محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة هو كونه أراد الاخبار عن مجيء فردٍ مّا من الرجل وصرف وجوده ، فهذه الخصوصية أوجبت كون نتيجة المقدّمات فيه بدلياً.

وأمّا في المثال الثاني ، فباعتبار أنّه لا يمكن أن يريد منه الإخبار عن عدم وجود رجل واحد في الدار ووجود البقية فيها ، بداهة أنّ هذا المعنى في نفسه غير معقول ، كيف ولا يعقل وجود جميع رجال العالم في دار واحدة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّه لم يقيده بحصة خاصة دون اخرى ، فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي أنّ المتكلم أراد الإخبار بنفي وجود كل فرد من أفراد الرجل عن الدار ، ضرورة أنّه لو كان واحد من أفراده فيها لا يصدق قوله : لا رجل في الدار ، ولصدق نقيضه.

ومن هذا القبيل أيضاً قولنا : لا أملك شيئاً ، فانّ كلمة « شيء » وإن استعملت في معناها الموضوع له وهو الطبيعي الجامع بين جميع الأشياء ، إلاّ أنّ مقتضى الاطلاق وعدم تقييده بحصةٍ خاصةٍ هو نفي ملكية كل ما يمكن أن ينطبق عليه عنوان الشيء ، لا نفي فردٍ مّا منه ووجود البقية عنده ، فانّ هذا المعنى باطل في نفسه ، فلا يمكن إرادته منه.

ومن هذا القبيل أيضاً قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار في الاسلام » (١) وما شاكل ذلك ، فانّه لا يمكن أن يراد منه نفي ضررٍ مّا في الشريعة المقدّسة لأنّه لغو محض ، فلا يصدر من الحكيم. فإذن لا محالة إمّا أن يراد نفي جميع أفراده أو نفي بعضها الخاصة ، وحيث إنّ الثاني يحتاج إلى قرينة تدل عليه ، فمقتضى الاطلاق هو الأوّل وهو إرادة نفي الجميع.

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٢٧ / أبواب إحياء الموات ب ١٢

٣٠١

وكذا قوله تعالى : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ )(١) وقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّبطهور » (٢) وقوله عليه‌السلام : « لا سهو للإمام إذا حفظ عليه مَن خلفه ، ولا سهو للمأموم إذا حفظ عليهم الإمام » (٣) وغير ذلك من الجملات ، سواء أكانت في مقام الإخبار أو الإنشاء ـ أي سواء أكانت كلمة لا النافية بمعناها أو بمعنى النهي ـ فانّه على كلا التقديرين مقتضى الاطلاق فيها هو العموم الشمولي دون البدلي ، وذلك ضرورة أنّه لا يمكن أن يريد المولى من النفي أو النهي نفي فردٍ مّا أو النهي عنه ، لأنّه لغو محض فلا يصدر من الحكيم. فإذن لا محالة يدور الأمر بين أن يراد منه نفي جميع أفراد الطبيعة ، أو النهي عن جميعها ، أو نفي بعضها المعيّن ، أو النهي عنه كذلك ، وحيث إنّ إرادة الثاني تحتاج إلى قرينة ، فإذا لم تكن قرينة في البين يتعيّن إرادة الأوّل لا محالة. وهذا معنى كون نتيجة مقدّمات الحكمة فيها شمولياً ، وأ نّها تكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت.

عدّة خطوط فيما ذكرناه.

الأوّل : أنّ النهي موضوع للدلالة على إبراز اعتبار المولى حرمان المكلف عن الفعل في الخارج ، كما أنّ الأمر موضوع للدلالة على إبراز اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف ، ومن هنا يصح تفسير النهي بالحرمة والأمر بالوجوب ، باعتبار دلالة الأوّل على حرمان المكلف عن الفعل ، والثاني على ثبوته في ذمّته.

الثاني : أنّ حقيقة النهي هو ذلك الأمر الاعتباري ، كما أنّ حقيقة الأمر

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٧

(٢) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١

(٣) الوسائل ٨ : ٢٣٩ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٤

٣٠٢

كذلك وأ نّهما اسمان للمؤلف من ذلك الأمر الاعتباري وإبرازه في الخارج بمبرز.

الثالث : أنّ متعلق النهي بعينه هو ما تعلق به الأمر ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً. وأمّا ما هو المعروف من أنّ متعلق النهي الترك ونفس أن لا تفعل فلا أصل له كما سبق.

الرابع : أنّ النقطة الأساسية للفرق بين الأمر والنهي هي أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة في طرف الأمر الاطلاق البدلي وصرف الوجود ، وفي طرف النهي الاطلاق الشمولي وتمام الوجود.

الخامس : أنّه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع على وجهتي كلا النظرين ـ أعني وجهة نظرنا ووجهة نظر المشهور ـ وذلك لأنّهما لا يخلوان بحسب الواقع من أن يكونا مجعولين للطبيعة على نحو العموم البدلي أو الاستغراقي أو المجموعي فلا رابع في البين ، ومن المعلوم أنّه لا فرق بينهما من هذه النواحي أصلاً كما تقدّم.

السادس : أنّ النهي يختلف مع الأمر في المعنى الموضوع له ، ويتّحد معه بحسب المتعلق على وجهة نظرنا ، وأمّا على وجهة نظر المشهور فمتعلق الطلب في النهي الترك وفي الأمر الوجود. نعم ، متعلق نفس الأمر والنهي معاً الفعل والوجود.

السابع : أنّه لا فرق بين عدم الطبيعة ووجودها ، فكما أنّ عدمها على نحو القضية الكلّية يتوقف على عدم جميع ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة في الخارج ، فكذلك وجودها على هذا النحو يتوقف على وجود جميع ما يمكن انطباق تلك الطبيعة عليه ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً. وأمّا وجودها على نحو القضية الجزئية فهو وإن تحقق بوجود فرد ما منها ، إلاّ أنّ عدمها

٣٠٣

كذلك أيضاً يتحقق بعدم فردٍ مّا منها ، فلا خصوصية من هذه الجهة للوجود ، بل هما من هذه الناحية على نسبة واحدة ، ومن هنا قلنا إنّ مقابل كل وجود من وجودات الطبيعة عدم من أعدامها وهو بديله ونقيضه ، ولذا ذكرنا أنّه لا مقابلة بين الطبيعة التي توجد بوجود فرد منها والطبيعة التي تنتفي بانتفاء جميع أفرادها.

الثامن : أنّ نتيجة جريان مقدّمات الحكمة تختلف باختلاف خصوصيات الموارد ، فانّ نتيجتها في الأوامر المتعلقة بالطبائع الاطلاق البدلي وصرف الوجود ، وفي النواهي المتعلقة بها الاطلاق الشمولي وتمام الوجود. وفي الأحكام الوضعية المتعلقة بالطبائع الكلّية أيضاً ذلك ، أعني الاطلاق الشمولي والانحلال.

الجهة الثانية : أنّ الأمر كما يتعلق بالفعل من ناحية اشتماله على مصلحة لزومية قد يتعلق بالترك كذلك ، وكما أنّه على الأوّل يتصور على صور كذلك على الثاني.

بيان ذلك : هو أنّ المصلحة القائمة بالفعل لا تخلو من أن تقوم بصرف وجوده في الخارج أو بتمام وجوداته ، على نحو العموم الاستغراقي أو على نحو العموم المجموعي أو بعنوان بسيط متحصل من الوجودات الخارجية.

فعلى الأوّل يكون المطلوب هو صرف وجود الطبيعة المتحقق بأوّل وجوداتها.

وعلى الثاني يكون المطلوب هو جميع وجوداتها على نحو الانحلال.

وعلى الثالث يكون المطلوب هو مجموع تلك الوجودات بطلب واحد شخصي.

وعلى الرابع يكون المطلوب هو ذلك العنوان البسيط ، وأمّا الوجودات الخارجية فهي محصّلة له.

٣٠٤

وكذا الحال في المصلحة القائمة بالترك ، فانّها لا تخلو بحسب مقام الثبوت والواقع من أن تكون قائمةً بصرف ترك الطبيعة ، أو بتمام تروكها على نحو العام الاستغراقي ، أو بتمامها على نحو العام المجموعي ، أو بعنوان بسيط متولّد من هذه التروك الخارجية ، ولا خامس لها.

فعلى الأوّل المطلوب هو صرف الترك ، وهو يحصل بترك فرد ما من الطبيعة في الخارج ، فيكون حاله حال ما إذا كان المطلوب هو صرف الوجود.

وعلى الثاني المطلوب هو كل ترك من تروكها على نحو الاستقلال ، بحيث يكون كل منها متعلقاً للحكم مستقلاً مع قطع النظر عن تعلق الحكم بالآخر ، فحاله من هذه الناحية حال ما إذا كان المطلوب هو إيجاد الطبيعة على نحو الاطلاق والانحلال.

وعلى الثالث المطلوب هو مجموع التروك من حيث هو بطلب واحد شخصي ، بحيث يكون تعلق الحكم بكل منها مربوطاً بتعلقه بالآخر ، فيكون حاله حال الصورة الثالثة من هذه الناحية.

وعلى الرابع المطلوب هو ذلك العنوان البسيط ، وأمّا التروك الخارجية فهي محصّلة له ، فيكون حاله من هذه الجهة حال الصورة الرابعة.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ مردّ هذه الصور الأربع جميعاً إلى إيجاب الترك ، كما أنّ مردّ الصور الأربع الاولى إلى إيجاب الفعل ، ولا يرجع شيء من تلك الصور إلى المنع عن الفعل وحرمته واقعاً ، وإن فرض ورود الدليل عليه بصورة النهي ، والوجه في ذلك واضح ، وهو ما ذكرناه من أنّ النهي عن شيء ينشأ عن اشتماله على مفسدة لزومية وهي تدعو المولى إلى اعتبار حرمان المكلف عنه ، ولا ينشأ عن مصلحة كذلك في تركه ، وإلاّ لزم أن يكون تركه واجباً لا أن يكون فعله

٣٠٥

حراماً ، ضرورة أنّه لا مقتضي لاعتبار حرمان المكلف عنه أصلاً بعد ما لم تكن فيه مفسدة أصلاً ، بل اللاّزم عندئذ هو اعتبار تركه في ذمته من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة. وهذا بخلاف النهي الوارد في المقام ، فانّه غير ناشٍ عن مفسدة في الفعل ، بداهة أنّه لا مفسدة فيه أصلاً ، بل نشأ عن قيام مصلحة في تركه ، وهي داعية إلى إيجابه واعتباره في ذمّة المكلف.

وبكلمة واضحة : أنّ المولى كما يعتبر الفعل على ذمّة المكلف باعتبار اشتماله على مصلحة إلزامية ويبرزه في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما شاكلها ، قد يعتبر الترك على ذمته باعتبار قيام مصلحة لزومية فيه ويبرزه في الخارج بمبرز ما ، سواء أكان إبرازه بقول أم بفعل ، وسواء أكان بصيغة الأمر وما شابهها أم بصيغة النهي ، ضرورة أنّ اختلاف أنحاء المبرز ـ بالكسر ـ لا يوجب الاختلاف في المبرز ـ بالفتح ـ أصلاً فانّه واحد ـ وهو اعتبار المولى الترك في ذمته ـ كان مبرزه قولاً أو فعلاً ، كان بصيغة الأمر أو النهي ، وهذا واضح.

ونتيجة ذلك هي أنّ الأمر ناشٍ عن قيام مصلحة إلزامية في متعلقه ، سواء أكان متعلقه فعل شيء أم تركه ، كما أنّ النهي ناشٍ عن قيام مفسدة إلزامية في متعلقه كذلك ، والسر فيه ما عرفت من أنّ حقيقة الأمر هو اعتبار المولى الشيء على ذمّة المكلف من جهة وجود مصلحة ملزمة فيه ، ومن المعلوم أنّه لا يفرق بين اعتباره فعل شيء على ذمته أو تركه ، كما أنّه لا يفرق بين أن يكون مبرز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج فعلاً أو قولاً. وحقيقة النهي اعتباره حرمان المكلف عن الشيء باعتبار وجود مفسدة ملزمة فيه ، ومن الواضح جداً أنّه لا يفرق بين اعتباره حرمانه عن فعل شيء أو اعتباره حرمانه عن ترك شيء.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذا هو الميزان الأساسي لتمييز حقيقة النهي عن

٣٠٦

حقيقة الأمر ، وليست العبرة في ذلك بالمبرز ـ بالكسر ـ أصلاً ، ضرورة أنّه لا شأن له ما عدا إبرازه عن واقع الأمر وواقع النهي ولا خصوصية له أبداً.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر حال النواهي الواردة في أبواب العبادات ، منها ما ورد في خصوص باب الصلاة كموثقة سماعة قال : « سئل أبو عبدالله عليه‌السلام عن جلود السباع ، فقال : اركبوها ولا تلبسوا شيئاً منها تصلّون فيه » (١) وما شاكلها من الروايات الدالة على ذلك. وصحيحة محمّد بن مسلم قال : « سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال عليه‌السلام : لا ولو دبغ سبعين مرّة » (٢) وصحيحة محمّد بن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبدالله عليه‌السلام : « في الميتة قال : لا تصلّ في شيء منه حتّى في شسع » (٣) وقوله عليه‌السلام : « لاتصلّ فيه حتّى تغسله » (٤) وما شاكل ذلك من الروايات ، فانّ هذه الروايات وإن كانت واردة بصورة النهي ، إلاّ أنّها في الحقيقة إرشاد إلى مانعية تلك الامور عن الصلاة وتقيد الصلاة بعدمها ، لأجل مصلحة كانت في هذا التقييد ، لا لأجل مفسدة في نفس تلك الامور حال الصلاة ، ضرورة أنّه ليس لبس ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس في الصلاة من المحرّمات في الشريعة المقدّسة.

نعم ، الاتيان بالصلاة عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرّم ، وهذا خارج عن محل الكلام ، فانّ الكلام في حرمة هذه القيود ، لا في حرمة الصلاة. على أنّ

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٥٤ / أبواب لباس المصلي ب ٥ ح ٦

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٣ / أبواب لباس المصلي ب ١ ح ١

(٣) الوسائل ٤ : ٣٤٣ / أبواب لباس المصلي ب ١ ح ٢ ( مع اختلاف يسير )

(٤) الوسائل ٣ : ٤٥٠ / أبواب النجاسات ب ٢٨ ح ٧ ( مع اختلاف يسير )

٣٠٧

الكلام في الحرمة الذاتية لا في الحرمة التشريعية ، والفرض أنّ هذه الحرمة حرمة تشريعية. فإذن لا يمكن أن تكون هذه النواهي ناشئة عن وجود مفسدة ملزمة فيها.

وعلى الجملة : ففي أمثال هذه الموارد ليس في الواقع وعند التحليل العلمي إلاّ اعتبار الشارع تقييد الصلاة بعدم تلك الامور ، من جهة اشتمال هذا التقييد على مصلحة ملزمة وإبراز ذلك الاعتبار في الخارج بمبرز ، كهذه النواهي أو غيرها. ومن هنا تدل تلك النواهي على مطلوبية هذا التقييد ومانعية تلك الامور عن الصلاة ، ضرورة أنّا لا نعني بالمانع إلاّما كان لعدمه دخل في المأمور به ، وهذا معنى كون هذه النواهي إرشاداً إلى مانعية هذه الامور وتقيّد الصلاة بعدمها ، هذا كلّه فيما إذا كان الترك مأموراً به بالأمر الضمني.

وقد يكون الترك مأموراً به بالأمر الاستقلالي ، بأن يعتبره المولى على ذمّة المكلف باعتبار اشتماله على مصلحة ملزمة ، ويبرزه في الخارج بمبرز ، سواء أكان ذلك المبرز صيغة أمر أم نهي ، لما عرفت من أنّه لا شأن للمبرز ـ بالكسر ـ أصلاً ما عدا إبرازه ذلك الأمر الاعتباري في الخارج ، والعبرة إنّما هي للمبرز ـ بالفتح ـ فانّه إذا كان ناشئاً عن مصلحة في متعلقه سواء أكان متعلقه فعلاً أم تركاً ، فهو أمر حقيقة وإن كان مبرزه في الخارج صيغة النهي ، وإذا كان ناشئاً عن مفسدة في متعلقه كذلك ، فهو نهي حقيقة وإن كان مبرزه في الخارج صيغة الأمر أو ما يشبهها.

ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الأمر المتعلق بالترك على قسمين :

أحدهما : أنّه أمر ضمني متعلق بعدم إيجاد شيء في العبادات أو المعاملات.

وثانيهما : أنّه أمر استقلالي متعلق بعدم إيجاد شيء مستقلاً.

٣٠٨

أمّا القسم الأوّل : فهو بمكان من الكثرة في أبواب العبادات والمعاملات.

وأمّا القسم الثاني : فهو قليل جداً. نعم ، يمكن أن يكون الصوم من هذا القبيل ، باعتبار أنّ حقيقته عبارة عن ترك عدّة امور كالأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء ونحو ذلك ، وليست عبارة عن عنوان وجودي بسيط متولد من هذه التروك في الخارج ، فإذن الأمر بالصوم ناشٍ عن قيام مصلحة ملزمة في هذه التروك ، ولم ينشأ عن قيام مفسدة كذلك في فعل هذه الامور ، ولذا يقال إنّ الصوم واجب ، ولا يقال إنّ فعل المفطرات محرّم. وعليه فلا محالة يكون مردّ النهي عن كل من الأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء في نهار شهر رمضان إلى اعتبار تروك هذه الامور على ذمّة المكلف باعتبار وجود مصلحة إلزامية فيها. فالنهي عن كل واحد منها إرشاد إلى دخل تركه في حقيقة الصوم ، وأ نّه مأمور به بالأمر الضمني.

فالنتيجة هي أنّ مجموع هذه التروك مأمور به بالأمر الاستقلالي ، وكل منها مأمور به بالأمر الضمني.

ومن هذا الباب أيضاً تروك الإحرام في الحج ، فانّ كلاً منها واجب على المكلف وثابت في ذمته وليس بمحرّم ، ضرورة أنّ النهي عنه غير ناشٍ عن قيام مفسدة إلزامية في فعله ، بل هو ناشٍ عن قيام مصلحة ملزمة في نفسه ، بمعنى أنّ الشارع قد اعتبر ترك كل من محرمات الإحرام على ذمّة المكلف ، وأبرزه في الخارج بمبرز ، كصيغة النهي أو ما شاكلها ، ومن الواضح جداً أنّه ليس هنا نهي حقيقةً ، بل أمر في الحقيقة والواقع تعلق بترك عدّة من الأفعال في حال الإحرام ، فيكون ترك كل منها واجباً مستقلاً على المكلف ، وقد تقدّم ما هو ملاك افتراق الأمر والنهي وأ نّه ليس في المبرز ـ بالكسر ـ لما عرفت من أنّه لا شأن له أصلاً

٣٠٩

ما عدا إبرازه عن واقع الأمر وواقع النهي ـ وهما اعتبار الشارع فعل شيء أو تركه في ذمّة المكلف ، واعتباره حرمانه عن فعل شيء أو تركه ـ فالأوّل أمر ، سواء أكان مبرزه في الخارج صيغة أمر أم صيغة نهي ، والثاني نهي كذلك ، أي سواء أكان مبرزه فيه صيغة نهي أم أمر.

نعم ، فيما إذا كان مبرز الأمر خارجاً صيغة النهي يصح أن يقال إنّه أمر واقعاً وحقيقةً ، ونهي صورةً وشكلاً.

ومن هنا يظهر أنّ تعبير الفقهاء عن تلك الأفعال بمحرّمات الإحرام مبني على ضرب من المسامحة والعناية ، وإلاّ فقد عرفت أنّها ليست بمحرمة بل تركها واجب ، وكيف كان فلا إشكال في أنّ هذا القسم قليل جداً في أبواب العبادات والمعاملات ، دون القسم الأوّل وهو ما إذا كان الترك متعلقاً للأمر الضمني.

وبتعبير آخر : أنّ الواجبات الضمنية على ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما يكون بنفسه متعلقاً للأمر.

الثاني : ما يكون التقيد بوجوده متعلقاً له.

الثالث : ما يكون التقيد بعدمه متعلقاً له ، ولا رابع لها. والأوّل هو الأجزاء ، لفرض أنّ الأمر متعلق بأنفسها. والثاني هو الشرائط ، فانّ الأمر متعلق بتقيد تلك الأجزاء بها لا بنفسها ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث إنّه قد ذهب إلى أنّ الشرائط كالأجزاء متعلقة للأوامر الضمنية بنفسها ، ولكن قد ذكرنا بطلان ذلك في بحث الواجب المطلق والمشروط (١) فلا نعيد. والثالث هو الموانع ،

__________________

(١) [ بل ذكره في بحث تقسيمات المقدّمة ، راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ١١٦ ، ١٢٩ ]

٣١٠

فانّ الأمر متعلق بتقيد هذه الأجزاء بعدمها.

وبعد ذلك نقول : الكلام هنا يقع في مقامين :

الأوّل : في مقام الثبوت والواقع.

الثاني : في مقام الاثبات والدلالة.

أمّا المقام الأوّل : فيقع الكلام فيه في موردين :

الأوّل : في بيان ظهور الثمرة بين الصور المتقدمة في فرض كون الترك متعلقاً للأمر مستقلاً.

الثاني : في بيان ظهورها بين تلك الصور في فرض كونه متعلقاً للأمر ضمناً.

أمّا الكلام في المورد الأوّل : فتظهر الثمرة بين تلك الصور في موضعين :

الأوّل : فيما إذا فرض أنّ المكلف قد اضطرّ إلى إيجاد بعض أفراد الطبيعة في الخارج [ التي ] كان المطلوب تركها فيه ، كأن اضطرّ إلى إيجاد بعض محرّمات الإحرام في الخارج ، أو اضطرّ إلى ترك الصوم في بعض آنات اليوم.

فعلى الصورة الاولى ، وهي ما كانت المصلحة قائمة بصرف تركها ، فإن تمكن المكلف من صرف الترك في هذا الحال وجب عليه ذلك ، وإلاّ فيسقط الأمر المتعلق به لا محالة ، لفرض أنّه غير مقدور له.

وبكلمة واضحة : أنّ الاضطرار المزبور لا يخلو من أن يكون مستوعباً لتمام وقت الواجب ، كما إذا اضطرّ إلى إيجاد بعض تلك المحرّمات إلى آخر وقته ، أو لا يكون مستوعباً له.

فعلى الأوّل ، لا محالة يسقط الأمر المتعلق بصرف الترك ، لعدم قدرته عليه ، فهو نظير ما إذا اضطرّ المكلف إلى ترك الصلاة مثلاً في تمام وقتها ، فانّه لا إشكال عندئذ في سقوط الصلاة عنه.

٣١١

وعلى الثاني ، لا يسقط الأمر عنه بالضرورة ، لفرض أنّ الواجب هو الجامع ، لا خصوص الفرد المضطر إليه ، والمفروض أنّه مقدور للمكلف ، ومعه لا محالة لا يسقط عنه ، فيكون نظير ما لو اضطرّ المكلف إلى ترك الصلاة في بعض أوقاتها ، فانّه لا إشكال في أنّ ذلك لا يوجب سقوط الأمر بالصلاة عنه ، لفرض أنّ الواجب هو الجامع بين المبدأ والمنتهى ، لا خصوص هذا الفرد المضطر إليه أو ذاك ، وهذا واضح.

وعلى الصورة الثانية ، وهي ما كانت المصلحة قائمةً بتمام تروك الطبيعة على نحو الانحلال والعموم الاستغراقي ، فلا بدّ من الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه ، ولا يجوز ارتكاب فرد آخر زائداً على هذا الفرد ، والوجه فيه واضح ، وهو أنّ المجعول في هذه الصورة على الفرض أحكام متعددة بعدد تروك أفراد هذه الطبيعة في الخارج ، فيكون ترك كل واحد منها واجباً مستقلاً ومناطاً للاطاعة والمعصية ، ومن الظاهر أنّ الاضطرار إلى ترك واجب لا يوجب جواز ترك واجب آخر ، وفي المقام الاضطرار إلى إيجاد فردٍ منها في الخارج لا يوجب جواز إيجاد فرد آخر منها ... وهكذا ، ضرورة أنّ سقوط التكليف عن بعض منها ـ لأجل اضطرار أو نحوه ـ لا يوجب سقوطه عن آخر ، وجواز عصيانه بعد ما كان التكليف المتعلق بكل منهما تكليفاً مستقلاً غير مربوط بالآخر ، فانّه بلا موجب ، ومن المعلوم أنّ سقوط التكليف بلا موجب وسبب محال.

وعلى الصورة الثالثة ، وهي ما كانت المصلحة قائمةً بمجموع التروك الخارجية على نحو العموم المجموعي ، لا محالة يسقط التكليف المتعلق بالمجموع المركب من هذه التروك ، لفرض أنّه تكليف واحد شخصي متعلق به ، فإذا فرض أنّ المكلف لا يقدر عليه لاضطراره إلى إيجاد بعض أفراد هذه الطبيعة في الخارج ، ومعه لا يتمكن من ترك هذه الطبيعة فيه بجميع أفرادها ، وإذا لم يتمكن منه فلا محالة

٣١٢

يسقط التكليف عنه ، فيكون كما إذا تعلق التكليف بمجموع أفراد هذه الطبيعة على نحو العموم المجموعي ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، ضرورة أنّه لا فرق في الأحكام المترتبة على العموم المجموعي بين أن يكون هذا العموم ملحوظاً بين تروك الطبيعة في الخارج ، وأن يكون ملحوظاً بين وجوداتها وأفرادها فيه ، وهذا واضح.

وعلى ضوء ذلك لا يجب عليه الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه بل يجوز له إيجاد فردٍ ثانٍ وثالثٍ ... وهكذا ، لفرض أنّ الأمر المتعلق بمجموع تروكها قد سقط ، ومعه لا مانع من إيجاد البقية في الخارج أصلاً ، إلاّ إذا فرض قيام الدليل على وجوب الباقي.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ مقتضى القاعدة في أمثال المقام هو سقوط التكليف عن المجموع المركب بسقوط جزء منه أو قيده ، ووجوب الباقي يحتاج إلى دليل خارجي ، فإن دلّ دليل من الخارج على وجوبه فهو ، وإلاّ فلا نلتزم به.

وعلى الصورة الرابعة ، وهي ما كانت المصلحة قائمة بعنوان وجودي بسيط متولد من تروك هذه الطبيعة في الخارج ، أيضاً يسقط التكليف المتعلق به ، وذلك لفرض أنّ هذا العنوان مسبب عن ترك جميع أفراد هذه الطبيعة خارجاً ، فإذا فرض اضطرار المكلف إلى إيجاد بعض أفرادها في الخارج ، لا محالة لا يتحقق ذلك العنوان المعلول لترك جميعها ، لاستحالة وجود المعلول بدون وجود علّته التامة.

فالنتيجة من ذلك : هي أنّ الثمرة تظهر بين الوجه الأوّل والثاني ، كما أنّها تظهر بينهما وبين الوجهين الأخيرين ، وأمّا بينهما ـ أي بين الوجهين الأخيرين ـ فلا تظهر كما عرفت.

٣١٣

الثاني : فيما لو شككنا في فرد أنّه من أفراد الطبيعة التي كان المطلوب تركها أم لا.

فعلى الصورة الاولى : لا يجب تركه ، لفرض أنّ المطلوب في هذه الصورة صرف تركها ، والمفروض أنّه يتحقق بتركها آناً ما ، ومعه ـ أي مع تركها آناً ما ـ يجوز له إيجادها في الخارج في ضمن أفرادها المتيقنة في بقية الآنات والأزمنة فضلاً عن أفرادها المشكوكة ، وهذا ظاهر.

وعلى الصورة الثانية : فبما أنّ مردّ الشك في كون هذا الموجود فرداً له أو ليس بفرد له ، إلى الشك في تعلق التكليف به ، فلا مناص من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه ، لفرض أنّه شك في تكليف مستقل ، وهو القدر المتيقن من موارد الرجوع إليها.

وعلى الصورة الثالثة : فبما أنّ المورد داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، فلا محالة يرتكز جريان البراءة فيه وعدم جريانها على القول بجريان البراءة وعدمه في تلك المسألة ، فإن قلنا فيها بجريان أصالة البراءة عن وجوب الأكثر العقلية والنقلية ، فنقول بها كذلك في المقام أيضاً ، وإن لم نقل به فيها فلا نقول هنا أيضاً ، وحيث إنّا قد اخترنا في تلك المسألة جريان أصالة البراءة عن وجوبه عقلاً وشرعاً ، فلا مناص من الالتزام به في المقام.

وقد ذكرنا هناك (١) أنّه لا وجه لما عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من التفصيل بين البراءة الشرعية والعقلية ، فالتزم بجريان الاولى دون الثانية ، وذلك لأنّ ما توهّم من المانع عن جريان البراءة العقلية هنا منحصر في أمرين لا ثالث لهما :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٦٣ ـ ٣٦٦

٣١٤

أحدهما : دعوى أنّ العلم الاجمالي هنا غير منحل.

ثانيهما : دعوى وجوب تحصيل الغرض في المقام ، ومن الواضح جداً أنّ كلاً منهما لو تمّ ، فكما أنّه مانع عن جريان البراءة العقلية ، فكذلك مانع عن جريان البراءة الشرعية ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

بيان ذلك ملخصاً : هو أنّه لو بنينا على أنّ انحلال العلم الاجمالي في المقام يبتني على أن يُثبت جريان البراءة الشرعية عن جزئية المشكوك فيه تعلق التكليف بالأقل على نحو الاطلاق وعدم دخل الجزء المشكوك فيه في الواجب ، لم يمكن إثباته باجراء أصالة البراءة الشرعية عنها ، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الاطلاق كالتقييد أمر وجودي ، فانّ الأوّل عبارة عن لحاظ الطبيعة لا بشرط ، والثاني عبارة عن لحاظها بشرط شيء ، ومن المعلوم أنّهما أمران متضادان ، فإذا دار أمر التكليف بين تعلقه بالطبيعة على النحو الأوّل ، وتعلقه بها على النحو الثاني ، فأصالة البراءة عن تعلقه بها على النحو الثاني لا تثبت تعلقه بها على النحو الأوّل ـ وهو الاطلاق ـ إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

نعم ، لو كان الاطلاق أمراً عدمياً عبارة عن عدم التقييد ، فأصالة البراءة عن التقييد تثبت الاطلاق ، إلاّ أنّ هذا الفرض خاطئ وغير مطابق للواقع.

فالنتيجة : هي أنّ البراءة الشرعية كالعقلية غير جارية.

وكذا لو بنينا على وجوب تحصيل الغرض في المقام ، فانّه عندئذ لا أثر لجريان أصالة البراءة عن الجزء المشكوك فيه ، لفرض أنّها لاتثبت كون الغرض المعلوم مترتباً على الأقل إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، ومعه لا محالة نشك في حصوله باتيانه. فإذن لا بدّ من الالتزام باتيان الأكثر ليعلم بحصوله وتحققه في الخارج.

ونتيجة ذلك هي عدم جريان البراءة الشرعية كالعقلية من دون فرق بينهما

٣١٥

من هذه الناحية أصلاً.

ولكن قد ذكرنا في محلّه (١) أنّ شيئاً من الأمرين لا يكون مانعاً عن إجراء البراءة الشرعية والعقلية.

أمّا العلم الاجمالي ، فقد ذكرنا هناك أنّ انحلاله لايتوقف على إثبات الاطلاق ليقال إنّ البراءة عن التقييد لا تثبت الاطلاق ، بل يكفي في انحلاله جريان البراءة في أحد الطرفين بلا معارض ، لعدم جريانها في الطرف الآخر ، والمفروض أنّ الأمر في المقام كذلك ، وذلك لأنّ البراءة لا تجري عن الاطلاق ، لفرض أنّه توسعة للمكلف ولا ضيق فيه أصلاً ، ومن المعلوم أنّ البراءة سواء أكانت شرعية أم عقلية إنّما ترفع الضيق عن المكلف والكلفة عنه ليكون في رفعه منّةً عليه ، والفرض أنّه لا كلفة ولا ضيق في طرف الاطلاق أصلاً ، فإذن تجري البراءة عن التقييد بلا معارض.

ومن المعلوم أنّه لا يفرق فيه بين البراءة الشرعية والعقلية ، بل كلتاهما تجري بملاك واحد ، وهو أنّ التقييد بما أنّ فيه كلفةً زائدةً ولم يقم بيان عليها من قبل الشارع ، والاطلاق لا كلفة فيه ، فلذا لا مانع من جريان البراءة عنه مطلقاً ، أمّا البراءة الشرعية فواضح. وأمّا البراءة العقلية فلتحقق موضوعها هنا ـ وهو عدم البيان ـ ومعه لا محالة تجري كما هو ظاهر. فإذن لا وجه للتفرقة بينهما أصلاً.

وأمّا الغرض ، فلفرض أنّه لا يزيد عن التكليف بل حاله حاله ، وذلك لما ذكرناه مراراً من أنّه لا طريق لنا إلى إحرازه في موردٍ مع قطع النظر عن ثبوت التكليف فيه ، وعليه فلا محالة تدور سعة إحراز الغرض وضيقه مدار سعة

__________________

(١) راجع مصباح الاصول ٢ : ٤٩٩ وما بعدها

٣١٦

التكليف وضيقه ، فلا يعقل أن يكون الغرض أوسع منه.

وعلى هذا فبما أنّ التكليف المتعلق بالأكثر غير واصل إلى المكلف ، لما عرفت من انحلال العلم الاجمالي ، فلا محالة يكون الغرض المترتب عليه في الواقع أيضاً غير واصل ، لفرض أنّ وصوله تابع لوصول التكليف ، فإذا فرض أنّ التكليف لم يصل فالغرض أيضاً كذلك ، ومن الظاهر أنّه لا يجب تحصيل مثل هذا الغرض لا بحكم العقل ولا بحكم الشرع ، لفرض أنّه لا يزيد عن التكليف ، والمفروض في المقام أنّه لا يجب امتثال هذا التكليف من جهة عدم تنجّزه ووصوله ، فإذن لا مانع من قبل وجوب تحصيل الغرض من إجراء البراءة عن وجوب الأكثر شرعاً وعقلاً كما هو واضح.

وأمّا التكليف المتعلق بالأقل ، فبما أنّه واصل إلى المكلف ومنجّز ، فلا محالة يكون الغرض المترتب عليه واصلاً أيضاً ، ومعه يجب تحصيله ، كما يجب امتثال التكليف المتعلق به.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ الغرض المترتب على الأكثر بما أنّه مشكوك فيه من جهة ، ولم يقم برهان عليه من جهة اخرى ، فلا محالة لا يمنع عن جريان البراءة عن وجوبه.

ومن ذلك يظهر أنّه لا فرق بين البراءة الشرعية والعقلية ، فانّه كما لا يمنع عن جريان الاولى ، كذلك لا يمنع عن جريان الثانية ، ضرورة أنّ مانعيته إنّما هي في فرض كون تحصيله واجباً بحكم العقل ، وقد عرفت أنّ العقل لا يحكم بوجوب تحصيله ، إلاّفيما إذا وصل إلى المكلف لا مطلقاً.

فما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من التفكيك بين البراءة

__________________

(١) تقدّم ذكر المصدر في ص ٣١٤

٣١٧

الشرعية والعقلية في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وتمام الكلام هناك.

وأمّا الكلام في المورد الثاني ، وهو بيان الثمرة بين الصور المتقدمة في فرض كون الترك متعلقاً للوجوب الضمني ، فأيضاً تظهر الثمرة بينها في موردين :

الأوّل : فيما إذا اضطر المكلف إلى إيجاد بعض أفراد الطبيعة [ التي ] كان المطلوب تركها في الخارج في ضمن واجب كالصلاة مثلاً أو نحوها ، كما إذا اضطرّ إلى لبس الثوب المتنجس أو الميتة أو ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.

فعلى الصورة الاولى ، بما أنّ المطلوب هو صرف ترك هذه الطبائع في ضمنها وأ نّها متقيدة به ، فلا محالة يحصل المطلوب بترك فردٍ مّا منها في الخارج ، ولا يجب عليه ترك بقية أفرادها ، وذلك لما عرفت من أنّ صرف الترك كصرف الوجود فكما أنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل الوجودات ، فكذلك صرف الترك يتحقق بأوّل التروك ، فإذا حصل صرف الترك بأوّل الترك حصل الغرض ، ومعه يسقط الأمر ، فإذن لا أمر بترك بقية أفرادها ، بل لا مقتضي له ، لفرض أنّه قائم بصرف الترك لا بمطلقه ، كما أنّ عصيانه يتحقق بايجاد أوّل فرد منها في الخارج في ضمن الصلاة ولو في آن.

وعلى الجملة : فعلى هذه الصورة يكفي في صحة الصلاة ترك هذه الطبائع فيها آناً ما ، ولا يلزم تركها في تمام آنات الاشتغال بالصلاة ، بل لا مقتضي له. ويترتب على ذلك أنّ المانع عنها في هذه الصورة إنّما هو وجود هذه الطبائع في تمام آنات الاشتغال بها ، ولا أثر لوجودها في بعض تلك الآنات أصلاً ، والسر فيه واضح ، وهو أنّ المطلوب حيث كان صرف ترك هذه الطبائع في الصلاة ، فمن المعلوم أنّه يتحقق بترك لبسها آناً ما فيها ، وإن لم يترك في بقية آنات الاشتغال بها ، لصدق صرف الترك عليه ، ومعه يحصل المطلوب ويسقط الأمر

٣١٨

لا محالة ، ولازم ذلك هو أنّ المانع لبس هذه الامور في جميع آنات الصلاة ، وهذا واضح.

وعلى الصورة الثانية ، وهي كون المطلوب ترك جميع أفراد هذه الطبائع في الصلاة على نحو الانحلال والعام الاستغراقي ، وجب الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه ، وذلك لفرض أنّ الصلاة على هذا متقيدة بترك كل فرد من أفرادها في الخارج على نحو الاستقلال ، ولازم ذلك هو أنّ وجود كل منها مانع مستقل عنها ، فلا تكون مانعيته مربوطة بمانعية فرد آخر ... وهكذا.

وبكلمة اخرى : حيث إنّ المفروض في هذه الصورة هو أنّ ترك كل واحد من أفراد هذه الطبائع مطلوب على نحو الاستقلال ، فلا محالة يكون وجود كل منها مانعاً مستقلاً ، ضرورة أنّا لا نعني بالمانع إلاّما يكون عدمه دخيلاً في الواجب. وعلى هدى ذلك فإذا فرض أنّ المكلف اضطرّ إلى إيجاد فردٍ من أفرادها ، وجب عليه الاقتصار على خصوص هذا الفرد المضطر إليه ولا يسوغ له إيجاد فردٍ آخر منها ، فلو أوجده لبطلت صلاته ، لفرض أنّ ترك كلٍّ منها مطلوب مستقلاً وأ نّه زيادة في المانع.

ويترتب على ما ذكرناه أنّه يجب التقليل في أفراد تلك الطبائع بالمقدار الممكن ، ويلزم الاقتصار على قدر الضرورة ، ولا يجوز ارتكاب الزائد ، وذلك كما إذا فرض نجاسة طرفي ثوب المكلف مثلاً ، وفرض أنّه متمكن من إزالة النجاسة عن أحد طرفيه دون الطرف الآخر ، كما إذا كان عنده ماء بمقدار يكفي لازالة النجاسة عنه دون الآخر ، ففي مثل ذلك يجب عليه تقليل النجاسة وإزالتها عن أحد طرفي ثوبه ، لفرض أنّ كل فرد منها مانع مستقل ، وترك كل فرد منها مطلوب كذلك ، فإذا فرض أنّ المكلف اضطرّ إلى إيجاد مانع فلا يجوز له إيجاد مانع آخر ... وهكذا ، فانّ الضرورة تتقدّر بقدرها ، فلو أوجد فرداً

٣١٩

آخر زائداً عليه لكان موجباً لبطلان صلاته.

وكذا إذا فرض نجاسة ثوبه وبدنه معاً ، فعندئذ إذا كان عنده ماء بمقدار يكفي لازالة النجاسة عن أحدهما وجبت الازالة بالمقدار الممكن.

وكذا إذا فرض نجاسة مواضع من بدنه وفرض أنّه متمكن من إزالة النجاسة عن بعضها وجبت الازالة الممكنة.

وكذا الأمر فيما إذا فرض نجاسة مواضع من بدنه أو ثوبه ، ولكنّه متمكن من تقليله بحسب الكم ، وجب تقليله ... وهكذا.

وعلى الجملة : فالاضطرار إلى إيجاد مانع في الخارج لا يوجب سقوط الصلاة ، لفرض أنّها لا تسقط بحال ، كذلك لا يوجب سقوط مانعية فرد آخر ، لفرض أنّ كلاً منها مانع مستقل.

ونتيجة ما ذكرناه : هي وجوب التقليل في أفراد النجس والميتة وما لا يؤكل ونحو ذلك في الصلاة من الأفراد العرضية والطولية بالمقدار الممكن ، ولزوم الاقتصار على قدر الضرورة.

بل إنّ السيِّد العلاّمة الطباطبائي قدس‌سره (١) قد أفتى في العروة بوجوب التقليل حكماً ، فضلاً عن التقليل موضوعاً ، كما إذا فرض تنجس الثوب بملاقاة البول المعتبر في طهارته تعدد الغسل ، ولكن كان عنده ماء بمقدار يكفي لغسلة واحدة ، أو كان هناك مانع عن الغسلة الثانية ، فيجب غسله مرّة واحدةً ، لأنّه يوجب تخفيف النجاسة وزوال المرتبة الشديدة.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره من وجوب تقليل النجاسة حكماً لا يتم صغرى وكبرى.

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٨٢ المسألة ٩ [٢٨٥]

٣٢٠