محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-14-6
الصفحات: ٥٢٠

الأمر بالأمر بفعلٍ

أمر بذلك الفعل أم لا

توضيح ذلك أنّه بحسب مقام الثبوت والواقع يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يكون غرض المولى قائماً بخصوص الأمر الثاني باعتبار أنّه فعل اختياري للمكلف ، فلا مانع من أن يقوم غرض المولى به وكونه متعلقاً لأمره كسائر أفعاله الاختيارية مثل الصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك. وعلى الجملة فلا مانع من أن يأمر الشارع بايجاد أمر بشيء أو إيجاد نهي عن آخر كما هو الحال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الثاني : أن يكون قائماً بالفعل الصادر من المأمور الثاني ، فيكون الأمر الثاني ملحوظاً على نحو الطريقية ، من دون أن يكون له دخل في غرض المولى أصلاً ، ولذا لو صدر الفعل من المأمور الثاني من دون توسط أمر من المأمور الأوّل لحصل الغرض ولا يتوقف حصوله على صدور الأمر منه. فإذن ليس له شأن ما عدا كونه واقعاً في طريق إيصال أمر المولى إلى هذا الشخص ، فهذا القسم في طرفي النقيض مع القسم الأوّل ، فانّ غرض المولى في القسم الأوّل متعلق بالأمر الصادر من المأمور الأوّل دون الفعل الصادر من الثاني ، فيكون المأمور به هو الأمر فقط ، وفي هذا القسم متعلق بالفعل دون الأمر ، بمعنى أنّ المأمور به هو

٢٦١

الفعل ، والأمر طريق إلى إيصال أمر المولى إلى المكلف بهذا الفعل ، وهذا القسم هو الغالب والمتعارف من الأمر بالأمر بشيء لا القسم الأوّل.

الثالث : أن يكون الغرض قائماً بهما معاً ، بمعنى أنّ الفعل مطلوب من المأمور الثاني بالأمر من المأمور الأوّل لا مطلقاً ، بحيث لو اطّلع المكلف من طريق آخر على أمر المولى من دون واسطة أمره لم يجب عليه إتيانه ، فوجوب إتيانه عليه منوط بأن يكون اطلاعه على أمر المولى بواسطة أمره لا مطلقاً ، فإذن هذا القسم يكون واسطةً بين القسم الأوّل والثاني.

ونقطة الفرق بين هذه الوجوه : هي أنّه على الوجه الأوّل لا يجب الفعل على الثاني ، لفرض أنّ غرض المولى يحصل من صدور الأمر من الأوّل ، سواء صدر الفعل من الثاني أيضاً أم لا ، فإذا صدر الأمر منه فقد حصل الغرض. وعلى الوجه الثاني يجب الفعل عليه ولو فرض أنّه اطّلع على أمر المولى به من طريق آخر غير الأمر من المأمور الأوّل. وعلى الوجه الثالث يجب عليه الاتيان به إذا أمر به المأمور الأوّل لا مطلقاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الظاهر من الأمر بالأمر بشيء هو القسم الثاني دون القسم الأوّل والثالث ، ضرورة أنّه المتفاهم من ذلك عرفاً ، فلو أمر المولى أحداً بأن يأمر زيداً مثلاً بفعل كذا ، الظاهر منه هو هذا القسم دون غيره.

ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر بشيء على كونه أمراً به ، بل لا بدّ للدلالة عليه من قرينة ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، لما عرفت من أنّه دال على ذلك بمقتضى الفهم العرفي ، ولا حاجة في الدلالة عليه من نصب قرينة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٤

٢٦٢

ثمّ إنّ الثمرة المترتبة على هذا النزاع هي شرعية عبادة الصبي بمجرد ما ورد في الروايات من قوله عليه‌السلام : « مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين » (١) ونحوه مما ورد في أمر الولي للصبي ، فانّه بناءً على ما ذكرناه من أنّ الأمر بالأمر بشيء ظاهر عرفاً في كونه أمراً بذلك الشيء ، تدل تلك الروايات على شرعية عبادة الصبي ، لفرض عدم قصور فيها ، لا من حيث الدلالة كما عرفت ، ولا من حيث السند ، لفرض أنّ فيها روايات معتبرة.

قد يقال كما قيل : إنّه يمكن إثبات شرعية عبادة الصبي بعموم أدلة التشريع كقوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ )(٢) وقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )(٣) وما شاكلهما ، ببيان أنّ تلك الأدلة باطلاقها تعمّ البالغ وغيره ، فانّها كما تدل على تشريع هذه الأحكام للبالغين ، كذلك تدل على تشريعها لغيرهم ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية. وحديث « رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم » (٤) لا يقتضي أزيد من رفع الالزام ، لفرض أنّ هذا الحديث ورد في مورد الامتنان ، ومن المعلوم أنّ المنّة إنّما هي في رفع الحكم الالزامي ، وأمّا رفع الحكم غير الالزامي فلا منة فيه أبداً. فإذن هذا الحديث يرفع الالزام عن عبادة الصبي فحسب لا أصل المحبوبية عنها ، وعلى هذا فتكون عباداته مشروعة لا محالة. فالنتيجة أنّه مع قطع النظر عن تلك الروايات يمكن إثبات مشروعية عباداته (٥).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٨ / أبواب أعداد الفرائض ب ٣ ح ٥ ( مع اختلاف يسير )

(٢) البقرة ٢ : ٤٣

(٣) البقرة ٢ : ١٨٣

(٤) الوسائل ١ : ٤٢ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٤

(٥) حقائق الاصول ١ : ٣٤٢

٢٦٣

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية وملخصها : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ الوجوب عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ من لفظ أو نحوه ، ولا نعقل له معنىً ما عدا ذلك ، وعلى هذا فليس في مورد تلك العمومات إلاّ اعتبار الشارع الصلاة والصوم والحج وما شاكلها على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بها ، أي بتلك العمومات ، غاية الأمر إن قامت قرينة من الخارج على الترخيص فينتزع منه الاستحباب وإلاّ فينتزع منه الوجوب ، وحيث إنّه لا قرينة على الترخيص في موارد هذه العمومات ، فلا محالة ينتزع منه الوجوب ، وقد عرفت أنّه لا شأن له ما عدا ذلك.

وعلى هذا الضوء فحديث الرفع وهو قوله عليه‌السلام : « رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم » يكون رافعاً لذاك الاعتبار ـ أي اعتبار الشارع هذه الأفعال على ذمّة المكلف ـ فيدل على أنّ الشارع لم يعتبر تلك الأفعال على ذمّة الصبي ، وعليه فكيف يمكن إثبات مشروعية عباداته بهذه العمومات ، لفرض أنّ مفاده هو أنّ قلم الاعتبار والتشريع مرفوع عنه في مقابل وضعه واعتباره في ذمّته. فإذن تلك العمومات أجنبية عن الدلالة على مشروعية عباداته بالكلّية.

وبكلمة اخرى : أنّ الأمر سواء أكان عبارة عن الارادة أو عن الطلب أو عن الوجوب أو عن الاعتبار النفساني المبرز في الخارج بمبرز ما ، بسيط في غاية البساطة ، وعلى هذا فمدلول هذه العمومات سواء أكان طلب هذه الأفعال أو وجوبها أو إرادتها أو اعتبارها في ذمّة المكلف ، لا محالة يقيّد بغير الصبي والمجنون وما شاكلهما بمقتضى حديث الرفع ، لفرض أنّ مفاد الحديث هو عدم تشريع مدلول تلك العمومات للصبي ونحوه ، فإذن كيف تكون هذه العمومات دالة على مشروعية عبادته من الصوم والصلاة وما شاكلهما.

٢٦٤

وتوهّم أنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، والمرفوع بحديث الرفع هو المنع من الترك لا أصل الطلب بل هو باقٍ ، وعليه فتدلّ العمومات على مشروعيتها خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً ، والوجه في ذلك :

أمّا أوّلاً : فلأ نّه على تقدير تسليم كون الوجوب هو المجعول في موارد هذه العمومات ، إلاّ أنّه لا شبهة في أنّه أمر بسيط ، وليس هو بمركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، وإلاّ لكان تركه محرّماً وممنوعاً شرعاً ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، ضرورة أنّ تركه ليس بمحرّم ، بل فعله واجب ، والعقاب إنّما هو على تركه لا على ارتكاب محرّم. أو فقل : إنّ لازم ذلك هو انحلال وجوب كل واجب إلى حكمين : أحدهما متعلق بفعله والآخر متعلق بتركه ، وهذا باطل جزماً ، كما ذكرناه غير مرّة.

ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الوجوب أمر بسيط لا تركيب فيه أصلاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ هذا مرفوع عن الصبي بمقتضى حديث الرفع ، ومن المعلوم أنّه بعد رفعه لا دلالة لتلك العمومات على مشروعية عباداته كما هو واضح.

وأمّا ثانياً : فلأ نّه على فرض تسليم أنّ الوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، مع ذلك لا تتم هذه النظرية ، وذلك لأنّها ترتكز على أن يبقى الجنس بعد ارتفاع الفصل وهو خلاف التحقيق ، بل لا يعقل بقاؤه بعد ارتفاعه ، كيف فانّ الفصل مقوّم له ، وعلى هذا فلا محالة يرتفع طلب الفعل بارتفاع المنع من الترك المقوّم له ، وأمّا إثبات الطلب الآخر فهو يحتاج إلى دليل ، فالعمومات لا تدل على ذلك كما هو ظاهر ، ومن هنا قد ذكرنا (١) أنّ نسخ الوجوب لا يدل

__________________

(١) في ص ٢٠٣

٢٦٥

على بقاء الجواز أو الرجحان.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذه النظرية إنّما تتم فيما إذا كان الدليل على مشروعية هذه العبادات على نحو الاطلاق شيء ، والدليل على وجوبها ولزومها شيء آخر ، ليكون حديث الرفع ناظراً إلى الدليل الثاني ومقيّداً لمدلوله دون الدليل الأوّل ، ولكن الأمر هنا ليس كذلك كما هو واضح. لحدّ الآن قد تبيّن أنّه لا يمكن إثبات مشروعية عبادات الصبي بتلك العمومات أصلاً.

فالصحيح أنّ الدليل على مشروعيتها إنّما هو تلك الروايات فحسب ، ومع قطع النظر عنها أو مع المناقشة فيها كما عن بعض ، فلا يمكن إثبات مشروعيتها أصلاً كما عرفت.

ونتائج هذا البحث عدّة نقاط :

الاولى : أنّ الأمر بالأمر بشيء يتصوّر بحسب مقام الثبوت على وجوه ثلاثة كما تقدّم.

الثانية : أنّ الظاهر من هذه الوجوه بحسب مقام الاثبات الوجه الثاني ، وهو ما كان الغرض قائماً بالفعل لا بالأمر الصادر من المأمور الأوّل.

الثالثة : أنّ الثمرة المترتبة على هذا البحث هي مشروعية عبادات الصبيان على تقدير ظهور تلك الروايات في الوجه الثاني أو الثالث كما عرفت.

الرابعة : أنّ ما توهّم من إمكان إثبات شرعية عباداتهم بالعمومات الأوّلية خاطئ جداً ، لما عرفت من أنّ تلك العمومات أجنبية عن الدلالة على ذلك بالكلّية بعد تقييدها بحديث الرفع بالبالغين.

الخامسة : أنّ الدليل على شرعية عبادات الصبي إنّما هو الروايات المتقدمة أعني قوله عليه‌السلام : « مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين » ونحوه.

٢٦٦

الأمر بشيء بعد الأمر به ظاهر

في التأكيد أو التأسيس

لا إشكال في أنّ الأمر بشيء في نفسه ظاهر في التأسيس ، وإنّما الاشكال فيما إذا كان مسبوقاً بأمر آخر ، فهل هو عندئذ ظاهر في التأسيس أو التأكيد ـ إذا كانا مطلقين بأن لم يذكر سببهما أو ذكر سبب واحد ـ أم لا؟ وجوه.

الظاهر هو الوجه الثاني ، ضرورة أنّ المتفاهم عرفاً من مثل قول المولى : صلّ ثمّ قال : صلّ هو التأكيد ، بمعنى أنّ الأمر الثاني تأكيد للأمر الأوّل ، وهذا واضح.

نعم ، لو قيّد الأمر الثاني بالمرّة الاخرى ونحوها ، لكان دالاًّ على التأسيس لا محالة ، فيكون المراد وقتئذ من الأمر الأوّل صِرف وجود الطبيعة ومن الثاني الوجود الثاني منها.

ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، فانّ محل الكلام فيما إذا كان الأمر الثاني متعلقاً بعين ما تعلق به الأمر الأوّل من دون تقييده بالمرّة الاخرى أو نحوها ، وإلاّ فلا إشكال في دلالته على التأسيس ، وأمّا إذا لم يكونا مطلقين ، بأن ذكر سببهما كقولنا : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة ، أو قولنا : إن نمت فتوضأ ، وإن بلت فتوضأ ، وهكذا ، فهل الأمر الثاني ظاهر في التأكيد أو التأسيس؟ فيه كلام سيأتي بيانه في بحث المفاهيم إن شاء الله

٢٦٧

تعالى (١) بصورة مفصّلة وخارج عن محل كلامنا هنا.

وعلى الجملة : فمحل الكلام في المقام فيما إذا كان الأمران مطلقين ولم يذكر سببهما أو ذكر سبب واحد ، ففي مثل ذلك قد عرفت أنّ الظاهر من الأمر الثاني هو التأكيد دون التأسيس ، فانّه قضية إطلاق المادة وعدم تقييدها بشيء.

__________________

(١) راجع المجلد الرابع من هذا الكتاب ص ٢٥٢

٢٦٨

المقصد الثاني : مبحث النواهي

وفيه جهات من البحث :

الاولى : أنّ المشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً أنّ النهي بمادته وصيغته ، كالأمر بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب ، غير أنّ متعلق النهي ترك الفعل ونفس أن لا تفعل ، ومتعلق الأمر إيجاد الفعل.

وبكلمة واضحة : أنّ المعروف بينهم هو أنّ النهي يشترك مع الأمر في المعنى الموضوع له وهو الدلالة على الطلب ، ومن هنا أنّهم يعتبرون في دلالة النهي عليه ما اعتبروه في دلالة الأمر من كونه صادراً عن العالي ، فلو صدر عن السافل أو المساوي فلا يكون نهياً حقيقةً ، وغير ذلك مما قدّمناه في بحث الأوامر بشكل واضح وبصورة مفصّلة ، فلا فرق بينهما من هذه النواحي أصلاً.

نعم ، فرق بينهما في نقطة اخرى ، وهي أنّ متعلق الطلب في طرف النهي الترك وفي طرف الأمر الفعل.

وقد اشكل عليه : بأنّ الترك أمر أزلي خارج عن القدرة والاختيار وسابق عليها ، ومن الواضح جداً أنّه لا تأثير للقدرة في الأمر السابق ، ضرورة أنّ القدرة إنّما تتعلق بالأمر الحالي ، ولا يعقل تعلقها بالأمر السابق المنصرم زمانه فضلاً عن الأمر الأزلي ، وعليه فلا يمكن أن يتعلق النهي به ، ضرورة استحالة تعلقه بما هو خارج عن الاختيار والقدرة.

٢٦٩

ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنّ المطلوب في النواهي هو كفّ النفس عن الفعل في الخارج ، دون الترك ونفس أن لا تفعل.

وغير خفي أنّ هذا الاشكال يرتكز على نقطة واحدة ، وهي أن يكون متعلق النهي العدم السابق ، فانّ هذا العدم أمر خارج عن القدرة والاختيار ، فلا يعقل تعلقها به ، إلاّ أنّ تلك النقطة خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع ، وذلك لأنّ متعلقه الترك اللاّحق ، ومن المعلوم أنّه مقدور على حد مقدورية الفعل ، لوضوح استحالة تعلّق القدرة بأحد طرفي النقيض ، فإذا كان الفعل مقدوراً للمكلف كما هو المفروض فلا محالة يكون تركه مقدوراً بعين تلك المقدورية ، وإلاّ فلا يكون الفعل مقدوراً وهذا خلف.

فالنتيجة : هي أنّ النهي يشترك مع الأمر في المعنى الموضوع له وهو الطلب ويمتاز عنه في المتعلق ، فانّه في الأوّل هو الترك وفي الثاني الفعل ، فيدل الأوّل على طلب الترك وإعدام المادة في الخارج ، والثاني على طلب الفعل وإيجاد المادة فيه.

ثمّ إنّهم قد رتّبوا على ضوء هذه النظرية ـ أعني دلالة النهي على طلب ترك الطبيعة ودلالة الأمر على طلب إيجادها ـ أنّ متعلق الطلب في طرف الأمر حيث إنّه صِرف إيجاد الطبيعة في الخارج فلا يقتضي عقلاً إلاّ إيجادها في ضمن فردٍ مّا ، ضرورة أنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل وجودها ، وبه يتحقق الامتثال ويحصل الغرض ، ومعه لا يبقى مجال لايجادها في ضمن فرد ثان وهكذا كما هو واضح.

وأمّا في طرف النهي فبما أنّه صِرف ترك الطبيعة ، فلا محالة لا يمكن تركها إلاّ بترك جميع أفرادها في الخارج العرضية والطولية ، ضرورة أنّ الطبيعة في

٢٧٠

الخارج تتحقق بتحقق فرد منها ، فلو أوجد المكلف فرداً منها فقد أوجد الطبيعة فلم تترك.

وإلى ذلك أشار المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بما حاصله : هو أنّه لا فرق بين الأمر والنهي في الدلالة الوضعية ، فكما أنّ صيغة الأمر تدل وضعاً على طلب إيجاد الطبيعة من دون دلالة لها على الدوام والتكرار ، فكذلك صيغة النهي تدل وضعاً على طلب ترك الطبيعة بلا دلالة لها على الدوام والاستمرار.نعم ، تختلف قضيتهما عقلاً ولو مع وحدة المتعلق ، بأن تكون طبيعة واحدة متعلقة للأمر مرّةً وللنهي مرّة اخرى ، ضرورة أنّ وجودها بوجود فردٍ واحد من أفرادها ، وعدمها لا يمكن إلاّبعدم الجميع.

ومن هنا قال قدس‌سره : إنّ الدوام والاستمرار إنّما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال ، فانّه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومةً إلاّبعدم جميع أفرادها الدفعية والتدريجية. وبالجملة قضية النهي ليس إلاّترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له ، كانت مقيدة أو مطلقة ، وقضية تركها عقلاً إنّما هو ترك جميع أفرادها.

أقول : إنّ كلامه قدس‌سره هذا صريح فيما ذكرناه من أنّ النهي لا يدل وضعاً إلاّعلى ترك الطبيعة ، سواء أكانت مطلقة أم مقيدة. نعم ، لو كانت الطبيعة مقيدة بزمان خاص أو حال مخصوص لم يعقل فيها الدوام والاستمرار ، وكيف كان ، فالنهي لا يدل إلاّعلى ذلك ، ولكن العقل يحكم بأنّ ترك الطبيعة في الخارج لا يمكن إلاّبترك جميع أفرادها العرضية والطولية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٩

٢٧١

وقد تحصّل مما ذكرناه أنّ النقطة الرئيسية لنظريتهم أمران :

الأوّل : أنّ النهي يشترك مع الأمر في الدلالة على الطلب ، فكما أنّ الأمر يدل عليه بهيئته فكذلك النهي. نعم ، يمتاز النهي عن الأمر في أنّ متعلق الطلب في النهي صرف ترك الطبيعة ، وفي الأمر صِرف وجودها.

الثاني : أنّ قضية النهي عقلاً من ناحية متعلقه تختلف عن قضية الأمر كذلك ، باعتبار أنّ متعلق النهي حيث إنّه صِرف الترك فلا يمكن تحققه إلاّباعدام جميع أفراد تلك الطبيعة في الخارج عرضاً وطولاً ، ضرورة أنّه مع الاتيان بواحدٍ منها لا يتحقق صِرف تركها خارجاً ، ومتعلق الأمر حيث إنّه صِرف الوجود فيتحقق بايجاد فرد منها ، وبعده لا يبقى مقتضٍ لايجاد فردٍ آخر وهكذا.

ولنأخذ بالمناقشة في كلا هذين الأمرين معاً ، أعني المبنى والبناء.

أمّا الأوّل : فيردّه أنّ النهي بما له من المعنى مادةً وهيئة يباين الأمر كذلك ،فلا اشتراك بينهما في شيء أصلاً. وهذا لا من ناحية ما ذكره جماعة من المحققين من أنّ النهي موضوع للدلالة على الزجر والمنع عن الفعل باعتبار اشتمال متعلقه على مفسدة إلزامية ، والأمر موضوع للدلالة على البعث والتحريك نحو الفعل باعتبار اشتماله على مصلحة إلزامية ، وذكروا في وجه ذلك هو أنّ النهي لا ينشأ من مصلحة لزومية في الترك ليقال إنّ مفاده طلبه ، بل هو ناشئ من مفسدة لزومية في الفعل ، وعليه فلا محالة يكون مفاده الزجر والمنع عنه ، فإذن لا وجه للقول بأنّ مفاده طلب الترك أصلاً.

فما ذكرناه من أنّ النهي بما له من المعنى يباين الأمر كذلك ليس من هذه الناحية ، بل من ناحية اخرى.

فلنا دعويان :

٢٧٢

الاولى : أنّ التباين بين الأمر والنهي في المعنى ليس من هذه الناحية.

الثانية : أنّه من ناحية اخرى.

أمّا الدعوى الاولى : فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ تفسير الأمر مرّةً بالطلب ومرّة اخرى بالبعث والتحريك ، ومرّة ثالثة بالارادة ، وكذا تفسير النهي تارةً بالطلب ، وتارة اخرى بالزجر والمنع ، وتارة ثالثة بالكراهة لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنىً محصّل ، ضرورة أنّ هذه مجرد ألفاظ لا تتعدى عن مرحلة التعبير وليس لها واقع موضوعي أبداً.

نعم ، إنّ صيغة الأمر مصداق للبعث والتحريك لا أنّهما معناها ، كما أنّها مصداق للطلب والتصدي ، وكذلك صيغة النهي مصداق للزجر والمنع ، وليس الزجر والمنع معناها ، وأمّا الارادة والكراهة فليستا معنى الأمر والنهي بالضرورة ، لاستحالة تعلق الارادة بمعنى الاختيار ، وكذلك ما يقابلها من الكراهة بفعل الغير. نعم ، يتعلق الشوق ومقابله بفعل الغير ، ولا يحتمل أن يكونا معنى الأمر والنهي ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا في محلّه أنّه لا معنى للارادة أو الكراهة التشريعية في مقابل التكوينية ، ولا نعقل لها معنىً محصّلاً ما عدا الأمر أو النهي.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لا معنى لتفسير الأمر بالارادة والنهي بالكراهة.

وخلاصة الكلام : كما أنّه لا أصل لما هو المشهور من تفسير الأمر بطلب الفعل وتفسير النهي بطلب الترك ، كذلك لا أصل لما عن جماعة من تفسير الأوّل بالبعث والتحريك ، والثاني بالزجر والمنع.

وأمّا الدعوى الثانية : فيقع الكلام فيها مرّةً في معنى الأمر ، ومرّةً اخرى في

٢٧٣

معنى النهي.

أمّا الكلام في الأوّل : فقد تقدّم في بحث الأوامر بشكل واضح أنّه إذا حلّلنا الأمر المتعلق بشيء تحليلاً موضوعياً فلا نعقل فيه ما عدا شيئين :

أحدهما : اعتبار الشارع ذلك الشيء في ذمّة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة.

وثانيهما : إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما يشبهها ، فالصيغة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني ، لا للبعث والتحريك ولا للطلب. نعم ، قد عرفت أنّ الصيغة مصداق للبعث والطلب ونحو تصدٍّ إلى الفعل ، فانّ البعث والطلب قد يكونان خارجيين وقد يكونان اعتباريين ، فصيغة الأمر أو ما شاكلها مصداق للبعث والطلب الاعتباري لا الخارجي ، ضرورة أنّها تصدٍّ في اعتبار الشارع إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه ، لا تكويناً وخارجاً كما هو واضح.

ونتيجة ما ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّ صيغة الأمر وما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني ، وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمّة المكلف ، ولا تدل على أمر آخر ما عدا ذلك.

الثاني : أنّها مصداق للبعث والطلب لا أنّهما معناها.

وأمّا الكلام في الثاني : فالأمر أيضاً كذلك عند النقد والتحليل ، وذلك ضرورة أنّا إذا حلّلنا النهي المتعلق بشيء تحليلاً علمياً لا نعقل له معنىً محصّلاً ما عدا شيئين :

أحدهما : اعتبار الشارع كون المكلف محروماً عن ذلك الشيء باعتبار

٢٧٤

اشتماله على مفسدة ملزمة وبعده عنه.

ثانيهما : إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة النهي أو ما يضاهيها ، وعليه فالصيغة أو ما يشاكلها موضوعة للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني ، لا للزجر والمنع ، نعم هي مصداق لهما.

ومن هنا يصح تفسير النهي بالحرمة باعتبار دلالته على حرمان المكلف عن الفعل في الخارج ، كما أنّه يصح تفسير الأمر بالوجوب بمعنى الثبوت باعتبار دلالته على ثبوت الفعل على ذمّة المكلف ، بل هما معناهما لغةً وعرفاً ، غاية الأمر الحرمة مرّة حرمة تكوينية خارجية كقولك : الجنّة مثلاً محرّمة على الكفار ونحو ذلك ، فانّ استعمالها في هذا المعنى كثير عند العرف ، بل هو أمر متعارف بينهم ، ومرّة اخرى حرمة تشريعية كاعتبار المولى الفعل محرّماً على المكلف في عالم التشريع وإبراز ذلك بقوله : لا تفعل أو ما يشابه ذلك ، فيكون قوله هذا مبرزاً لذلك ودالاًّ عليه ، وكذا الثبوت مرّة ثبوت تكويني خارجي ، ومرّة اخرى ثبوت تشريعي ، فصيغة الأمر أو ما شاكلها تدل على الثبوت التشريعي وتبرزه.

وعلى الجملة : فالأمر والنهي لايدلاّن إلاّعلى ما ذكرناه لا على الزجر والمنع والبعث والتحريك. نعم ، المولى في مقام الزجر عن فعلٍ باعتبار اشتماله على مفسدة لزومية يزجر عنه بنفس قوله : لا تفعل أو ما شاكله ، غاية الأمر الزجر قد يكون خارجياً ، كما إذا منع أحد آخر عن فعل في الخارج ، وقد يكون بقوله : لا تفعل أو ما يشبه ذلك ، فيكون قوله لا تفعل عندئذ مصداقاً للزجر والمنع ، لا أنّه وضع بازائه ، كما أنّ الطلب قد يكون طلباً خارجياً وتصدياً نحو الفعل في الخارج كطالب ضالة أو طالب العلم أو نحو ذلك ، وقد يكون طلباً وتصدياً في عالم الاعتبار نحو الفعل فيه بقوله : افعل أو ما يشبه ذلك ، فيكون قوله : افعل وقتئذ مصداقاً للطلب والتصدي ، لا أنّه وضع بازائه.

٢٧٥

وعلى ضوء بياننا هذا قد ظهر أنّ الأمر والنهي مختلفان بحسب المعنى ، فانّ الأمر معناه الدلالة على ثبوت شيء في ذمّة المكلف ، والنهي معناه الدلالة على حرمانه عنه ، ومتحدان بحسب المتعلق ، فانّ ما تعلق به الأمر بعينه هو متعلق النهي ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّه بناءً على وجهة نظر العدلية من أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، فلا محالة يكون النهي كالأمر متعلقاً بالفعل ، ضرورة أنّ النهي عن شيء ينشأ عن مفسدة لزومية فيه وهي الداعي إلى تحريمه والنهي عنه ، ولم ينشأ عن مصلحة كذلك في تركه ، لتدعو إلى طلبه ، وهذا واضح. فإذن لا مجال للقول بأنّ المطلوب في النواهي هو ترك الفعل ونفس أن لا تفعل ، إلاّ أن يدّعى أنّ غرضهم من ذلك هو أنّه مطلوب بالعرض وقد اخذ مكان ما بالذات ، ولكن من الواضح أنّ إثبات هذه الدعوى في غاية الاشكال.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لا شبهة في أنّ متعلق الأمر بعينه هو ما تعلق به النهي ، فلا فرق بينهما من ناحية المتعلق أبداً ، والفرق بينهما إنّما هو من ناحية المعنى الموضوع له ، كما مضى.

عدّة نقاط فيما ذكرناه :

الاولى : أنّ كلاً من الأمر والنهي اسم لمجموع المركب من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه في الخارج ، فلا يصدق على كل منهما ، ضرورة أنّه لا يصدق على مجرد اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف بدون إبرازه في الخارج ، كما أنّه لا يصدق على مجرّد إبرازه بدون اعتباره شيئاً كذلك ، وكذا الحال في النهي ، وهذا ظاهر. ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث الانشاء والاخبار من أنّ العقود والايقاعات كالبيع والاجارة والطلاق والنكاح وما شاكل ذلك أسامٍ لمجموع

٢٧٦

المركب من الأمر الاعتباري النفساني وإبراز ذلك في الخارج بمبرز ، فلا يصدق البيع مثلاً على مجرّد ذلك الأمر الاعتباري ، أو على مجرد ذلك الابراز الخارجي ، كما تقدّم هناك بشكل واضح.

الثانية : أنّ النزاع المعروف بين الأصحاب من أنّ متعلق النهي هل هو ترك الفعل ونفس أن لا تفعل ، أو الكف عنه ، باطل من أصله ، ولا أساس له أبداً.

الثالثة : أنّ نقطتي الاشتراك والامتياز بين الأمر والنهي على وجهة نظرنا ونقطتي الاشتراك والامتياز بينهما على وجهة نظر المشهور متعاكستان ، فانّ الأمر والنهي على وجهة نظر المشهور كما عرفت مختلفان بحسب المعنى ومتفقان في المتعلق. وعلى وجهة نظرنا مختلفان في المعنى ، ومتفقان في المتعلق ، كما مرّ.

الرابعة : أنّ الأمر والنهي مصداق للبعث والتحريك والزجر والمنع ، لا أنّهما موضوعان بازائهما ، كما سبق.

وأمّا الأمر الثاني : وهو البناء ، فعلى فرض تسليم الأمر الأوّل ـ وهو المبنى ـ وأنّ متعلق الطلب في طرف الأمر صرف وجود الطبيعة ، وفي طرف النهي صرف تركها ، فيمكن نقده على النحو التالي ، وهو أنّه لا مقابلة بين الطبيعة التي توجد بوجود فرد منها والطبيعة التي لا تنعدم إلاّبعدم جميع أفرادها ، والوجه في ذلك : هو أنّه إن اريد من الطبيعة الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها فحسب ، فهي كما توجد بوجود فرد منها كذلك تنعدم بعدم مثلها ـ أعني الطبيعة الموجودة كذلك ـ لأنّه بديلها ونقيضها ، لا عدم الطبيعة بعدم جميع أفرادها ، ضرورة أنّ نقيض الواحد واحد ، فنقيض الطبيعة الموجودة بوجود واحد لا محالة يكون عدم مثل تلك الطبيعة ، كما هو واضح.

٢٧٧

وإن اريد منها الطبيعة السارية إلى تمام أفرادها ومصاديقها ، فهي وإن كان يتوقف عدمها كلّياً في الخارج على عدم جميع أفرادها العرضية والطولية ، إلاّ أنّ هذا من ناحية ملاحظة وجود تلك الطبيعة على نحو الانحلال والسريان إلى جميع أفرادها ، ومن الواضح جداً أنّ عدم مثل هذه الطبيعة الذي هو بديلها ونقيضها لا يمكن إلاّبعدم تمام أفرادها في الخارج ، ولكن أين هذا من الطبيعة التي توجد في الخارج بوجود فرد منها ، فانّ المقابل لهذه الطبيعة ليس إلاّ الطبيعة التي تنعدم بعدم ذلك الفرد ، ضرورة أنّ الوجود الواحد لا يعقل أن يكون نقيضاً لعدم الطبيعة بتمام أفرادها ، بل له عدم واحد وهو بديله ونقيضه. وأمّا المقابل للطبيعة التي يتوقف عدمها على عدم جميع أفرادها العرضية والطولية ، هو الطبيعة الملحوظة على نحو الاطلاق والسريان إلى تمام أفرادها كذلك ، لا الطبيعة المهملة التي توجد في ضمن فرد واحد.

وهذا بيان إجمالي لعدم كون الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بايجاد فرد واحد مقابلاً للطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها ، وسيأتي بيانه التفصيلي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وعلى هدى ذلك البيان الاجمالي قد ظهر أنّه لا أصل لما هو المشهور من أنّ صرف وجود الطبيعة يتحقق بأوّل الوجود ، وصرف تركها لا يمكن إلاّبترك جميع أفرادها ، والوجه في ذلك : هو أنّ صِرف ترك الطبيعة كصِرف وجودها ، فكما أنّ صِرف وجودها يتحقق بأوّل وجود ، فكذلك صرف تركها يتحقق بأوّل ترك ، ضرورة أنّ المكلف إذا ترك الطبيعة في آنٍ مّا لا محالة يتحقق صرف الترك ، كما أنّه لو أوجدها في ضمن فردٍ مّا يتحقق صرف الوجود ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، وهذا لعلّه من الواضحات الأوّلية.

نعم ، لو كان المطلوب في النواهي هو ترك الطبيعة مطلقاً ، لا يمكن تحققه إلاّ

٢٧٨

بترك جميع أفرادها في جميع الآنات والأزمنة ، إلاّ أنّ الأمر كذلك في طرف الأوامر أيضاً فيما إذا كان المطلوب منها مطلق وجود الطبيعة ، لا صرف وجودها ، ضرورة أنّ مطلق وجودها لا يتحقق بايجاد فرد منها ، بل يتوقف على إيجاد جميع أفرادها في الخارج ، والسر فيه ظاهر ، وهو وضوح الفرق بين أن يكون المطلوب في النهي صرف ترك الطبيعة وفي الأمر صرف وجودها ، وأن يكون المطلوب في الأوّل مطلق ترك الطبيعة وفي الثاني مطلق وجودها ، فانّ صرف الترك وصرف الوجود يتحقق بأوّل ترك وأوّل وجود كما هو واضح.

وهذا بخلاف مطلق الترك ومطلق الوجود ، فانّهما لا يتحققان بأوّل ترك وأوّل وجود ، بل الأوّل يتوقف على ترك أفراد الطبيعة تماماً ، والثاني يتوقف على إيجاد أفرادها كذلك.

وبكلمة اخرى : أنّ متعلق الترك ومتعلق الوجود إن كان الطبيعة المهملة فطبعاً يكون المطلوب في النهي هو صرف تركها وفي الأمر صرف وجودها ، وقد عرفت أنّ الأوّل يتحقق بأوّل ترك والثاني بأوّل وجود ، وإن كان المتعلق الطبيعة المطلقة السارية فلا محالة يكون المطلوب في الأوّل هو مطلق تركها وفي الثاني مطلق وجودها ، وعليه فلا محالة ينحل المطلوب بحسب الواقع ونفس الأمر إلى مطلوبات متعددة بانحلال أفراد تلك الطبيعة ، فيكون ترك كل فرد منها مطلوباً مستقلاً ، كما أنّ وجود كل فرد منها كذلك ، فإذن لا محالة حصول المطلوب على الأوّل يتوقف على ترك جميع أفرادها العرضية والطولية ، وعلى الثاني يتوقف على إيجاد جميعها كذلك.

فالنتيجة قد أصبحت من ذلك : أنّ المقابل لصرف الوجود هو صرف الترك وهو عدمه البديل له ونقيضه ، لا مطلق الترك فانّه ليس عدمه البديل له ونقيضه ، ضرورة أنّ نقيض الواحد واحد لا اثنان ، والمقابل لمطلق الوجود هو

٢٧٩

مطلق الترك ، فانّه عدمه البديل له ونقيضه لا صرف الترك ، ضرورة أنّ الواحد لا يعقل أن يكون نقيضاً للمتعدد ، وهذا ظاهر.

وعلى ضوء هذا البيان نسأل المشهور عن سبب اكتفائهم في طرف الأمر بايجاد فرد واحد من الطبيعة ، بدعوى أنّ المطلوب فيه هو صرف الوجود وهو يتحقق بأوّل وجود ، وعدم اكتفائهم في طرف النهي بأوّل ترك ، مع أنّهم التزموا بأنّ المطلوب فيه هو صرف الترك ، فانّ سبب ذلك ليس هو الوضع لما تقدّم من أنّ مقتضاه في كل من الأمر والنهي على نسبة واحدة ، فلا مقتضي لأجل ذلك أن يفرق بينهما ، فانّ مفادهما عندهم بحسب الوضع ليس إلاّ الدلالة على الطلب ، غاية الأمر أنّ متعلقه في الأمر الوجود وفي النهي الترك ، ولذا قالوا باشتراكهما في المعنى الموضوع له من هذه الجهة. وأمّا العقل فقد عرفت أنّه يحكم بخلاف ذلك ، فانّه كما يحكم بأنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل وجود كذلك يحكم بأنّ صرف الترك يتحقق بأوّل ترك ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

نعم ، الذي لا يمكن تحققه بأوّل الترك هو مطلق الترك ، إلاّ أنّك عرفت أنّهم لا يقولون بأنّ المطلوب في النواهي مطلق الترك ، بل يقولون بأنّ المطلوب فيها هو صرف الترك ، وقد مرّ أنّ العقل يحكم بأ نّه لا مقابلة بين مطلق الترك وصرف الوجود ، والمقابلة إنّما هي بينه وبين مطلق الوجود لا صرفه ، فانّ المقابل له ـ صرف الوجود ـ صرف الترك ، فإذن لا يرجع ما هو المشهور إلى معنىً محصّل أصلاً.

ولعل منشأ تخيّلهم ذلك الغفلة عن تحليل نقطة واحدة ، وهي الفرق بين صرف الترك ومطلق الترك ، ولكن بعد تحليل تلك النقطة على ضوء ما بيّناه قد ظهر بوضوح خطأ نظريتهم ، وأ نّه لا مبرّر لها أبداً.

٢٨٠