إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

كالموبر البرانية والثوب المسوس والديباج والبرتك والملف وغيرها من الأثواب الفاخرة والمشجرة بخيوط الذهب. والحرير خصه بدراسة خاصة عن كيفية غسله ووزنه والتفريق بين أنواعه وثمنه «.... فالثوب الذي وجدناه منسوجا ... ثمنه أربعون ريالا ، فإذا قسم هذا المنكب الذي طوله خمسة أمتار ، وهي تعدل تسعة أذرع تقريبا ، على قالة ونصف يكون فيه ستة مناكب ، وإذا قسمت هذه القطعة نصفين عرضا صارت اثنتي عشرة شقة ، طول كل واحدة أزيد من خمسة عشر ذراعا ، وهو إذن أرخص بكثير من المسوس المصنوع من الخيط الذي يجلب للغرب ...» إشارة إلى الأرباح الطائلة التي كان يجنيها التجار من بيع بعض الأثواب.

غير أن ازدهار هذه الصناعة يحتاج إلى احتكار الأسواق العالمية ومناطق المواد الأولية ، لهذا كانت تسعى الدول الأوربية في الحصول على امتيازات لزراعة القطن (١) بالمغرب مثل ما حصل بمصر والهند والولايات المتحدة الأمريكية ، فواجهتهم أولا طبيعة الملكية الزراعية بالبادية المغربية ، وتخوف المخزن من أن يجلب ذلك المزيد من الأوربيين إلى البلاد.

صناعة الزجاج والبلار والمرايا (٢) : التي لم تكن معروفة في المغرب ، ولم تكن

__________________

(١) نستنتج من تقييد السفير هاي إلى السلطان «... إن فلاحة القطن فيها الغني لإيالة سيدنا أيده الله في بعض المواضع التي تناسب أرضها ذلك ... ولا بد من رد البال لغرس التوت أيضا وصنع الحرير ، إن عددا كثيرا من الحرير يجلب لهذه الإيالة ... حيث إيالة مراكش قادرين على صنع الحرير في إيالتهم لما يكفيهم وللوسق ... وأيضا قصب الحلو (قصب السكر) فغرسه في هذه الإيالة كثير منه ...» بتاريخ ٦ ماي ١٨٦٢ م من وثائق المحفوظات البريطانية ١٣٧ / ١٧٤.F.O. وانظر الكناش رقم ٤٧ ب خ. ح. بالرباط رسالة بتاريخ ١٢ ربيع الثاني ١٢٨٣ ه‍ / ٢٤ غشت حول زراعة قصب السكر بحاجة.

(٢) رحلة الجعيدي : وقد أعرب الحسن الأول ل د. هاي عن رغبته في إقامة مصنع للزجاج بالمغرب ومعامل حربية ، غير أنه أبلغ السلطان بجسامة تكاليف مثل هذه المشروعات وأنه من الأرخص أن يشتري ما يريد من بريطانيا وغيرها من الأمم. «تاريخ العلاقات الأنجليزية ـ المغربية» ، روجرز ، ترجمة لبيب رزق ، ص ٢٤٢.

٨١

تشكل طبقة حرفية بل كانت تستورد من الخارج ، لهذا تناول هذا الصناعة انطلاقا من الحرفي الصغير الذي يشغل في ورشه الصغير ، وتتبع الخطوات التي يتبعها للحصول على المصنوعات الزجاجية ، بل دقق حتى في بعض المواد الأولية التي يقيمها قصد الوصول إلى العجينة النهائية التي تتحول بمجهوده الفني إلى تحفة جميلة ، ونفس الشيء بالنسبة لصناعة المرايات والثريات الضخمة داخل فابريكات مختصة في ذلك.

باقي الصناعات الأخرى : كالتعدينية التي أشار فيها إلى كيفية صنع «الصواني» وتفضيضها أو تذهيبها وأواني الطبخ ، ومواد البناء ، والتماثيل والفلايل والإبر ، ثم صناعة أدوات البناء من النحاس ، إلى أن ينتهي إلى أفران صهر الحديد لصناعة محركات البواخر والقاطرات وخطوط السكة الحديدية وغير ذلك من الآلات الكبيرة ، والتي كانت تعتبر من الأمور العجيبة عصرئد عند المغاربة.

عمل الجعيدي أمام هذا التطور المادي الهائل الذي يهدف التجديد والتغيير والبناء كل جهده لنقل نشاط هذه الحركية التقنية في جميع مظاهرها. يصف أصعب مراحل الصنعة بكل تدقيق وتفصيل وبلغة واضحة يستعمل فيها بعض الكلمات الدارجة للوصول لغرضه ، ويطرح الكثير من الأسئلة عندما تستوقفه بعض الأشياء المغربية ، وكأنه يجمع المعلومات لغرض معين ، فقد استطاع هذا الفقيه الذكي أن يقربنا من الوسط الذي عاش فيه بضعة شهور ، فقد بحث ودقق وحقق وسأل واستفاد ، وقارن ولا حظ ... يأتي بذلك على وجه الاستغراب لأنه مفقود في بلاده المغربية.

٨٢

الجانب المالي

إلى جانب المهام السياسية والعسكرية والاقتصادية التي كلفت بها السفارة المغربية من قبل السلطان الحسن الأول ، تأتي المهمة المالية المتعلقة بإعادة تجديد (١) ضرب السكة المغربية ، التي كانت قيمتها في تدهور مستمر لأسباب كثيرة ومتنوعة ، أمام السكة الأجنبية التي كانت تروج بجانبها لاحتياج المغاربة لها في شراء حاجياتهم من الخارج والداخل. بالإضافة إلى ظهور نقود مزورة ومقلدة للسكة المغربية ، وتهريب العملة الذهبية والفضية إلى الخارج وغير ذلك. «(٢) فانعكس الحال على التجار وتقاعدوا على الريال والبسيطة وفاضت الفلوس في الأسواق حتى صارت معاملة الناس ليست إلا بها ، وحصل للتجار من الضرر في رخص الريال ، ما كان للضعفاء في قلة الفلوس ...» فأصبح المغرب يتخبط في أزمة مالية جديدة جعلت الحسن الأول يبحث عن طريقة مثلى لإعادة تجديد ضرب السكة ، وقد اقترحت عليه بعض الحلول من طرف المندوب البريطاني د. هاي سنة ١٨٧٥ م (٣) ضمن برنامجه الإصلاحي الذي تقدم به إلى السلطان ، وذلك بإعادة ضرب السكة المغربية وفق معايير جديدة تساير التطورات الحاصلة في أوربا بدل ضربها بالطرق

__________________

(١) عندما ولي محمد الرابع ، عمد إلى ضرب «الدرهم الشرعي» عام ١٢٦١ ه‍ / ١٨٤٥ م كمحاولة لتأسيس عملة مغربية جديدة لا تتأثر بتقلبات السكة الأجنبية ، وحمل المغاربة على أن لا يذكروا في معاملاتهم وأنكحتهم وسائر عقودهم إلا الدرهم الشرعي «مظاهر يقظة المغرب الحديث» محمد المنوني ، ج ١ : ٨٥.

(٢) الاستقصا ، الناصري ، ج ٤ : ٢٥٤ و٢٥٥ أثناء حوادث عام ١٢٩٤ ه‍.

(٣) في أبريل ١٨٧٥ سافر د. هاي إلى فاس لتقديم احتراماته للسلطان الجديد ، وعبر له بصراحة على ضرورة إجراء إصلاح إذا ما أراد أن يبقى المغرب بلدا مستقلا ، فاعترف له السلطان بأن السبب الرئيسي لتدهور البلاد هو استمرار النظام الحكومي القائم على الموظفين الذين لا يتقاضون أجورا ، واعتراض عدد من كبار رجال البلاط لأي تجديد ، مما يجعل من المستحيل عليه القضاء على الفساد في يوم واحد. «تاريخ العلاقات الأنجليزية ـ المغربية» ، روجرز ، ترجمة لبيب رزق ، ص ٢٤١.

٨٣

العتيقة التي كانت متبعة في المغرب ، وبكميات كافية لسد حاجيات السوق المغربية.

دار ضرب السكة بباريس

بالفعل كفلت سفارة الزبيدي بدراسة موضوع إمكانية إعادة ضرب السكة المغربية بإحدى الدول الأوربية ، وتنفيذا لرغبة السلطان زارت السفارة المغربية بنك فرنسا ودار ضرب السكة بباريس ، كما جاء في «رحلة الجعيدي» الذي سجل لنا تفاصيل هذه الزيارة الاستطلاعية انطلاقا مما شاهدوه في معرض النقود القديمة التي كانت سائدة عند الكثير من الدول بما فيها (١) المغرب ، ثم تناول كيفية ضرب النقود المعدنية الفرنسية من الفضة والنحاس بواسطة آلات ميكانيكية انطلاقا من تذويب المعدن إلى أن يصبح قطعة نقدية جاهزة ، «... فيخرج عنده وقد رقم في حرفه ما يرقم في حرف الريال من حروفهم ..» ، وقد أبدى الجعيدي إعجابا كبيرا بذلك «... مكينة أخرى يرت منا الأذهان وصار كل منا كالحيران الولهان ، وهي في غاية اللطافة والظرافة والنظافة ...».

مما لا شك فيه أن الزبيدي الذي كان يراسل الحاجب السلطاني باستمرار ليطلعه على نشاطه هناك ، قد أبلغه بالأهمية التقنية التي كانت تتوفر عليها دار ضرب السكة بباريس.

__________________

(١) «... ووجدنا في بعضها ريالات ثلاثة من الريال ذي شعب أربع المسمى عندنا بالريال المقنت ، من سكة مولانا السلطان سيدي محمد بن عبد الله ...».

٨٤

دار ضرب السكة بلندن

في نفس السياق فقد خصت الحكومة البريطانية السفارة المغربية بزيارة «لدار البانكة وضرب السكة» قصد إطلاعهم على ما وصلوا إليه من تقنية ميكانيكية لضرب الليبرة الأنجليزية ، وهذا يدخل بطبيعة الحال في إطار التنافس الذي كان قائما بين الأبناك الفرنسية والأبناك الأنجليزية لاستقطاب المخزن المغربي لضرب عملته ببلادهم «.. وهي دار عظيمة كأنها مدينة مشتملة على ديار. وطرق دففها من الحديد ... فسألنا عن عددهم فقيل في هذه الدار من الكتاب ثلاثة آلاف ، وألف واحد من سائر الخدمة ، ثم أوصلنا كبيرهم إلى مطبعة سكة الكاغد ...». العملة الورقية أثارت فضوله العلمي فخصها ببحث مستفيض وتتبع مراحل الطبع «..... وحيث رآني كبيرهم أرصد دوران بعض النواعير والمجانبة في يدي ، فأخبر أن هذه الدار يطبع فيها في كل يوم مليون من الإبرة ... هناك أوقفونا على بعض الكواغد زورها عليهم بعض من الفرنصيص ، وتداولها أناس بالدفع ، وعند رجوعها لدار المطبعة تفطن لها الكتاب من جهة النمروس لا غير ... والتاريخ لا زال لم يخرج من الدار ، أخبروا به ، وجدوا في طلب من زوره حتى وجدوه ، وحكم عليه بالسجن ثلاثين عاما ...» ، وهذا الإخبار يدخل هو الآخر في إطار المنافسة. كما حاولوا الأنجليز إبراز أهمية (١) العملة الورقية وصعوبة تزويرها وإمكانية حرقها بعد أن تتقادم بحضور الكتاب والأمناء ثم إعادة طبعها من جديد وهي تحمل أرقام الأوراق التي تم حرقها بدار المطبعة مرة أخرى. وهكذا ، كما أطلعوهم على كيفية ضرب السكة الذهبية ، غير أن المغاربة على ما يظهر استحسنوا السكة المعدنية التي ألفوها في بلادهم منذ قرون طويلة ، خوفا من جهل العامة للعملة الورقية.

__________________

(١) ذكر الطاهر الفاسي في رحلته الإبريزية : ٣٥ «... وقد أحدثوا هذه السكة (الورقية) في القرب ، وسبب إحداثه كما يقال ، أن الدولة الأنجليزية بلغها عن بعض أجناس النصارى ، يقولن إن دولة انجليز حصل لها ضعف وفلس مثلا ، فاتفقوا على استعمال ذلك إظهارا للقوة دمرهم الله ...».

٨٥

الصراع الفرنسي الأنجليزي لضرب السكة المغربية : بعد عودة السفارة المغربية برز الزبيدي كخبير في هذا الميدان نظرا لخبرته الطويلة وكذلك لمعرفته لدور ضرب السكة بأوربا ، فأوكل إليه الحسن الأول مهمة الإشراف على المفاوضات المتعلقة بضرب السكة المغربية بالخارج ، وأعطاه حرية مفاوضة سفيري فرنسا وأنجلترا ، وهذا نص ما كتبه سفير أنجلترا للزبيدي «... كنا أطلعنا العلم الشريف بالضرر الصادر للعامة في رواج (١) سكة النحاس القبيحة التي كل واحد قادر على تزويرها ويسعى بذلك الربح لنفسه ... فقد كنا أشرنا على السلطان أيده الله بجعلها تضر بفبريكة سكة النحاس في مدينة برمنكهام ... أجابني بأنه استحسن نصيحتنا وعزم على العمل بمقتضى إشارتنا وقت الإمكان ، وذكر لنا إسمكم بأنكم أنتم إن شاء الله مكلفون بتأمل هذه الأمور .. فنطلب منكم رفعه للسلطان ..» يظهر أن السلطان أظهر استحسانه لطلب السفير دريموند. هاي لترضية خاطره ، وعلق أمر الموافقة النهائية على أمينه الحاج محمد الزبيدي والذي أخبره بضرورة التنصل من ذلك «(٢) .. وطلب منك (د. هاي) أن تتلاقى مع نائب أرباب السلف الذي بطنجة فسوفته. وظهر لك عدم الملاقاة به ، والتنصل إن وجدت السبيل لذلك ... وحين ترجع لحضرتنا الشريفة تشافه بما ظهر لك في ذلك صار بذلك بالبال والعمل على ما ظهر لك في ذلك ...».

__________________

(١) انظر : نص هذه الرسالة ب «الإتحاف» لابن زيدان ، ج ٢ : ٤٤٥ و٤٤٦ بتاريخ ٢٠ مارس سنة ١٨٨١ / موافق ١٩ ربيع الثاني عام ١٢٩٨ ه‍ بتوقيع د. هاي.

(٢) رسالة سلطانية سرية إلى الأمين الحاج محمد الزبيدي. الإتحاف ، ج ٢ : ٤٤٤ ، بتاريخ ٣ صفر عام ١٢٩٨ ه‍.

٨٦

حصول فرنسا على الصفقة

أصدر السلطان ظهيرا شريفا إلى النائب محمد بركاش بضرب السكة المغربية بفرنسا بدل أنجلترا «(١) .. وبعد ، وصل جوابك بأن السدد الذي ظهر للخديم الزبيدي في شأن السكة ... وتوجيه تلك السكة لبر النصارى ... لأنها إذا كانت مساوية لسكة الفرنصيص وزنا وعيارا مقبولة بإيالته تكون مقبولة في إيالات أخرى مثل سكته ولم يظهر لكفى ذلك ضرر ... فقد ساعدنا عليه على نحو ما عمله معهم الخديم الحاج محمد الزبيدي ..». هكذا تعاقد المخزن مع دار سييرSeillie ? re الفرنسية لصنع ٢٠ مليونا من الريال الحسني ، مما أغضب السفير البريطاني الذي كتب إلى الأمين الزبيدي فيما بلغه من عدم مساعدته فيما أراده من ضرب السكة النحاسية المغربية بأنجلترا (٢) «... فقد عز بي حيث سمعت أن السلطان لم يساعد لما أشرنا به ... وأرباب فبريكة سكة النحاس (بأنجلترا) يجعلون الفلوس لبلادنا وللطليان ولعدد دول أخرى هذه مدة سنين معددة بدون شكاية من أحد لا من حيثية المعدن ولا من السكة كما يقع عند الغير ..».

النتيجة النهائية

لكن حدث ـ مع الأسف ـ ما عكس النتيجة ، فإن الدولة التي ضربت هذه العملة بدار سكتها بباريس ، لم تستطع أن تنفد التصميم المثقف عليه بدقة ، ولم تجعل العملة المغربية الجديدة مساوية للفرنك الفرنسي ، وإنما جعلتها تزيد عليه خلافا للمتفق عليه ، وقد أرغم المخزن المغربي على قبولها على علاتها ، ومن هنا جاءت الكارثة ، فصارت قيمتها تنحط شيئا فشيئا.

__________________

(١) ظهير سلطاني ب «الإتحاف» ، لابن زيدان ، ج ٢ : ٤٤٢ بتاريخ ١٧ جمادى الأولى عام ١٣٠١ ه.‍

(٢) رسالة من دريموند هاي إلى الأمين الحاج محمد الزبيدي ، ب «الإتحاف» لابن زيدان ، ج ٢ : ٤٥٠ بتاريخ ١٤ يوليوز عام ١٨٨١ م / موافق ١٦ شعبان عام ١٢٩٨ ه‍.

٨٧

فقرر الحسن الأول سنة ١٨٨٨ م الاستغناء مؤقتا عن الضرب بأوربا ، وأمر بشراء آلة من بلجيكا لضرب النقد ، ولكن دواليبها لم يكتب لها الدوران ، ثم أمر ببناء المكينة بفاس لصياغة العملة النحاسية وكانت حتى سنة ١٨٩١ م لم تخرج هي الأخرى نقودا ، وبالتالي عجز المخزن في التحكم للحد من هذه الأزمة المالية التي حلت بالاقتصاد المغربي (١) وآلت محاولة الإصلاح إلى فساد.

الزراعة

كانت للجعيدي التفاتات قليلة لميدان الزراعة لاعتبارات بيئية واجتماعية كثيرة ، رغم أن النهضة الحديثة أولت لهذا القطاع عناية فائقة ، لأن أنشطة السفارة المغربية كانت متمركزة في المدن والعواصم ، فلم يتمكنوا من زيارة الضيعات النموذجية المتواجدة في البوادي والقرى ، لكن الجعيدي شاهد ذلك التطور الهائل في هذا الميدان من نوافذ القطار الذي كان يمر بهم وسط الأراضي الزراعية «... ثم أخذ البابور في السير .. ونحن بين جنتين عن اليمين واليسار ، والأنهار جارية ، وأشجار البساتين متقاربة لا متجافية ...» وهي إشارة إلى استغلالهم المجال الفلاحي بكثافة ونظام متقن.

التسييج

الجانب الذي اهتم به الجعيدي كثيرا وأشار إليه عدة مرات ، هو نظام

__________________

(١) حديث هذه النكسة التي وقعت في ضرب السكة الحسنية في «الاستبصار» للطاهر الأودي ، ص ١٤٧ و١٤٨ و١٧٤ و٢٠٠.

٨٨

التسييج (١) المنتشر بكثرة ، والذي يحيط بالبساتين والمزارع والعراصي باعتبارها ضيعات نموذجية غير مفتوحة ، على عكس ما كان سائدا في المغرب من أنظمة عقارية معقدة ومتخلفة كانت تتأثر بالجفاف وتسلط الجراد ، مما كان يؤدي إلى انهيار المحصولات وارتفاع الأسعار ، وبالتالي إلى مجاعات عامة ، وتنقلات واسعة لحشود بشرية جائعة ، كانت الأوبئة تجد (٢) مرتعا خصبا لها ، مما يؤدي إلى كوارث اجتماعية واقتصادية ، كما حدث خلال كارثة القرن التي دامت زهاء سبع سنوات. من ١٨٧٨ إلى ١٨٨٤ م وهي الكارثة التي واكبت إصلاحات مولاي الحسن الأول ، على عكس ما كانت تعرفه أوربا من نمو ديمغرافي ، وتطور في القرى والأرياف (٣).

__________________

(١) عرفت كل من أنجلترا وغرب فرنسا في البداية ثم باقي أوربا الغربية ، ثورة زراعية عميقة تمثلت في التسييج. فقد حل الحقل المسيج محل الحقل المفتوح OPen field وبالتالي مهدت لتحول البنية الزراعية حيث اختفت الخدمة الجماعية وإطلاق المواشي في الحقول بعد الحصاد بل تجمع في الاصطبلات ، حيث تعطى أسمدة وافرة وتزايد كميات الصوف ، وزراعة الأراضي المستريحة بالنباتات العلفية والزيتية والخضروات ، وقد حاربت الحكومات هذه الإجراءات بمراسيم برلمانية في ق ١٥ م ، لكن في ق ١٨ م أصبحت الحكومات تساند هذا الاتجاه ، لأن التسييج ساعد على التقدم التقني وارتفاع المردودية والدخول في الحركة التجارية ، وبالتالي تزايد التداول النقدي بشكل متعمق في العالم القروي. انظر رحلة الجعيدي :.

(٢) انظر رسالة محمد الأمين البزاز ، المجلس الصحي الدولي بالمغرب ، كلية الآداب بالرباط ، أبريل ١٩٨٠ م.

(٣) كتب «الصفار التطواني» مبديا إعجابه بانتشار مظاهر المدنية بالبوادي الأوربية «... اعلم أن هؤلاء القوم ليس عندهم في مساكنهم اخصاص ولا خيم ولا نواويل ، وإنما يعرفون البناء لا غير ، إلا أن بناء البوادي متميز عن بناء الحواضر ، فقراهم في الحقيقة من جملة المدن ، يوجد فيها ما يوجد في الحاضرة من الأسواق ، وما يباع فيها وغير ذلك ، وقد رأينا في طريقنا هذا ما يشهد شهادة حق لأهل هذه البلاد بالاعتناء التام والتبصر العام بأمر دنياهم وإصلاح معاشهم وإتقان تدبيرهم ..». رحلة إلى فرنسا ، مخطوط ، ص ٢٩.

٨٩

وفرة الإنتاج الفلاحي

لاحظ الجعيدي ذلك في رحلته عند وصفه لأسواقهم ومتاجرهم الكبيرة ومآدبهم وغير ذلك ، ومن المقارنات اللطيفة التي أوردها حول طرق زراعة العنب أو الكرمة في كل من المغرب وإيطاليا عند خروجهم لمشاهدة مناورات حربية بضواحي طورين (١) «.. هم ينصبون مع كل ساق دالية خشبة برأسها أعمدة تنزل عليها أغصان الدالية ، لما يرون في ذلك من المصلحة لها ، فتخلخل الريح والهواء فيما بين أغصان الدالية وما تحتها ، وتشرق أشعة الكواكب عليها ، بخلاف الدالية التي في بعض مدن الغرب ، فإنهم يتركون أغصان الدالية يترامى بعضها فوق بعض حتى يلتئم غالبها ، ولا يمكن السلوك بينها إلا بمشقة ... ويبقى غالب عنا قيد العنب إذ ذاك منحجبا بين الأغصان والأوراق عن تمام نفوذ الهواء والأشعة ، وربما يكون تتولد آفة للعنب من ذلك والله أعلم ...» ، بمعنى تبقى عرضة للحشرات والطفيليات التي تقلل من جودة الإنتاج ومن مردودية الحقل كذلك.

الاهتمام بغرس الورود

استحسنه كثيرا وتذوق جمالية غرس الورود والأزهار في الحدائق والبساتين وعند ضفاف الأنهار ، وحتى داخل البيوت والفنادق والأماكن الآهلة ، علما أن زراعة النباتات الصغيرة في الأواني أصبحت صناعة رائجة وعلما وراثيا يسخران لرفاهية الإنسان ، باستحداث نباتات قادرة على النمو في الأماكن المغلقة ، وطرق حمايتها أيام البرد.

لكن رغم هذا التطور الكبير في الإنتاج الفلاحي ، فإن معظم الرحلات السفارية لم توليه اهتماما كبيرا يناسب أهمية هذا القطاع الذي ظل متخلفا وجامدا بالمغرب لمدة طويلة من الزمن ، حتى عهد الحماية التي عملت على استغلاله وتطويره قصد ربطه بالاقتصاد الأوربي كسوق تكميلي.

__________________

(١) انظر رحلة الجعيدي : ٣٨١.

٩٠

الجانب الفكاهي في الرحلة

ـ يتميز أسلوب الجعيدي في الكتابة بروح المرح والفكاهة الأدبية التي تهدف النقد في صورة الهزل ، وقد أخذ ذلك حيزا لا بأس به داخل رحلته ، نستنتج منه بطريقة غير مباشرة المعاناة التي كان المغاربة يعانون منها من جراء ضرورة تكيفهم مع المجتمع الأوربي المتشبع بالعلمانية والليبرالية والحرية ، والبعيد كل البعد عن بيئتهم التقليدية ومجتمعهم المتشبث بالروح الإسلامية ، وبالفعل فقد سايروا الوضع الجديد بديناميكية الدبلوماسي العصامي الذي لا يهتز للمغريات والمتشبث بمبادئه الإسلامية ، رغم الفوارق الكبيرة التي كانت بين أفراد السفارة المغربية من ناحية السن والثقافة.

مستملحة

أتحفنا الجعيدي بها وما هي إلا تصوير جريء وصريح لمعايشة رفاقه ، من خلال ما يروج في دائرتهم ، مما يبعث على إشاعة روح المرح فيما بينهم للتسلية والتزجية ، وتوثق لنا كل ما يحدث له ولغيره على سبيل الفكاهة الأدبية ، لذلك توزعت عليهم الأدوار في هذه المستملحة الهزلية حسبما لهم من خدمة ومكانة واعتبار ، وتتلخص أن الأمين غنام هدد الجعيدي أنه سيشتكيه إلى القاضي لينال من عدالته ويسقط شهادته ، بسبب مشاهدته رقص البنات (١) شبه عاريات (البالي) على المسرح ، فدافع الجعيدي عن نفسه بنثر مسجوع وقصيدة شعرية من الإيقاع الخفيف تتجلى فيها قمة

__________________

(١) ذهب السفير تميم إلى مسرح الأكاديمية الموسيقية الملكية بباريس وشاهد عرض «بالي» ولقد سببت تلك المناظر عجبا شديدا لدى أعضاء الوفد المغربي الذين كانوا برفقة تميم لدرجة أن أحدهم امتنع عن النظر إلى ما يجري على خشبة المسرح قائلا «أن ذلك ضرب من السحر». انظر : تاريخ تطوان ، القسم الثاني من المجلد الأول ، ص ٢٦٢ تطوان ١٩٥٩.

٩١

الدعابة المقصودة إذ يقسم الجعيدي بكل المناظر المكشوفة التي أكره على مشاهدتها. والاتهام الثاني الذي وجه إليه على وجه المداعبة الأدبية كذلك أنه سيقال للقاضي أنه يشاركهم بشرب شراب أحمر اللون قان (يشبه لون الخمرة) فأجابهم بقصيدة شعرية مرتجلة مما جاء فيها :

فقلت :

وكيف الصبر وهي من وصفها

يسلى بها قلب الكئيب بنظرة

فاملأ الأواني منها فهي مباحة

ولى أذن صماء عن ذي ملامة

السرقة التي تعرضت لها السفارة المغربية

أدرج ضمن أدبياته الفكاهية قصة السرقة التي تعرضت لها السفارة المغربية بإيطاليا وعنوانها «نادرة من نوادر الزمان ترشد إلى اتخاذ الحذر في بلاد الأمان» تصور لنا كيف اكتشف الأمين غنام سرقة كيس به ألف لويزة ذهب من مال المخزن «... فطار لبه واضطرب قلبه واعترته ألوان ، وتقلصت منه الشفتان ......» فتشكك في رفاقه المغاربة وقال : «.. (١) .. لا بد من تقليب حوائجكم ظنا منه أن النصارى لا يمدون اليد لمثل ذلك ... وقلب بمحضر مقيده (الجعيدي) حوائج الجماعة فلم يجد لذلك أثرا ولا وقف له على خبر ، ثم أخبر بذلك الباشدور ...» الذي دخل عليه الترجمان صدفة واكتشف الأمر بنفسه ، رغم أن الزبيدي لم يكن في ظنه إخباره

__________________

(١)

Lalombardia et Corriere Dellasera

٩٢

بذلك ، وانتشر الخبر ونشرت الصحف (١) الإيطالية تفاصيل السرقة ، خاصة أن السفارة المغربية كانت تستعد لاستقبال ملك إيطاليا في الغد ، وقد استطاعت الشرطة الإيطالية إلقاء القبض على اللصوص ، وأرجعت المبلغ المالي إلى الزبيدي الذي رفض تسلمه ، لأنه ظن أن إرجاع الفلوس إليه ما هو إلا تغطية من طرف الحكومة الإيطالية للموضوع ، وطالبهم بإحضار الكيس الذي كانت به الدراهم ، فأجيب إن الكيس قد ألقاه اللصوص من القطار في إحدى الأودية ، فوجه الأمين والجعيدي إلى سجن طورين الجديد للتأكد من حقيقة القضية. هذه التغطية (٢)

__________________

(١) اهمت الصحافة الإيطالية كثيرا بهذا الحدث ، وتابعت القضية من أولها إلى آخرها وخاصة جريدة Sera Corriere Della كما هو مبين في تحقيق الرحلة.

(٢) هناك أوجه من التشابه بين هذه القضية وما وقع للحاج عبد الكريم بن محمد بريشة التطواني (١٨٣٠ ـ ١٨٧٩ م) الذي توجه سفيرا لإسبانيا في يناير ١٨٩٥ م للمذاكرة مع ملكة إسبانيا ضوناReina Dona بمدريد ، لطمه أحد الجنرالات المتقاعدين على ملأ من الناس والشارع ، فامتنع بريشة على المشي لمقابلة الملكة ، حتى قدمت الحكومة والملكة الإسبانية اعتذارا رسميا عن هاته الإهانة ، ومن أجل جبر خاطره تنازلت إسبانيا على نصف الدين الذي كان لها على المغرب وتعديل مدة الدفع للقسط الباقي ، وبذلك نجح نجاحا لم يسبق له مثيل (انظر ترجمته بقلم ح. أحمد معنينو «دعوة الحق» ، عدد ٤ ، أبريل ١٩٧١ ، ص ١٦٦ ، وعند محمد داود ، مختصر تاريخ تطوان ، ص ٣٢١ ، أما الزبيدي فإننا لا نعرف كيف تم جبر خاطره من هاته السرقة ، لأن الحديث الذي دار بين الزبيدي شخصيا وملك إيطاليا عند لقائه به ظل من الأسرار التي لم تكشف بعد كما جاء عند الجعيدي «... كان عندنا الإذن بالوقوف بباب القبة (الملك) عند دخول الباشدور ، حتى يؤذن لنا بالدخول وعند دخوله سد ذلك الباب ، ووقفنا ست دقائق ثم فتح الباب ، وأذن لنا بالدخول ... فلم يكن في القبة إلا عظيم الدولة والباشدور والترجمان لا غير ... وظهر فيه من الفرح والسرور ما لم نره من غيره ...». انظر ص من الرحلة ، وقد ذكرت الصحافة الإيطالية أن أعضاء السفارة المغربية تلقوا هدايا ثمينة. وقد أشار إلى ذلك الجعيدي ص وذكر أنه امتنع على أخذها حتى تعرض على السلطان الذي هو صاحبها الحقيقي ليجود عنهم برضاه ، ثم عادوا في أجود السفن الإيطالية إلى طنجة.

٩٣

المشوقة لهذا الحدث لم يشر إليها ابن زيدان في «الإتحاف» ولا غيره ، والتي تظهر بأسلوب مرح مواقف المغاربة المشرفة والتلقائية أمام المشاكل الطارئة التي تعتريهم أثناء مهماتهم السفارية.

الرمز كتعبير ثاني

استعمل الجعيدي الرموز أحيانا في فكاهاته الأدبية ، عندما تحدث عن مقارنة لطيفة بين الجواهر الشقية والسعيدة عند حضوره حفلة شاي مختلطة بلندن ، لاحظ خلالها أن النساء الحاضرات متزينات بالجواهر السعيدة في نحورهن وعلى رؤوسهن أما الشقي منها «.. فهو كالأسير في طبقات اللظى والسعير ، يطلب لسان حاله الإنقاذ من محنه وأهواله ...» نتحسس منها بعض الرموز التي لم تفصح صاحب الرحلة عنها ، ربما يرمز لحال المرأة والمال.

من تهكماته الهزلية

أولا : على الأوربيين لكثرة ما يعرضونه من أندر الأشياء في متاحفهم أنه لما رأى صورة سيدنا آدم وحواء وصفهما في رحلته وقال لهم : «... إن من اعتنائهم بهذه الأمور أن تكون عندكم بلغة نبينا آدم فأين هي ، قالوا تركها في الجنة عند خروجه فلذلك لا توجد هنا ..».

ثانيا : وكختام لهذا الجانب بما قاله في حق السفير الزبيدي ، أنه ذات يوم كانوا يمرون بالعربات قرب رجل مسن بلجيكي (١) «... فحين رءا الباشدور المغربي قفز

__________________

(١) انظر الرحلة ، وقد اهتمت الصحف البلجيكية والإيطالية بشخصية السفير الزبيدي ووصفت ملامحه «... رجل مسن وجميل المحيا ، ذو لحية بيضاء يلبس الجلباب التقليدي والعمامة البيضاء ، وله ما يقارب الستين عاما ، وجهه مجع يتحرك كثيرا وضعيف ، عينه متقدة ، ويحمل معه على الدوام ابتسامة ...». صحيفة ابروكسيل البلجيكية. «... إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ...». الرحلة :.

٩٤

من موضعه وصاح صيحة عظيمة كأنه فاجأه أسدا أو حل به ما هو أشد ...».

وبهذا الجانب الفكاهي من الرحلة نختتم دراستنا لرحلة الجعيدي إلى أوروبا.

٩٥
٩٦

ديباجة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم

١

حمدا لمن فضل هذه الأمة المحمدية على سائر الأمم ، وشرفها باتباع شريعة سيد العرب والعجم ، جعل فيها في كل ذ عصر إماما على هذه الشريعة ثابت القدم ، يقاوم من بغى من أهل الملل ويسد ما انخرم ، ويحذر (١) عظماءهم مما يرتكبه نوابهم ومن في حماهم من الخدم ، من مجاوزة الحدود ورفض العهود ، وارتكاب موجبات التفاقم وأسباب الندم ، إخمادا لنار الفتن ، واستفادا من أهوال تلك الظلم. نحمده تعالى ونشكره أن جعلننا من خير أمة أخرجت للناس الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، يسعون في الصلاح والسداد بين الأجناس ، فازدادت شرفا على شرف ،

__________________

(١) خطبة الكتاب ، يشير فيها المؤلف إشارة عارضة تلميحية إلى المهمة السفارية التي يشارك فيها ، وتعمل أساسا على تنبيه عظماء الدول وملوكها إلى ما يرتكبه نوابهم (القناصل ...) ومن يحتمي بهم.

٩٧

واشتهر فضلها كنار على علم. من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلله فلا راد لما سبق القضاء في سابق القدم. والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا ومولانا محمد الآمر على لسان الشرع للوقوف عند الحدود والوفاء بالعهود ، تبشيرا لمن استسلم ، وتحذيرا لمن تعدى وظلم. وعلى آله وأصحابه القائمين بنصرته وإعلاء كلمته ، القامعين شوكة من عاند وشتم ، صلاة وسلاما تحط بهما عنا الخطايا الكبائر واللمم ، وتجر بركتها عاجلا بتوالي المنن والنعم ، آملا بالحفظ من فضل الله من كل الأسواء والنقمذ (١). وبعد فيقول العبد الفقير إلى ربه الوجل من عظم وزره ، وسوء كسبه ، إدريس بن محمد بن إدريس بن عبد القادر الجعايدي الحسني.

/٢/ أحسن الله بمنه عاقبته وأدام في مرضاته وطاعته عافيته ، لما أشرقت في هذا القطر المغربي أنوار طلعة مولانا الأمير الأفخم ، ذي الجناب المهاب الأعظم ناشر لواء العدل في الأقطار ، المتلقى بالطاعة والاستسلام في القرى والأمصار ، من أتته الإمارة طالبة وبايعته الحواضر والبوادي قاطبة ، صاحب المفاخر التي شهد بفضلها الخاص والعام ، والمآثر التي ترتفع على الثريا وتكاثر الغمام القائم بنصرة الدين ، إمام الغزاة والمجاهدين ، وارث مناصب الإمارة كابرا من كابر ، وقد افتخرت بطلعته السعيدة على

__________________

(١) أثبت المؤلف في المقدمة الأولى ما يلي : وجعل فيها في كل (وقت وأوان من يرد من بغى من أهل العلن أصحاب القوانين والديون ، ويحذر عظماءهم مما يرتكبه خلفاؤهم النواب من مجاوزة الحدود والميل عن سبيل الصواب ، خمدا لنار الفتن والأهوال ، وارتكابا لأشرف الأحوال. نحمده تعالى ونشكره أن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس ، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسعون في الصلاح والسداد بين الأجناس ، حسما لمادة البغي والادناس ، وإرشادا لسلوك سبيل العقلاء الأكياس ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا ومولانا محمد الآمر على لسان الشرع الكريم بالوقوف عند الحدود ، فمن تلقى ذلك بالإذعان والقبول ، فاز من فضل الله بالمنى والمقصود ، ومن بغى وطغى فبئس الورد المورود ، وعلى آله وأصحابه الحاملين لواء العدل الممدود ، صلاة وسلاما دائمين متواليين بلا حد محدود. ونرجو من الله بركتهما في اليوم المشهود) وبعد ... ثم رأى أن يغير ذلك بفقرة فنية مسجعة كتبها بنفس الخط في الهامش نسخة للفقرة المذكورة.

٩٨

الأوائل الأواخر ، السالك سبيل العدل على أوضح سنن.

الشريف العلوي علامة زمانه سيدنا ومولانا الحسن (١) ، خلد الله ملكه ، وجعل الدنيا بأسرها ملكه ، وأدام سعادة أيامه ، وجعل البسيطة قبضة يده وطوع أحكامه ولا زال لواء عدله المنشور إلى يوم النشور. بادر أهل المودة من الروم (٢) بالنهوض والقدوم (٣) ، على هذا الإمام ، الليث المقدام ، بتهنئة سيادته باستقراره على كرسي الملك الموروث خلفا عن سلف وارتقائه معارج العز والمجد والشرف ، سائلين تجديد عهود تمهيد طرق الرشاد بما يعود نفعه على الدول من الصلاح والسداد ، اقتفاء لما أسسه أسلافه الكرام ووصلا لتلك العقود من غير انصرام ، فنالوا المنى من عدله ، وبسط عليهم أردية نواله وفضله. وبعد رجوع كل منهم (٤) لأوطانه ، وتبليغه / ما كلف به

__________________

(١) الحسن بن محمد بن عبد الرحمان العلوي ، أو الحسن الأول تولى ملك المغرب سنة ١٨٧٣ م ، وارثا عن والده العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، العاصفة بسيادة المغرب واستقراره ، وذلك في جو من التشتت الداخلي والتنافس الخارجي ، فعمد داخليا إلى إصلاح هياكل المخزن وتجديدها مع قمع كل الفتن والثورات الداخلة ، وخارجيا عمل على الانفتاح التدريجي عن أوربا بإرسال البعثات العلمية واستيراد الأسلحة لتقوية الجيش المغربي وتنشيط العمل الدبلوماسي وتكثيفه لمواجهة التسرب الأوربي الاستعماري إلى داخل المغرب. توفي سنة ١٨٩٤ م. «الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى» ، ٩ : ٢٧٤ ، الدار البيضاء ، سنة ١٩٥٤ م.

(٢) يقصد الأوربيين ، وهذه الكلمة أكثر تلطفا مما استعمله باقي الرحالة المغاربة لأوربا خلال القرن ١٩ م ، مثلا نجد في رحلة الصفار التطواني إلى فرنسا صحبة السفير أشعاش ينعتهم بالكفار وعبدة الأوثان وأهل الضلال ، وعند الطاهر الفاسي في رحلته الإبريزية ينعتهم بالقوم الكافرين ، وعند أحمد الكردودي في تحفته السنية بالنصارى وأعداء الدين وغير ذلك.

(٣) استقبل السلطان الحسن الأول وهو ما زال ولي العهد السفير الفرنسي المقيم بطنجة السيد طيسوTis ـ so في أبريل سنة ١٨٧٣ م ، والسفير الأنجليزي هاي ادريموند هاي بفاس في أبريل سنة ١٨٧٥ م ، كما استقبل فيما بعد سفراء إسبانيا والبرتغال وألمانيا وغيرهم. الذين قدموا لتعزيته وتهنئته بتولية عرش المغرب.

(٤) يقصد أهل المودة من الروم ، وكان السياق يقتضي أن يقول : وبعد رجوع كل منهم.

٩٩

لدولته وسلطانه ، اقتضى نظر مولانا السديد ، ورأيه الموفق الرشيد ، أن يرسل لهؤلاء الأجناس ـ الذين وفدوا على حضرته الشريفة ـ سفيرا من خاصة خدامه المقربين ، وخدام أسلافه المقدسين المنعمين ، ويتوجه معه إليهم كاتب وأمين ، ونفر من جيشه السعيد من ذوي الوجاهة والتمكين ، ليجازي أولئك الأجناس على ما صدر منهم من الاعتناء بجانبه العالي بالله ، كما هي العادة في ذلك وسعيا في طاعة مولانا ، وليشرح هذا السفير لعظمائهم حال بعض نوابهم من نقض بعض العهود ، ورفض بعض الشروط (١) التي أسست على السنن المعهود ، فوقع اختياره أعزه الله على خديمه الأنصح ، وخديم أسلافه الأنجح الأملح الفقيه النزيه الذكي النبيه ، السيد الحاج محمد بن المرحوم السيد الطاهر الزبدي الرباطي أصلا ، خديم أعتابه الشريفة وأعتاب أسلافه الكرام ، ثبت الله قدمه على تلك الخدمة الشريفة من غير انصرام ، ولشهرته استغنيت به عن التعريف ، إذ التعريف به مع جليل مرتبته قد يكون فيه تحريف أو تعنيف ، وعينه ـ أعزه الله ـ لأن يوجهه إليهم باشدورا (٢) وسفيرا ، ويحمله أسرارا (٣) إليهم ويكون في ذلك معينا وظهيرا لما تحقق لديه ـ أيده الله ـ من أهليته لذلك ، وتقديمه على غيره في هذا الباب ممن هنالك ، وفوض إليه ـ أعزه الله ـ أن يعين كاتبا من خدامه أهل سلا ، وأمينا من رباط الفتح من أهل المروءة واليقظة والعلا. ثم إن هذا الباشدور تفاوض ـ كما قيل ـ مع بعض أعيان أهل الرباط ، وكان ممن / لهم في جنابنا محبة واغتباط ، في شأن هذا الكاتب الذي يقوم بتلك الكلفة ، ويراعي حقوق المعاشرة والألفة ، فأشاروا عليه بصاحب هذا التقييد ، وبالغوا في إطرائه بما

__________________

(١) تصاعد تنافس النواب الأجانب بالمغرب في منح الحماية القنصلية بطرق غير مشروعة ، وبالتالي خلطوا بين سياسات حكوماتهم وبين مصالحهم الخاصة وجمعوا بينهما فصاروا يتجرون في الحماية علانية مخالفين بذلك نصوص المعاهدات والاتفاقيات التي تربطهم بالمخزن المغربي.

(٢) كلمة إسبانية معناها سفير وهي تكتب Embajador وتنطق اليوم في لغتهم امباخضور.

(٣) الرحلات السفارية لا تحتوي على معلومات صريحة عن موضوع السفارة وأسبابها ، لأنها تعتبر ذلك من قبيل أسرار الدولة ، التي لا تذاع على الجمهور في حياة المؤلف ، وإنما تؤخذ المعلومات عن العلائق الدبلوماسية من الوثائق والمذكرات الرسمية المتبادلة بين رؤساء الدول والوزراء والسفراء ..

١٠٠