إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

قببها فوجدناه في بعضها ومعه كاتبان من الكتاب ، فرحب بالباشدور غاية الترحيب وبنا كذلك ، وجر شيلية بيده وأتى بالباشدور أخذا بيده وأجلسه عليها ، وأشير إلينا بالجلوس قربه /٢٣٦/ فجلسنا ، وجرت (١) بينهما مذاكرة بواسطة الترجمان ، فيما اقتضاه الحال ، وظهر منه اعتناء كبير بالجانب الشريف أسماه الله.

إكرام زوجة وزير الأمور البرانية بالهند للباشدور

ثم رجعا ، وفي ليلة الخميس استدعتنا امرأة وزير الأمور البرانية ببر الهند ، فتوجهنا إلى قبة مربعة فيها شوالي وكنابيس رفيعة وثريات توقد ، ففرحت بقدومنا فرحا عظيما هي وزوجها ، ولم تكن هنيئة حتى ملئت تلك القبة نساء ورجالا ، أما الرجال فلباسهم الكبابيط الخشينة ، ورؤوسهم مكشوفة ، والنساء يجررن ثياب الحرير بنحو ثلاثة أذرع في الأرض ، وغالبها مرصع بالديمانط ، وكذلك في نحورهن وعلى رؤوسهن وفي الدماليج ، فرأيت أن معدن هذا الديمانط حيث أخرج من معدنه منه الشقي والسعيد (٢) ، فالسعيد منه قد أسكن في رءوس الملاح والنحور والصدور ،

__________________

(١) اللورد دربي رفض المطالب المغربية كما جاء في رسالته إلى الزبيدي «إن حكومة جلالة ملكة أنجلترا قد أحلت محل الاعتبار رسالتكم المؤرخة ب ١٨ الجاري ... وردا على رسالتكم .. ليست لها رغبة في بسط الحماية على المغاربة .. وليس في رغبتها تغييرا لاتفاقيات المبرمة ... لتسهل على التجار الانجليز القائم بأعمالهم داخل الإيالة المغربية ... وأن سفير أنكلترا في المغرب لم يقدم قط على إيثار السماسرة والنواب في الداخلية ، فالحكومة لا تستطيع أن تبخس التجار الانكليز شيئا من الامتيازات التجارية الممنوحة لسواهم من التجار ، وبالرغم عن هذا كله فإذا وفقت الحكومة المغربية إلى أن تعقد مع أية دولة اتفاقا يكون أفضل لها من الأول فإن حكومة أنجلترا تنيله اعتبارا صحيحا حتى تتوصل حسب الإمكان إلى تلبية رغبات جلالة ملك المغرب ..» ، ٨ غشت ١٨٧٦ م. الإتحاف ، ج ٢ : ٣٠١.

(٢) مقارنة لطيفة بين الجواهر الشقية والسعيدة نتحسس منها بعض الرموز التي لم يفصح صاحب الرحلة عنها ، كما أنه يصف المرأة الأوربية عموما بحب العمل إلى جانب الرجل والحياء والحشمة ، بخلاف من يصفها بالسلطوية والميوعة وغير ذلك.

٢٨١

وبعضه في حواشي ثياب الحرير ارتفاعا وانخفاضا ، فهي بمثابة الجنة ، وهو منها بمواضع بمثابة القصور ، وأما الشقي منه فهو كالأسير في طبقات اللظي والسعير ، يطل لسان حاله الإنقاذ من محنه وأهواله ، ولم تزل تلك القبة تملأ وتفرغ ، وكل من دخل إليها يمر علينا واحدا بعد واحد. ورأينا في نسائهم حياء كبيرا لأنهم يرفعن إلينا من بعد ، فإذا قربن ووقع بصرنا على إحداهن نكست بصرها إلى الأرض ، وغالبهن على هذه الحالة ، وبقينا هناك نحو ساعيتن ، وشربنا هناك أشربة ماء ورجعنا ليلا.

الدار التي فيها صور الآدميين والخروج لدار العلماء

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين (١) منه ، توجهنا لدار بها تصاوير آدميين (٢) ، ذوات أجسام واقفة على الأرجل غير مستندة إلى شيء ، قد لبست كساوي من كساويهم التي كانوا يلبسونها ورؤوسهم مكشوفة ، وشعرها مفروق على عادتهم ، ومنهم المقلد بسيفه ونيشانه وحمالته. وعلى ذلك من الديمانط والأحجار النفيسة شيء كثير ، وعند دخولنا إلى هذه القبة ورؤيتنا لهؤلاء الصور واقفة وكثرة الضوء والناس الذين هناك صرنا لا نميز بين الصور والأحياء /٢٣٧/ إلا بالحركة وعدمها ، بل رأينا رجلا جالسا على شليته وهو يلتفت برأسه يمينا ويسارا. وصورة امرأة مريضة في حالة النزع قد غمضت عيناها ، وفي عنقها سلسلة رقيقة ، وهي ترتفع وتنخفض شيئا ما ، كأن النفس الباقي بها يفعل بها ذلك ، ووجدنا في بساط صورة رجل ملقى على

__________________

(١) ٢١ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

(٢) يقصد معرض السيدة توسود Toussand\'s Madameالذي وصفه كذلك الكاتب الغسال في رحلته العزيزية سنة ١٩٠٢ م.«... وتوجهنا لدار تسمى عندهم مدار طوس متخذة عندهم لوضع صور الملوك والوزراء والحكام الأقدمين من دولة الأنجليز ... وكل صورة من تلك التماثيل في غاية الإتقان والتشخيص مصنوعة من الشمع وغيره حتى يتوهم الرائي أنها أحياء ... وفي الطبقة السفلى من هذه الدار تماثيل من الرجال والنساء الذي اقتص منهم بجرائم ارتكبوها ...».

٢٨٢

قفاه ، ويداه إلى صدره ، وعن يمينه تاج مكلل بالدر والأحجار وهو متقلد سيفه ، قيل إنها الحالة التي مات عليها عندهم نابليون (١) سلطان الفرنصيص الذي كان عقد الفيرة مع الألمان ، وهم البروصيا. وهناك صور ملوكهم وأعيانهم ، كل واحد عليه من الأحجار والدر ما كان يستعمله في حياته ، وهناك صور البروصيا ووزيره الذي كان مقابلا للحرب مع الفرنصيص ، ولا زالا بالحياة كما قيل. وفي موضع آخر خارج (٢) عن هذه القبب صور أناس آخرين كانوا من أصحاب الجرائم ، كقتل النفس ، والسعي في الفساد ، فقتلوا وصوروا هناك. وقيد قبالة كل واحد جريمته وكيفية قتله ، والداخلون إلى ذلك المحل يقرأون ذلك ويعتبرون ، ويزجرونه عن ارتكاب مثل ذلك ، ويقفون هناك على الآلة التي قتلوا بها حتى أنهم أوقفونا على سكين هناك قيل قتل بها ما يزيد على اثنين وعشرين ألفا من أهل الجرائم.

وفي يوم السبت ثلاثين (٣) منه دخلنا لدار (٤) يجتمع فيها علماؤهم وكبراؤهم ، وفيها قبب كثيرة مرتفعة في الجو ، منها ما شكله مربع ، ومنها المستطيل ، ومنها المستدير ، ومنها المثمنة وغير ذلك من الأشكال ، وسقوفها منها ما هو سقف سما

__________________

(١) الأول (١٧٦٩ / ١٨٢١ م) نفي إلى جزيرة سانت هلين التي توفي بها بعد انكساره في معركة واترلو ، وليس نابليون الثالث الذي عقد الحرب مع ابروسيا سنة ١٨٧٠ م.

(٢) تعرف بقاعة الرعب Horrors Chamber of  عبارة عن أقبية وسراديب واطئة وضوء ضعيف به صور كثيرة ، منها صورة أحد السلاطين الترك يدخن النرجيلة وينظر إلى رأس وزيره في طبق تقدمه إليه فتاة ، وأمير يقتل أبناءه خوفا على عرشه وصورة رجل معلق من بطنه كتب عنها وسيلة من التعذيب في بعض بلاد مراكش وغير ذلك ، لم ينتبه الجعيدي إليها أو تعمد عدم ذكرها.

EncycloPedia Britannica, Vol: 14: 278.

(٣) السبت ٢٩ جمادى الثانية عام ١٢٩٣ ه‍ يوافق ٢٢ يوليوز سنة ١٨٧٦ م ، لأن الشهر العربي ناقصا ب ٢٩ يوم فقط.

(٤) يقصد ويستمينستر التي يقع في دائرتها البلدية وقصرBurckingham Palace  والبرلمان الذي يجتمع فيه علماؤهم وكبراؤهم حسب تعبير صاحب الرحلة والمباني الحكومية الأخرى. (Westminister).(نفس المرجع السابق).

٢٨٣

مرصف بالمقربص ، ومنها صورة الجفنة ، ومنها صورة قوس كالقنوط ، ومنها على شكل نصف البيضة كالستينية ، وكلها بالمقربص البديع والنقش العجيب الرفيع ، وتمويه الذهب منتشر في السقف والجدران وسراجم الزاج المورق بالألوان ، والصور محيطة بالجدران. ووجدنا /٢٣٨/ في قبة منها شوالي كثيرة ، منها في أحد أرباعها سرير في الوسط ، وآخران صغيران عن يمينه ويساره ، وهي مبطنة بالموبر الأحمر ، يصعد إليها بدرج مبطنة كذلك ، وفي تلك الأسرة ترصيع (١) بالديمانط. وقد أدير بها مجدول حرير ليلا يقربها أحد ، قيل إن ذلك موضع السلطانة (٢) وموضع لصغيرين من أبنائها ، وقابلتها في الأرباع الباقية شوالي دون ذلك ، يجتمعون هناك مع العلماء وبعض مهماتهم ، وفي قبة أخرى كنابيس وشوالي مبطنة بالجلد القشني لا غير ، يجلس عليها علماؤهم تواضعا ، وفيها قبب أخر دفن فيها ملوكهم الأقدمون ، وفيها صورهم مجسمة وكذلك صور غيرهم من الأعيان.

دار الفرجة وأخرى فيها السلاح القديم والهدايا

وفي يوم الاثنين ثاني رجب (٣) الفرد الحرام ، توجهنا لقصر عظيم يسمى عندهم بالطياطرو ، وهو معد عندهم للفرجات ليلا ، وهو شكل مستدير ، في نصف دوره مائة وستة وثمانون خطوة حالة المشي في وسط النبح الأعلى منه ، وفي عرض جداره

__________________

(١) كرسي التتويج المصنوع عام ١٣٠٠ م. (نفس المرجع السابق).

(٢) يقصد ديروستمنستر Abbey Westministerأو مقبرة العظماء تقع في ساحة البرلمان. فيه يتوج ملوك أنجلترا منذ القرن الحادي عشر ، كما دفن به عدد من ملوكهم كالملك هنري السابع ، والملكة إليزابيت الأولى معاصرة السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي ، وعدد آخر من عظماء بريطانيا سياسيين وأدباء وعلماء مثل شكسبير وداروين وغيرهم. (نفس المرجع السابق).

(٣) ٢٤ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

٢٨٤

سبعة عشر شبرا ، وهو (١) مستدير بالبيوت بعضها فوق بعض ، مملوءة شوالي ، وكذلك براحه يقال أنه ليس في اللوندريز عندهم مثله. وتأتي إليه السلطانة في بعض الأوقات. وأنهم أحصوا من كان فيه ذات ليلة ، فزاد بل فكان ما بين الاثني عشر ألفا إلى ثلاثة عشر ألفا. وقد أحاطت بأعلاه قبة من سقفه. انظر كيف تأتى لهم ذلك مع كون دور قطرها نحو مائة خطوة. ورأينا هناك رجلا معلقا في سقف النبح وبيده شطابة في عصا يسمح بها الجدران ، وآخرين بالنبح تارة ينزوله وتارة يرفعونه ، وقيل إن بعض تجارهم يشترون منفعة بعض تلك البيوت بألف ابرة لمدة من تسع وتسعين سنة ، وبعضها بخمسمائة ابرة وهذا ، وفيه موسيقا ذات جعاب كثيرة ، منها ما طولها أي الجعبة نحو ستة أذرع ، وقذر دورها كثلث ذراع ، وما تزال تتصاغر إلى أن تصير في الرقة مثل القلم الخفيف ، وقد جعل في رأسها كالأنبوب شكل المخروط ، وفي جنبيها دوائر كبار /٢٣٩/ بها تخدم هذه الموسيقا ، وقد سمعنا بأن هذا الطياطيروا سيعمر يوم الأحد الثامن رجب (٢) وأن الأخبار صارت بذلك في طرق السلك.

وفي يوم الثلاثاء الثالث منه (٣) توجهنا لدار أخرى (٤) فيها تصاوير أناس لابسين الزرد ، راكبين على فرسانهم ، عليها الذروع وبأيديهم عصي طوال ، وهناك آلة الحرب المعروفة في القديم بالدبابيز وغيرها وكثير من المكاحيل القديمة وآلة الحرب من السيوف والكوابيس والسروج. كما شاهدناه في باريس ، ودخلنا إلى قبة أخرى فوجدنا فيها ما كان أهداه بعض ملوك الهند (٥) لولد السلطانة حين كان عندهم ، وذلك تحف نفيسة رائعة غاية. فمنها زربية مربعة نحو خمسة أذرع طولا ، ومثلها

__________________

(١) المسرح الملكي دوري لاين Royal.Drury Lane Theatre دشن بلندن سنة ١٦٦٣ م ، غير أنه أحرق عدة مرات كان آخرها سنة ١٨٠٩ م ، ودشن المسرح من جديد سنة ١٨١٢ بعد توسيعه وقد عرضت فيه أشهر المسرحيات والروايات الخالدة.

(٢) ٣٠ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٣) ٢٥ غشت سنة ١٨٧٦ م.

(٤) The Britich Museum.

(٥) الهدايا التي تتلقاها الأسرة المالكة تعرض بهذا المتحف لتصبح ملكا لجميع الزوار.

٢٨٥

عرضا ، قد رقمت بالصقلي رقما كبيرا ، وفي وسطها تربيع أخضر مرقوم كذلك برقم بديع ، وهي مبسوطة معلقة في جدار هذه القبة ، وزربية أخرى طولها نحو سبعة أذرع ، وعرضها نحو ثلاثة ونصف على تلك الصفة ، وأخرى مثلها نحو ستة أذرع طولا ، وثلاثة عرضا ، وأخرى تغطيه نحو ثلاثة أذرع ونصف طولا ، ونحو ذراعين عرضا ، وعربة مجلدة من ظاهرها بفتقيات مع العاج ، فيها توريق رائق نافد ، وسرير عليه قبة ، كل ذلك مذهب فيه صورة خروج ملك الهند للحرب وهو جالس فيه محمولا على أعناق رجال ، أمامهم فيلان مركوبا عليهما ، والكل مموه بالذهب وغير ذلك من أواني الذهب ، ثم دخلنا إلى قبب أخر وجدنا فيها العدة من المكاحيل ، من العينة الجديدة. بتواقيلها رقاق كالسكاكين ، وهي مصطفة صفا فوق صف بين موائد من عود قيل في هذه المخازين منها مائة وعشرون ألفا وعشرة آلاف من السيوف ، وغير ذلك من الكوابيس والسكاكين ، معلقة في الجدران وفي السقف على كيفية عجيبة ، بحيث يجعلونها دوائر ، وتكون السكاكين كأنها أنصاف أقطارها والكوابيس كذلك.

وفي يوم الأربعاء (١) ورد على الباشدور كتاب (٢) من وزير الأمور البرانية بواسطة ولد الباشدور النجليز يقول فيه نحبك /٢٤٠/ تخبر سيدنا الباشدور سيدي الحاج محمد الزبيدي بهذا الأنور ، يعني المزية العظيمة والاعتناء الكبير. وهو أن السلطانة أذنت بطلوعه هو وأصحابه إليها في الجزيرة التي هي فيها يوم الخميس الآتي ، يعني خامس رجب وأخبره بانور آخر والتي في غده نعين له الوقت الذي يطلعون فيه ، فسرنا ذلك غاية ، لأننا لما دخلنا إلى اللوندريز وجدنا سلطانتهم انتقلت إلى جزيرة من جزر بلادهم بقصد تمريض ولد لها هناك كما قيل. والعادة عندهم أنها إذا خرجت من البلد لا تتلاقى مع أحد ممن يفد إليها حتى ترجع. ووجدنا هناك باشدورات آخرين من الأتراك والهند سبقونا بنحو شهرين ، ولم يتلاقوا بها إلى الآن ، وكان ساءنا ذلك غاية ، وكان ولد باشدور انجليز يطلب من الباشدور الإكثار من الخروج

__________________

(١) ٢٦ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

(٢) انظر نص كتاب الاعلام بالاقتبال الملكي ينزل Osburne يوم الخميس ٢٧ يوليوز سنة ١٨٧٦ م بالإتحاف ، ج ٢ : ٣٠١.

٢٨٦

للفرجات والملاقاة بالناس ، فكان يمتنع ويجيبه بقوله إننا لم نأت للفرجات ولا للملاقات مع الناس الأجانب ، ولا غرض لي في ذلك حتى يتم الغرض (١) الشريف الذي أتيت لأجله ، وبقي مصمما على ذلك حتى أدنت سلطانتهم (٢) بالطلوع إليها ، وهو أمر سعادة مولانا المنصور بالله. وكراماته الواضحة والحمد لله على ذلك.

دار البانكة وضرب السكة

وفي يوم الأربعاء الرابع (٣) منه ، توجهنا لدار البانكة. أي دار ضرب السكة (٤) وطبع كواغدها ، وهي دار عظيمة كأنها مدينة مشتملة على ديار وطرق دففها من الحديد. وقناطيرها كذلك ، خوف وقود النار. فدخلنا أولا لتربيع منها فيه أناس

__________________

(١) نفس الموقف يعبر عنه الطاهر الفاسي في رحلته الإبريزية : ٣٧.«... ثم اعلم أن نظرنا في هذه الأشياء دائما كان تبعا وإسعافا في خاطر ملكتهم ، إذ طلبت منا ذلك مرارا ، وكان نظرنا وفكرتنا محموعة على قضاء غرض مولانا أمير المؤمنين ...».

(٢) فيكتوريا (١٨١٩ م ، ١٩٠١ م) ملكة انجلترا (١٨٣٧ م ، ١٩٠١ م) خلفت عمها وليم الرابع ، كان اللور ملبورن أول رؤساء وزاراتها صديقا ، ومستشارا لها ، تزوجت سنة ١٨٤٠ م من ابن خالها الأمير ألبرت الذي أحبته كثيرا ، ثم تناوب جلاد ستون زعيم حزب الأحرار ، وبنيامين دزرائيلي زعيم حزب المحافظين رئاسة الوزارة الأولى في الجزء الأكبر من حكمها الطويل ، الذي بلغت بريطانيا خلاله أوج رخائها وتوسعها الاستعماري ، مع دزرائيلي الذي منح لفكتوريا لقب «أمبراطورة الهند (١٨٧٦ م ، ١٩٠١ م) ، ويطلق اصطلاح العصر الفكتوري على أثر شخصيتها القوية.

EncycloPedia Britannica, VOl: 23: 125.

(٣) ٢٦ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

(٤) يقصد البنك الأنجليزي England Bank of.

٢٨٧

كثيرون ، أمام كل واحد منهم نحو قفة صغيرة من الابرة (١) ملقاة على طبلة. وإحدى كفتي الميزان الذي أمامه خمسمائة من الابرة ، وهو يزن بها من الابرة الموضوعة أمامه ، ويجعل في كل خنشة صغيرة ألفا من الابرة. هذا شغل هؤلاء الناس ، فزاد معنا كبيرهم وأوصلنا إلى تربيع آخر فيه بعض كتاب هذه الدار ، وكلهم مشتغلون بالتقييد في الكنانيش ، فسألنا عن عددهم فقيل في هذه الدار /٢٤١/ من الكتاب ثلاثة آلاف ، وألف واحد من سائر الخدمة. ثم أوصلنا كبيرهم إلى كبير مطبعة سكة الكاغد (٢) ، وهكذا شأنه لا يجاوز أحد منهم محل خدمته وشغله إلى محل غيره ، فوجدنا مكينات تدور وصبيانا دون بلوغ يقابلون ناعورة الطبع ، وكيفيتها إن هذه الناعورة كقطعة من سارية تدور منصوبة موازية لسطح الأرض ، وتحتها شيء كالثوب مربع مقبوض من الطرفين إلى جهة السقف ، وبدوران هذه الناعورة يتحرك هذا الثوب عن يمين الناعورة وعن يسارها ، وقد جعل في كل من طرفي هذا الثوب كالمحفظة التي يجعل الطلبة فيها كراريس الكاغد. وقد جلس صبيان عن يمين الناعورة وآخران عن يسارها. فأما اللذان عن يمينها فيأخذان ورقات الكاغد الذي لم يطبع ، ويضعانه بيديهما معا على محل من الناعورة. وعند وضعه تخرج أربعة أصابع حديد تمسكه من يديهما ، وتدور به فإذا كانت الناعورة به في غاية الانخفاض ترتفع من أسفلها لوحة حديد قد ركبت فيها حروف طبع تلك الورقة ، فتماس تلك الورقة الممسوكة فتطبع وترجع بها الناعورة إلى الصبيين اللذين كانا ركبا هذه الورقة ، وعند وصولها إليهما ترتفع عنها تلك الأصابع من الحديد ، فيتركانها ويجعلانها في تلك المحفظة التي في طرف الثوب الذي من جهتهما ، ويطويانها على الورقة ويضعانها مع

__________________

(١) جمعها ابرات ، صوابها ليبرة اسم وحدة نقدية ، وهي اسم العملة الإنكليزية أخذا عن الإسبانيين الذين يسمونهاLibra esterlina ومعناها ليبرة شرعية ، أما الأنجليز فإنهم يسمون عملتهم «باوند» Pound.

(٢) تعرف كذلك باسم النقود الورقية ، تنوب عن العملة الذهبية والفضية ولها نفس القيمة المدونة عليها لأنها في الأصل سندات تصدرها الدولة ممثلة في البنك المركزي ، يتعهد بموجبها بصرف هذه الأوراق بما يعادلها من الذهب والفضة.

٢٨٨

غيرها. هذا شغل هؤلاء الصبيان الأربعة لا يفترون عن هذا العمل ، والناعورة وذلك الثوب يتحركان على نسبة عملهم ، فلاهم يتمون عملهم ويتربصونه على تحركهما ، ولا هما يسبقان الخدمة في شيء ما. فكلما فرغا من عمل وجدا عملا آخر مهيئا. ولا يمكنهما الالتفات إلى شيء أو التأني في الخدمة ، لأنهما إذا تركا الخدمة نحو دقيقة واحدة والناعورة تدور فتخبر المجانة التي هناك مع المكينة بعد دوران الناعورة اللازم عند مثله من الكاغد المطبوع ، فيكون في ذمة الكبير ، وقد رصدت عدة أدوار إحدى النواعير في الدقيقة الواحدة ، فكانت ثلاثين دورا بثلاثين /٢٤٢/ كاغدا. وانظر كم في الكاغد ، فإنه من خمس ابرات إلى مليون منها ، فكيف يمكن خدمتها مع التأني أو العبث ، وحيث رءاني كبيرهم أرصد دوران بعض النواعير والمجانة في يدي ، فأخبر أن هذه الدار يطبع فيها كل يوم مليون من الابرة. وإن مثل ذلك يوجد من الليبرة في كل يوم. ثم خرجنا من هذا المحل إلى محل آخر فيه خزانات ، بعضها فوق بعض أربع (١) طبقات مملوءة كواغد مطبوعة. كل رزمة كأنها سفر ثماني ، غلظه نحو أصبعين وزيادة ، فيه ميلون من الابرة. وانظر كم عدد الملايين ، هناك أوقفونا على بعض الكواغد زورها عليهم بعض من الفرنصيص ، وتداولها أناس بالدفع ، وعند رجوعها لدار المطبعة تفطن لها الكتاب من جهة النمروس لا غير ، وما عداه من النقش والأرقام قالوا إنه أصف من عملهم ، وحيث رجعت هذه الورقة المزورة لأيدي الكتاب ، ووجدوا ذلك النمروس والتاريخ لا زال لم يخرج من الدار ، أخبروا به ، وجدوا في طلب من زوره حتى وجدوه ، وحكم عليه بالسجن ثلاثين عاما ، وهذه الكواغد التي ترجع إلى هذه الدار ، ويقبضون أصحابها بدلها ابرة عند احتياجهم إليها. تجمع وتجعل في صناديق ويختم عليها ، وتبقى هناك خمس سنين مدفونة في

__________________

(١) ذكر الطاهر الفاسي في رحلته الإبريزية : ٣٥.

«... ثم صعدنا لمحل آخر يطبعون بالآلات كاغيد السكة يبيعون به ويشترون به ... وقد أحدثوا هذه السكة في القرب ، وسبب إحداثه كما يقال ، أن الدولة الأنجليزية بلغها عن بعض أجناس النصارى ، يقولون إن دولة أنجليز حصل لها ضعف وفلس مثلا ، فاتفقوا على استعمال ذلك إظهارا للقوة دمرهم الله ....».

٢٨٩

تلك الصناديق ليلا يتوقف أحد على شيء منها ، ثم بعد ذلك تحرف بمحضر الكتاب والأمناء ويجمع رمادها وحرفها ـ والله أعلم ـ ورقتين بل بعد ورقة ليمكن عد حرقها ، ولأنهم أرونا بعض ورقات محروقة وهي مبسوطة بين ورقتين بل بين لوحتين ، والرقم لا زال ظاهرا في الورقة بعد حرقها ، وبعد حرق ما يحرق منها يجدد طبعه مرة أخرى وهكذا(١).

ثم دخلنا إلى محل ، آخر فيه اثنتان وثلاثون طبلة عودا ، على كل طبلة مائة بارة ذهب كهيئة ابرة شكلا ، إلا أن البارة أغلظ ، كل ابرة عليها رقم ميزانها ، قيل تقطع ثمانمائة ابرة بإضافة بعضها إلى بعض ، فيكون فيها مليونان من الابرة وخمسمائة ألف وستون ألفا من الابرة ، ومنها خناشي طول كل خنشة نحو ذراع غير ربع ، وعرضها ذراع ، مملوءة نحو نصفها ابرة. وهي موضوعة /٢٤٣/ بعضها فوق بعض ، ذكر أنها وجدت ناقصة (٢) في الوزن ، وأنها بصدد الرجوع إلى الدار ، ثم سرنا إلى محل آخر وجدنا فيه موازين الابرة ، يجعلون الابرة في جعبة منحدرة ، وهي تنزل واحدة بعد واحدة على صنجية لطيفة مثل جرم دائرتها ، فإذا كانت تامة الوزن خرج مسمار وضربها في حرفها فتنزل إلى ناحية اليمين ، وإذا كانت ناقصة خرج مسمار آخر من

__________________

(١) تدخل زيارة السفارة المغربية لدور ضرب السكة في كل من باريس ولندن ، في إطار التنافس الذي كان قائما بينهما لاستقطاب المغرب لضرب عملته بإحدى الدارين. خاصة وأن السلطان الحسن الأول فوض أمر ضربها لأمينه الحاج محمد الزبيدي بعد عودته إلى المغرب ...

(٢) في إحدى رسائل السفير هاي دريمند هاي إلى السفير الزبيدي سنة ١٨٨١ م «... فقد عزبي حيث سمعت أن السلطان لم يساعد كما أشرنا به من جعل سكة النحاس في بلادنا عوضا عن سكة النحاس الزائفة الحاضرة اليوم هنا ... ما يصنع لذى المخزن فدائما يزورون ذلك ويتورث منه صعود الصرف والضرر لبيت المال والتجارة ولجميع خلق الله .. وهذه السكة الفاسدة يجمعها ويبيعها وأرباب فبريكة سكة النحاس يجعلون الفلوس لبلادنا وللطاليان ولعدد دول أخرى هذه مدة سنين معددة بدون شكاية من أحد لا من حيثية المعدن ولا من السكة كما يقع عند الغير ... وإذا لم يكن عنده مال موجود يعطيه على هذه السكة فيأخذ سلفا بوجه مناسب عند أرباب السلف ...» ، بتاريخ ١٤ يوليوز عام ١٨٨٠ م / ١٦ شعبان عام ١٢٩٨ م. الإتحاف ، ابن زيدان : ج ٢ : ٤٥٠ و٤٥١.

٢٩٠

جهة اليمين وضربها في حرفها ويدفعها إلى جهة اليسار ، ثم تجمع هذه الابرة الناقصة وتجعل في جعبة أخرى وتصير تنزل واحدة بعد واحدة ، وكلما نزلت واحدة ضربها شاقور ضربة واحدة فيشقها إلى النصف ، وبعد ذلك تجمع في الخناشي وتزاد على بارات الحديد ، ثم اقتصرنا على رؤية تلك الأماكن من هذه الدار ، ورجعنا وعند رجوعنا وجدونا كتاب وزير الأمور البرانية قد أتى به إلى الباشدور ، يخبره بالنهوض إلى سلطانتهم.

النهوض للملاقات مع عظيمة دولتهم

في الساعة التاسعة من يوم الخميس (١) المذكور ، ركبنا في بابور البر قاصدين الجزيرة التي هي فيها ، وسافرنا فيه ثلاث ساعات ، ثم ركبنا في بابور في البحر وسافر بنا ساعة ونصفها ، ووصلنا إلى هذه الجزيرة التي تسمى بما معناه الجزيرة الخضراء (٢) فركبنا في أكداش ، وتوجهت بنا إلى العرصة التي فيها دار (٣) سلطانتهم ، فدخلنا إليها وتقدم وزير الأمور البرانية إلى الدار ونحن في أثره ، فدخلنا من قبة إلى أخرى حتى انتهينا إلى القبة التي فيها السلطانة ، فتأخر وزير الأمور البرانية ، وتقدم الباشدور مع الترجمان وكاتبه الأمين عن يمينه أي الباشدور ، فأومأت أولا بالتحية فردت عليها ، ثم شرع الباشدور في إملاء مخاطبتها بما يناسب المقام ، وكان كتاب

__________________

(١) ٢٧ يوليوز سنة ١٨٧٦.

(٢) يقصد جزيرة Wight Isle of ، التي نزلوا بميناءهاCowes ، حيث أخذوا الأكداش إلى النزل الفكتوري وهي لا تعني الحضراء.

(٣) نزل أوسبون House Osborne المكان المفضل للملكة فكتوريا والتي لها به العديد من الذكريات التي تربطها بزوجها الراحل ألبيرت ، ويحتوي فهرس هذا النزل على أكثر من أربعة مائة تحفة وصورة وغير ذلك ، وسط مجموعة من الحدائق والأشجار المختلفة ، وبجواره توجد كنيسة بمعابدها الملكية ، وفي ساحة هذه الكنيسة توجد «قبور عائلات الشخصيات الذين حكموا الجزيرة».

The Macmillan EncycloPedia: 242.

٢٩١

مولانا الشريف بيد كاتبه ملفوفا في سبنية بيضاء من حرير عمل الروم ، فحين انتهى إلى ذكر الكتاب الشريف (١) التفت إلي فناولته له ، فرفعه لها ، فتلقته منه بسرور وفرح ، وحين تم مخاطبتها ترجم ذلك المترجم وهي مع ذلك مبتسمة والسرور يظهر فيها ، وما قصرت في الترحيب والفرح ، ثم سألت الباشدور عن حال سيدنا أعزه الله ، فأجابها بما يناسب ، وبين لها أسماءنا ومراتبنا فأشارت بالترحيب ... (٢).

صفة دار (٣) البلار وبعض ما رأيناه

/٢٥٠/ ... الحديد ، وحين دخلنا إليها وجدنا فيها حوانيت وقببا مختلفة الأشكال ، من العود لا من البلار ، وحين توسطناها سألت عن طولها وعرضها بواسطة الترجمان ، فأجاب بأنه قريب من خمسمائة يارضة (٤) ، وهي مربعة كما تقدم ، وعلوها من جهة زواياها نحو اثنتي عشرة يارضة ، وزيد في علو وسطها نحوت يارضات ، وزيد في وسط هذا العلو الثاني نحو أربع يارضات ، وجعل عليه قبو فصار كالقنوط ، وامتد من الجهتين كذلك حتى تلاقى القبوان في وسطها ، فكان هذان

__________________

(١) الذي عبر فيه عن شكره على الصداقة الوطيدة التي تربط المغرب وبريطانيا ، وقد سبق للزبيدي أن أرسل مجموع من الهدايا يوم ٢٨ يوليوز سنة ١٨٧٦ م ، إلى الملكة فكتوريا (انظر قائمة الهداية بالإتحاف ، ج ٢) بواسطة اللورد دربي الذي أجابه أنه لم يتمكن من عرضها على جلالتها حتى يوم ٣ غشت سنة ١٨٧٦ م. انظر نص الجواب (نفس المرجع).

(٢) الصفحات من / ٢٤٤ / إلى / ٢٤٩ / فارغة بيضاء.

(٣) الانجليز أخذوا نظرية إقامة المعارض الدولية من بوهيميا سنة ١٧٩١ م وباريس سنة ١٧٩٨ م ، ولكن سبقوهم بمراحل في العمل والتطبيق ، فأقاموا في سنة ١٨٥١ م لندن أول معرض عمومي كبيرGreat Exhibitions تحت إشراف الأمير ألبير زوج الملكة فكتوريا داخل قصر البلار Palace Crystal، حيث بلغ عدد زائريه ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٦ ، والشركة التي أقامته ربحت ربحا عظيما واستمرت على هذا النهج طيلة القرن ١٩ م.

(٤) وحدة قياس الطول تعادل ٩١ سنتم.

٢٩٢

القبوان هما سقفها ، وكل ذلك من البلار الغليظ ، بحيث جعل ألواحا ممسوكة بين قضبان الحديد كما تمسك ورقات الزاجة في سراجم البيوت بين العود ، لكن قضبان الحديد أرق وألطف من (١) دور تلك السراجم ، وامتدت جدرانها وقببها على هذا الوصف. وفي داخلها الأبنية والدرج والطبقات من العود ، فالطبقات مرفوعة على قناطير لطيفة أيضا من الحديد ، وفي وسطها رياض بجوانبه أشجار صغيرة وكبيرة ونخل صغير ممتد مع طولها ، وفي وسطه حوض مملوء ماء يدخل إليه ما فاته من الرخام ممتدة من الرياض ، يجعل وسطه أنصاف دوائر من الرخام خارجة عن تربيعة ، وبطرفيه كذلك ، والماء الذي في هذا الحوض أظن عمقه نحو شبر واحد ، وقد رصفت في وسطه وجوانبه محابيق فيها نبات ، ووضعت في الماء غير أنه أي الماء لا يصل إلى النبات ، منها ما فيه ألوان النوار ، ومنها مالا نوار له.

ثم صعدنا إلى طبقة منها فدخلنا إلى قبة سقفها (٢) من البلار مبني كما ذكر ، وأما جدرانها فكلها جلدت بمرءات كبيرة يجعلون فيها التصاوير. طول هذه القبة نحو نصف طول الدار ، وعرضها نحو اثني عشر ذراعا ، وكلها امتدت بالتصاوير التي ترى من البعد كأنها أجسام ، وحيث تقرب منها تجدها رفعا من كاغد ـ والله أعلم ـ بالألوان /٢٥١/ ومن هذه الصور صورة امرأة جالسة على شيلية ، وشمعة في حسكة توقد بقربها ، ولهب الإيقاد على لون لهب الشمعة حين توقد ، وهي قريبة من وجهها لكنها التفتت إلى امرأة أخرى كأنها تشد رأسها ، فبقي ضوء تلك الشمعة مقابلا لخدها الأيسر ، فصار منيرا كأنه تلك الشمعة ، وامتد ظل أنفها إلى جهة حاجبها الأيمن ، وهناك تصاوير تمثال حربهم مع بعض الأجناس وكيفية قتالهم إلى غير ذلك من التصاوير العجيبة.

__________________

(١) بياض بقدر كلمة.

(٢) «... دار البلوري ، وهي كقرية عظيمة حيطانها من بلور وقبابها من بلور ما عدا أرضها فإنها من الخشب ، وهي مشتملة على عجائب وغرائب ... ثم إن بأبواب هذا المحل أناسا قائمين به ، من أراد أن يدخل إليه أعطى نصف ريال ودخل ... وهذه الدار مشتملة على قصور على أشكال ... فمن بناء الفرنصيص ... وبناء العجم قصر ، ومن بناء مصر قصر ، وهكذا ...». الطاهر الفاسي في رحلته الإبريزية.

٢٩٣

ثم نزلنا منها فخرجنا في ذلك الرياض المتقدم ذكره ، ووجدنا في بعض حياضه صور عبيد ، أجسام واقفة عراة عدا طرف من عمامة أدير على سوءاتهم وبأيديهم مزاريق يقاتلون بها. وفي حوض آخر صور أناس من الهند سمر الألوان ، وفي حوض آخر صور أناس من المار كان عراة ، كما ذكر يحكون بذلك كيفية قتالهم ، وفي وسطه خصة من البلار كرسيها أسفل مستدير (١) ، قطر دوره نحو ذراعين ، ويرى في دوره تفريج في ذات البلار داخلا وخارجا ، ارتفاع هذا الكرسي نحو ذراعين ، وفوقه خصة بلار ، دورها أزيد من ثلاثة أذرع ، بينها وبين الكرسي في العلو مقدار ذراع ونصف من جعبة بلار ، وفوقها خصة أخرى دونها ، بنهما جعبة فيه ، لكنها أي هذه الخصة ركبت في الجعبة مقلوبة ، فصار مقعرها من جهة الخصة التي أسفلها ، ومحدبها إلى فوق ، ثم جعل فوق محدبها خصة أصغر منها لاصقة بمحدب الأخرى ، وجعل فوق هذه خصة أصغر، بينهما جعبة بلار نحو ذراع في رأي العين ، وجعل في وسطها الجعبة التي يخرج منها الماء ، إلا أن في رأسها ثقبا ذات انحراف إلى الجوانب والله أعلم ، بدليل خروج الماء على سموت مختلفة ، وعند بلوغه غاية الارتفاع ينحدر إلى تلك الخصص مستديرا كأنه صورة ثرية معكوسة. ثم صاروا بنا إلى كوات في الجدران ، وهي ألواح من البلار ، في أحدها صورة بابور البر الصغير ، طوله نحو أربعة أصابيع ، ووراءه عربات متصلة /٢٥٢/ به ، لكنه يسير حتى يرمى إليه شيء من الدراهم من فرجة بخد الكوة ، فإذا رمي إليه شيء منها ينزل بجهد على النقشة التي توقفه ، فيسرح للتحرك فيرى كأنه مسافر يجر العربات وراءه ، ولا ترى تلك النقشة ولا شيء من آلة الحركة ، لأن ذلك كله عجيب ، وإنما يرى البابور والعربات ، في كوة أخرى صور أناس راكبين على الخيل ، وهم صفوف بعضها فوق بعض ، ولا يمشون حتى يرمي إليهم شيء من الدراهم.

ثم صعدوا بنا إلى قبة مستديرة من عود ، دورها أقل من دور الطراحية ، وعلوها

__________________

(١) انظر صورة حفلة افتتاح المغرض البريطاني بدار البلار سنة ١٨٥١ م وبوسطها خصة البلار في ملحق الرسوم والصور صفحة ٢٠).

The Story of Britain) Garret Richard (P: 301.

٢٩٤

نحو ستة أذرع ، وفي وسطها دائرة من عود ، ارتفاعها نحو ذراع ونصف ، بين محيطها ومحيط هذه القبيبة نحو ذراعين ، وهذه الدائرة الوسطى مغطاة بكاغد ، وعند دخولنا إليها سد بابها فصارت مظلمة شيئا ما ، ثم أخذ بعضهم يحرك ذلك الكاغد ، فظهر فيه خيال صور أناس يمشون ، وهذه الصور ظلال لا غير ، وهي صغار طولها نحو أربعة أصابع ، وهي تمشي إلى جهات ، وبعضهم حامل شيئا فوق رأسه ، وآخر يجري وظلال سناجق تخفق بها الرياح ، وكنا نظن أن تلك الظلال ظلال من يمشي أسفلنا في هذه الدار ، لكن رأينا في بعض الظلال صورة دخان فابريكة يتصاعد ، ولم يكن في هذه الدار فابريكة ، وكانت تلك السناجق خارجة عن الدار. وعند خروجنا التفت إلى سقف هذه القبيبة فرأيت في وسطه قبيبة صغيرة من البلار كهيئة المكب الصغير ، فتخيل (١) لي أن شعاع الشمس حين يمر بها ويتصل بمن يمشي على الأرض يحكى صورته في ذلك الكاغد بسبب الطلاء الذي فيه والزاجة التي أسفله والله أعلم.

مثال جامع قرطبة

ثم دخلنا إلى صحن كأنه صحن مسجد مربع نحو ثلاثين خطوة طولا وأربع وعشرين عرضا في وسطه صهريج مربع حافاته بالرخام ، وغرقه نحو شبرين ، وأرضه فرشت بالمربع الملون ، ومثلثاته. وفي وسط حافاته المستطيلة /٢٥٣/ من جهة مدخل

__________________

(١) إن ما رءاه صاحب الرحلة هو عبارة عن صور فوتوغرافية تتحرك بواسطة آلات كهربائية كبيرة تسمى بأسماء علمية أو شبه علمية مثل آلةPhenakistiscoPe الذي اخترعه البلجيكي JosePh ـ Antoinee Plateau سنة ١٨٣٢ م ، وآلةZootroPe للأنجليزي Horner سنة ١٨٣٤ م وآلةSte ? re ? oscoPe وغيرها من الآلات التي سبقت ظهور السينما الحقيقية على يد الأخوان Lumiere سنة ١٨٩٥ م بفرنسا ، والانجليزي Acres Birt سنة ١٨٩٦ م. وقد اهتم الكثير من الباحثين بعملية التحليل الحركي للصورة الفوتوغرافية منهم العالمان الأجليزيان Muybridge و Edwards Max well - وغيرهم.

L\'EcycloPei du Cinema, Roger Boussinot) Bordas (, Paris, 1980 ISBN.

L\'Universelle Bordas vol. VII: 774.

٢٩٥

القبة الآتي ذكرها ساريتان من رخام مربعتان رقيقتان نحو نصف ذراع أو أقل ، وطولهما نحو ذراعين. وبينهما نحو ذراعين كذلك. ومد عليهما سارية أخرى مثلهما من رخام ، في وسطها أنبوب رقيق يخرج منه الماء إلى ذلك الصهريج ، وعلى هذا الصحن قبة بلار أيضا ، وهذا الصحن يحيط به بيوت صغيرة كالبناديق كأنها مدرسة ، ثم يقابل هذا الصحن قبة مربعة بينهما مدخل مربع ، سقفهما من العود سقف سما ، والقبة مربعة نحو خمسة وعشرين ذراعا طولا وعرضا ، ومع ذلك فيها ثلاث صفوف سواري رخام ، في كل صف سبع سوار.

ثم خرجنا من هذا الصحن إلى صحن آخر مربع ، فيه نبحان متقابلان ، في كل نبح أربع سوار مذهبة. اثنتان حيطيتان وثنتان في الوسط عليها ثلاث قسى مورقة توريقا بديعا مموها ذهبا ، وبجدرانه حيطي من الزلايج كزليج فاس ، إلا أن ألوان زليج فاس أفضل من تلك الألوان ، طول هذا الحيطي نحو أربعة أذرع ، والجداران الباقيان اللذان لا نبح قدامهما بني فيها أبواب ، عليها قسى ذات الشوكة كالحناية في بيوت الغرب ، وقد بني ما فوق قوسها بالمقربس الرقيق البديع ، وعمر بالتذهيب والزنجفور ، وجعل داخل كل باب في وسطه ساريتان ، عليهما ثلاث قسى فوقها المقربس كذلك إلى تلك الحناية. وفي هذا الجدار الخارجي ثلاث حنايات على هذه الصفة ، بين كل ثنتين مقدار ستة أذرع ، فقد نقش فيها كنقش الجباصة ، مثل مدارس فاس وقبب دور المخزن ، وكتب فيها بقلم عربي «لا غالب إلا الله» بين النقش والتوريق ، وامتدت الجدران كذلك طولا وعلوا ، وعمر هذا النقش بالتذهيب والزنجفور ، وجعل متصلا بهذا الصحن قبة مربعة نحو اثني عشر ذراعا طولا وعرضا ، وقبتها مستديرة شكل نصف بيضة بالمقربس الرفيع المموه كما ذكر ، وجداراتها نقشت نقش الجبص كما تقدم. وكتب فيها اسم الجلالة (١) دائرة مع الجدران طولا وعلوا ، هذه / القبة

__________________

(١) نفس المسجد تعرف عليه بدار البلار الكاتب الطاهر الفاسي ، فتدمر من بعض المشاهد التي عكسها في رحلته الإبريزية. «... ووجدنا بعض القباب مكتوبا في أرضها (لا غالب إلا الله) فساءنا ذلك غاية ، وكلمنا بعض عظماء الدولة كان حاضرا هناك ، فأجابنا بأنه يكلم الدولة ويزال من هنالك ، وقال أن الدولة لا تحب ذلك ، أعني بقاء الكتابة هناك بالأرض تطاها الأقدام ، وزعموا أيضا أنه نقلوا صورته كذلك من الأندلس ...».

٢٩٦

محترمة عندهم لا يدخلها أحد ، على بابها مجدول حرير ممتد بين خدي مدخلها علامة على عدم الدخول إليها.

ثم خرجنا منه فوجدت الباشدور تقدم مع بعض الرفقاء ، وعند خروجي التفت فوجدت جدار هذا المسجد امتداده نحو مائة خطوة ، وقد نقش الجبص والتمويه كما ذكر ، فبينما أنا أتأمل ذلك وأقيد ما أراه إذ قدم علي ثلاثة أناس على رؤوسهم طرابيش حمر ، وبقية لباسهم كلباس الروم. فحيوا بالسلام بلسان فصيح ، فرددت عليهم وسألتهم من أي بلدهم ، فقال أحدهم إنه مراكشي وقال الآخران إنهما من سوس الأقصى ، فقلت وما تفعلون هاهنا فقالوا قد ألقت بهم الأقدار إلى هذه الديار ، وأنهم حين سمعوا بباشدور الغرب بباريس كانوا عزموا على القدوم عليه بقصد صلة الرحم معه ، فقيل لهم إنه بصدد القدوم إلى اللوندريز ، وأن هذا اليوم عندهم كعيد من أعيادهم حين منّ الله عليهم برؤية الباشدور وأصحابه ، وفهمت من حالهم أنهم يقصدون ويأملون منه المواساة ، حيث سمعوا به يواسي الفقراء (١) في كل بلد ، فقلت لهم سوف نخبره بحالكم بحول الله فسروا بذلك ، ثم ودعتهم.

الرجل الذي يغوص بصهريج الماء وكشف الحيلة في ذلك

ولحقت بالباشدور ، فوجدتهم داخلين لبيت صغير فيه صهريج من عود كالصندوق ، طوله أزيد من قامتين ، وعلوه كذلك ، وعرضه أزيد من قامة ، وهو مملوء ماء ، وفي وسط غاربه أي عرضه كوة عليها ورقة بلار قد سدت بها ، ورأينا رجلا واقفا في وسط الماء والماء فوقه بأزيد من قامة أخرى ، وهو لابس (٢) كبوطا وسروالا لعلهما

__________________

(١) لأول مرة نجد إشارة عابرة عند الجعيدي لما كان يقدمه السفير الزبيدي من تبرعات وهبات لبعض الملاجئ ودور الإحسان ، وفي هذا الإطار توصل الزبيدي برسالة شكر من اللورد دربي لتقديمه ٦٠٠ ليبرات كهدية على العميان الفقراء الذين يعالجون بمستشفيات لندن. ووصلت قيمة ما تبرع به السفير في بلاد أنجلترا إلى ١٠٠٠ ابرات. (الإتحاف ج ٢ : ٢٠٣).

(٢) انظر شرحها في الملحق : ٣.

٢٩٧

من جلد ، ورأسه مغطى كقب الجلابة الرباطية لأنهم يجعلونه قصيرا لنية هناك ، بخلاف السلويين لأن بعضهم يجعل قب الجلابة مستطيلا للمناسبة أيضا ، وإنما استطرد هذا هنا لأنهم ينكثون على أصحاب القب الطويل ، وعلى وجه ذلك الرجل زاجة محيطة بحواشي قب ذلك الكبوط ، ولا يرى من ذات هذا الرجل إلا وجهه ويداه من مبدأ الكف ، وكان قابضا لوحا من حجر بيده اليسرى ، وفي اليمن قلم وهو يكتب فيه ، فلما فرغ من الكتابة أدار تلك اللوح وأرانا ما كان يكتبه فيه ، فقرأه الترجمان /٢٥٥/ فقال إنه يقول مرحبا بكم هذا يوم مبارك. ثم صعدنا إلى فوق هذا البيت حتى وصلنا إلى سطحه فوجدنا ذلك الصهريج في وسط السطح ، وطلع ذلك الرجل الذي كان راسيا في الماء ، وبقي على وجه الماء فأتى صبي وفك الزاجة التي كانت على وجهه محيطة بحاشية قب الكبوط ، فوجدنا في وسط القب مصرانة لعلها من ثوب القلاع طويلة ، وأخرى في قفاه ، بحيث يرسب في الماء يكون ولد فوق السطح قابضا يدا من حديد يرفعها ويخفضها فينشأ من ذلك ريح يسري في المصرانتين ويصل إلى وجه الرجل الراسب في الماء (١). وانظر من أين يخرج ذلك الريح ، إلا أننا نرى أثر التنفس في الماء حين رسوبه كما يفعله العوامة عند رسوبهم في الصهاريج ، فيتنفسون ويظهر أثر ذلك فيعلم منه الموضع الذي هم فيه ، ثم إن هذا الرجل دفع له كاغد الدخان المعروف عندهم بكارو ، فقبضه بفيه ، وسد على وجهه بتلك الزاجة ، ورسب في الماء وهو يشرب ذلك الدخان ، ولعله يظهر بذلك أن الماء لا يدخل إليه ، ولا يبعد أن يكون في محل من كسوته التي هو لابسها ثقبة ضيقة يخرج منها الريح الذي يدخل في تلك المصرانتين ، لأنه إذا استمر الريح خارجا خروجا قويا فإنه يدفع الماء ولا يدعه يدخل للكسوة ، بدليل ظهور أثر التنفس ، وطول المكث في الرسوب وبهذا العمل ـ والله أعلم ـ يصطادون المرجان واللؤلؤ من قعر بحارها.

__________________

(١) يتحدث الجعيدي عن المحاولات الأولى للغطس تحت الماء بالاستعانة بأجهزة الهواء المضغوط المتصل بخرطوم على سطح الماء ، غير أنه يبقى مقيد الحركة تحت الماء لارتباطه بالسطح (موسوعة عربية عالمية).

٢٩٨

ثم خرجنا منه وأوتي بنا إلى بيت مظلم بني بجدرانه صناديق زاج ملئت بماء البحر ، وفي أرضها الرمل والصم الصغير (١) ، وفي جوانبه الثلاثة حجر لعل به طينا كحجر البحر ، والحوت في هذه الصناديق على اختلاف أشكاله وألوانه ، وهو يتوالد هناك ، وفي بعضها عكريشة (٢) كبيرة تقرب من جرم الحمامة ، لها عشرة أرجل طوال رقاق ، وفي رأسها أربعة قرون طوال كذلك ، ولها ذنب ذو قفى ينثني وينبسط ، وفي صندوق آخر رطالات (٣) ذات الذوانب لاصقة بالحجر ، تمص فيه على عادتها ، ثم ألقى إليها من فوق الماء عكريشة صغيرة من التي تكون بالشاطئ فالتقمتها وأكلتها فرأتها رطالات أخر تخرج من الحجر فألقى إليها عكريشات أخر فالتقمتها كذلك. وهذا الماء الذي يدخل إلى /٢٥٦/ الصناديق يدخل إليه الهواء من سطح الماء الأعلى ، ويرى أثر دخوله في وسط الماء ، قيل أنه سبب حياة الحوت هناك ، وفي بعض الصناديق المملوءة بهذا الماء في قعرها حجر من حجر البحر ، ينبت فيه المرجان ، أتي به من قعر البحر بحجره ، وجعله في ذلك الصندوق ، وقيل إن المرجان يكبر هناك ويقطع ، ونحن رأينا كرؤوس المرجان لاصقة بذلك الحجر لا غير.

طياطرو دار البلار ولعبة الأفيال فيه

ثم أوتي بنا إلى طياطروا (٤) في إحدى جهات هذه الدار ، في وسطه دائرة ، أرضها

__________________

(١) الكثير من الناس يحلمون بالغوص إلى قاع المحيطات ، وذلك ليشاهدوا أندر الأسماك في بيئتها الطبيعية سواء منها المخيفة والأكثر خطورة ... أهميته اختراع أحواض السمك Aquariums تمكن في تحقيق هذا الحلم بمعزل عن المغامرة. وحوض السمك هو بيئة مصطنعة مصغرة ، توفر شروط الحياة التي نجدها في أوسع الأمكنة (المحيط ، البحيرة ، النهر ...) (نفس المرجع).

(٢) سرطان البحرGrabe (المنجد).

(٣) الأخطبوطPiemure تعيش في في أحواض خاصة تخصص للأبحاث العلمية. (نفس المرجع).

(٤) أنجلترا كانت هي السباقة في إنشاء أول مسرح مدرج AmPhithéatre خاص بألعاب السرك الحديث (انظر الصفحة :).

٢٩٩

تراب ، قطرها نحو عشرين خطوة ، أحاط بها سور من عود ، علوه يزيد على ذراع واحد ، ثم أحاطت به الشوالي متوالية الدوائر ، كل دائرة أعظم مما تحتها وأعلى منها ليمكن الاستشراف ، وبقي بعد ذلك السور والدائرة الأولى من الشوالي ، وعدد دوائر الشوالي المتصاعدة اثنتا عشرة دائرة والله أعلم ، متفاضلة في العدد كتفاضلها في الكبر ، ثم بنيت بيوت من عود محيطة بدائرة الشوالي العظمى ، كل بيت يسع أربع شوالي أو ست ، والشوالي والبيوت كلها مبطنة بتوب الموبر الأحمر ، ثم جعلت بيوت فوق تلك البيوت وأخرى فوقها ، وهكذا حتى صارت خمس طبقات من البيوت ، بعضها فوق بعض ، ثم جعلت قبة من البلار على الطبقة الفوقية ، قناطيرها رقيقة لطيفة من الحديد ، وعند دخولنا هذا الطياطروا أنزلونا ببيت متسع غاية بالطبقة الأولى قريب من محل لعبهم ، ووجدنا جل تلك البيوت والشوالي الأرضية عامرة ، على كل شيلية منها رجل وامرأة ثم جعلوا في وسط تلك الدائرة التي وسطها تراب مضربة ، حشوها بتبن والله أعلم. ونصبوا خشبة خارجة عن دائرة العود بنحو ذراع ، مرتفعة عن الأرض بنحو ذراعين ، ونصبت ألواح من عود امتدت منها إلى الأرض بنحو ثلاثين خطوة ، ثم أتى أناس نحو اثني عشر رجلا ، كل واحد منهم يجري فوق تلك الألواح ، وعند وصوله إلى الخشبة المنصوبة يقفز منها ويرتفع في الهواء ويتقلب وينزل واقفا في وسط تلك المضربة ، وهم متتابعون في الجري والانقلاب ، وتكرر عملهم هكذا ، ثم أتوا بفرسين وأوقفوهما في الأرض الترابية بين المضربة وسور العود. ثم أتوا يعدون وقفزوا فوقها متقلبين وكل واحد ينزل واقفا على المضربة ، ثم أتوا بفرس ثالث وقرن مع الآخرين ، ووقف /٢٥٧/ رجلان فوقها ، كل واحد منهما جعل إحدى رجليه على شق ظهر فرس والأخرى على شق الفرس الذي في الوسط وقبضا بيديهما على عناق الخيل كهيئة الراكع حيث يهوي إلى السجود ، ثم قفز أولائك الناس فوق الرجلين اللذين فوق الخيل ، وتقلبوا واقعين على المضربة ، ثم جاء رجل ثالث ووقف على ظهري الرجلين اللذين فوق الخيل على هيئتهم وقفزوا فوقه كذلك ، ثم نزلوا وأتى بفرسين آخرين وقرنا مع الثلاثة الأخيرة فصارت خمسة وانقلبوا فوقها كذلك ، ولم يزالوا يزيدون فرسين بعد فرسين حتى صارت تسعة من الخيل مصطفة بين المضربة وسور العود ، وانقلب كل واحد منهم عليها ونزل واقفا على المضربة ، ومنهم

٣٠٠