إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

الرجال الثلاثة الذين لقيتهم عند خروجي من مثال جامع غرناطة. وذكروا أن أحدهم مراكشي والآخران من سوس وهما ـ والله أعلم ـ ممن تقدمت لهما الخدمة مع أولاد سيدي أحمد (١) وموسى نفع الله به ، ثم ردوا تلك الخيل إلى محلها وصاروا يتقلبون من الخشبة كأول مرة ، فأتى رجل منهم وقفز قفزة عظيمة في الهواء وانقلب مرتين في الهواء ونزل واقفا ، فصار أولائك الناس المتفرجون يصفقون بأيديهم جميعا يستحسنون بذلك عمله على عادتهم. ثم أتوا بالخيل وصاروا يلفون بها كما تقدم في بعض وصف طياطروا باريس. وهؤلاء الأناس الذين كانوا يلعبون بالقفز على الخيل ، على كل واحد منهم سروال من ثوب خفيف ساتر قدمه كهيئة التقاشر حتى تجاوز سرته أو كان بها لاصقا على جسمه ، وعلى صورة كبوط صغير لاصق على صدره وظهره ، ورأسه مكشوف علته ـ والله أعلم ـ الإعانة على خفة حركته بذلك ، لأنهم لو كانت لهم ثياب وافرة لتخللها الهواء عند جريهم وانقلابهم فتثقل بذلك حركاتهم ، لأن الهواء المتولد من ذلك يكون عاسكا لهم ، ثم إنهم أتوا ببسطيليات وهي في عرف العدوتين أنصاف البراميل الكبار ، ووضعوها داخل الدائرة مقلوبة على الأرض ، وأتوا بأفيال كبار وصاروا يلعبون بها لعبا عجيبا ، حتى أن الأفيال ترقص على الأرض وتحادي برقصها نقط أصحاب الموسيقى وتقف فوق تلك البسطيليات وتجمع يديها ورجليها فوقها مع صغر قعر البسطيلية ، وتدور فوقها ، ولم يكتفوا بهذا بل جعلوا بسطيليات صغيرة فوق الكبيرة مقبوضة عليها بمسامير وطلع الأفيال /٢٥٨/ فوق البسطيليات الصغيرة ورقصوا فوقها كذلك ، وكلما تكلم معها بكلام تفهمه وتمثله ، حتى إن فيلا منها وقف على يديه ورأسه ورفع رجليه وهو يصيح كأنه يطلب الإعفاء من تلك المشقة ، ثم ربضت إلى محلها وأتوا بفيل عظيم ، وصار يلعب كلعب الأفيال

__________________

(١) انظر ترجمة الشيخ بكتاب إيليغ قديما وحديثا / محمد المختار السوسي ، المطبعة الملكية ١٩٦٦ : ١٧ وعند غيره ، وكذلك في المعسول توجد ترجمة أجمع ج ١٢ : ٥.أما عن تواجد المغاربة بالمعارض الدولية الإنجليزية فقد ذكر ابن زيدان بالإتحاف ٤ : ٣٧٣ «لم يكن المغاربة يذهبون لانجلترا للتجارة فقط ، بل توجه أيضا حوالي سنة ١٨٧٦ م من الصناع للمشاركة في معرض للصناعة التقليدية حسبما يبدو من توصية صدرت في شأنهم ...».

٣٠١

التي انصرفت ، وبقي معه نصراني واحد في تلك الدائرة ، فعندما يريد الركوب عليه يكفه فيحني له زلومه فيقف فوقه ثم يرفعه الفيل فيقفز النصراني وينزل على ظهر الفيل ، ثم نزل وكلمه وفتح فاه وأدخل النصراني رأسه فيه وبقي هنيئة وأخرجه ثم كلمه أيضا فلوى زلومه على النصراني وحمله ، وخرج به.

لعبة الكلاب ووصف الرياض المجاور لها

ثم أتوا بشوالي صغيرة خمس وضعت داخل الدائرة الوسطيمع بعض محيطها ، وجعل وسادتان صغيرتان بطرفي صف تلك الشوالي ، وأتوا بكلاب صغيرة وأدخلوا لتلك الدائرة كلبا بعد كلب ، وكل واحد منهم طلع لشيلية ووقف عليها ، ثم أتت بنت صغيرة وصارت تكلمهم. فنزل الأول من الشيلية الأولى وصار يجري وينقلب ، وتارة يقف على رجليه فقط ويجري عليهما ، ثم رجع إلى شيلية ونزل الذي يليه وفعل كمثله ورجع لمحله ، ونزل الثالث وهكذا حتى لعب هؤلاء الخمسة ، فنزل كلب أصغر منها كان فوق الوسادة الطرفية التي من جهة الكلب الذي تقدم للعب وفعل مثل فعلهم ورجع لمحله ، ثم أتت تلك البنت بقنبة وقبضت طرفها بيدها ونزل كلب وقبض الطرف الآخر بفيه وصارت ترفع طرف القنبة وتضعه ، والكلب متابع لعملها ، وأتى كلب آخر ووقف بينهما والقنبة تدور عليه ، وعند نزولها للأرض يقفز وتخرج من تحته ، وتكرر عملهم كذلك ، وهذا نزر يسير من بعض أوصاف هذا الطياطرو ولعب أصحابه ، ففيه كفاية للمتطلع (١) لأخباره.

ثم خرجنا منه وصعدنا إلى طبقة مشرفة على رياض أنيقة فيها أنوار عجيبة ، ذات

__________________

(١) أورد الجعيدي وصف بعض الألعاب السركية بقصد اطلاع القارئ عليها ، خاصة أن أخباره قد انتشرت عبر المعمور خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وكان يعتبر من عجائب وغرائب الوقت.

٣٠٢

ألوان وأشكال ، مع التناسب وحسن الوضع ، وامتد هذا الرياض (١) مع امتداد طول دار البلار ، وهو خارج عنها وأدير بدربوز حديد فيه قضبان منه محددة الرؤوس كهيئة الحربة ، /٢٥٩/ ثم جلسنا على الشوالي قبالة دربوز هذه الطبقة ، وبقينا مستشرفين على ذلك الرياض وعلى ما قابلنا من مدينة اللونديرز ، وبساتينها وأنهارها ، ثم أناس يلعبون على الخيل بين الرياض وجدار الدار ، وكل واحد منهم واقف على فرسين كل رجل من رجليه على ظهر فرس ، واليدان بلجامها وهي تجري بهم على كيفية المسابقة ، لكنهم يتقدمهم رجل راكب على فرسين كما ذكر ويتبعه آخر كذلك وهكذا ، ويبتدءون المسابقة من محل معلوم عندهم ، ويدورون حول ذلك الرياض حتى يعودوا إليه. وهذه الخيل من الخيل المعلمة عندهم ، لأنها تعرف المراد منها حين يشار إليها أو يكلمها بشيء ، كما كانت تسير سير العسكر في الطياطرو وغير ذلك من الأعمال ، فلذلك لا يتباعد الفرسان عند جريهما حالة ركوب الرجل الواحد عليهما معا ، وجريهما إذ ذاك جري متوسط بخلاف المسابقة حيث يكون كل رجل راكبا فرسا واحدا. ثم خرجت خيل أخرى يركبها بنات ، كل واحدة على فرس ، وصرن يتسابقن وهن واقفات على ظهور الخيل ، وتكررت مسابقتهن كذلك وقوفا وجلوسا ، وكانت هذه الفرجات خاتمة العجائب التي شاهدناها بدار البلاد ، وإنما رأينا منها شيئا لا نسبة له باعتبار ما فيها وما يكون فيها من العجائب والغرائب في كل يوم خميس ، ونحن لم يتيسر لنا الذهاب إليها في ذلك اليوم لأننا توجهنا فيه للملاقاة مع السلطانة. وكان قصد الترجمان الذي مع الباشدور التأني لخميس آخر لتكمل الفرجة ، ولم يكن الغرض في الفرجة ولكن في هيئة (٢) الدار وكيفيتها فقط،

__________________

(١) يقصدPark London\'s Hyde  الذي اختاره الأمير ألبير ليكون مكان لدار البلار Palace Crystal.

(٢) يكمن هدف الجعيدي لوصفه دار البلار ، في إبراز أهمية المعارض العامة ، حيث يتلاقى فيها أهل الأبحاث والأشغال والملاهي فترتبط الأمم وتزيد المناظرة بين أفرادها ، خاصة أن فكرة إقامة المعارض تنبهت لها الكثير من الدول ، فأقامت معرضا عاما (ميونخ ودوبلن ونيويورك وفيينا وفيلادلفيا وسدني وملبورن وامستردام وانفيرس وبرسلونة وموسكو وابروكسيل وشيكاكو) طيلة الربع الأخير من القرن ١٩ ، أما معارض باريس الدولية فقد استدعي المغرب للمشاركة في ثلاثة معارض ExPositions In ـ ter.De Paris وهي : -

٣٠٣

ثم رجعنا إلى محل النزول وبينه وبين دار البلار مسير ساعة تامة في الأكداش سيرا سريعا.

التوجه إلى مدينة ولت لرؤية دار بها

وفي يوم الاثنين التاسع من رجب (١) ، توجهنا عن إذن السلطانة لدارها في مدينة ولت بالتاء المعجمة (٢) في بابور البر ، بينها وبين محل نزولنا بل المحل الذي ركبنا منه في البابور نحو ساعة واحدة ، هذه الدار هي في قصبة محيطة بالأبراج على رأس ربوة ، وعند وصولنا إليها خرج إلينا المكلف بها ففرح غاية /٢٦٠/ الفرح ، وأخبر عن لسان الترجمان أن هذه الدار غير مفرشة (٣) ، لأن سلطانة الدولة مسافرة ، فدخلنا لاسطوانها ووجدنا فيه صفين من الشوالي ، طوله نحو خمسين خطوة ، وعرضه نحو خمس عشرة خطوة ومدخله من وسطه ، وسقفه سقف سما. وكذلك القبب الآتي ذكرها ، كلها سقفها سقق سما ، إلا أنها مختلفة الأشكال ، ثم صعدنا في درج عن يسار الباب ، ينتهي الاسطوان إلى قبة مربعة فيها صورة امرأة على شيلية ، وفيها

__________________

- معرض باريس الثاني سنة ١٨٦٥ م. (الاستقصا ، ج ٤ : ٢٣١ و٢٣٢).

 ـ معرض باريس الثالث سنة ١٨٧٨ م. (صفوة الاعتبار ، ج ٣ : ٨١).

 ـ معرض باريس الرابع سنة ١٨٨٩ م. (الاستطلاعات الباريسية. اسم رحلة محمد السنوسي التونسي: مظاهر يقظة المغرب الحديث ، ج ١ : ٧٩ و٢٠١)

(١) الإثنين ٣١ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

(٢) يقصد مدينةWindsor وليست مدينةWhitstable كما جاء عند المؤرخ عبد الهادي التازي «التاريخ الدبلوماسي للمغرب ، المجلد ١٠. ج ٢ : ٩٥.

(٣) يقصد من هذا الوصف ويندسور كستل Windsor Castle الملكي ، يقع بقلعة حصينة في مدينة ويندسور الواقعة على نهر التميزThames والبعيدة عن لندن حوالي ثلاثين ميلا من الجهة الغربية ، تسكن فيه عادة الأسرة الملكية الانجليزية منذ القرن ١١ م وبه الكثير من التحف المتوارثة عند الأسرة المالكة.

EncycloPedie Britannica. Vol: 23: 600.

٣٠٤

مدفع على كريطته قيل من مدافع الهند ، ثم قبة ثانية طولها نحو أربعين خطوة ، والعرض نحو خمس عشرة ، وكذلك بقية القبب لونها متقاربة ، قد علقت بجدرانها مكاحيل وسيوف ، والثالثة فيها مدفعان أصفران وقطعة من صاري قطر دوره أزيد من ذراع ، في وسطه ثقبة نافدة في وسطه من الجهتين بكرة ، قيل أصابته كرة حين قتالهم مع الفرنصيص ، ثم الرابعة والخامسة فيهما شوالي مغشاة ، السادسة في جدرانها مرءاة التصاوير ، وجدرانها مجلدة بالكمخة ، وفيها ستة سراجم بالزاج طوال ، يشرف منها لى المشور. والسابعة مثلها في سقفها ترابيع مثمنة بقضبان مذهبة ، وفي وسطها ثرية بلار مغشاة. الثامنة فيها خزانات الكتب المذهبة ، امتدت الخزانات مع جدرانها طولا وعرضا منتهية إلى السقف ، وفيها شوالي مبطنة بالجلد الأحمر ، وفي وسطها كورتان كبيرتان أرضية وفلكية ، التاسعة مثلها بالكتب ، في وسطها خزانتان بالزاج منتهيتان إلى السقف مملوءتان كتبا ، العاشرة في وسطها خزانات ثلاث إلى السقف بالكتب. وهي مربعة صغيرة (١) نحو سبعة أذرع طولا وعرضا كذلك. وفي سقفها خواتيم ودوائر بالتذهيب وفي تربيع ، منها نصف دائرة فيه سراجم أربعة كبار مشرفة على المدينة ، وفيها كناش فيه صور ما يرونه في جرم القمر ، كل من /٢٦١/ رأى فيه شيئا من الصور بالمرءاة المعدة لذلك أثبت في ذلك الكناش ، حتى أنهم ذكورا أنه رأى في جرم القمر عالما مثل عالم الأرض ، ثم خمس قبب كبيرة متوالية جدرانها بالكمخة ، في بعضها ثريات ، وفي بعضها سراجم مشرفة ، في كل واحد شوالي وموائد مغطاة ، والقبة الخامسة عشرة طولها نحو أربعين خطوة ، والعرض نحو خمس وعشرين سقفها سقف سما ، به تكفيف كبير ، وسباني تحته بتوريق الذهب ، وفي وسط السقف خمس تربيعات ، في وسط كل تربيعة جبانة عظيمة من البلار معلقة في الوسط ، ذات شراريف قطرها نحو ذراعين ونصف ، وقد

__________________

(١) نفس القصر وصفه الكاتب الغسال في رحلته العزيزية سنة ١٩٠٢ م.

«.. وفيه عدة قبات كبار منها مربع الشكل ومنها مستطيل ، وكل واحدة من هذه القباب توصف بلون فروشها فإن كانت مفروشة باللون الأخضر يقال لها القبة الخضراء ... أو الحمراء وهكذا ، وكل قبة منها مخصوصة بغرض فمنها ما هو معد لجلوس الملك ومنها ما هو معد للمشاورة مع كبراء الدول إلى غير ذلك ... وبالجملة فإن هذا القصر من أعظم القصور الموجودة في أقطار المعمور ...».

٣٠٥

خرج من الشراريف من داخلها قضبان بلار طوال إلى نحو السقف ، وهي أي الجبانات مورقة توريقا أنيقا لا تذهيب فيه ، وفي أعلا الجدران سراجم طوال انتهت إلى السقف ، في كل جدار خمسة وعشرون سرجما ، بلارها بالألوان ، وقناطير السقف وسواريه المحيطية مورقة ومذهبة ، وتربيعات السقف التي في وسطها الجبانات صبغت علجاء ، ورقعت نجوما تذهيبا (١) ذ قيل بنيت هذه القبة عندما غلبهم الفرنصيص سابقاذ ، السادسة عشرة طولها نحو خمسين خطوة. سقفها كظهر (٢) حمار على قناطير ، ثلاث طولا وأربع عشر عرضا ، والتربيعات المتقاطعة بالسقف في وسطها ، كمثال سناجيق الأجناس بالألوان والتذهيب ، وفي وسطها طبلة طويلة وأخر صغيرة ، ثم الجامع قبته كهيئة الطست مورقة بالتذهيب ، وفي وسط جداره سراجم بالبلار الملون ، والثامنة عشرة (٣) سقفها مربع الطول ، وزيادة أنصاف دوائر من جهة اليمين فقط ، فيه أي الجدار اليمين عشرة سراجم مشرفة ، وجدرانها عليها ستور ، والتسعة عشرة مربعة ، في كل ربع من ثلاثة أرباعها أبواب ثلاث من الزاج ، والربع الرابع مشرف فيه ستة أبواب بالزاج مشرفة على براح متسع غاية ، فيه حياض بألوان النوار ، منها ما هو على هيئة الزرابي مربع للطول ، ومنها ما هو مربع طوله كعرضه ، ومنها ما هو دوائر ، ومنها ما هو مربع مع أنصاف دوائر محيطة به. وقد غرست بالألوان ، وروعي تناسبها وتوريقها ، كما تراعي نقامة الزرابي ذلك التناسب /٢٦٢/ وتلك النوار إنما تعلو من الأرض بنحو شبر ، مع تساويها في الارتفاع ، وازدحام غرسها. فبذلك تكاد الزرابي تشببها ، لأنها تشبه الزرابي ، وبين كل حوض من هذه الحياض طرق عريضة طويلة ، فيها نبات أخضر يانع ، قصير القامة ، وفي وسط ذلك البراح خصة كبيرة يحيط بها حوض مستدير ، دائرته رخام ، يبقى الماء جاريا فيه. ثم القبة العشرين مستديرة الشكل محيطة بالسراجم. ثم خرجنا منها إلى اسطوان

__________________

(١) طرة أدرجتها في مكانها بين نجمتين ذ ... ذ.

(٢) لون مركب مثل عنق حمام وقلب حجر وغير ذلك.

(٣) للتوسع في هذا الجانب وخلق نوع من المقارنة بين ما جاء به الجعيدي ، والكاتب الانجليزي جون هوب حول التطور التاريخي والمعماري لقصر ويندسور الرجوع إلى المصدر التالي :

SIR. W. H. St John HoPe, Windsor Castle on Architectural History, 3 vol (1913).

٣٠٦

عرضه نحو خمسة أذرع ، وطوله يزيد على مائة خطوة ، في جداريه دكاكين عليها أبواب الزاج ، وبداخلها العدة معلقة داخل تلك الدكاكين ، وفي بعض الدكاكين شيلية ذهب مكللة بالدرر ، كانت للسلطان فاندى بالهند سنة ١٨١٥ م ، وسيف غمده مكلل بأحجار الديامنظ ثم الواحدة والعشرون مربعة ، فيها شوالي وكنابيس مذهبة مبطنة بالحرير الأخضر ، وهي مغطاة ، لكن كشف عن إحداها ، وبها سراجم مشرفة على تلك الحياض المذكورة ، ثم الثانية والعشرون في وسطها ثريا مشرفة عليه أيضا ، ثم الثالثة والعشرون صغيرة مربعة نحو خمسة بل عشرة أذرع طولا ومثلها عرضا ، فيها صورتا آدميين من رخام أبيض واقفين على كرسي رخام ، أحدهما قابض على يد الآخر ، قد التفت كل منهما بوجهه إلى الآخر ، ثم اسطوان آخر كالاسطوان المذكور لكنه انعطف يمينا مرتين فصار فيه اسطوانات ثلاث ، في طول كل واحد نحو مائة خطوة ، وفيه سراجم مشرفة ، وفي جدراته مرءاة التصاوير ، وفي الثالث سراجم اثنا عشر ، بين كل سرجمين موائد من المرمر مرفوعة على أعمدة ، منه متصلة بالجدار ، وفيه قبتان صغيرتان ، في كل واحدة منهما فراش بوسادته ، قيل ذلك لخدمة السلطانة ومتعلماتها ، ثم كنيسة (١) فيها ثلاثة بلاطات ، وسقفها ظهر حمار فيها سبعة أقواس مقابلة لمثلها ، وسبع سوار مقابلة لمثلها ، والسواري مربعة ، وزيد في كل ربع من أرباعها سارية مربعة أصغر من الأصلية ، فصارت في الحقيقة خمس سوار ، واحدة كبرة وسطها ، والأربعة في أرباعها ، وهي من المرمر الرفيع ، قد نقش فيها تكافيف داخلة وبارزة ، والجدار المشرف على الفضاء فيه سراجم بالبلار الملون ، ثم كنيسة أخرى مثلها ، غير أنها ليس فيها سراجم ، وفيها أسرة عود ، على /٢٦٣/ كل سرير كتاب صغير. ثم قبة أخرى مستطيلة ، أرضها مزلجة بألوان المرمر ذي النقش العجيب والشكل الغريب ، محيطة بشوالي من المرمر ، في الجدارين الطويلين أقواس من البلار الملون. وسقفها مقبي مستدير بقطعتين دائرتين كالدائرة المشوكة ، ويخرج من رأس سوار هذه القبة قضبان حديد مذهبة كهيئة قطع من دوائر تتقاطع في سقف

__________________

(١) يقصد ضريح الأمير ألبيرت Mausoleum of Prince Albert والملكة فكتوريا في ما بعد وغيرهم في Frogmore بحديقة قصر ويندسور.

EncycloPedia Britanica, vol: 23: 661.

٣٠٧

تلك القبة ، وبين التقاطع توريق مذهب ، ويقرب الجدارين المذكورين قبب من عود ، طول كل واحدة نحو خمسة أذرع ، والعرض نحو ذراع ونصف ، منصوبة واقفة بعضها قرب بعض. وقد بذل النجار فيها غاية مجهوده في التوريق واللطافة والتجويف ، حتى صير كل واحدة كأنها شمعة من الشمعات التي تعلق في أضرحة الصالحين ، وتحت السراجم المذكورة تربيعات فيها تصاوير. وفي هذه القبة قبر زوجها أي سلطانة الدولة ، وقد توفي قبل بنحو ثمانية أعوان كما قيل ، وحزنت (١) عليه حزنا عظيما حتى أنها لم تتلاق بأحد بعد وفاته مدة من عامين. ثم خرجنا ورجعنا إلى محل نزولنا باللوندريز.

التوجه إلى مدينة ونزه

وفي يوم الثلاثاء عاشر رجب (٢) ، توجهنا عن إذن سلطانة الدولة لمدينة وينزه ، فيها فابريكات (٣) تصنع المدافع والكراريط والكور وغير ذلك من آلة الحرب. وعند

__________________

(١) الأمير ألبيرت Prince Albert of Sare Coburg Gotha (١٨١٩ – ١٨٦١) تزوجت به الملكة فكتوريا في فبراير ١٨٤٠ ، وقد سبق لها أن تعرفت على هذا الأمير منذ الصبى ، وعند الاحتفال بالزفاف في المعبد الملكي في «وندسور» كانت قد أحبته من قبل. الشاب الرزين «ألبيرت» كان يحب العمل والصناعة والأخلاق ، ويعطي أهمية كبيرة للحياة الزوجية ، كما أنه يعشق التقدم التقني ، وهو صاحب فكرة تنظيم المعرض الكبير منذ سنة ١٨٥٠ م للتعريف بالمهارة الصناعية البريطانية في العالم أجمع ، توفي سنة ١٨٦١ م عندما كان سنها ٤٢ سنة ، وترك لها ٩ أولاد ، فتأثرت كثيرا ولم تنساه حتى أنها في لحظاتها الأخيرة كانت تنام على السرير وصورته على رأسها ودفنت في الضريح أمام زوجها في Wiud ـ SOR.

The Story of Britain; Richard Garrett, Edition Jilly Glossborono.

(٢) اغشت سنة ١٨٧٦ م.

(٣) ترسانة ولويش wich Wool أهم حي في كريت لندن ـ مقاطعة كرينوينش على ضفاف نهر التيمز ، كانت عبارة عن ورش مهم وقاعدة بحرية أيام حكم هنري VIII ، تحتوي على دار الصناعة الملكية Arsenal Royal المؤسسة سنة ١٨٠٥ م.

٣٠٨

وصولنا إليها دخلنا إلى حزين فيه كراريط عظام ، قطر دور خزنة مدافعها سبعة أشبار وزيادة ، وفيه فلك مرفوعة فوق كراريس معدة لعبر الأودية في أيام الحرب ، وكروصة خاصة بالحداد الذي يكون معهم في الحركة ، وكراريس فيها نواعير والسلك ملتو عليها يرسلونه في طريقهم في الحركة ويتركونه وراءهم ليتكلموا به ويخبروا بما لهم ، وكروصة فيها فراش المجاريح ، فوقها غطاء من الكرية يقي المرضى من الحر والريح وشبههما ، مرفوع بجنبها سلم صغير متقارب الدرج لأجل العرض. ثم دخلنا للمكينة (١) فوجدنا قطعة من حديد مربعة الشكل ، طولها نحو ذراعين ونصف ، وعرضها كذلك. وسمكها نحو أربعة أذرع ، وفي رأسها منقار محدد ، وهي ترتفع وتنخفض ، ويوضع تحتها بارة حديد غلظها نحو أصبعين ، والطول أكثر من شبر. وعند نزول ذلك المنقار عليها يشقها بسرعة كما يشق الخبز بالحديد. ويقرب هذا المنقار طرف حديد /٢٦٤/ مستدير غير محدد بل مستوى الرأس والأصل ، غلظ دور رأسه نحو أصبعين ، يوضع تحته تلك البارة فيخرقها خرقا مستويا بسهولة كما تخرق الثياب بالابر. ثم وجدنا أناسا مقابلين لمكينة يصنع بها رويضات العود ، وهناك مناشير تشق لعود على الوجه المقصود ، وبعد شقه يركب أجزاء دور الرويضة في مكينة أخرى تملسه وتصير أجزاء الدور مستوية في الرقة والغلظ ، كأنها أفرغت في القوالب ، وكل جزء من أجزاء ذلك الدور يجعلون بأحد طرفيه ثقبة ببريمة تدخل فيه بسهولة ، ويأخذون من طرفه الآخر بالمكينة على كيفية المخرطة ، ويتركون في وسطه قطعة مخروطة يمكن دخولها في مثل ثقب البريمة في الطرف الآخر ، وعند تألفها أي أجزاء دور الرويضة يدخل المسمار من العود المخروط من كل جزء في ثقب جزء آخر. ثم

__________________

(١) عكس عظمة هذه القاعدة العسكرية محمد الطاهر الفاسي في رحلته الإبريزية : ٢٣ «... ذهبنا لفبركة المدفع والكور والبنب والخفيف والحبة ... وكراريط المدفع من الحديد والعود ... ثم إن عدد الرجال العملة القائمين بهذه الصناعات ستة آلاف ... وعدد ما يصنع في كل شهر من المدفع أربعمائة ومن الكور الكبير والمتوسط والصغير في كل جمعة عشرون ألفا ... والحاصل أنهم أتعبوا أنفسهم أولا في إدراك المسائل النظريات ، وكابدوا على تحصيلها حتى صارت عندهم ضروريات ، ولا زالوا يستنبطون بعقولهم أشياء كثيرة ...».

٣٠٩

تصنع المكينة أجزاء أنصاف أقطار الرويضات ، بعد نشرها تركب فيها وتلمسها ، وتسقط زواياها المربعة ، ويصير كل نصف قطر منها أحد رأسيه رقيق ، وهي الرءوس التي تلتقي على قطب الرويضة ، ورؤوسها الأخر غليظة. برؤوسها أيضا مساميرة عود من ذاتها مخروطة ، تدخل في ثقب دور الرويضة وهي على نسبة واحدة في الغلظ والمرمة والثقب ، لأن فعل المكينة بها ما ذكر كالقالب لها ، فلا يمكن أن تخرج جزءا ناقصا أو زائدا على الآخر ، وعندما يريدون تأليف الرويضات يأتون بأجزائها إلى دائرة في الأرض أعظم بقليل من دائرة الرويضة ، ويجعلون أجزاء الرويضة داخل تلك الدائرة الأرضية مماسة لها ، وينصبون أنصاف أقطارها داخلها ، ويرسلون المكينة على تلك الدائرة الأرضية ، لأنها من الحديد فتصير تتضايق وتصغر ، وبهذا العمل تلتئم أجزاء الدور ، ويدخل مسامير أحد أطرافه في ثقب الأطراف الأخر ، وكذلك تدخل مسامير أنصاف الأقطار في ثقب الدور ، وتلتقي أطرافها الأخر على قطب دور الرويضة ، ويبقى في الوسط ثقب مستدير قطب الرويضة ، ثم يرفعون هذه الرويضة من ذلك /٢٦٥/ وينقلونها لمحل آخر ، ويضعونها فوق طبلة من حديد مستديرة ، ويخرجون من بيت النار بارة حديد مستديرة تامة الدائرة ، ويضعونها على الرويضة بحيث تكون البارة محيطة بها ما بين مقعرها محدب الرويضة ، فتلتهب نار بين الرويضة الباردة والرويضة حتى كأنها كانت سقيت بالغاز أو شبهه ، ويتركونها تلتهب كذلك نحو نصف دقيقة ، ثم يحركون نقشة فتنحدر الطبلة التي فوقها الرويضة ، ويعلوها الماء ، فيطفئ لهب تلك النار ، ثم يخرجونها وقد التأمت أجزاؤها بعضها على بعض (١). هكذا شهدنا هذه الأعمال هناك.

ثم مررنا بمنشار ينشر أوراق الحديد ، غلظها نحو بلكضة أو أزيد ، وملاسة تملس ورقات الحديد. ووجدنا جنب كريطة مرفوعا بالبوجي ، ميزان مدفعها كما قيل خمسة وثلاثون طنا ، والطن عشرون قنطارا ، ثم وجدنا كريطة تامة ، جنباها مثل

__________________

(١) اهتم الجعيدي كثيرا بكيفية صناعة عجلات الأكداش والكراريس باعتبارها أهم وسائل النقل والجر والسفر داخل المدن التي زارها ، على عكس ما كان سائدا آنذاك بالمغرب ، إن المسافرين يركبون ظهور الدواب بسرج أو بردعة أو يسافرون على أرجلهم. أما العجلة فكان لا تعرف إلا لجر المدافع السلطانية أثناء الحركات العسكرية. (الاستيطان والحماية بالمغرب ، مصطفى بو شعراء ، ج ١ : ١٩٤).

٣١٠

الجنب المذكور ، وطرفاها موضوعان على بارتين من حديد كقطعتي دائرة ، ورجلان لا غير يديرانها بمدفعها إلى الجهتين ، وهذا المدفع عمارته قنطار وثلاثون رطلا ، وميزانه ثمانية وثلاثون طنا ، وفورمته ثنتا عشرة بلكاضة ونصف ، وميزان كورته ثمانية قناطير ، وإذا رفع عشرة أدراج يرمي من خمسة آلاف يارضة إلى ستة آلاف ، ثم خرجنا من هذا المحل.

ودخلنا إلى دار من الديار المعتبرة عندهم. فوجدنا بها صالات أرضية طولها نحو أربعين ذراعا ، والعرض نحو خمسة عشر ، في وسطها مائدتان طويلتان محيطتان بالشوالي ، سقفها سقف سما ، محيط به تكفيف كبير ، تحته سبنية ، وكل ذلك مورق بالتذهيب ، وفي الجدارين الطويلين أربع مرايا عظيمة ، بين كل اثنتين في أحد الجدارين صورة سلطانتهم. وفي الغارب أبواب طوال من الزاج ، يشرف منها على المدينة. وفي السقف ثلاث ثريات بلار ، وبقرب هذا المحل دويرة صغيرة قد امتدت مصطفة مع أحد جدرانها ، فوقها رخامة بيضاء ، بني فيها صلاليب رخام أو بديع ، فوق كل صلاب بزبوزان ينصب منهما الماء الحار والبارد عند الحاجة إليه ، وبقرب /٢٦٦/ كل صلاب قالب صابون وزيوف بيضاء ، وفوق هذه الدويرة بيوت الخلاء ، في كل بيت كرسي من العود ، وأرضه مفرشة بالكاغد المورق ، وفي سقفه زجاجة مربعة نحو ذراع ونصف طولا وعرضا ، يدخل منها الضوء للبيت دون شعاع ، وهذه الدار هي لبعض كبراء العسكر ، وقد أكرمونا هناك ، وأتوا بأنواع الحلواء وفواكه الوقت والقهوة.

الحيلة المستنبطة لتغريق المراكب في البحر

ثم خرجنا منها إلى خزين ، فوجدنا فيه قراطيس (١) ، طول كل واحد ثلاثة أشبار ،

__________________

(١) يقصدTorPedo صاروخ بحري يخضع لتوجيه مسافي بدفع ذاتي ، يحمل كمية كبيرة من المتفجرات ، يمكن القذف به من البر أو من الباخرة إلى باخرة أخرى. اخترعه سنة ١٨٦٦ م مهندس بريطاني Rob ـ ert Whitehead (١٨٢٣- ١٩٠٥) وسمي اختراعه Whitehead TorPedo.

(انظر صورة طوربيد روبير ويطهيد بملحق الرسوم والصور صفحة ٢١).

The Macmillan EncycloPedia: 1220 the diagram grouP) WeaPons ( INTE. ENCYL: 242.

٣١١

وقطره شبر ونصف ، مملوء بالضوبل المستدير ، قيل في كل واحد ألفان من الضوبلي ، ثم وجدنا في خزين آخر مثل سارية مجوفة محددة الرأسين ، طولها نحو ستة أذرع ، وفيها حوتة كحوتة الفلك التي تستقر عليها ، وقد ملئ نحو ربعها بارودا ، وضوبلي من جهة رأسها المحدد المخروط ، وباقيها فارغ ، وبذنبها أرياش تسير بها ، قيل إنها ترسل في البحر عند محاربتهم مع بعض الأجناس إلى البابور الذي يريدون رميه بها بعمل هندسي ، فتسير في داخل الماء قاصدة ذلك البابور لا تخطئه. وعند مصادمتها له يدخل رأسها فيه ، فيشتعل ذلك البارود في جوف البابور كأنه مينة ، فيكون ذلك سبب هلاكه وهلاك من فيه ، ولا يمكنهم من ذلك فرار ، بل هناك قبرهم إلى دار القرار ، هذا مع إرسال حوتة واحدة فكيف إذا أرسل منها عدد كثير ، وقيل هذا من مخترعات حكماء الأنجليز التي لم يسبق إليها ، وأنها ليست موجودة عند غيره من الأجناس.

كيفية خدمة الخفيف

ثم دخلنا إلى محل آخر يخدمون فيه الخفيف (١) الذي يركب مع البارود في عمارة المكاحيل ، فوجدنا طناجير عظيمة توقد النار تحتها وهي مملوءة خفيفا مذابا ، ويرمي فيها بارات منه عظيمة في تلط الطناجير ، وبأسفل كل طنجير قادوس ، يخرج /٢٦٧/ منه الخفيف المذاب ، ويجري في ساقية على وجه الأرض ، ويمر في قواديس من حديد ، وترتفع في باطن طناجير أخر قبالة تلك الطناجير ، غير أنها مغطاة ، وفي وسط الغطاء ثقب يخرج منه قضيب من الخفيف ، فيمسكه رجل بيده ، بعدما يجعل بيده خرقا من ثياب ، ويجذبه ويركبه فوق حرف ناعورة ، وتأخذ تلك الناعورة في الدوران ، وذلك القضيب يلتوي على حرفها حتى يملأ حرفها المجوف ، فترفع ويوتي بأخرى

__________________

(١) هو الرصاص قيمنا وابتعادا من اسمه الأصلي ، لأنه يوحي بمعنى الثقل والضرر ونجد هذا التبديل عند المغاربة في كلمات كثيرة ، فمنهم من يسمي صلاة العصر «الساهل» (أي السهل) لأن لفظة العصر تشبه في النطق العسر ، وكذلك الفحم «الفاخر».

٣١٢

وهكذا. ثم تنقل هذه الناعورة التي ملئ حرفها بقضيب الخفيف ، وتركب قرب مكينة أخرى تقبض رأس ذلك القضيب ، وتصير تجذبه وناعورته تدور دورانا خفيفا. وكلما مر منه مقدار خفيفة طولا ينزل عليه طرف حديد محدد يفصله من القضيب ، وينزل إلى الأرض. ثم يجمع ما ينزل منه إلى الأرض ، ويوضع أمام صبيان صغار مقابلين لميكنات أخر ، فيها نواعير مبسوطة محفور فيها قوالب القطع من الخفيف الذي وضع أمامهم ، وهم يركبون كل قطعة منه في قالبها ، وتلك الناعورة تدور دوران الرحى ، وينزل على كل قالب قطعة حديد ، تلقاه قطعة الخفيف ، فتصير أحد رأسيه مخروطا به ثقب ، والآخر مبسوطا ، لكن فيه تقصير ثم يرسل إلى نواعير أخر ثلاث غير هذه لتمام تصفية تلك الحقيقة. وهذا الموضع الذي يخدم فيه هذا الخفيف طويل جدا عريض كذلك. والمكينات منصوبة فيه مثل مناسج الطرازة ، مكينة قرب أخرى. ومن شدة طول هذا الموضع حتى أنه لا يتميز الرجل من المرأة من الناس الذين بمنتهاه ، وفيه من الخدمة ستة آلاف كما قيل ، كلها مكلفة بخدمة الخفيف.

كيفية صنع الكور

ثم دخلنا إلى محل آخر يفرغون فيه الكور (١) المستطيل المخروط الرأس على هيئة القوالب من السكر ، فوجدنا هناك قوالب مربعة ، /٢٦٨/ يجعلون في وسطها قالب الكورة التي يريدون فرغ مثلها ، ويملأون ما بين القالب والكورة بالتراب ويدركونه دكا كثيرا ، ثم ينزعون الكورة منه وقد بقي مثالها في وسط القالب ، فيفرغون من التخليطة التي تذوب ، ويتركونه هنيئة حتى تجمد ، ثم يضربون القالب بميجم من عود طويل اليد ، فينحل القالب ، ويتساقط التراب ، وتبقى الكورة صامتة وفيها حفر مربعة كانت محفورة في القالب ، يجعلون فيها بعد هذا مسامير مربعة نحاسا ، تبقى نائتة عن جرم الكورة بمقدار نصف أصبع ، لأن مثالها محفور أيضا في جوف مدفعها ،

__________________

(١) يطلقها المغاربة على كل شيء مكور ، ومنه قذيفة المدفع التي كانت فيما سلف مكورة ، ويستعملون في هذا المعنى أيضا كلمة بومبةBomba الإسبانية.

٣١٣

وذلك مما يقوى سيرها عند خروجها من المدفع ، وهذا الكور الذي يخدم كما ذكر هو على عينات في الصغر والكبر ، ثم يرفع إلى مكينات تصفيته وثقبه بالمخرطة ، ثم وجدنا أناسا يعمرون الكور الصغير في الصناديق ، ثم آخرين يملأون زنابيل بالخفيف ، في كل واحد منه مائتان وأربع وثلاثون خفيفة ، ويصبون عليها الرجينة مذابة.

كيفية صنع المدافع العظام

ثم وجدنا أناسا في مكينة يصنعون المدافع العظام (١) ، وأصلها ألواح من التخليطة، يتخذون ستة ألواح أو سبعة ، طول كل لوحة نحو ثلاثة أذرع ونصف ، وعرضها أقل من نصف شبر، وغلظها نحو أصبع ، ويدخلون هذه الألواح لبيت النار بعد ما تصفى، ويجعل لوحة فوق أخرى ، ثم يخرجونها ويجعلون رأسها بين ساريتين منصوبتين من حديد ، قد حفر فيهما حفر مربعة متفاضلة في الكبر والصغر، يجعلونها أولا في الكبرى ، ثم تدور الساريتان على تلك الألواح وتخرج من تحتها ، وقد التأم بعضها ببعض ، وصارت قطعة واحدة أطول وأرق مما كانت ، ثم يخرجونها من باقي الحفر المذكورة واحدة بعد واحدة ، وهي بين ذلك ترق وتطول حتى يصير غلظها مثل غلظ جرم المدفع الذي يريدون صنعه منها ، وتصير بارة طولها نحو عشرة أذرع ، وتربيعها نحو ثمن ذراع ، ويصنعون بارات كثيرة مثلها ، ثم ينصبون هذه البارات في بيت نار طويل ويصلون بين أطراف البارات ، ولم أقف على كيفية الوصل ، وإنما وقفنا برأس بيت النار فوجدنا سارية أيضا ، /٢٦٩/ منصوبة بمنتهى رأس بيت النار ، ورأس البارة خارج بيت النار ، بحيث وصل إلى السارية ، رفعوا رأس البارة وسمروه في السارية ، والماء يصب عليه حالة تسميره صبا قويا. ومع توالي صبه يبقى رأس البارة أحمر كأنه

__________________

(١) اهتم الجعيدي بصناعة سلاح المدفعية ، ذلك لما اكتسبته من فعالية عسكرية كبيرة ، في معظم الحروب التي عرفتها أوربا خلال القرن ١٩ م ، فبفضلها استطاع السلطان الحسن الأول أن يخرج منتصرا في كل المعارك أو حركات الجنوب ، وبفضلها كذلك استطاع أن يركز السلطة المركزية في الأطلس والريف ، وبفضل هيبتها اكتسب حركاته طابع النصر حتى التي لم تقع فيها أي معركة.

٣١٤

لم يمسه ماء. والعلة فيه ـ والله أعلم ـ لصلابة رأس البارة وتقويته وبقائه مسمرا في السارية ، لأنه لو لم يصب عليه الماء لتخرم الثقب الذي برأس البارة لليونته عند خروجه من بيت النار ، مع ثقل البارة الخارجية ، ويخرج البارة ودوران تلك السارية تصير البارة تلتوي عليها حتى تخرج البارة كلها. وقد التوت على تلك السارية ، ثم ينزعون السارية من البارة الملتوية فيبقى بين اللّي فرج ، ثم يدخلونها لبيت النار أيضا وتبقى به ، فإذا مضت المدة التي يستحق بقاؤه ببيت النار فيها يخرجون تلك البارة الملتوية ، ويقفونها تحت مزبرة بين جدارين من حديد ، ويرسلون عليها جرما مربعا من حديد ، ويصير يرتفع وينزل على البارة الملتوية ذو الماء ينزل عليه كالمطر (١) ذفتلتئم لياتها وتصير كأنها ذات واحدة ، ثم يجعلون في وسطها قطعة من حديد مستديرة ، ويرسلون عليه ذلك الجرم المذكور ، فيقوص في باطن تلك الليات ، ثم يقلبونها ويرسلونه عليها أيضا فيخرج وتصير تلك البارة قطعة من مدفع (٢) ، أما خزنته أو وسطه أو عنقه ، لأنهم يصنعون المدفع يومئذ على ثلاث قطع ، فالخزنة أعظمها ، ووسطه دونها وعنقه أرقها ، والبريمة واحدة ، وذلك الجرم الذي يرسلونه كما ميزانه كما قيل ثمانون طنا ، أي مائة وستون قنطارا.

وصف هذا المدفع

ثم وجدنا مدفعا عظيما طوله سبع يارضات ، ودور خزنته ست يارضات ، وفورمته

__________________

(١) طرة أدرجتها في مكانها بين نجمتين* ...*.

(٢) طلب السفير الزبيدي شراء بعض المدافع الأنجليزية غير أن المغرب واجه عدة مشاكل من جراء ذلك بسبب الزيادة التي طرأت على الأثمان من جهة ، وبسبب الريع أي الفائدة التي زيدت على الثمن الأصلي للبطئ في الأداء وأغلاط أخرى يدعى الزبيدي أنها غلط من طرف انجليز ، وذلك بأنهم لم يحدد لهم مكان لإنزالها ويتكلم عن زيادة السكة. انظر نص الرسالة السلطانية إلى الزبيدي «الجيش المغربي وتطوره في القرن التاسع عشر» ، د. د. ع ، برادة ثريا ، الصفحة ٢٨١ ، كلية الآداب بالرباط.

٣١٥

ست عشرة بلقظة ، كورته سبع عشرة مائة ابرة ، عمارته ثلاثة قناطير وأربعون ، ميزانه ثمانون طنا هكذا ذكر مهندسهم ، وهو لهدّ الأبراج والحصون ، والبابورات التي تصنع من الحديد ، في قطر يديه شبران حيث جعل في بورد ، والقراصير تسع بلقاضات حديد ، أحدثوا هذا المدفع يخرق ست عشرة بلقضة والبابور إنما يحمل منه واحدا فقط ... (١)(٢).

إكرام بعض التجار للباشدور باللوندريز (٣)

__________________

(١) الصفحات من / ٢٧٠ / إلى / ٢٧٣ / فارغة.

(٢) قبل أن يغادر السفير الزبيدي لندن أدرك أن لا فائدة ترجى من وراء مذكراته مع اللورد دربي فوجه له الرسالة التالية : «... نطلب من كمال اعتناء الوزير المعظم أن يكتب كتابا للمنسطر بطنجة صارجان هاي يأذن له يعيننا في أمور ، وهي في الحقيقة قوانين تحصل منها المصلحة وعدم ما يكدر الخواطر بين الدول ... وهذا المطلب الذي طلبناه من دولتكم الفخيمة بمثله سنطلب من الدولة الفرنصوية يكتبون للمنسطر الذي عندهم بطنجة لتكون الموافقة بين الدولتين إن شاء الله ـ ١٣ رجب ١٢٩٣ ه‍» ، مجلة (الوثائق ٥ : ٦٣٣). وقد أخبر الزبيدي الحاجب السلطاني بطلبه نقل المذاكرات حول مشكلة الحماية القنصلية إلى طنجة فأجابه بالقبول «... وبعد فقد وصلنا كتابك الذي كتبته لنا من اللوندريز في تاريخ ١٣ رجب ، وعلمنا منه كيفية ملاقاتك مع سلطانة النجليز وما قابلتك به من الفرح والسرور اعتناء بجانب مولانا المؤيد المنصور ، كما علمنا ما دار بينك وبين وزيرهم في أمر الحمايات وما وعدك به من المساعدة والوقوف فيما فيه المصلحة ، ورفع الضرر على شرط موافقة الدول في ذلك ، وذكرت أنك لما رأيت أن الأمر فيها لا يتم إلا بطنجة طلبت منه أن يكتب لك لنائبهم بها فاستحسن ذلك وأنعم به ، وإنك عند تمام الكلام فيها وظهور وجه الفصل فيها تعلمنا بما يؤول إليه الأمر في ذلك. وقد انهينا ذلك كله لمولانا المنصور بالله وصار بباله الشريف ودعا أيده الله لك بخير ... «في ١٣ شعبان ١٢٩٣ ه‍. مفاوضات كانت كمقدمة لعقد مؤتمر مدريد سنة ١٨٨٠ م. مجلة الوثائق ٥ : ٦٣٤.

(٣) بعثت عصبة الطائفة اليهودية بالبلاد الأنجليزية إلى الزبيدي رسالة تلفت فيها نظره إلى إرهاق والي أزمور ليهودها ، وضيق الأحياء المخصصة لسكنى يهود الصويرة ، وتستوصى خيرا باليهود على العموم ، وقد كتب بخط شرقي وجمل ركيكة بتاريخ ٢٥ يوليوز ١٨٧٦ م بالإتحاف ج ٢ : ٢٩٨ بعد ما تحاور معهم الزبيدي ، غير أن الجعيدي لم يذكر تفاصيل هذا الحفل الذي أقاموه على شرف السفارة المغربية ...

٣١٦

الجزء الخامس

الرجوع إلى بر الفرنصيص والتوجه منه للطليان

/٢٧٤/ ... وكان مدة سفرنا في هذا البحر ساعة واحدة ونصفها. فكان وصولنا لمرسى مدينة كالي (١) المذكورة في الساعة الحادية عشرة وأربعين دقيقة ، وهناك دعوت على هذا البحر بأن يسلط الله عليه العفاريت النجليزية يحفروا في أسفله طريقا دهليزية ، يمر الناس فيها من تحته (٢) ويزهدون في ركوب فراشه وتخته. وهناك ودع الباشدور الترجمان المذكور* بعدما أسلمنا في يد ترجمان الدولة الفرنصوية (٣) ذلأنه قدم من باريس* لاستقبال الباشدور وأصحابهذ ، وعند نزولنا أخرجوا المدافع ورفعوا سنجق الإسلام أيضا في مدينة كالي.

__________________

(١) وصلوا إلى مدينةCalais الفرنسية ، بعد الإرهاق الشديد الذي أصابهم من ركوب بحر المانش.

(٢) من باب الفكاهة أورد الجعيدي نظريته هذه في شكل دعائه ، الذي تحقق اليوم بفضل التطور العلمي ، حيث تم العمل لبناء نفق أرضي تحت المانش لربط فرنسا وأنجلترا.

(٣) طرة أدرجتها في مكانها بين نجمتين* ..*.

٣١٧

الدخول إلى مدينة باريس

وبعد مرور نصف ساعة من زوال شمس هذا اليوم ، ركبنا في بابور البر قاصدين قاعدة باريس ، فمر بنا أيضا على مزارع وأنهار وبساتين وأشجار ، ولم يزل يقطع بنا تلك الأنهار والأشجار ويمر بنا على القرى والأمصار ، حتى حطت المحبوبة النقاب ، ورفعت عن محياها الجلباب ، فأشرفنا على طلعتها مستبشرين ، ونودي ادخلوها بسلام آمنين ، وخرجنا من ضيق القبور إلى فضاء القصور (١) وطابت الأنفس وانشرحت الصدور. وكان دخولنا إليها في الساعة السادسة ونصف من مساء اليوم المذكور. فاسترحنا من التعب مع أنه لم يمسنا ـ والحمد لله ـ في ذلك نصب ، وأنزلتنا الدولة الفرنصوية أيضا في أوطيل الذي كنا فيه عند مرورنا ، وقامت بالضيافة أتم قيام على العادة من الاحترام وجزيل الإكرام.

وفي يوم الأحد منتصف رجب (٢) ركبنا الأكداش في مسائه ، وخرجت بنا إلى أطراف البلد فمررنا على أجنة ذات أشجار وأنهار وفلك جاريات ، أسرت غزلانا وأقمار متكلم مع الحادي وأشير إليه بالنزول بشاطئ الوادي ، بقصد الاستراحة هناك. فجدير أن تجد يا لبيب مقصودك ومناك ، فنزلنا هناك هنيئة من الزمان وسرحنا الأبصار في المرائي الحسان ، وقلت عند نزولنا في هذا المكان.

بالله عرج على تلك الجنان ولا

تحيد عنها فما عليك من حرج

فلج معاهدها واقصد حدائقها

ذات ابتهاج بقرب نهرها الهائج

__________________

(١) نفس الإعجاب عبر عنه الصفار في رحلته بالصفحة ٥٦ «... واعلم أن هذه المدينة هي قاعدة بلاد الفرنسيين وأم حواضرهم ، وكرسي مملكتهم ومسكن عظمائهم ومنشأ قوانينهم ، وشرائعهم ، ودار علومهم بها يتفاخرون وبسكانها يتنافسون وبها وبأهلها في عوائدهم وآدابهم وحضارتهم ، يأتنسونوهي مدينة عظيمة كبيرة ، من كبار المدن المذكورة في الأقاليم ...».

(٢) ٦ غشت سنة ١٨٧٦ م.

٣١٨

بالله قف بالرفاق واغتنم لذة

فالنفس حقا غدت بذاك تبتهج

وانظر إلى الفلك في الانهار سابحة

تصيد ريم البيدا نضئ كالسرج

وانظر لأشجارها بالشاطئين غدت

تهدي السلام بميل غصنها البهيج

يا لائمي حسدا جرب وإلا قمت

حزنافما أنت إلامن ذوي العرج(١)

ولما اطلع على هذه الأبيات بعض رفقائنا. قال : قد أحسنت إلا أنك لم تذكر الأناس الذين كانوا في الماطشات (٢) ، كل رجل مع زوجه في ماطشة يطيشان بها منفردين ، فقلت إن أحببت ذلك فزد فيه.

القبة التي تطير بمن يعلو بها

وعند رجوعنا في تلك العشية ، رأينا جرما مستديرا عظيما مرتفعا غاية في الهواء ، وله رأس مستطيل إلا أنه معكوس إلى جهة الأرض ، يقال إن أناسا يركبون في مجالس محيطة بذلك الرأس نحو العشرة. وذلك الجرم المستدير (٣) منفوخ بالغاز من شأنه الصعود ، فيطير بالجالسين بتلك المجالس بعدما يتفهمون على كيفية حركتي الصعود والنزول ومدتيهما. وكنا نسمع بأن أناسا يركبون في قبة تطير بهم وتنزل بهم

__________________

(١) الأبيات من بحر البسيط مع خلل في الإيقاع.

(٢) أرجوحة أو خسدعةBalanÇoire (المنجد).

(٣) القبة الطيارة مكونة من غلاف رقيق ذو شكل كروي ، متى ملئت بالهواء الحار أو بغاز الإيدروجين صارت أقل ثقلا من الهواء فتسبح فيه ، وتتدلى منها سلة لحمل الأشخاص أو بعض الأجهزة العلمية لمعرفة طبيعة الهواء والأحوال الجوية ، أو لأغراض عسكرية. (دائرة المعارف الحديثة ، ج ٢ : ٣٢).

٣١٩

في محل آخر ، لكن الذي نقل إلينا أن الأناس يكونون خارجين عن جرم القبة ، لأنها مملوءة بالغاز وهم بالمجالس المحيطة بها من أسفلها ، وأنهم يكتبون مكاتب ويرمونها من أيديهم ، بعدما يجعلون بها خيطا رقيقا وورقات كبار من الكاغد مصبوغة بالسواد لترى عند نزولها ، ويخبرون في تلك الكتب بما يرونه من أحوال الجو والمدن وغير ذلك ، ويختارون لذلك يوما لا ريح فيه ، وأنهم ينتهون في صعودهم إلى محل يفقدون فيه الهواء وتضيق أنفسهم ويشتد بهم البرد ، /٢٧٦/ حتى أنهم لا يرون إذ ذاك إلا الفلك من فوقهم ومن تحتهم ، ولا يرون أرضا ولا بحرا ولا مدنا ولا غيرها. وربما مات بعضهم من شدة البرد وضيق النفس ، وكان يقال إن هؤلاء الصاعدين يقبضون على الصعود مالا معتبرا. فقيل لنا هم الذين يدفعونه لأجل الصعود والفرجة ونيل تلك الرتبة والافتخار بها.

الدار التي تصنع الخبز للعسكر

في يوم الثلاثاء السابع عشر (١) منه ، خرجنا إلى دار يصنعون فيها الخبز للعسكر، وجدنا فيها بيوت النار عديدة وخناشي كثيرة مملوءة بالدقيق الخالص الصافي ، وخزانات فيها خبز كبير موضوع. قسمت واحدة بسكين فإذا هي من ذلك الخالص ، وأما الرحى التي تطحن الزرع بالمكينة ، فقيل إنها عندهم بمحل آخر ، ووجدنا بعضا من العسكر يفتحون صناديق من العود مثل صناديق الكبريت في الجرم ، ويخرجون منها الفجماط (٢) يزيلون الغبرة التي به ويمسحونه ويردونه إلى تلك الصناديق ، ليكون موجودا وقت الفيرة (٣) ، وقيل إن ذلك الفجماط يصير في تلك الصناديق ثمانية عشرة شهرا ، وأن تلك الدار يصبخ فيها من الخبز ما يكفي خمسين ألفا من العسكر إذا احتيج إلى ذلك.

__________________

(١) ٨ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٢) أو البجماط : نوع من الفقاص أو الخبز اليابس.

(٣) انظر شرحه بالملحق رقم : ٤.

٣٢٠