إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

يدخل رأس المكحلة في بيت النار فيخرجها عاجلا وقد علق بها من الزاج المذاب (١) قدر ما يملأ الكف ، وهو كالعجين في الليونة ، يحاول السقوط فيشتغل المعلم (٢) يدير تلك الجعبة بعد ما يمدها ويبسطها على حرف ورقة حديد ويرفع الماء بيده الأخرى ويصبه على الجعبة قرب الزاج اللاصق بها بقصد تبريدها ، فإذا بردت شيئا يسيرا يدخلها بيت النار أيضا ، ويخرجها وقد علق بذلك الزاج الذي كان بها زاج آخر ، فيبرده على تلك الكيفية بالماء ، ودوران الجعبة ليلا يسقط منه شيء ، ثم يدخلها لبيت النار ولا زال على ذلك العمل حتى يعلق برأس الجعبة من الزاج المقدار الذي يريد صنع زاجة المرءات أو السرجم منه ، فعند ذلك ينفخ في الجعبة بفيه نفخا كثيرا حتى يرى أثرها في داخل الزاج ، فعند ذلك يضع الزاج على طرف من خشب مبسوط الوجه ، وقد حفر فيه بأسفله مقدار نصف كورة وحفر بأعلاه مثل نصف جرم أسطوانة متصلا بالحفرة الأخرى ، بعد ما تدهن هاتان الحفرتان بماء الشعير المخلوط (٣) بدقيق الفاخر الذي يوقدونه ، وبعد ذلك يشتغل بدوران الزاج في ذلك /٢٢٠/ القالب ، يدخله بيت النار نحو دقيقة مجانية ، وينفخ في تلك الجعبة حتى يشاهد أثر النفخ بداخل الزاج اللاصق برأس الجعبة ويصير حينئذ كهيئة القمقم كما بطرته (٤) ، كما اقتضى ذلك حفر القالب (٥) في تلك القطعة من العود. فعند ذلك يصير المعلم يشير بتلك الجعبة مع الزاج اللاصق برأسها يمينا ويسارا ، والزاج يستل

__________________

(١) يتكون من خلط الرمل والحجر الجيري وكربونات الصودا مع إضافة بعد الأكاسيد ، ثم صهرها جميعا في أفران خاصة ذات حرارة عالية ، فتتحول إلى عجينة قابلة للتشكيل. (نفس المرجع).

(٢) يتناول الصناع المدرب فقاعة صغيرة من المخلوط المنصهر ، ويظل ينفخ فيها ويحركها فتتحول تلك الفقاعة إلى أسطوانة عظيمة الحجم. (نفس المرجع).

(٣) عند حرق بعض النباتات يتبقى البوتاس في الرماد ، وكذلك كربونات الصوديوم وهي مواد أساسية في صناعة الزجاج. (صناعة الزجاج ، فؤاد مسعود).

(٤) رسم توضيحي من إنشاء صاحب الرحلة. (انظر ملحق الرسوم والصور صفحة ١٨).

(٥) تضغط العجينة في قالب خاص وبواسطة مكبس خاص فتصير هي والقالب شكلا واحدا ، تأخذ حجمه وشكله ونقوشه كل ذلك في لحطات معدودة. (نفس المرجع).

٢٦١

وينحدر إلى الأرض شيئا فشيئا ، وهو واقف على متن جدار مرتفع على الأرض بأزيد من القامة. ثم يدخلها بيت النار نحو دقيقة أخرى (١) ، ويخرجها ويشتغل ، فيشير بها كما ذكروا الزاج ينحدر منفوخا ، ويكرر عليه هذا العمل حتى يصير ذلك الزاج جعبة مستديرة ، قطر دائرتها أزيد من ثلث ذراع وطولها نحو ذراعين ونصف ، فعند ذلك يضعها على حرف لوحة من حديد ، ويأتي رجل آخر بيده مقراض ويثقب به الجعبة من أسفلها ، لأن الزاج يكون لينا إذ ذاك في أسفلها فقط ، وما عداه مما أعلاه من الجعبة صامتا غاية. فإذا ثقبها يأخذ منها بالمقراض من أسفلها يسيرا مثل دائرة الريال ، ثم يردها الآخر إلى بيت النار نحو دقيقة أيضا ، ويخرجها وقد اتسع ذلك الثقب إلى أن يتحد مع دائرة جعبة الزاج ، فيضعها على حرف تلك الحديدة ويديرها حتى تبرد وتصير جعبة طويلة كما ذكر /٢٢١/ فإذا أراد فصلها (٢) من جعبة الحديد يضع عليها رأس اللقاط من حديد بارد من جهة جعبة الحديد بالمحل الذي هي لاصقة فيه بالزاج ، فتنفصل عنها جعبة الحديد مع يسير من الزاج لاصق بها من عنق جعبة الزاج ، فيزيله ويجمعه مع قطع الزاج ، فتكون جعبة الزاج حينئذ لها عنق رقيق كالذي كان متصلا بجعبة الحديد. ومنه تأخذ في الاتساع ، فيضع رأس اللقاط من الحديد البارد في محل غاية الاتساع فينفصل العنق وتبقى الجعبة من الزاج متساوية الراسين في الاتساع ، فعند ذلك يضعها فوق الفاخر الذي يوقدون به ، وهي باردة ، ويأخذ قضيبا من الحديد يكون رأسه ببيت النار ويدر على طول الجعبة وفي داخلها بالمحل النازل على الأرض منها غبرة سوداء ، ويدلكها برأس ذلك القضيب الذي يخرجه من بيت النار من ابتداء الجعبة إلى نهايتها ، ويشتغل بذلك نحو دقيقة أو أقل ، ثم يرفع ذلك القضيب ويضع أصبعه برأس الجعبة بمحل الدلك ، فتنشق على طولها شقا

__________________

(١) يتم التبريد تدريجيا داخل أفران خاصة تختلف درجة الحرارة فيها ، حتى تكون حرارة الفرن النهائية هي درجة الحرارة العادية ، لتفادي حدوث كسر ما بسبب اختلاف سرعة الانكماش بين الجزء السميك والجزء الرفيع. (نفس المرحع).

(٢) في الأخير تصل للمعلم الذي يشكل الأنبوبة بواسطة مقراط حديد حسب ما هو مطلوب منه. (نفس المرجع السابق).

٢٦٢

مستويا لا اعوجاج فيه ، فيدخلها بيت النار ويضعها فوق لوحة حديد هناك قد دهنت بدهن ، فتنبسط على تلك اللوحة ، ويخرجها وقد صارت ورقة مربعة طولها نحو ذراعين ونصف ، وعرضها أزيد من ذراع ، ويضعونها بعد ذلك في بيت نار لينة ، ويتركونها حتى تبرد. وصنع بمحضرنا من هذه العينة نحو ست ورقات في أقرب مدة ، وفي هذه الدار من أنواع زاج الورقة عدد كثير صغير وكبير ، ومنه ما هو /٢٢٢/ مسمر في صناديقه. وأوقفنا كبير هذه الدار على عينات بها من الزاج المصبوغ بالألوان (١) ، وبعضه فيه توريق عجيب وعلى المتعلمات اللواتي يشتغلن بتوريقه بالقوالب ، بحيث يدهنه بدهن أبيض وحين يجف يضعن الورقة أمامهن والقالب المفتوح فيه التوريق فوقها ، وتضع إحداهن (٢) يديها عليه وتمسح بالأخرى فوق القالب بشطابة من شعر صغيرة ، فتزيل من ذلك الدهن من الزاجة ما فتح في القالب من التوريق. وذكر لنا أن في مارس الفارط تحرك عندهم ريح عظيم ست ساعات ، فسقطت منه ديار كثيرة ، وسقطت دار هذه الفابريكة وأعيد بناؤها ، وكان سقفها قبل بقناطر الحديد ، وجعلت الآن من العود. وذكر أن التخليطة (٣) التي يصنع منها الزاج توقد النار عليها عشرين ساعة ، وتخدم في ثمان سوائع. وأجر المعلمين الذين يخدمون هناك ثمانون ريالا في الشهر. وهذا الزاج إذا أرادوا مسحه يجعلونه في صناديق معلقة كالمهد ، ويجعلون فيه الماء ورملة بيضاء ، والصم الصغير المبسوط ، ويشتغل بتحريك الصناديق حتى تمسح الورقة بذلك وتصير بها ضياء لامع.

__________________

(١) الأخضر والأزرق والبنفسجي والأحمر الغامق وغير ذلك من الألوان ، حسب المواد المؤكسدة أو المواد المختزلة الموجودة بالخلطة الزجاجية ، ويعتبر الزجاج الملون غال الثمن لأنه يحتاج إلى الدقة في عملية إنتاجه. (صناعة الزجاج ، فؤاد مسعود).

(٢) تنقش الزهور والأشكال الهندسية على الزجاج لتزيد من قيمته الجمالية حيث يعكس الضوء ويحلله إلى أطياف مختلفة. (نفس المرجع). من خلال هذه المقارنة يظهر أن الجعيدي استطاع عن طريق الملاحظة الميدانية السريعة النفاد إلى صلب الصنعة.

(٣) خلطات الزجاج كثيرة وتعد بالآلاف حسب نوع الزجاج المطلوب ومستوى شفافيته.

٢٦٣

ورقات الزاج العظام التي تصنع في طامير (١)

وفي الساعة الثالثة ركبنا في بابور البر توجهنا لمدينة طامير التي يصنع فيها ورقات الزاج الذي يصنع منه المرءات العظام التي هي أعظم بكثير من الورقات التي تصنع بالفابريكات الأخرى ، ويصنعونه على كيفية أخرى. وبيانها أنهم /٢٢٣/ اتخذوا ورقة حديد مبسوطة ، ذات طول وعرض نحو ثمانية ذراع في مثلها ، وجعلوا بطرفيها فتقيتين من حديد طولهما مثل طول هذه الورقة ، وغلظهما على نسبة غلظ الزاجة التي يريدون صنعا. ووضع فوق هاتين الفتقيتي سارية من حديد ، فيبقى بينها وبين الورقة المبسوطة مثل عرض غلظ الزاجة التي تصنع ، ثم يخرجون الآنية التي طبخت فيها التخليطة (٢) من بيت النار بالبوجي ويؤتى بها وهي معلقة فيه حتى يوصلوها إلى تلك الورقة المبسوطة ، ويفرغوها فوقها ، ويمرون فوقها تلك السارية فتبسط تلك التخليطة على الورقة كلها طولا وعرضا. أما من جهة العرض فهي محصورة بالفتقيتين ، لأجل ذلك يكون غلظها على نسبة واحدة. وأما طولها فما يخرج زائدا على الورقة يسقط ويزال (٣) ، ثم بعد هذا يدخلونها لبيت نار لينة ، ويتركونها هناك أربعة أيام صيانة لها وإصلاحها ، وإذا تركت فيه نحو يومين أو أقل ، يخشى عليها من الآفات العارضة ، التي لا تؤثر فيها إذا تركت فيه أربعة أيام. وذكر أنهم صنعوا ورقة من الزاج لسلطان الموسكو طولها ثمانية عشر مترا وعرضها كذلك. ونحن أيضا رأينا زاجة طولها أربعة أمتار وعرضها ثلاثة ونصف ، وفوقها ستة رجال جاثية على ركبها ، وهم يمسحونها كأنهم جالسون على دفة من العود. ووجدنا أناسا آخرين بين أيديهم

__________________

(١) ربما يقصد مدينةNamur.

(٢) كانت في القديم تعرف (بالقصدرة) تستعمل الزئبق الذي يصيب المشتغلين بأمراض خطيرة بسبب رائحته السامة ، حتى استطاع الأنجليزي (درايتون) سنة ١٨٤٣ ، تغطية الزجاج بطبقة من الفضة ، وهي أقوى في عكس الصورة والضوء من القصدير والزئبق. (صناعة الزجاج ، فؤاد مسعود).

(٣) بعد عملية التفضيض تغسل المرآة جيدا ، ثم توضع رأسيا حتى جفافها في غرف دافئة ، وبعد ذلك تدهن بالورنيش. (نفس المرجع).

٢٦٤

ورقات من هذه العينة وأعظم منها يفصلونه ورقات بحجر الديمانط ، /٢٢٤/ ويخرجون من الورقة الواحدة ورقات عديدة على القدر الذي يريدونه. ووقفنا على أناس آخرين يريدون رفع زاجة عظيمة من قالبها بعدما مسحت ، وذلك أنها كانت مشدودة على قالبها المبسوط ، فأخذوا يحركون بوجيين صغيرين كان وضع القالب عليهما ، وعند تحريكه يرتفع القالب بزاجته الممسوكة فيه ، ويكون أحد طرفيه ثابتا في الأرض ، والمقابل له يرتفع حتى يشرف على الوقوف ، فيحاديه رجلان من الجهتين ، ويضع رجل آخر سلما على رأس هذا القالب ويصعد فيه ويمد الآلة الماسكة للزاجة ، وينزل ويحرك البوجيان فتشرف الزاجة على تمام الوقوف ، فيتلقاها رجال آخرون ، أربعة من كل جهة ، ويحرك البوجيان أيضا فينزل القالب لمحله وتبقى الزاجة واقفة بين أيدي الرجال الثمانية ، ويكونون قد وضعوا تحت حرفها الذي صارت واقفة عليه اشراكا من جلد ، بأطرافها خرص من حديد كهيئة حزام البغال ، فيأتي ثمانية رجال من كل جهة ويحملونها بتلك الأشراك ، ويتقدم رجل قدامهم ماسكا لها وآخر وراءهم كذلك ، ويمشون بها مشيا خفيفا هونا ، ويحركون أرجلهم على كيفية واحدة كمشية العسكر حتى يوصلوها إلى محلها. وهذه الزاجة قيل في تكسيرها أربعة عشر مترا ونيف ، وأن وزنها ثمانية قناطر ، وثمنها أربعمائة ريال وستون ريالا. ووقفنا في هذه الدار على مكينات كثيرة (١) مختلفة الأشكال. /٢٢٥/ في مواضع عديدة اتخذت لمسح ورقات الزاج ، بحيث يجعلون الورقة فوق قالبها ممسوكة فيه ، وأخرج من المكينة قضيب حديد جعل فيه كالأيدي من الحديد مبسوطة مربعة ، وبطنت بالجلد ، ويجعلون غبرة حمراء فوق الزاجة ، والماء يتقاطر عليها والميكنة تحرك تلك الأيدي فوق الزاجة ، والقالب مع هذا يتحرك حركة مغايرة لحركة الأيدي ، لأن حركتها كأنها دورية ، وحركة القالب من اليمين إلى اليسار ، وقد تنوعوا في آلة المسخ وتوسعوا فيها ، وجعلوها على كيفيات مختلفات ، ووجدنا في مواضع آخر نسوة يمسحن ورقات الزاج

__________________

(١) «... كما زارت السفارة المغربيةCharbonnage du Manbourgs، وبعدها إلى Jonet Verreries ثم ركبوا القطار إلى Cadelinsant ثم أخذوا القطار إلى» Couillet.

جريدة ابروكسيل

G.D.B.R.A.ler Belgique ) j.de Bruxelles.(

٢٦٥

بغبرة بيضاء مع الماء ، يباشرن ذلك بأيديهن ، ثم رجعنا إلى مدينة بروكصلا. وفي يوم الثلاثاء الثامن عشر منه ، أخذنا في التهيئ للسفر منها.

مدينة فانطي والفابريكة التي فيها

وفي يوم الأربعاء التاسع عشر (١) منه ، خرجنا منها وركبنا في بابور البر في الساعة الثامنة صباحا ، وركب معنا نائب البلجيق قاصدين مدينة فانطي بإذن كبير الدولة ، فوصلنا إليها بعد مضي ساعتين غير ربع ، والتقى بنا قائدها وكبراء العسكر بالتعظيم على العادة (٢) ، حتى أنهم فرشوا الأرض التي نزلنا فيها من البابور بالزرابي ، وذكر القائد أنه مأمور بأن يطلعنا على المكينات التي في البلد ، فركبنا في الأكداش حتى وصلنا إلى دار فيها مكينة عظيمة هائلة لم نر مثلها فيما تقدم (٣). قطر ناعورتها الكبرى أحد عشر مترا ، ويلزمها من الفاخر سبعة آلاف قنطار في الجمعة ، وترمي في سيرها في الدقيقة الواحدة /٢٢٦/ كما ذكر ستمائة قدم ، وميزانها مائة ألف قنطار وخمسة وثلاثون ألف قنطار ، وهم يخدمون بها الكتان الذي يجعل منه شراعات المراكب لهم وللصبنيول والأنجليز والبروصيا وغيرهم. وإنهم حين استنبطوا هذه المكينة نقص من الصائر لهم الثلثان ، وصار ربحا لأرباب هذه الدار. وفيها من الخدمة المقابلين لتصفية الكتان وغزله وصفحه ونسجه خمس وعشرون مائة ، والمكينات هي المتكفلات بالخدمة ، والخدمة يباشرون منها ما خف ، كوصل الخيوط

__________________

(١) ١٢ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

(٢) «... استقبلوا بمحطة مدينةGano من عامل فلاندر الشرقية (La Flander) وعمدة المدينة ، وقد ألح السفير على زيارة مؤسساتها الصناعية قبل أن يذهب إلى أنجلترا ...».

جريدة ابروكسيل

G.D.B.R.A.ler Belgique ) j.de Bruxelles.(

(٣) «... بعد استراحتهم توجه الوفد المغربي عن متن خمس عربات لزيارة مصنع نسج الكتان» La Manufacture de lye " ثم لاكنطواز  … La Cantoise».

M. A. E. R. B) ARCH. HIST. DIP): 518.

٢٦٦

عند تقطيعها ، ومناولة الكتان للمكينات للتصفية ، ورفع الظروف التي ينزل فيها المصفى ووضع غيرها ، وتحريك آلة الخدمة وتتقيفها وهكذا ، ووجدنا في براح متسع صفوف مغازل تغزل الكتان ، قيل إنها ستون ألف مغزل مصطفة في صفوف ، كل صف منها تقابله امرأة واحدة كما تقدم ذلك في بعض بيان فابريكات الملف في مدينة الياج.

ثم خرجنا من هذه الفابريكة إلى فابريكة الماركان ، وهي شبيهة بفابريكات الكتان (١) المذكورة فأوقفونا على نواعير تدور ، وقد جعل عليها أغشية مستديرة ، وهي ممتدة طولا ، فيجعلون القطن المنقى من العظام في حصير من فتقيات العود ، تدور بدوران المكينات ، وبدوران هذه الفتقيات يتقدم القطن إلى الناعورة الأولى فتجذبه بمسامير حديد محددة الرؤوس ، وتمر به تحتها ، ولم ندر كيفية وصوله إلى الناعورة الثانية ، لأن غشاء النواعير المغطاة بها المستدير حاجز بين البصر وبين القطن عند دخوله. /٢٢٧/ تحت الناعورة الأولى والثانية إلى الرابعة ، لكن عند خروجه من الرابعة نراه يخرج من تحتها وترميه بجهد كبير إلى ناعورة أخرى وهي الخامسة ، بينها وبين الرابعة مقدار ذراع ، وصل بينهما من أسفلهما بقضبان حديد رقيقة ، بين كل قضيبين بعد يسير ، فيتبين إذ ذاك أن الريح الذي يتولد من دوران النواعير الأربع يبقى محجوبا في تلك الأغطية المحيطة بالنواعير ، ويطلب مخرجا فلا يجده إلا من أسفل الناعورة الرابعة ، وهو الذي يرفع (٢) ما يكون هناك من القطن إلى الخامسة ، وعند مروره على تلك القضبان يتساقط ما يكون فيه من التراب والأزبال ، ويخرج القطن لا شيء فيه من الأزبال وغيرها ، وهو منفوش غاية بسبب تكرر مروره على محددات

__________________

(١) المنتوجات الكتانية كانت متوسطة الجودة وتباع بأثمنة أكثر انخفاضا من الأجواخ الصوفية الرفيعة ، مما جعل الطلب عليها يزداد داخل وخارج أوربا بفضل نمو الملاحة البحرية وتعدد الأسواق الخارجية. ثم «... زار أعضاء السفارة مصنع الثياب القطنية وغيرها للسيدPasstier وRonge ، وكذلك معمل التكرير للسيدين» ,Neys Encen.

M. A. E. R. B) ARCH. HIST. DIP): 518.

(٢) عندما يخف وزن القطن الخام بعد عملية التفتيح يرفع من أسفل إلى الأعلا.

٢٦٧

مسامير النواعير ، وينقلونه من هذه المكينة إلى أخرى تلبده ، ثم إلى أخرى تفصله كسبولة السداد ، ثم إلى الغزل (١) ، ثم إلى مكينات الصفح ، ثم إليالمنسج ، وهو قريب في الرؤية من مناسيج الطرارة بالغرب ، إلا أن النزقين يخدمان وحدهما ، وبسرعتهما في الخدمة لا يمكن رؤيتهما. وعدد المناسج التي هناك في موضعين ، أحدهما فيها مناسج طولا ستة وثلاثون منسجا ، وعرضا ثلاثون ، مجموعها ألف وثمانون منسجا. وموضع آخر صغير فيه ثلاثون منسجا طولا وستة عشر عرضا ، مجموع ذلك خمس عشرة مائة منسج وستون منسجا ، قيل كل منسج ينسج في الجمعة ثلاثمائة متر ، فيكون جملة ما نسجه في يوم واحد ستة وستين ألف متر وثمانمائة وسبعة وخمسين /٢٢٨/ مترا ، هي مقدار ثلاثة آلاف شقة ونحو أربعين شقة ، وهذا الماركان لا يأتي منه شيء لغربنا ، فمنه الحلو غاية ، ومنه الخشين جدا ، وعرضه يزيد على ذراعين ونصفه وبعضه أقل ، ومنه ما يصبغ أزرق ويشد لأربابه. وفي هذه الدار من الخدمة إحدى وعشرين مائة كما ذكر. وهذه البلدة من المدن العظيمة تشقها أنهار كثيرة (٢) ،حتى قيل إن فيها ثلاثمائة قنطرة وثنتين وستين قنطرة.

وفي الساعة السادسة منه مساء ركبنا في بابور البر قاصدين مدينة أسطانذ (٣) بقصد المبيت فيها ، فوصلنا إليها في الساعة السابعة ونصف ساعة ، وهي على ساحل البحر ، وبعد نزولنا بها على يد قائدها وتلقيه هو والكبراء على العادة ،

__________________

(١) يغزل الشريط القطني النظيف ذي الوزن المنتظم والشعيرات المتوازية إلى خيوط مختلفة الأرقام والقوى لاستعمالها في النسيج. (الموسوعة العربية).

(٢) نهرEscaut ونهرLys ، بالإضافة إلى القنوات المائية الاصطناعية التي تربطها ببحر الشمال Grand At ـ las Bordas

(٣) Ostande «التي غادرها يوم ١٣ يوليوز ١٨٧٦ م على متن الباخرة الحربية الملكية «أيكوا البرلمان» Echo du Parlement إلى مدينة دوفر ، صحبة مدير ديوان وزير الخارجية فاندن بوش حيث قدم الزبيدي إلى مندوب وزارة الخارجية البريطانية».

M. A. E. R. B) ARCH. HIST. DIP): 518.

٢٦٨

خرجنا في العشية إلى قبة من الزاج على ساحل البحر (١) ، طولها نحو خمسين ذراعا ، وعرضها نحو خمسة وعشرين ، ومن جهة الساحل نبح بداخلها على طولها سواريه حديد لطيفة ، وكذلك قناطيرها وسقفها كهيئة مثلث ، وجدرانها وقبوها كله من الزاج الممسوك بقضبان رقيقة من الحديد ، وفي النبح المذكور رجال يخدمون الموسيقا بأنواع كثيرة من آلات الطرب ، وفيها خلق كثير من النصارى رجال ونساء. ومنهم من هو داخل القبة ، ومنهم من هو خارج عنها بشاطئ البحر ، فجلسنا هناك على شوالي بالقبة في تربيع خارج عنها مواجهين البحر نحو ساعة ، ورجعنا إلى محل النزول.

__________________

(١) مدينة أوستند تطل على بحر الشمال وهي مصيف مشهور وتضم كازينو واستراحة ملكية وكورنيش طوله ٣ أميال تبعد ب ١١٤ كلم على ابروكسيل. (دائرة المعارف الحديثة ، ج ١ : ٢١٢).

٢٦٩
٢٧٠

الجزء الرابع

أخبار بلاد النجليز (١)

وفي الساعة العاشرة وربع من يوم الخميس العشرين منه (٢) ، ركبنا في بابور البحر من بابورات /٢٢٩/ البلجيق ، وطلع معنا خليفة وزير الأمور البرانية ، وسافر البابور بنا في البحر وهو في غاية ما يكون من السكون والركوض.

ملاقات كبار مدينة دوفر للباشدور

وفي الساعة الثانية وربع وصلنا إلى مدينة دوفر من مدن أنجليز ، وحيث أرسى البابور بمرساها طلع للبابور ولد الباشدور بطنجة ، وهو القونصو بالسويرة (٣) ، لأنه هو

__________________

(١) (انظر خريطة تنقلات السفارة المغربية عبر أنجلترا بملحق الرسوم والصور صفحة ١٩).

(٢) ١٣ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

(٣) بربريتها تاسورت ، ومعناها المدينة المحاطة بسور ، تكتب وينطق بها وهو الأصح ، وتارة بصاد(الصويرة) وهو الشائع (وهي موكادور) اختطها وأسسها وبناها السلطان سيدي محمد بن عبد الله سنة ١٧٧٨ م.

٢٧١

الذي توجه ترجمانا مع الباشدور بدولتهم ، وطلع معه الجلنار كبير العسكر ورئيس المرسى ، وتلاقوا هناك مع الباشدور ، وأظهروا فرحا وسرورا كبيرا ، وعند ذلك ودعه خليفة الوزير المذكور ، ثم نزل الباشدور إلى البر معهم ونحن في أثره ، وقد فرشوا الطرق بالزرابي ، فوجدنا فئة عظيمة من العسكر متحربا ، وأصحاب الموسيقا مشتغلون بها ، ورفعوا سنجق الإسلام ، وأخرجوا المدافع (١) ، ونبهنا لسماعها ولد الباشدور المذكور ، وعلى رفع سنجق الإسلام ، كل ذلك تعظيم للجناب الشريف ، فنزلنا فأدخلنا لمحل مزخرف بها ، وتناولنا هناك شيئا من الحلواء والقهوة ، واسترحنا هناك إلى الساعة الثالثة ونصف.

فركبنا في بابور البر في عربة من عربات المخزن بلغت الغاية في الكبر والزخرف والشوالي المتعددة والكنابيس في زوايا بها ، وعند طلوعنا إليها وجدنا فئة أخرى من العسكر ، ذكر ولد الباشدور المذكور أنه من عسكر خيالهم ، سراويلهم فوق الركب ، وقصبة أرجلهم بادية ، وتقاشيرهم (٢) فوق البلاغي إلى مجاوزة كعب أرجلهم. وأصحاب الموسيقا منهم يضربونها بنغم رقيقة كنغم الغياطة عندنا يستلذها السامع.

/٢٣٠/ محل النزول باللوندريز

وفي الساعة الخامسة وخمس وثلاثين دقيقة من مساء يوم الخميس المذكور ، وصلنا إلى مدينة اللوندريز ، فكان مدة مسير هذا البابور بنا من مدينة ذوفر إليها

__________________

(١) عند وصول الباخرة DuPerlement Echo لمدينة دوفرDouvers أطلقت بطاريات الميناء القديم ١٩ طلقة نارية وتقدمت الفرقة ٧٨ الإسكتلنديةHighlanders لتحية السفارة المغربية ، ورئيس المنطقة الجنوبية ـ الشرقية الجنرال ماجورParke ، والكابتان Brulle ـ والدبلوماسي روبرت ابن السفير هاي دريموند هاي المقيم بطنجة كترجمان مرافق (انظر ترجمته بالصفحة ٢١٦) من تقرير السفير الإيطالي بلندن.

S. P. E. I) D. M. Smith (.

(٢) انظر شرحه بالملحق رقم : ٤.

٢٧٢

ساعتين ودقائق ، سيرا قويا لم يقف في هذا السير أصلا في محل ، فلما انتهى بنا إلى اللوندريز سار بنا على قنطرة طويلة جدا (١) ، علوها كعلو أسطحتها في ذلك المحل ، فنزلنا هناك على يد المخزن في حومة سكنى سلطانتهم وكبرائهم في محل معتبر (٢) لم يكن في اللوندريز عندهم مثله كما سمعنا ، وهذا المحل شبيه في الكبر والفصالة بأوطيل باريس الذي كان نزولنا فيه ، إلا أن بيوته وصالاته أوسع بكثير من بيوت محل اللوندريز ، وأما من جهة البناء والزخاريف والفراش والأثاث والأواني متشابهان.

قدوم كبراء البلد على الباشدور للتهنئة

وفي يوم الجمعة الواحد والعشرين (٣) منه. توجه بنا الترجمان مع الباشدور إلى فرجة عندهم في محل متسع لا بناء فيه ولا شجر ، فلما انتهينا إليه وجدنا خلقا عظيما دائرا به ، والناس في الأكداش والراجلين نساء ورجالا يتفرجون في أناس

__________________

(١) قنطرة Bridge Albertوصفها الكاتب الغسال في رحلته العزيزية «... ومنها قنطرة الحديد التي لا أعمدة لها بل أحد طرفيها على إحدى ضفتي النهر ووسطها معلق بقضبان من حديد وسلاسل ممتدة إلى الطبقتين ، يرفع وسطها بتلك السلاسل عند إرادة فتحها ثم تسد بأسرع حركة ...». مجلة البحث العلمي ، عدد ٢٩ ـ ٣٠ سنة ١٩٧٩ ، كما ذكرها الطاهر الفاسي في رحلته الإبريزية «... وهذه القنطرة يعجز الواصفون عن وصفها لطولها وجودة بنائها ...» ، ص : ٣٧ ، حققها وطبعها محمد الفاسي.

(٢) فندق All\'Alexandra بحومةPioadilly Hyde Parck Corner بمدينة لندن.

S. P. E. I.) D. W. Smith (.

(٣) ١٤ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

٢٧٣

يلعبون (١) بالكرة في وسط تلك البقعة ، فلما دخلنا مع أولائك الناس المتفرجين بقينا في الأكداش ندور حولهم حتى انتهينا إلى المحل الذي دخلنا منه ، فخرجنا ورجعنا.

وفي يوم السبت الثاني والعشرين (٢) منه ، قدم خليفة صاحب المشور على الباشدور مهنئا له في سلامته وقدومه ، وأخبر بما حصل لهم من الفرح والسرور بقدومه.

وفي يوم الأحد الثالث والعشرين منه (٣) ، قدم على الباشدور صاحب المشور بنفسه حامدا له في السلامة ، وما أكثر أدبهم وتواضعهم ، ورحب به غاية الترحيب.

بساتين النوار التي في الطرق وفي العراصي

وفي مسائه ركب معنا الترجمان وصار معنا إلى عرصة عظيمة. وعند مرورنا في الطريق كنا نجد في أكثرها رياضا أنيقة ، وحياضا عجيبة ، متصلات بجدران دورهم ممتدة مع الطريق ، وفيها نوار عجيب من غالب الألوان ، وكذلك النبات فيه الأخضر اليانع والمفتوح وغيره ، ومنه ما هو على لون الشيبة ، ومنه ما أوراقه حمر ديدية ، وكل

__________________

(١) Rugby Football الرياضة الجماعية الأولى التي عرفتها بريطانيا منذ منتصف ق. ١٩ ، وانطلقت المقابلات الرسمية بعد تأسيس الاتحاد الملكي سنة ١٨٧١ م.

The London EncycloPedie Edited by Ben Weinreb and ChristoPher Hibbert Macmillan, London: 689.

(٢) ١٥ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

(٣) ١٦ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

حسب الأعراف الدبلوماسية ، بمجرد وصول السفير يستقبله مندوب وزارة الخارجية ليسهل له كل المشاكل التي يمكن أن تعترضه ويحدد موعد مقابلة وزير الخارجية ، ثم يحدد بعد ذلك موعدا لتقديم أوراق اعتماد السفير الجديد إلى رئيس الدولة مع مدير المراسيم أو التشريفات الدبلوماسية.(البروتوكول ، أحمد حلمي إبراهيم).

٢٧٤

لون يجعلونه في محل ويفرقون بينها /٢٣١/ بألوان ذلك النبات ، وهو متساوي في الارتفاع مزدحم في الغرس ، كذلك النوار قريبة التساوي والازدحام ، حتى أنهم يجعلون في الحياض توريقا من الألوان يملأون ما بينها بألوان النبات ، وفي بعض الحياض يجعلون حروفا من ألوان النوار ويكتبون بها ما شاءوا ، فلما انتهينا إلى تلك العرصة لم نجد فيها غير الأشجار التي لا تثمر بها ، والطرق مفصلة فيها متقاطعة ، وفيها رياض (١) كثيرة ، منها ما هو على شكل الزرابي طولا وعرضا رصفت بألوان النوار ، لا يمل الناظر من النظر إليها من حسن ذلك الوضع وتناسب ألوانه ، ومنها ما هو على شكل الدائرة ، ومنه ما هو دوائر متقاطعة ، وبالجملة فما يصنع عندهم في التوريق والدوائر في العود والأبنية يجعلون غالبه بالألوان في حياض رياضهم ، وفي هذه العرصة قبة من الزاج (٢) مربعة ، وداخلها محابق فيها ألوان النوار موضوعة فوق موائد من العود ، وتحت الموائد جعبات حديد غلاظ ممتدة بامتدادها ، يقال أن في أوان البرد يجعلون فيها الماء الحار صيانة لذلك النبات ، وذكر أن الحياض التي عندهم بالطرق إذا قرب أوان البرد ينزعونها من ذلك المحل ويغرسونها في المحابق ، وتجعل في قبب الزاج ، وتحتها حرارة الماء الذي في تلك الجعبات ، وفي هذه القبب أنواع من الدوم يجعلونه في المحابق ، فمنه ما هو شبيه بالدوم في الغرب عندنا ، ومنه نوع من بر

__________________

(١) أبرز محمد الطاهر الفاسي في رحلته الإبريزية أهمية هذه الحقول الاصطناعية التجريبية لتحسين وانتقاء أجود أنواع النباتات والمغروسات «... ذهبنا بإذن الملكة لبستان عظيم لها يجتمعون فيه أعني النصارى من السنة إلى السنة ، ويأتي كل واحد بما له من غلل الأشجار ، من ثمار وأزهار ... فإذا رأت أن إحدى ثماره جيدة سالمة من العاهات ، أو أزهارها كذلك أعطته عطاء جزيلا ...» ، يقصد حديقة النباتات الملكية كيو Royal Botanio Cardens Kew.

(٢) «... ورأينا قبابا مركبة من خشب وزجاج ... وبإزاء القبة محل فيه ماء ، ومحل آخر معد للنار و ـ مكينة ـ تطبخ ذلك الماء ... وجعاب من حديد متصلة بعروق تلك الأشجار ... فإذا طبخ خرج منه ... البخار يدخل في تلك الجعاب فيسري إلى عروق تلك الأشجار فتنضج وتلد في أقرب وقت ...» ، (رحلة الفاسي الإبريزية : ٣٣) ، يعتقد أن حرارة الماء تصل مباشرة لعروق النباتات ، بل هي لحمايتها من شدة البرودة كما جاء عند الجعيدي.

٢٧٥

الهند يعلو كثيرا وينبسط ، ومنه نخيلات صغار ساقها كقامة الإنسان ، منها ما هو ساقها أغلظ من القصبة بيسير ، ومنها ما هو أغلظ ، وأوراقها مختلفة في الرقة والغلظ ، وفي هذه العرصة أسرة وشوالي متفرقات في أماكن ، يخرج الناس إليها بقصد الانبساط والاستراحة ، وهي لجانب المخزن.

وفي يوم الاثنين /٢٣٢/ الرابع والعشرين (١) منه ، كنت مع الترجمان المذكور في محل نزوله في غرض مخزني ، فقدم عليه رجل منهم بكتب من قائد المشور المذكور ، فقرأها وأملى علي واحدا منها ، فكان يوصيه فيها على الباشدور والبرور به ، والوقوف معه ، وتنفيد كل ما يحتاج إليه ، ويخبرنا أن سلطانتهم ليست في اللوندريز ، وأنها خرجت لبلدة أخرى (٢) بقصد الاستراحة فيها ، ومع تلط الكتب ورقات من ولد السلطانة ، عين في كل واحدة اسم الباشدور واسم أصحابه يدعوهم للحضور لعرصته ، إلى فرجة تعرف عندهم بالكونبطى في الساعة الرابعة من يوم الثلاثاء الموالي.

صفة سجن بحومة اللوندريز

وفي مساء يوم الاثنين المذكور توجه بنا الترجمان إلى رؤية سجن من سجونهم (٣) ، فوصلنا إليه فوجدنا فيه بيوتا صغارا جدا بعضها مقابل لبعض ، ممتدة

__________________

(١) ١٧ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

(٢) «... لا أظن أن الملكة قد اتخذت قرارا لاستقبال السفير المغربي استقبالا رسميا ، وحتى البارحة ليس هناك خبر ينفي أو يؤكد هذا ، ومن المحتمل أن الملكة ستستقبله في مقر إقامتهاOsborne ، في حالة خاصة ... «من تقرير سفير إيطاليا بلندن Menabrea إلى وزيره Melegari الذي كان يتتبع تحركات السفارة المغربية عن كتب. (D.M.SMITH) S.P.E.I .

(٣) الخلفية السياسية لهذه الزيارة ، تمكن في شروع الإصلاح الذي تقدم به دريموند هاي عند اجتماعه بالسلطان الحسن الأول بفاس يوم ٢٢ أبريل سنة ١٨٧٥ م ومطالبته بتحسين أحوال السجون المغربية بعد احتجاج الجماعات اليهودية على الحكومة البريطانية لتضغط على المخزن المغربي من أجل تحسين تغذية السجناء ، ونظافة زنازينهم وبعدم تكبيل المسجونين بالسلاسل وغير ذلك. (تاريخ العلاقات الأنجليزية ـ المغربية حتى عام ١٩٠٠ ، روجر ، تعريب يونان لبيب رزق : ٢٤٠).

٢٧٦

طولا وعرضا. وفيه طبقات كذلك ، والضوء في جميعها من كثرة دفف الزاج ، وفي كل بيت فراش مرتفع من الفرش ، ومائدة الناقوس ببابه. وفيه مطبخة كبيرة يطبخ فيها للمساجين من أزكى الطعام. وجدنا فيها أكوابا ممتلئة حريرة جامدة ، رفع منها صاحب المطبخة مغرفتين كبيرتين في زلافة ، وقطع من خبزة طرفا نحو نصف رطل ميزانا ، وقطعة لحم نحو أوقيتين أو أقل مع إدام يسير ، وقال الترجمان هذا ما يطعم للمساجين كل يوم ، وفيه صالة كبيرة أرضية ، فيها كراسي عديدة وموسيقا ، يجتمعون هناك للصلاة ، وفيه محل متسع خارج عن البيوت يخرجونهم إليه بقصد انبساطهم فيه ساعة في كل يوم ، وهذه الطبقة السفلية إنما فيها أناس يدعى عليهم بالحقوق العرفية ، فيتركونهم حتى يقع الفصل فيها. وأما غيرهم من أهل الجرائم ، فهم في الطبقات. وعثرنا على بيت هناك مظلم غاية ، قيل إنه إن صار من بعض المساجين نزاع وخصام يتركونه فيه ثلاثة أيام فلا يعود إلى ذلك أبدا ، واستنبطوا عقوبة للسارق ، وذلك /٢٣٣/ أنهم اتخذوا صندوقا مقسوما نصفين ، مقبوضا من غاربه بقريقيات ، وفتح لوحته العليا دائرتين نصفهما في كل نصفي اللوحة الفوقية ، يفتح هذا الصندوق (١) ويدخل إليه السارق ويسد على ما فوق ركبتيه ، وتغل يداه بين خشبتين منصوبتين فوق الصندوق ، ثم يضرب بسياط خمسين سوطا بين كتفيه ، وقد نزعت ثيابه ، وصاحب السوط يضرب به بغاية جهده ، وصفة السوط قضيب رقيق ، طوله يزيد على ذراع يسيرا في رأسه جلدة ركب فيها تسعة خيوط من القنب الرقيق فيها ، عقد طول هذه الخيوط كطول القضيب ، قيل كل ضربة به يتفجر منها الدم ، وأن من ضرب به خمسين سوطا يموت لا محالة. وأكرمنا هناك قائد السجن

__________________

(١) إن التنشئة الحديثة للسجون بأوربا لم يقض معها بالمرة على النظام الذي كان سائدا من قبل ، وذلك خشية إضعاف هيبة القانون فاحتفظ ببعض مظاهر القسوة في النظام العقابي كما كان الأمر قديما.(مؤسسة السجون ، أحمد مفتاح البقالي ، الرباط ، ١٩٧٩ م).

٢٧٧

بالقهوة والحلوى وفرح بنا غاية الفرح. وعند خروجنا وجدنا صبية صغيرة (١) مسجونة ببيت ، قيل إنها رمت غيرها بحجر في الطريق ، وأخرى في بيت آخر تخاصمت مع أخرى ، وفي بيت آخر صبيا صغيرا سرق نحو ريال من السمن ، وآخر دون بلوغ سرق شطابة ، وهو يبكي. وكل واحد من المساجين في بيته وورقة فيها بيان جريمته ، وما حكم به عليه من مدة السجن. وهناك عريفات يتولين أمر المسجونات من النساء والصبيات.

الكونبطى أي كرامة في عرصة ولد السلطانة

وفي يوم الثلاثاء الخامس والعشرين (٢) منه. توجهنا مع الباشدور إلى عرصة المخزن التي دعانا إليها ولد سلطانتهم (٣) للحضور للكونبطي ، وذلك أنه كان مسافرا جائلا في الأرض شرقها وغربها ، ولما قدم خرج لهذه العرصة واستدعى إليها أعيان أهل البلد والوزراء والباشدورات الذين في البلد ، وعند قربنا إليها وجدنا غاية الازدحام ، وحين دخلنا نزلنا من العربات ، وكان المخازنية معنا لكونهم معينين للحضور ،فرأينا أناسا في مواضع ، فمنهم الواقفون وكل اثنين أو ثلاثة يتكلمون بينهم ، ومنهم

__________________

(١) معظم الدول الأوربية تبنت نظام السجن الانفرادي وإيواء المنحرفين أقل من ٢٠ سنة منذ عام ١٨١٧ م ، والفصل بين الجنسين ، بتأثير الكنيسة والفلاسفة والمفكرين وانتشار الأفكار الديمقراطية كالمساواة وعدم اعتبار المجرم من الدرجة الثانية ، واتجه اهتمام الباحثين إلى دراسة أغراض العقوبة باعتبار التهذيب والتأهيل هو الهدف المنشود. (نفس المرجع السابق).

(٢) ١٨ يوليوز سنة ١٨٧٦ م.

(٣) أمير ويلزWALES إدواردEdward VII في طريق عودته إلى بريطانيا من زيارة رسمية كان يقوم بها إلى الهند عرج على جبل طارق ، فأرسل السلطان الحسن الأول سيدي علي المسفيوي كنائب عليه لتقديم التهنئة للأمير بسلامة الوصول صحبته السفير درمند هاي في أواسط أبريل عام ١٨٧٦ م ، بعد ذلك واصل الأمير طريقه إلى أنجلترا حيث صادف وصول سفارة الزبيدي لأنجلترا. (تاريخ العلاقات الانجليزية ـ المغربية حتى عام ١٩٠٠ ، روجز ، تعريب يونان لبيب رزق : ٢٤٥).

٢٧٨

الجالسون على الشيليات ، وفيها قبب /٢٣٤/ أي خزانات منصوبة ، اتخذها أربابها لبيع المأكولات والمشروبات ، فمن دعته الحاجة إلى شيء من ذلك يدخل لإحداها فيؤتي له بمراده ، ويؤدي الواجب ، وفيها في مواضع أناس يضربون الموسيقا طرنبطات العسكر ، ومنهم من يضربها بالنواقيس موضوعة عندهم فوق مائدة ، وخمسة أناس يضربونها ، منهم اثنان في يديهما ثمانية نواقيس صغار مختلفة النغم ، في كل يد ناقوسان يبتدءان الخدمة بها ويتبعهما الآخرون ، فإذا شرعوا في خدمة طبع يرفع كل واحد منهم ناقوسا يكلفه بنغمة النقط المتوقف عليها ذلك الطبع ، ويتبعه آخر بالنقط الذي يليه ، وهكذا خدمتهم ، وكل واحد من الثلاثة يرفع ناقوسا يكلمه ويضعه ، وبين وضعه ورفع آخر يكلم الآخران ناقوسين برفعهما ووضعهما والمعلمان كذلك لا يخطئ أحدهما النقط المتوقف عليه. فتقدم إليهم ولد السلطانة ودفع لهما ورقة وتكلم معهم في خدمة الطبع الذي طلبه منهم فامتثلوا. وعند دخولنا إلى هذه العرصة تلاقى الباشدور بولد السلطانة ونحن معه فأظهر من الأدب والتواضع ما يتعجب منه ، وهو واقف كأحد الناس لابس لباسهم ، تارة يقف مع أناس وتارة يتمشى هو وآخر معه ، وكان معه أربعة (١) من إخوته ذكور دون البلوغ. وكل واحد منهم عليه كسوة من الكرية البيضاء مثل كساوي البحرية عندهم ، وكبوط أزرق ، قيل إنهم الآن يتعاطون علوم البحر ويخدمون فيه مدة معلومة عندهم ، ثم يدخلون للعسكر فيخدمون فيه كذلك ، ثم في علوم أخرى ليكونوا على بال من جميع العلوم ، ويشاهدون ما يقاسيه بعض الناس من الأهوال والمحن برا وبحرا. ثم بعد ذلك يطوفون بالبلاد شرقا وغربا برا وبحرا ، فيكتسبون بذلك زيادة في عقولهم كما قيل ، وبعد الملاقاة مع ولد السلطانة

__________________

(١) وهم : Alfred ولد سنة ١٨٤٤ م وهو دوق Edinburgh.

Arthureولد سنة ١٨٥٠ م وهو دوق Connaught.

LeoPold ولد سنة ١٨٥٣ م وهو دوق Albany.

والرابع ربما كان أول حفيد للملكة فكتوريا ولد سنة ١٨٥٩ م ، حسب الشجرة العائلية الملكية البريطانية.

The British Roayal Family Since Queen Victoria Roayal Feud.

The Queen Mather and the Duchess of Windsor, Michael Thorton) London (.

٢٧٩

صرنا نتمشى في تلك العرصة من محل إلى محل ، فنجد /٢٣٥/ في كل محل جماعة واقفة أو جالسة ، فجلسنا هنيئة على الشوالي حتى رأينا بعض الناس شرعوا في الخروج فقصدنا طريق الخروج ، فبصر الباشدور ولد السلطانة قريبا إليه فزاد بل فتقدم إليه ونحن معه وودعه ، فأجابه بما ذكر من الأدب والخضوع والترحيب به ، وهو لم يكن له قرار في محل كما ذكرنا ، فلما قربنا من الباب وجدنا العربات التي أتى فيها من في العرصة تأتي متتابعة واحدة إثر واحدة ، فإذا وصلت عربة وكان الذين أتوا فيها واقفين ركبوا فيها وانصرفوا. وإذا لم يكونوا موجودين هناك ينادي رجل ثلاث مرات ، بأن يقول بلغتهم هذه عربة فلان ، فإذا سمع به يأتون إليه ، وإذا لم يسمعه انصرفت العربة حتى تعود مرة أخرى وتتقدم وغيرها ، وهكذا لأنهم إذا لم يكن أمر العربات على هذه الكيفية يقع الازدحام حتى لا يوجد مسلك إلا بعد المشقة وطول الوقوف كما وقع لنا بعض الفرجات. ولما وصلت الأكداش التي أتينا فيها وركبنا وخرجنا وجدنا الطريق التي أتينا فيها قسمت طولا نصفين ، والعسكر واقف في الوسط بين كل عسكريين نحو عشرين خطوة ، فالخارجون من العرصة ينصرفون على الطريق التي عن يسارهم ، والأكداش الداخلة إليها فارغة ، يمرون عن يمينهم وذلك فرارا من الازدحام ، وكان في هذه العرصة من الناس الذكور والإناث ما يقرب من الستة آلاف ، كما عثر على ذلك في كزيطة طبعت عندهم في ذلك اليوم أو غد ، وأتى بها الترجمان وبين ذلك.

الملاقات بالوزير

وفي يوم الأربعاء السادس والعشرين (١) منه ، وتبين أنه السابع والعشرون توجه الباشدور ونحن معه إلى دار وزير الأمور البرانية (٢) ، فدخلنا إلى داره وصعدنا إلى

__________________

(١) ارتباك وقع لصاحب الرحلة لإضافته يوم. فالأربعاء ٢٦ جمادى الثانية يوافق ١٩ غشت ١٨٧٦ م.

(٢) إدوارد ستانلي دربي (١٨٢٦ ـ ١٨٩٣ م) Stanley Derby Edward ـ كان وكيلا لوزارة الخارجية البريطانية حتى سنة ١٨٨٢ م ، حيث تولى وزارة الخارجية والمستعمرات إلى سنة ١٨٨٥ م Cham ـ

bers BiograPhiecal Dictionary: ٣٧٣.

.

٢٨٠