محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

التقديم فيه مبتنياً على إعمال قواعد التزاحم غير صحيح.

وأمّا الفرع الرابع : وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك تمام الركعات في الوقت وسقوط قيد آخر ، فقد ذكر قدس‌سره أنّه يسقط إدراك تمام الركعات في الوقت ، إلاّ السورة فانّها تسقط بالاستعجال والخوف.

أقول : الأمر بالاضافة إلى السورة كذلك ، لما عرفت من أنّ دليلها من الأوّل مقيّد بغير صورة الاستعجال والخوف ، فلا تكون واجبة في هذه الصورة. هذا لو قلنا بوجوبها ، وإلاّ فهي خارجة عن محل الكلام رأساً. وأمّا بالاضافة إلى غيرها من الأجزاء أو الشرائط فلا يمكن المساعدة عليه ، والوجه في ذلك ما أشرنا إليه من أنّ الركن هو الوقت الذي يسع لفعل الأركان خاصة ، وأ نّه مقوّم لحقيقة الصلاة فتنتفي الصلاة بانتفائه ، وأمّا الزائد عليه الذي يسع لبقية الأجزاء والشرائط فليس بركن ، وقد استفدنا ذلك من ضم هذه الآية أعني قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ ... ) إلخ ، إلى قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... ) إلخ بضميمة ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.

وعلى ذلك فإذا دار الأمر بين سقوط تمام الوقت الذي يسع للأركان ، وسقوط جزء أو شرط آخر ، فالحال فيه كما تقدّم ، يعني أنّه يسقط ذلك الجزء أو الشرط لا محالة ، سواء أقلنا بالتعارض في أمثال المورد أم بالتزاحم.

وأمّا إذا دار الأمر بين سقوط بعض ذلك الوقت وسقوط قيد آخر ، فأيضاً يسقط ذلك القيد ، والوجه في ذلك : هو أنّا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) إلى قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... ) إلخ ، وإلى أدلة بقية الأجزاء والشرائط مع أدلة بدليتها ،

١٤١

بضميمة ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فالنتيجة هي وجوب الاتيان بالصلاة في الوقت المحدد لها ، وأ نّها لا تسقط ، سواء أكان المكلف متمكناً من الاتيان ببقية الأجزاء والشرائط فيه أم لم يتمكن من ذلك ، غاية الأمر مع التمكن منها يجب الاتيان بها فيه أيضاً ، وإلاّ فتسقط. مثلاً مع التمكن من الطهارة المائية يجب الاتيان بالصلاة في الوقت المزبور معها ، ومع عدم التمكن منها ولو من جهة ضيق الوقت يجب الاتيان بها فيه مع الطهارة الترابية ، وكذا مع التمكن من طهارة الثوب أو البدن يجب الاتيان بالصلاة في وقتها معها ، ومع عدم التمكن منها ولو من ناحية ضيق الوقت يجب الاتيان بها فيه عارياً أو في الثوب المتنجس على الخلاف في المسألة.

وعلى الجملة : فقد استفدنا من ضم بعض تلك الأدلة إلى بعضها الآخر على الشكل المتقدِّم أنّ وجوب الاتيان بالصلاة التي هي عبارة عن الأركان في الوقت المعيّن لها أمر مفروغ عنه وأ نّه لا يسقط ، كان المكلف متمكناً من الاتيان بالبقية فيه أم لم يتمكن ، فلا يمكن أن تزاحم البقية وقت الأركان ، لاتمامه كما عرفت ولا بعضه.

وأمّا ما ورد في موثقة عمار من أنّ من صلّى ركعة في الوقت فليتم وقد جازت صلاته (١) فلا يدل إلاّعلى بدلية إدراك ركعة في الوقت عن إدراك تمام الركعات فيه ، فيما إذا لم يتمكن المكلف من إدراك التمام فيه أصلاً ، بمعنى أنّه لا يتمكن منه ، لا مع الطهارة المائية ولا مع الطهارة الترابية ولا مع طهارة البدن أو الثوب ولا مع نجاسته أو عارياً. وأمّا من تمكن من إدراك التمام فيه في الثوب

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢١٧ / أبواب المواقيت ب ٣٠ ح ١ ( مع اختلاف )

١٤٢

النجس أو عارياً ، أو مع الطهارة الترابية ، فلا يكون مشمولاً للحديث.

ومن هنا قلنا إنّ الحديث يختص بالمضطر وبمن لم يتمكن من إدراك تمامها في الوقت أصلاً ، فالشارع جعل له إدراك ركعة واحدة في الوقت بمنزلة إدراك تمام الركعات فيه إرفاقاً وتوسعةً له ، فلا يشمل المختار والمتمكن من إدراك تمام الركعات فيه كما فيما نحن فيه. نعم ، لو أخّر الصلاة باختياره إلى أن ضاق الوقت بحيث لم يبق منه إلاّبمقدار إتيان ركعة واحدة فيه فيشمله الحديث باطلاقه ، وإن كان عاصياً من جهة تأخير مقدار من الصلاة عن الوقت ، ضرورة أنّه لم يكن في مقام بيان التوسعة والترخيص للمكلفين في تأخير صلواتهم اختياراً إلى أن لا يبقى من الوقت إلاّبمقدار إدراك ركعة واحدة فيه ، وجعل إدراك تلك الركعة الواحدة بمنزلة إدراك تمام الركعات ، وقد ذكرنا أنّ الحديث ظاهر في هذا المعنى بمقتضى الفهم العرفي.

فالنتيجة من ذلك : هي أنّ الموثقة لا تدل على بدلية إدراك ركعة واحدة في الوقت عن إدراك تمام الركعات فيه على الاطلاق ، بل تدل على بدلية ذلك عنه لخصوص المضطر وغير المتمكن مطلقاً ، وبما أنّ في المقام يتمكن المكلف من إدراك التمام فيه ، فلا يكون مشمولاً لها ، فإذن يتعين ما ذكرناه وهو تقديم إدراك تمام الركعات في الوقت على بقية الأجزاء أو الشرائط في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ، ولا يفرق في ذلك بين القول بالتعارض في هذه الموارد والقول بالتزاحم فيها ، لفرض أنّ هذا التقديم غير مستند إلى إعمال قواعد هذا الباب أو ذاك ، بل هو بملاك آخر كما عرفت ، ولا يفرق فيه بين القولين أصلاً. فما أفاده قدس‌سره من أنّه يسقط إدراك تمام الركعات في الوقت دون القيد الآخر ، لا يمكن المساعدة عليه.

ثمّ إنّه لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الأدلة المتقدمة لا تدل على ما ذكرناه ،

١٤٣

وأ نّه لا يستفاد من مجموعها ذلك ، فإذن على القول بالتعارض في تلك الموارد تقع المعارضة بين الدليل الدال على وجوب إدراك تمام الركعات في الوقت ، والدليل الدال على وجوب ذلك القيد المزاحم له ، فيرجع إلى قواعد بابها.

ولكن قد ذكرنا في محلّه (١) أنّ التعارض إذا كان بين إطلاق الكتاب وإطلاق غيره ، فيقدّم إطلاق الكتاب عليه ، وذلك لما استظهرناه من شمول الروايات الدالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب أو السنّة ما إذا كانت المخالفة بين إطلاقه وإطلاق غيره على نحو العموم والخصوص من وجه ، فلا تختص الروايات بالمخالفة بينهما على وجه التباين ، أو المخالفة بين العامين منهما على نحو العموم والخصوص من وجه ، بل تعمّ المخالفة بينهما على نحو الاطلاق ، بأن يكون إطلاق أحدهما مخالفاً لاطلاق الآخر ، وبما أنّ فيما نحن فيه تقع المعارضة بين إطلاق الكتاب وهو قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (٢) وإطلاق غيره ، وهو أدلة سائر الأجزاء أو الشرائط ، فيقدّم إطلاق الكتاب عليه.

فالنتيجة : هي تقديم إدراك تمام الركعات في الوقت على إدراك جزء أو شرط آخر.

وعلى القول بالتزاحم فيها تقع المزاحمة بينهما ، أي بين وجوب هذا ووجوب ذاك ، فيرجع إلى مرجحاته من الأهمّية والأسبقية ونحوهما.

أمّا الأهمّية ، فالظاهر أنّه لا طريق لنا إلى إحراز أنّ وجوب إدراك تمام الركعات في الوقت أهم من إدراك هذا القيد ، لما عرفت من أنّه إذا دار الأمر بين

__________________

(١) [ لاحظ مصباح الاصول ٣ : ٥١٧ حيث يظهر خلافه ]

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨

١٤٤

سقوط جزء أو شرط وسقوط المرتبة الاختيارية من الركن ، فلا يمكن الحكم بتقديم تلك المرتبة عليه ، بدعوى كونها أهم منه ، ضرورة أنّه لا طريق لنا إلى إحراز ذلك ، ولا دليل على كونها أهم منه ، والأهم إنّما هو طبيعي الركن الجامع بين جميع المراتب ، لا كل مرتبة منه ، وفي المقام الركن هو طبيعي الوقت الجامع بين البعض والتمام ، وأمّا تمامه فهو مرتبته الاختيارية ، فلا دليل على كون تلك المرتبة أهم من الجزء أو الشرط الآخر ، والأهم إنّما هو الجامع بينها وبين غيرها من المراتب.

وأمّا الأسبقية ، فلا مانع من الترجيح بها في أمثال المقام ، وذلك لما تقدّم (١) من أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره ، فيما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، والمفروض أنّ ما نحن فيه كذلك ، فإذن لو دار الأمر بين إدراك جزء سابق كفاتحة الكتاب مثلاً ، وإدراك الركعة الأخيرة في الوقت ، بأن لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما ، فلو أتى بفاتحة الكتاب فلا يتمكن من إدراك تلك الركعة في الوقت ، ففي مثله لا مانع من تقديم فاتحة الكتاب عليه من جهة سبقها زماناً ، وقد عرفت أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره في مقام المزاحمة في أمثال المقام أيضاً ، وكذا إذا دار الأمر بين تطهير البدن أو الثوب مثلاً وإدراك الركعة الأخيرة في الوقت ، أو بين الطهارة المائية وإدراك تلك الركعة فيه ، بحيث لو غسل ثوبه أو بدنه ، أو لو توضأ أو اغتسل فلا يتمكن من إدراكها في الوقت ، فيقدّم الصلاة في البدن أو الثوب الطاهر عليه ، لما عرفت من أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره ، وكذا الصلاة مع الطهارة المائية.

نعم ، إذا لم يكن القيد المزاحم له سابقاً عليه زماناً ، كما لو دار الأمر بين

__________________

(١) في ص ٤٥

١٤٥

التسبيحات الأربع والأذكار الواجبة في الركعة الأخيرة ، وبين إدراك تلك الركعة في الوقت ، بحيث لو أتى بالاولى فقد فات عنه وقتها ، ولا يتمكن من إدراكها فيه ، ففي مثله لا وجه لتقديمها عليه ، كما هو واضح. فإذن ما أفاده قدس‌سره من سقوط إدراك تمام الركعات في الوقت دون القيد المزاحم له لا يتم على إطلاقه كما عرفت.

وأمّا الفرع الخامس : وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط الأجزاء وسقوط الشرائط ، فقد ذكر قدس‌سره أنّه تسقط الشرائط لتأخر رتبتها عن الأجزاء.

أقول : إنّ الشرط بمعنى ما تقيد الواجب به وإن كان متأخراً عنه رتبةً ، ضرورة أنّ تقيد شيء بشيء فرع ثبوته ، إلاّ أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّه لا أثر للتقدّم أو التأخر الرتبي في باب الأحكام الشرعية أصلاً ، فانّها تتعلق بالموجودات الزمانية لا بالرتب العقلية ، بل لو تعلقت بها فأيضاً لا يكون الأسبق رتبة كالأسبق زماناً مقدّماً على غيره في مقام المزاحمة ، لأنّ ملاك تقديم الأسبق على غيره ـ وهو كون التكليف المتعلق به فعلياً دون التكليف المتعلق بغيره ـ غير موجود هنا ، لفرض أنّ التكليف المتعلق بالمتقدم والمتأخر الرتبيين كليهما فعلي في زمان واحد ، فلا موجب عندئذ لتقديم أحدهما على الآخر ، كما هو واضح. وأمّا اعتبار شيء شرطاً فلا يكون متأخراً عن اعتبار شيء جزءاً ومتفرعاً على ثبوته.

نعم ، اعتبار الجميع متأخر عن اعتبار الأركان ومتفرع على ثبوته كما سبق. وأمّا اعتبار الشرطية بالاضافة إلى اعتبار الجزئية فلا تقدّم ولا تأخّر بينهما ، بل هما في عرض واحد ، والسر فيه ما تقدّم من أنّ الصلاة اسم للأركان ، والبقية من الأجزاء والشرائط قد اعتبرت فيها بأدلتها الخاصة في ظرف متأخر عنها ،

١٤٦

ولذا لا تسقط الأركان بسقوطها ، وليست حال الشرائط بالاضافة إلى الأجزاء كحالها بالاضافة إلى الأركان ، ومن هنا تسقط الشرائط بسقوط الأركان ، ولا تسقط بسقوط سائر الأجزاء.

فما ذكره قدس‌سره من كون الشرائط متأخرة عن الأجزاء يبتني على نقطة واحدة ، وهي كون الصلاة اسماً لجميع الأجزاء فقط ، والشرائط جميعاً خارجة عنها وقد اعتبرت فيها ، فعندئذ لا محالة يكون اعتبارها في ظرف متأخر عن اعتبار تلك ومتفرّعاً عليه ، إلاّ أنّك عرفت أنّ تلك النقطة خاطئة وغير مطابقة للواقع ، وأنّ الصلاة موضوعة للأركان فقط ، والبقية جميعاً خارجة عن حقيقتها ومعتبرة فيها بدليل خارجي ، من دون فرق في ذلك بين الأجزاء والشرائط أصلاً ، فلا يكون اعتبارها متفرّعاً على اعتبار الأجزاء ، بل هو في عرض اعتبارها ، غاية الأمر اعتبار الأجزاء في الأركان بنحو الجزئية واعتبارها فيها بنحو القيدية.

فإذن لا وجه لما أفاده قدس‌سره من تقديم الأجزاء على الشرائط أصلاً ، بل لا بدّ على هذا القول ـ أي القول بالتزاحم ـ من الرجوع إلى مرجحاته من الأهمّية والأسبقية ، فما كان أهم يتقدّم على غيره ، فلا فرق بين كونه جزءاً أو شرطاً ، وكذا ما كان سابقاً زماناً يتقدّم على غيره ولو كان شرطاً ، مثلاً الطهارة المائية من جهة السبق الزماني تتقدّم على فاتحة الكتاب مثلاً أو على الركوع الاختياري أو نحو ذلك في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ، وكذا طهارة البدن أو الثوب تتقدّم عليها بعين ذلك المرجّح والملاك.

وأمّا على القول بالتعارض فيها ، فإن كان التعارض بين دليلي الجزء والشرط بالعموم ، فيرجع إلى مرجّحات الباب من موافقة الكتاب أو السنّة ومخالفة العامة ، إلاّ إذا كان أحدهما من الكتاب أو السنّة فيقدّم على الآخر ،

١٤٧

وأمّا إذا كان التعارض بينهما بالاطلاق كما هو الغالب ، فإن كان أحدهما من الكتاب أو السنّة والآخر من غيره ، فيقدّم الأوّل على الثاني على بيان تقدّم ، وإلاّ فيسقط كلا الاطلاقين معاً فيرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك ، فالنتيجة هي اعتبار أحدهما ، وقد سبق الكلام من هذه الناحية بشكل واضح فلاحظ (١).

وأمّا الفرع السادس : وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الشرط وسقوط قيده ، كما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الساتر في الصلاة وسقوط قيده وهو الطهارة ، فقد ذكر قدس‌سره أنّه يسقط قيده ، لتأخر رتبته.

أقول : ينبغي لنا أن نستعرض هذا المورد وما شاكله على نحو ضابط كلّي ، بيان ذلك : هو أنّ القيد ـ سواء أكان قيداً للشرط أو للجزء أو للمرتبة الاختيارية من الركن أو له بتمام مراتبه ـ لا يخلو من أن يكون مقوّماً للمقيد بحيث ينتفي بانتفائه ، وأن يكون غير مقوّم له ، مثال الأوّل القيام المتصل بالركوع ، فانّه مقوّم للمرتبة الاختيارية منه ، مثال الثاني اعتبار الطهارة في الستر ، والطمأنينة في الركوع والسجود والأذكار والقراءة وما شاكل ذلك ، فانّ شيئاً منها لا ينتفي بانتفاء هذا القيد ، فلا ينتفي الستر بانتفاء الطهارة ، ولا الركوع والسجود بانتفاء الطمأنينة وهكذا ، وبعد ذلك نقول :

أمّا القسم الأوّل ، فلا شبهة في أنّ انتفاءه يوجب انتفاء المقيد ، فلا وجه لدعوى كون الساقط هو خصوص القيد ، ضرورة أنّه مقوّم له ، فكيف يعقل بقاؤه مع انتفائه ، كما هو واضح. وعليه فإذا كان المتعذر هو خصوص هذا القيد ، كالقيام المتصل بالركوع مثلاً ، فلا محالة يسقط المقيد به. وأمّا إذا كان

__________________

(١) ص ١٠٦ وما بعدها

١٤٨

الأمر دائراً بين سقوطه وسقوط جزء أو شرط آخر أو قيد مقوّم له ، فتجري فيه الأقسام المتقدمة بعينها ، لفرض أنّ الأمر في هذه الصور في الحقيقة دائر بين سقوط جزء وجزء آخر أو شرط كذلك وهكذا ، فلا حاجة إلى الاعادة.

وأمّا القسم الثاني ، وهو ما إذا كان القيد غير مقوّم ، فلا وجه لسقوط المقيد أصلاً ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ معنى « لا تسقط الصلاة بحال » هو أنّ الأجزاء والشرائط المقدورة للمكلف لاتسقط عنه بسقوط ما هو المتعذر ، فيجب عليه الاتيان بهما ، والمفروض أنّ المقيد في محل الكلام مقدور له ، فلا يسقط بمقتضى ما ذكرناه ، والساقط إنّما هو قيده ، لتعذره.

وعلى الجملة : فمقتضى القاعدة وإن كان السقوط ، إلاّ أنّه بعد ما دلّ الدليل على أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فلا وجه لسقوطه أصلاً ، ضرورة أنّ المستفاد منه هو أنّ الأجزاء والشرائط الباقية المقدورة لا تسقط بتعذّر قيد من قيودهما. وعليه ففي الفرع المزبور لا وجه لسقوط أصل الساتر أصلاً ، والساقط إنّما هو قيده ، وهو كونه طاهراً. وهذا هو وجه عدم سقوط أصل الساتر ، لا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من التعليل بكون قيده متأخراً عنه رتبة ، وذلك لما عرفت من أنّه لا أثر للتأخر الرتبي ولا لتقدّمه أصلاً ، ولا سيّما في المقام كما سبق بشكل واضح فلا نعيد ، وكيف كان ، فلا إشكال في عدم السقوط ، ومن هنا قوّينا في هذا الفرع (٢) وجوب الصلاة في الثوب المتنجس لا عارياً ، على خلاف المشهور. هذا مضافاً إلى أنّه مقتضى النصوص الواردة في المقام ، وتمام الكلام في محلّه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٠

(٢) شرح العروة ٣ : ٣٥٨ وما بعدها

١٤٩

وأمّا الفرع السابع : وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط قيد اعتبر في الركن ، وسقوط قيد اعتبر في غيره ، كما إذا دار الأمر بين سقوط الطمأنينة في المرتبة الاختيارية من الركن وسقوطها في الأذكار أو القراءة ، أو دار الأمر بين سقوط القيام حال التكبيرة وسقوطه حال القراءة وهكذا ، فقد ذكر قدس‌سره أنّه يسقط قيد غير الركن.

أقول : قد ظهر فساده مما تقدّم ، وبيان وجه الظهور : هو أنّه على القول بالتعارض في أمثال هذه الموارد يرجع إلى قواعده ، وبما أنّه لا ترجيح في البين فالمتعيّن هو التخيير في المقام وقيدية الجامع ، لدفع اعتبار خصوصية كل منهما بأصالة البراءة.

وعلى القول بالتزاحم فيها المرجع هو مرجحاته من الأهمّية والأسبقية. والأهمّية مفقودة في المقام ، ضرورة أنّ وجوب الطمأنينة في المرتبة الاختيارية من الركن ليس أهم من وجوبها في الأذكار أو القراءة وما شاكل ذلك ، لما عرفت من أنّ نفس تلك المرتبة ليست أهم من تلك الأجزاء ، فضلاً عن قيدها غير المقوّم لها ، فانّ الأهم إنّما هو الركن بعرضه العريض لا بكل مرتبته. مع أنّه لو سلّمنا أنّ تلك المرتبة أهم منها ، إلاّ أنّ ذلك لا يلازم أن يكون قيدها المزبور أهم من قيد تلك الأجزاء ، كما هو واضح.

وأمّا الأسبقية ، فإن كانت موجودة فلا بأس بالترجيح بها في هذه الموارد وعليه فتتقدّم الطمأنينة في حال القراءة على الطمأنينة في حال الركوع من جهة سبقها عليها زماناً ، وكذا يتقدّم القيام حال التكبيرة على القيام حال القراءة ، بل قد ذكرنا أنّ تقديم القيام في الجزء السابق على القيام في الجزء اللاّحق مقتضى النص الخاص كما سبق (١) ، فلا يحتاج إلى إعمال قواعد باب التزاحم ومرجحاته.

__________________

(١) في ص ١٢١

١٥٠

وأمّا الفرع الثامن : وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط القيام المتصل بالركوع وسقوط القيام حال القراءة ، فقد ذكر قدس‌سره أنّه يسقط القيام حال القراءة ، وعلّل ذلك بكون القيام قبل الركوع بنفسه ركناً ومقوّماً للركوع ، فيتقدّم على القيام فيها لا محالة ، ولذا ذكر أنّه يقدّم القيام قبل الركوع على القيام في حال التكبيرة ، فانّه فيها شرط وفي الركوع مقوّم.

أقول : ما أفاده قدس‌سره بناءً على وجهة نظره من أنّ القيام المتصل بالركوع ركن بنفسه متين جداً ، بمعنى أنّه لا بدّ من تقديمه على غيره ، لفرض أنّه ليس له مرتبة اخرى لينتقل الأمر من مرتبته الاختيارية إلى تلك المرتبة ، بل هو بعنوانه ركن ، وقد ذكرنا (١) أنّه إذا دار الأمر بين سقوط ركن رأساً وسقوط قيد آخر مهما كان لونه يسقط ذلك القيد لا محالة ، ضرورة أنّ في صورة العكس لا صلاة ليدل على عدم سقوطها رواية أو اجماع.

ولكن هذا المبنى فاسد جداً ، وقد حققنا في محلّه (٢) أنّ القيام المتصل بالركوع ليس بركن ، وأنّ الأركان منحصرة بالركوع والسجود والطهور والتكبيرة والوقت ، وعليه فمجرد كونه مقوّماً للمرتبة الاختيارية من الركن لا يكون موجباً لتقديمه على غيره أصلاً. أمّا على القول بالتعارض بين دليله ودليل غيره فواضح ، ضرورة أنّه على هذا لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب التعارض وأحكامه على الشكل الذي تقدّم. وأمّا على القول بالتزاحم فلا نحرز أنّ القيام المتصل بالركوع أهم من القيام حال القراءة أو القيام حال التكبيرة ليحكم بتقديمه عليه ، بل الأمر على هذا القول بالعكس ، لما ذكرناه من أنّ الأسبق

__________________

(١) في ص ١٢٨

(٢) لاحظ شرح العروة ١٤ : ١٦٨ فصل في القيام

١٥١

زماناً في أمثال هذه الموارد مرجح ، وبما أنّ القيام حال التكبيرة أو القيام حال القراءة أسبق زماناً من القيام المتصل بالركوع ، فيتقدّم عليه لا محالة ، بل قد عرفت أنّ ذلك مقتضى النص الخاص ، فلا يحتاج إلى إعمال مرجح أصلاً.

نلخّص نتائج بحث التزاحم والتعارض في عدّة نقاط :

الاولى : أنّ الفرق بين التزاحم في الملاكات والتزاحم في الأحكام من وجهين :

الأوّل : أنّ الترجيح في التزاحم بين الملاكات بيد المولى ، وليس من وظيفة العبد في شيء ، ولو علم بأهمّية الملاك في أحد فعلين دون الآخر ، فان وظيفته امتثال الحكم المجعول من قبل المولى. هذا مضافاً إلى أنّه لا طريق له إلى الملاك. وأمّا الترجيح في التزاحم بين الأحكام فهو من ظيفة العبد لا غير.

الثاني : أنّ مقتضى القاعدة في التزاحم بين الأحكام التخيير ، وأمّا في التزاحم بين الملاكات فلا يعقل فيه التخيير ، ضرورة أنّه لا معنى لتخيير المولى بين جعل الحكم على طبق هذا وجعل الحكم على طبق ذاك ، لفرض أنّ الملاكين متزاحمان فلايصلح شيء منهما لأن يكون منشأً لجعل حكم شرعي ، فانّ الملاك المزاحم لا يصلح لذلك.

الثانية : أنّ التنافي بين الحكمين المتزاحمين إنّما هو في مقام الامتثال الناشئ من عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في الخارج اتفاقاً ، ولا تنافي بينهما بالذات أبداً ، لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى ، وهذا بخلاف باب التعارض ، فانّ التنافي بين الحكمين في هذا الباب بالذات ، وقد ذكرنا أنّ ملاك أحد البابين أجنبي عن ملاك الباب الآخر بالكلّية.

الثالثة : أنّ ملاك التعارض والتزاحم لا يختص بوجهة نظر مذهب العدلية ،

١٥٢

بل يعم جميع المذاهب والآراء كما تقدّم.

الرابعة : أنّ منشأ التزاحم بين الحكمين بجميع أشكاله إنّما هو عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، وأمّا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ التزاحم بين الحكمين قد ينشأ من جهة اخرى ، لا من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، فقد تقدّم أنّه غير داخل في باب التزاحم أصلاً ، بل هو داخل في باب التعارض.

الخامسة : أنّ مقتضى القاعدة في مسألة التعارض هو تساقط الدليلين المتعارضين عن الحجية والاعتبار.

السادسة : أنّ مرجحات هذه المسألة تنحصر بموافقة الكتاب أو السنّة وبمخالفة العامة ، وليس غيرهما بمرجح ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعم غيرهما. ومن ناحية ثالثة : أنّ المراد بالمخالفة للكتاب أو السنّة في روايات الترجيح ليس المخالفة على وجه التباين أو العموم من وجه ، ضرورة أنّ المخالفة على هذا الشكل لم تصدر عنهم عليهم‌السلام أبداً ، بل المراد منها المخالفة على نحو العموم والخصوص المطلق.

السابعة : أنّ مقتضى القاعدة في التزاحم بين الحكمين هو التخيير ، غاية الأمر على القول بجواز الترتب التخيير عقلي ، فانّه نتيجة اشتراط التكليف من الأوّل بالقدرة وليس أمراً حادثاً ، وعلى القول بعدم جوازه التخيير شرعي ، بمعنى أنّ الشارع قد حكم بوجوب أحدهما في هذا الحال كما سبق.

الثامنة : قد ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ ما لا بدل له يتقدّم على ما له بدل في مقام المزاحمة ، وطبّق هذه الكبرى على فروع ثلاثة : ١ ـ أنّ الواجب التخييري إذا زاحم ببعض أفراده الواجب التعييني فيقدّم التعييني عليه وإن كان

١٥٣

الواجب التخييري أهم منه. ٢ ـ ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في تطهير البدن أو في الوضوء أو الغسل ، وبما أنّ للثاني بدلاً فيقدّم الأوّل عليه. ٣ ـ ما إذا دار الأمر بين إدراك ركعة في الوقت مع الطهارة المائية وإدراك تمام الركعات فيه مع الطهارة الترابية فيقدّم الثاني على الأوّل باعتبار أنّ له بدلاً.

ولكن ناقشنا في جميع هذه الفروع ، وأ نّه ليس شيء منها داخلاً في تلك الكبرى. أمّا الأوّل : فهو ليس من باب التزاحم في شيء ، لقدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين معاً ، ومعه لا مزاحمة بينهما أصلاً. وأمّا الثاني : فلفرض أنّ لكل منهما بدلاً ، فكما أنّ للصلاة مع الطهارة المائية بدلاً ، فكذلك للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب. هذا مضافاً إلى ما ذكرناه (١) من أنّه لا يعقل التزاحم بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط لواجب واحد كما تقدّم. وأمّا الثالث : فيرد عليه عين ما أوردناه من الايرادين على الفرع الثاني.

ولكن مع ذلك يمكن الحكم بتقديم إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية على إدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية بملاك آخر ، وهو أنّا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (٢) بضميمة الروايات (٣) الواردة في تفسيره إلى قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) إلخ (٤) ، فالنتيجة هي أنّ المكلف إذا تمكن في الوقت من استعمال الماء فوظيفته الوضوء أو الغسل ، وإن لم يتمكن من استعماله

__________________

(١) في ص ١٠٦

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨

(٣) الوسائل ٤ : ١٥٦ / أبواب المواقيت ب ١٠

(٤) المائدة ٥ : ٦

١٥٤

فوظيفته التيمم وإتيان الصلاة به ، كما سبق. وقد تحصّل من ذلك أنّ ما أفاده قدس‌سره من الكبرى ، وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل متين جداً ، إلاّ أنّها لا تنطبق على شيء من تلك الفروع.

التاسعة : أنّ الواجبين المتزاحمين إذا كان أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر مشروطاً بها عقلاً ، فيتقدّم ما هو المشروط بالقدرة عقلاً على ما هو المشروط بها شرعاً ، من دون فرق بين أن يكون متقدماً عليه زماناً أو متقارناً معه أو متأخراً عنه.

العاشرة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد أنكر جريان الترتب فيما إذا كان أحد المتزاحمين مشروطاً بالقدرة عقلاً والآخر مشروطاً بها شرعاً ، بعد ما سلّم تقديم الأوّل على الثاني ، وقد ذكرنا أنّ ما أفاده قدس‌سره يرتكز على أصل خاطئ ، وهو توهم أنّ الترتب إنّما يجري فيما إذا احرز أنّ في كل من المتزاحمين ملاكاً في هذا الحال ، وفي مثل المقام بما أنّه لا يمكن إحراز أنّ ما هو مشروط بالقدرة شرعاً واجد للملاك ، فلا يمكن إثبات الأمر له بالترتب.

ولكنّه توهّم فاسد ، والوجه فيه هو أنّ جريان الترتب في موردٍ لا يتوقف على إحراز الملاك فيه ، لعدم الطريق إليه أصلاً مع قطع النظر عن تعلق الأمر به ، بل ملاك جريانه هو أنّه لا يلزم من اجتماع الأمرين على نحو الترتب في زمان واحد طلب الضدّين ، وعليه فالمتعيّن هو رفع اليد عن إطلاق كليهما في فرض التساوي ، وعن إطلاق أحدهما في فرض كون الآخر أهم.

الحادية عشرة : أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً يتقدّم ما هو أسبق زماناً على غيره ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ السبق الزماني إنّما يكون من المرجحات فيهما خاصة ، لا فيما كان مشروطاً بالقدرة عقلاً ، فانّه لا أثر للسبق الزماني فيه أصلاً.

١٥٥

الثانية عشرة : أنّ التزاحم بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر لايكون من صغريات التزاحم بين الواجبين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، فانّ كونه من صغريات تلك الكبرى يبتني على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً كما هو المشهور ، ولكن قد ذكرنا أنّ هذا التفسير خاطئ بحسب الروايات ، فانّ الاستطاعة قد فسّرت فيها بالزاد الكافي لحجه ولقوت عياله إلى زمان الرجوع ، والراحلة مع أمن الطريق.

الثالثة عشرة : أنّ وجوب النذر لا يكون مقدّماً على وجوب الحج زماناً ، سواء أقلنا بامكان الوجوب التعليقي أو استحالته ، والمقدّم إنّما هو سببه ولا عبرة به ، فإذن لا وجه لتقديم وجوب النذر على وجوب الحج ، وإن قلنا بكونه مشروطاً بالقدرة شرعاً.

الرابعة عشرة : أنّ اشتراط وجوب النذر وما شاكله بالقدرة شرعاً مستفاد من نفس الروايات الدالة على عدم نفوذ ذلك فيما إذا كان مخالفاً للكتاب أو السنّة.

الخامسة عشرة : أنّ الواجبات المجعولة في الشريعة المقدّسة بالعناوين الثانوية كالنذر والشرط في ضمن عقد والعهد واليمين وما شابه ذلك ، لا تصلح أن تزاحم الواجبات المجعولة فيها بالعناوين الأوّلية كالصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك.

السادسة عشرة : أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً إذا كانا عرضيين ، فيجري فيهما ما يجري في المتزاحمين العرضيين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً ، من جريان الترتب فيهما والترجيح بالأهمّية أو احتمالها ، وكون التخيير بينهما عقلياً لا شرعياً ..

السابعة عشرة : أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً

١٥٦

بالقدرة عقلاً ، فإن كان أحدهما أهم من الآخر فلا إشكال في تقديمه على غيره وإن كان متأخراً عنه زماناً ، وكذا إذا كان محتمل الأهمّية من جهة أنّ إطلاق الطرف الآخر ساقط يقيناً ، وأمّا إطلاق هذا الطرف فسقوطه مشكوك فيه ، فنأخذ به وإن كانا متساويين فالحكم فيهما التخيير ، بمعنى تقييد وجوب كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر. وأمّا بناءً على عدم إمكان الترتب فيدخل المقام في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في مقام الامتثال ، وقد ذكرنا أنّ المرجع فيه التعيين. نعم ، إذا كان الشك فيهما في مقام الجعل بأن كان المجعول غير معلوم ، فتجري أصالة البراءة عن احتمال التعيين.

الثامنة عشرة : أنّ إحراز كون الواجب المتأخر ذو ملاك ملزم في ظرفه بناءً على وجهة نظرنا من إمكان الواجب التعليقي واضح ، فانّ ثبوت الوجوب فعلاً كاشف عنه لا محالة ، وأمّا بناءً على عدم إمكانه ، فإن علم من الخارج أنّه واجد للملاك الملزم في ظرفه فهو ، وإلاّ فلا نحكم بتقديمه على الواجب الفعلي ، لعدم إحراز أنّه ذو ملاك ملزم في زمانه.

التاسعة عشرة : أنّ القدرة المعتبرة في الواجب المتأخر إن كانت قدرة خاصة ، وهي القدرة في ظرف العمل ، فلا وجه لتقديمه على الواجب الفعلي وإن كان أهم منه ، بل الأمر بالعكس ، لفرض عدم وجوب حفظ القدرة له في ظرفه ، وقد رتّبنا على تلك الكبرى عدّة من الفروع التي تقدّمت.

العشرون : أنّه لا فرق في جريان الترتب بين الواجبين العرضيين ، والواجبين الطوليين ، فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث قد أنكر جريانه في الواجبين الطوليين.

الحادية والعشرون : أنّ موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط ، داخلة في كبرى باب التعارض ، فيرجع إلى قواعد

١٥٧

ذلك الباب.

الثانية والعشرون : أنّ إطلاق الكتاب يتقدّم على إطلاق غيره في مقام المعارضة إذا لم يكن إطلاق غيره قطعياً ، كما إذا كان الدليل الدال على أحد الجزأين أو الشرطين إطلاقاً من الكتاب ، والدليل الدال على الآخر إطلاقاً من غيره ، فيتقدّم الأوّل على الثاني في هذه الموارد ، أعني موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ، بناءً على القول بالتعارض فيها دون القول بالتزاحم.

الثالثة والعشرون : أنّ موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما تتصور على صور :

١ ـ عدم تمكنه من الجمع بين ركنين ، فيدور الأمر بين سقوط هذا الركن وسقوط الركن الآخر ، وقد عرفت أنّ المتعيّن في هذه الصورة سقوط الصلاة ، ولا موضوع لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.

٢ ـ عدم تمكنه من الجمع بين ركن بتمام مراتبه وبين مرتبة اختيارية لآخر ، وقد سبق أنّ المتعيّن في هذه الصورة سقوط تلك المرتبة.

٣ ـ عدم تمكنه من الجمع بين مرتبة اختيارية لركن ومرتبة اختيارية لآخر. وقد تقدّم أنّه تقع المعارضة بين دليليهما ، فالمرجع هو قواعد بابها.

٤ ـ عدم تمكنه من الجمع بين المرتبة الاختيارية من الركن وبين سائر الأجزاء أو الشرائط. وقد عرفت أنّ في هذه الصورة أيضاً تقع المعارضة بين دليليهما ، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحاتها على تفصيل قد تقدّم.

٥ ـ عدم تمكنه من الجمع بين ركن بعرضه العريض وبين بقية الأجزاء أو الشرائط. وقد سبق أنّ في هذه الصورة لا بدّ من تقديم الركن عليها من جهة ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.

١٥٨

٦ ـ عدم تمكنه من الجمع بين الجزء والشرط. وقد عرفت أنّ الصحيح في هذه الصورة أيضاً وقوع المعارضة بين دليليهما ، لا تقدّم الجزء على الشرط.

الرابعة والعشرون : أنّه إذا تعذّر قيد شرط أو جزء ، فإن كان مقوّماً له ، فسقوطه لا محالة يوجب سقوط ذلك الشرط أو الجزء ، وإن لم يكن مقوّماً له ، فسقوطه لا يوجب سقوط ذلك أصلاً ، فإذن الساقط هو خصوص القيد دون المقيد.

الخامسة والعشرون : أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من تطبيق كبرى باب التزاحم على تلك الفروع غير تام. وعلى تقدير التنزّل وتسليمه ، فما أفاده قدس‌سره من المرجحات لتقديم بعض الأجزاء أو الشرائط على بعضها الآخر لا يتم على إطلاقه ، كما سبق بصورة مفصّلة.

تذييل

وهو أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) قد قسّم التزاحم إلى سبعة أقسام :

الأوّل : التزاحم بين الحكمين من غير ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال. وقد تقدّم الكلام فيه مفصّلاً ، وقلنا هناك إنّه ليس من التزاحم في شيء ، بل هو من التعارض فلاحظ.

الثاني : التزاحم في الملاكات بعضها مع بعضها الآخر ، كأن يكون في الفعل جهة مصلحة تقتضي إيجابه ، وجهة مفسدة تقتضي حرمته وهكذا. وقد سبق الكلام فيه أيضاً (٢) ، وذكرنا هناك أنّ هذا النوع من التزاحم خارج عن محل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٢

(٢) في ص ١

١٥٩

الكلام بالكلّية ، وأنّ الأمر فيه بيد المولى ، وعليه أن يلاحظ الجهات الواقعية والملاكات النفس الأمرية الكامنة في الأفعال الاختيارية للعباد ، فيجعل الحكم على طبق ما هو الأقوى والأهم منها دون غيره ، وأمّا إذا لم يكن أحدهما أقوى من الآخر بل كانا متساويين ، فليس الحكم في هذه الصورة التخيير ، كما هو الحال في التزاحم بين الأحكام بعضها مع بعضها الآخر ، ضرورة أنّ التخيير فيها غير معقول ، فلا معنى لتخيير المولى بين جعل الحكم على طبق هذا وجعله على طبق ذاك ، فانّ جعله على طبق كليهما غير معقول ، وعلى وفق أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، مع أنّه بلا مقتض ، فإذن يسقطان معاً ، لأنّ الملاك المزاحم بالملاك الآخر لا أثر له أصلاً ، فعندئذ يمكن للمولى أن يجعل له الاباحة ، وكيف كان فهذا التزاحم خارج عما نحن فيه ، ولذا لا يمكن البحث عن جريان الترتب فيه وعدم جريانه ، كما أنّ في فرض التساوي بينهما ليس الحكم فيه التخيير. مع أنّه مقتضى القاعدة في التزاحم بين حكمين مجعولين ، وفي فرض عدم التساوي الترجيح يكون بيد المولى دون العبد ، وهذا بخلاف التزاحم المبحوث عنه هنا.

الثالث : التزاحم الناشئ من عدم قدرة المكلف اتفاقاً ، كما هو الحال في التزاحم بين وجوب إنقاذ غريق وإنقاذ غريق آخر ، فيما إذا لم يكن المكلف قادراً على امتثال كليهما معاً.

الرابع : التزاحم الناشئ من جهة وقوع المضادة بين الواجبين اتفاقاً ، فانّ المضادة بينهما إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليليهما ، لوقوع المصادمة عندئذ في مرحلة الجعل ، لا في مرحلة الامتثال والفعلية.

الخامس : التزاحم في موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك ماهيتان متعددتان ، ولم نقل بسراية الحكم من إحداهما إلى الاخرى ، بناءً على ما هو

١٦٠