن خلوّ الوقت عن الواجب ، أو هو أمر عدمي عبارة عن عدم الاتيان به في الوقت؟

والصحيح هو أنّه عنوان وجودي ، وذلك للمتفاهم العرفي ، ضرورة أنّه بنظرهم ليس عين الترك ، بل هو بنظرهم عبارة عن خلوّ الوقت عن الفعل وذهاب الواجب من كيس المكلف ، مثلاً المتفاهم عرفاً من قولنا : فات شيء من زيد ، هو الأمر الوجودي ـ أعني ذهاب شيء من كيسه ـ لا الأمر العدمي وهذا واضح ، فعلى هذا الضوء لا يمكن إثباته بالاستصحاب المزبور ولا أثر له بالاضافة إليه أصلاً ، وعليه فيرجع إلى أصالة البراءة. هذا فيما إذا احرز أنّ عنوان الفوت أمر وجودي أو عدمي. وأمّا إذا لم يعلم ذلك وشكّ في أنّه أمر وجودي ملازم لعدم الفعل في الوقت أو أنّه نفس عدم الفعل ، فهل يمكن التمسك بالاستصحاب المزبور لاثبات وجوب القضاء في خارج الوقت أم لا؟

الصحيح بل المقطوع به عدم إمكان التمسك به ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ المكلف لم يعلم أنّ المتيقن ـ وهو عدم الاتيان بالواجب في الوقت ـ هو الموضوع للأثر في ظرف الشك ، أو الموضوع للأثر شيء آخر ملازم له خارجاً ، فإذن لم يحرز أنّ رفع اليد عنه ـ أي عن المتيقن السابق ـ من نقض اليقين بالشك ، ومعه لا يمكن التمسك باطلاق قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » (١) لكون الشبهة مصداقية.

بقي هنا شيء ، وهو أنّ المكلف لو شكّ في أثناء الوقت أنّه صلّى في أوّل الوقت أم لا ، فمقتضى قاعدة الاشتغال هو لزوم الاتيان بالصلاة ، لأنّ الاشتغال

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١

٢٥٨

اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ، ولكنّ المكلف إذا لم يأت بها إلى أن خرج الوقت ففي هذا الفرض اتّفق الفقهاء على وجوب قضائها في خارج الوقت ، مع أنّ مقتضى ما ذكرناه من أنّ استصحاب عدم الاتيان بها في الوقت لا يثبت عنوان الفوت ، عدم وجوب القضاء ، لفرض أنّ عنوان الفوت في نفسه غير محرز هنا ، واستصحاب عدم الاتيان بها في الوقت لا يجدي.

والجواب عن هذا ظاهر ، وهو أنّ الشك في المقام بما أنّه كان قبل خروج الوقت ، فلا محالة يكون مقتضى قاعدة الاشتغال والاستصحاب وجوب الاتيان بها ، وعلى ذلك فلا محالة إذا لم يأت المكلف به في الوقت فقد فوّت الواجب ، ومعه لا محالة يجب قضاؤه لتحقق موضوعه وهو عنوان الفوت ، وهذا بخلاف ما إذا شكّ المكلف في خارج الوقت أنّه أتى بالواجب في وقته أم لا ، ففي مثل ذلك لم يحرز أنّه ترك الواجب فيه ليصدق عليه عنوان الفوت ، والمفروض أنّ استصحاب عدم الاتيان به غير مجدٍ ، وهذا هو نقطة الفرق بين ما إذا شكّ المكلف في إتيان الواجب في الوقت وما إذا شكّ في إتيانه في خارج الوقت.

نتائج هذا البحث عدّة امور :

الأوّل : أنّه لا إشكال في إمكان الواجب الموسّع والمضيّق ، بل في وقوعهما خارجاً ، وما ذكر من الاشكال على الواجب الموسّع تارةً وعلى المضيّق تارة اخرى مما لا مجال له ، كما تقدّم بشكل واضح.

الثاني : أنّ ما ذكر من التفصيل بين ما كان الدليل على التوقيت متصلاً وما كان منفصلاً ، فقد عرفت أنّه لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً ، وقد ذكرنا أنّه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة من هذه الناحية أبداً ، فكما أنّ الاولى تدل على التقييد من الأوّل وعلى وحدة المطلوب ، فكذلك الثانية كما سبق.

٢٥٩

الثالث : أنّ الصحيح ما ذكرناه من أنّ التقييد بالوقت إذا كان بدليل متصل فيدل على أنّ الواجب هو حصة خاصة من طبيعي الفعل ، وهي الحصة الواقعة في زمان خاص ، وأمّا إذا كان بدليل منفصل ، فإن كان له إطلاق بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه ، فيقيّد به إطلاق دليل الواجب مطلقاً ، لحكومة إطلاق دليل المقيد على إطلاق دليل المطلق ، وإن لم يكن له إطلاق ، فيقيد دليله في حال التمكن فحسب ، وفي حال عدمه نتمسّك باطلاق دليل الواجب لاثبات وجوبه في خارج الوقت.

الرابع : أنّ مقتضى القاعدة هو سقوط الواجب بسقوط وقته ، إلاّفيما قامت قرينة على خلاف ذلك.

الخامس : أنّ الثمرة تظهر بين القول بكون القضاء تابعاً للأداء والقول بكونه بأمر جديد فيما إذا شكّ بعد خروج الوقت في الاتيان بالمأمور به وعدمه ، أو في صحة المأتي به في الوقت وعدم صحته إذا لم يكن هناك أصل مقتضٍ للصحة كقاعدة الفراغ أو نحوها ، فانّه على الأوّل المرجع قاعدة الاشتغال وعلى الثاني قاعدة البراءة ، كما تقدّم.

السادس : أنّ الصحيح هو القول بكون القضاء بأمر جديد وليس تابعاً للأداء ، فانّه خلاف ظاهر دليل التقييد ، فلا يمكن الالتزام به إلاّفيما قامت قرينة عليه.

السابع : أنّه لا يمكن إثبات الفوت الذي علّق عليه وجوب القضاء باستصحاب عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت إلاّعلى القول بالأصل المثبت كما سبق.

٢٦٠