إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

برأس القالب أقل من شبر زروقة ، كأن هناك ماء ، فعند ذلك تنقل تلك القوالب إلى محل آخر كمحلها المذكور ، ويوضع كل قالب في حفرته لتصفية تلك المائية الباقية فيه ، لأن في أسفل كل حفرة إما تقبة أو تقب تنشف القالب ولا تبقي به شيئا من المائية والزرقة ، ونزع منها قالب بمحضرنا فخرج من حفرته صوت يصفر ولم يخرج منه ريح. وهذا كله وكبير المكينة أمامنا يطوف بنا فيها ، ويطلعنا على أطوار السكر طورا بعد طور ، حتى أتى بنا إلى محل تخرج منه القوالب التي تم تيبيسها وتصفيتها ، فوجدنا هناك خدمة عديدة ، وقوالب من السكر مرصفة بعضها فوق بعض كالجبال ، وأكثرها القوالب التي من نحو ربع قنطار في القالب ، وأقلها وأضعفها قوالب صغيرة هي التي تأتي إلى الغرب (١). وهؤلاء الخدمة كل اثنين متقابل على مائدة بينهما يمسك كل / ٥٨ / واحد منهما قالبا من يد الآخر ، ويضعه بين يديه فوق رزمة الكاغد المعد للفّه فيه ، فيلفّه في كاغدين كأسرع ما يكون ، وأمام كل واحد منهما متعلمان (٢) يشدان القوالب في الخيط بحيث يلف قالبين في الكاغد ، يشدها بالخيط المتعلمان اللذان أمامه ، فيمسكه آخران يناولانه لغيرهما حتى يصل لمحل وضعه.

__________________

(١) ذكر محمد المامون بن عمر بن الطائع الكتاني الحسني في مخطوطه «هداية الضال المشتغل بالقيل والقال» «... ولما ظهر وقت الأمير سيدي محمد بن عبد الله ... وقع وقتئذ اضطراب كثير وخلاف شهير فمن يحل ومن يحرم ـ السكر ـ ولقد أرسل ولد الأمير المذكور وهو السلطان أبو داود سليمان من يوثق بدينه وعلمه ... وحكمه حتى وقف على عينءالاته وماهية صنعه ، ورجع فأخبر بطهارة أصله وإباحة فرعه ... إنما حرم ما عدا الجامد منه ، وهو ما يعرف بسكار القالب ، وأما غبرته المعروفة بلباته فلا ...». خ. العامة بالرباط ، رقم ٣٢٠ ك ، ص ١٣٣ ـ ١٤٥.

وقد تزايد استيراد المغرب لهذه المادة أواخر القرن التاسع عشر ، كما يدل على ذلك الجدول التالي:

١٨٧١ م

 ١٤٤. ٨٩٥. ١ كيلو ـ ٧٢٠. ٩٨٠. ١ بالفرنك

١٨٧٦ م

 ٠٨٨. ٤٥٨. ٢ كيلو ـ ٥٤٠. ٧٦٤. ٢ بالفرنك

١٨٧٧ م

 ٧٠٢. ٢٧٣. ٣ كيلو ـ ٧٧٩. ٤٩٠. ٣ بالفرنك

Miege, Le Marc et l\'EuroPe, Tome, 3: 274. 249.

(٢) في الأصل متعلمين ـ خطأ ـ.

١٤١

نشر قوالب السكر وتقريضها

ثم أوتي بنا إلى محل آخر فيه خلق كثير من النساء والرجال ينشرون القالب الكبير من السكر كما ينشر العود حتى يصير القالب الواحد مثلثة على هيئة المثلث ، وكيفية نشره أن الرجال المكلفين بالنشر جالسون (١) على الشوالي وأمام كل واحد منهم بقربه ناعورة تدور دورانا سريعا حرفها كالمنشار والله أعلم. وهي على قدر ناعورة الشراط ، من حديد مهند رقيقة كرقة المنشار. هكذا ظهر لي بحسب الأمارات الدالة على ذلك ، فيعمد هذا الرجل المقابل للناعورة فيمسك رأسه بيديه ، فيجعل طرف القالب من جهة قعره متصلا بتلك الناعورة ، أي بحرفها ، ويدفعه إليها دفعة واحدة ، فتقطعه الناعورة / ٥٩ / وعند ذلك يكون متعلم قبالته ، والناعورة بينهما ، فاللوحة التي تنفصل من القالب أولا هي أصغر ألواحه ، يتلقاها حين النشر ذلك المتعلم ، والباقي من القالب بيد صاحب الناعورة ، فيعيد عمله بأن يقدم قعر القالب إلى الناعورة ، ويدفعه إليها فتشقه أيضا فتنفصل منه لوحة أخرى أكبر من الأولى فيتلقاها المتعلم أيضا وهكذا ثالثا ورابعا وخامسا وهلم جرا حتى يتم القالب. وغلظ اللوحات بقدر واحد غير مختلف لما ستعلمه بعد بحول الله.

ثم إن هذا المتعلم حين يتلقى اللوحة المنفصلة من القالب يدفعها عاجلا من غير تراخ لرجل آخر ، عن يمينه صاحب ناعورة النشر أو يساره جالس كجلسة صاحب الناعورة. فيقبض تلك اللوحة من السكر من المتعلم ، وينشرها على طولها نشرا مستويا خطوطه ، بحيث يدفعها إلى نواعير صغيرة تدور كأسرع ما يكون ، فتخرج تلك اللوحة مقسومة طولا قسمة مستوية ، كل قسمة منها كالفتقية مربعة ، ثم تأتي متعلمة أخرى وتأخذ / ٦٠ / تلك الفتاقي ، وتدفعها شيئا فشيئا لمتعلمة أخرى جالسة على كرسي ، وأمامها مكينة صغيرة تقرض بها تلك الفتاقي من السكر تقريضا مستويا بسرعة ، والمكينة تخدمها بيد واحدة ، ويدها الأخرى تناول بها الفتقية إلى المكينة ، بحيث تدخلها في فرجة وهي تحرك يد المكينة ، فتخرج الفتقية مقسومة

__________________

(١) في الأصل جالسين ـ خطأ ـ.

١٤٢

بمربعات صغيرة (١) ومع هذا تخرج الفتقية مقسومة كما قلنا ، ومربعاتها يوالي بعضها بعضا على سمت (٢) واحد ، مصطفة ، فتأتي متعلمة أخرى فتدفع الفتقية بتمامها في دفعة واحدة جامعة يديها على طرفيها ، وتضعها في صندوق مبطن بكاغد الصرف لكي تزيل من كل فتقية المربعة الأخيرة التي تكون من ناحية رأس القالب لأنها لا تكون مربعة فتتركها. وهناك نحو مائة من المتعلمات ، ومعهن الرجال المشتغلون بالنشر المذكور ، ونواعير النشر كثيرة وإنما وصفت لكل منها كيفية نشر / ٦١ / قالب واحد ، والقوالب التي تنشر تجعل في الصناديق على الكيفية التي ذكرت ، ولا يسبق لفهمك أن تلك المربعات المستوية من السكر ترمى في الصناديق كيف ما تأتي ، بل توضع فيه مصطفة شيئا فوق شيء حتى تملأ الصناديق وتسمر ، وهذا السكر هو الذي يباع في مرسيلية وباريس للقهوة والأتاي وغيرهما. وأما تلك المربعات التي تترك من السكر لكسرها فإنها تجمع مع الغبرة التي تسقط حين النشر فيجمع بعضها إلى بعض لبانه ، هذا ما استحصرته من أوصاف تلك المكينة.

وأما الطناجير المعدة للطبخ ففي طولها اثنا عشر مترا. مقدار أربع وعشرين قالة (٣) غير شيء. وهناك كرات نحاس عظيمة (٤) قطر دائرتها العظمى أزيد من أربعة أذرع ، وآلات أخرى لا يسع بسطها قرطاس ، ولم تبق في قابلية إذ ذاك لا يمكن تتبعه والبحث فيه لسخونة المحل ، حتى أن بعض الخدمة يخدمون عراة عدا (٥) المآزر يأتزرون / ٦٢ / بها. وسئل عن الخدمة القائمين بخدمة هذه المكينة فقيل إنها تمانمائة من الرجال ومائة من الإناث ، والخدمة لا تفتر ولا تعطل أصلا ، وكل واحد يخدم

__________________

(١) في الأصل صغار ـ خطأ ـ.

(٢) في الأصل صمت ـ خطأ ـ.

(٣) ١٢ متر ـ ٢٤ قالة (بحكم أن القالة تساوي ٥١ سنتم).

١٢٠٠ سنتم – ٢٤ * ٥١ سنتم ـ ١٢٢٤ سنتم.

(٤) في الأصل كورات نحاس عظيمات ـ خطأ ـ.

(٥) في الأصل الميازير يقصد ما آزر جمع مئزرة أي الإزار وهو ما ستر الإنسان (منجد اللغة).

١٤٣

ثنتي عشرة ساعة. ويبدل بغيره. وسئل عن إقامة (١) المكينة ما ثمنها ، فقيل النحاس الذي بالطبقة السفلى ثمنه مائة ألف ريال ، فما بالك بما فوقها ، وسمعنا بأن حكيما هناك التزم على نفسه أن يخدم السكر القالب ويوجده في أربع وعشرين ساعة ، وأنه لا يضيف إليه شيئا مما يصفى به الآن ، فقيل له إن القائمين بخدمة المكينة الآن حيث يستوفون مدة كنطردتهم (٢) يكون الكلام في ذلك.

وسمعنا بأن بمرسيليا ثمان مكينات (٣) تخدم السكر مثل هذه. وحين هممنا بالرجوع وجدنا أنفسنا بنا من العرق كمن في بحر غرق. فطلب منا محل نجلس فيه بقصد الاستراحة مما جل بنا من التعب وكثير النصب. فأوتي بنا إلى صالة مستملحة ، وجدنا فيها شوالي ومائدة حلاوي والقهوة / ٦٣ / وبعض تلك الحلاوي معقودة على الثلج ، تناولنا شيئا منها فعن قريب استرحنا مما كنا نجده من العرق والتعب ، ثم خرجنا وركبنا الكدشين ورجعنا إلى محلنا بسلامة وعافية والحمد لله ، وقد قام كبير (٤) مرسيلية بضيافتنا مدة

__________________

(١) انظر شرحها في الملحق رقم : ٤.

(٢) نفس الملحق : ٤.

(٣) منذ ١٨١١ م شجع الإمبراطور الفرنسي المزارعين على تطوير ونشر زراعة الشمندر ، وبالتالي تزايد عدد مصانع إنتاج السكر في حدود سنة ١٨٣٠ م أصبحت لفرنسا ٦٠٠ معمل تصفي ٠٠٠ ، ١٠ طن من السكر ، وقد تضاعف هذا العدد عدة مرات ، وكانت مرسيليا تستأثر بحصة كبيرة بحكم مينائها المتوسطي.

La Bettrave Sucriere, EncycloPedie Agricole Pratique) AGRI ـ NATHAN (, P. 9.

(٤) أخبر حاكم مرسيليا وزارة الداخلية بباريس ، أن السكرتير الأول بالسفارة المغربية سلم لهم ٥٠٠٠ فرنك ليفرقها على مساكين المدينة ، وأنه يستعد لإرسال الخيل القادمة من المغرب بسرعة إلى باريس. مرسيليا في ٦ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

M. A. E. F.) A. D (, CorresPondance Politique, Maroc, Volume 40 , Folio 1731.

١٤٤

الإقامة (١) بها أتم قيام وأحسن غاية الإحسان ، كثر الله ماله وولده ذو أطال عمر مولانا أمير المؤمنين في عافية وسلامة ، وجعله ممن شيد أركان السنة والدين على أساس الحفظ وكمال الرعاية بمنه جل جلاله (٢) وأطال عمره في حياة الدنيا في سلام وعافية.

الخروج إلى باريس

وفي يوم الأربعاء رابع عشر جمادى المذكور (٣). قبل العصر توجهنا لطريق الحديد بقصد الرحيل لقاعدة باريس ، ذات الحسن الفريد ، الجامعة لما تشتهيه النفس في الأرض على وجه ما تحب وتريد ، إذ هي كما قيل جنة الدنيا بلا منازع ، ومأوى الحكماء والعقلاء والنبلاء بلا معارض فإليها تصبو نفوس العشاق ، ويحن لوطنها قلب المشتاق ، وقلت فيها مخاطبا لها ومنبها لمن عنها قد لها :

__________________

(١) أقام السفير المغربي بمرسيليا أربعة أيام تبرع خلالها بمبالغ مالية مهمة كالتالي :

+ لرئيس المركب الحربي المقل للسفارة من طنجة إلى مرسيليا وعلى البحارة بها

 ٥٠٠٠ فرنك

+ ولأصحاب الموسيقى عند النزول بمرسيليا

١٠٠ فرنك

+ ولأصحاب حاكم مرسيليا عند زيارة السفير له

٦٠٠ فرنك

+ لضعفاء مرسيليا.

 ٠٠٠ ، ٥ فرنك

+ وللخدمة بمحل النزول (الفندق)

٠٠٠ ، ١ فرنك

+ وللعسكر الملازم للسفارة بمرسيليا

٥٠٠ فرنك

 

المجموع ـ ١٠٠ ، ١٣ فرنك

إتحاف أعلام الناس ، ابن زيدان ، ٢ : ٢٨٦.

لم يذكر الجعيدي كل هذه التبرعات ، وسيتبع هذه العادة خلال رحلته.

(٢) إستدراك بطرة الصفحة درجته في مكانه بين نجمتين* ...*.

(٣) ٧ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

١٤٥

أباريس إن كانت على الأرض جنة

فأنت هي المأوى على رغم حاسد

فما تشتهيه النفس من كل رائق

كثير بها لكنه غير خالد

بعض أوصاف الطريق بينهما (١)

/ ٦٤ / فوصلنا إلى سكة تلك الطريق ، مع أحفل مرافق وأجل رفيق ، فجلسنا هنيئة بمقعد المكلف بالبابور ذي السعي المبرور ، والفضل المأثور ، وأظهر من المحبة والفرح ما انبسط به الصدر وانشرح ، ثم نودي للركوب ، وهيأ عربية (٢) أنيقة أجمل مركوب ، فصعدناها بعضنا بأقصاها وآخرون (٣) بأدناها ، ووجدنا بها سباطين مرتفعين وشيليتين كبيرتين وبها سراجم زاج بستور زرق ، ترسل عليها حين الاحتياج ، فجلس

__________________

(١) قبل أن يغادر السفير الزبيدي مرسيليا كتب إلى الحاجب السلطاني موسى بن أحمد يشرح ما قوبل به في هذا الثغر (لم يعثر عليها) فأجابه بما لفظه بعد الحمدلة والصلاة : «.. خديم سيدنا ... الحاج محمد الزبيدي أمنك الله ... وبعده ، فقد وصلنا كتابك وعلمنا وصولك لمرسيلية وما قوبلت به من الترحيب ... حسبما شرحت ، وأنك بصدد التوجه لباريس وطالعنا سيدنا أعزه الله مسطورك وصار على بال من جميع ما قررته ... ولا تغيب عنا خبرا بكل ما تجدد لديك ومهما انتقلت من محل إلى محل آخر ، فأخبرنا بذلك ولا بد ... والكتاب الشريف الذي تتوجه به لسلطانه النجليز ها هو يصلك على يد نائب سيدنا محمد بركاش وكذلك كتاب الطليان وعلى المحبة والسلام ٢٧ جمادى الأولى عام ١٢٩٣ ه‍».

إتحاف أعلام الناس ، ابن زيدان ، ٢ : ٢٨١.

لم يذكر الجعيدي في رحلته موضوع المراسلات التي كانت قائمة بين الزبيدي من جهة والحاجب السلطاني من جهة أخرى.

(٢) يقصد العربة.

(٣) في الأصل آخرين ـ خطأ ـ.

١٤٦

كل منا في محل يناسب مرتبته ، ويلائم مقداره ومنزلته. ثم أخذ البابور في السير بلا مشقة ولا ضير ، قاصدا سمته ، ما ماد ، ولا مال ، ونحن بين جنتين عن يمين وشمال ، والأنهار جارية ، وأشجار البساتين متقاربة لا متجافية ، والأنهار قارة تسير بمسيرنا ، وتارة تعارضنا فنشقها على قناطير بطريقنا وتارة تلقانا الجبال الشاهقة ، فترى الطريق تشقها كأنها دكتها صاعقة. وكم في الطريق من المدن والمداشر. / فيها فابريكات الصنائع ، وعجائب المفاخر ، وامتدت السكة على هذا المنهاج الذي فيه غاية السرور والابتهاج من البداية إلى النهاية ، بما فيه من المصالح فوق الكفاية ، إذ ليس ترى بعد الجبال اليسيرة والقرى ، إلا جنات تجري خلالها الأنهار ، أو مزارع وصفوف البلنز من الأشجار ، عن اليمين واليسار ، تروق المبصرين ، وتسر الناظرين ، هذه بعض أوصاف (١) هذه الطريق على سبيل الاختصار ، وليس ذلك مني محضر اختصار ، لأننا أدركنا الليل ، وجر علينا من النوم كجر السيل ، فحصل لي من الملل وموحيات الكسل ما هو مغروز في طباعي ، ولا قدرة به لساعدي وباعي ، وكأن الشأن في مسيرنا ودأبا في طريقنا كلما وصل البابور إلى مدينة ، يفق يسيرا لقانون مشهور، فيوتي لنا بما هناك من الأطعمة والأشربة ، مستلذة غير مطربة ، فنتناول منها شيئا يسيرا ، ومنا من يتزود منها قدرا كثيرا، فكانت النعم تصحبنا في السفر كما كنا نجدها في الحضر(٢).

__________________

(١) وقد وصف هذه الطريق الفقيه محمد الصفار التطواني في رحلته السفارية «رحلة إلى باريس ١٨٤٥ ـ ١٨٤٦ م» صحبة السفير أشعاش إلى فرنسا سنة ١٨٤٥ م ، مخطوط خ. م. رقم ١١٣ بالرباط.

«... وقد رأينا في طرقنا هذه ... إنهم جادون في عمارة الأرض بالبناء والغرس وغيره ، لا يسلكون في ذلك طريق التساهل ، ولا يصحبهم فيه تغافل ولا تكاسل ، فلا ترى عندهم شيئا من الأرض ضائعا أصلا ، ولا ترى عندهم خرابا ولا أرضا مواتا ، حتى إن الأرض التي ترابها رديء ، ينقلون لها التراب الجيد من أرض أخرى ، ويعطون لكل نوع من الأرض ما يستحقه ...». رحلة الصفار ، درستها وحققتها سوزان ميلار جامعة هرفارد ، وعرب الدراسة خالد بن الصغير ، سنة ١٩٩٥ م ، منشورات كلية الآداب بالرباط ، رقم٢.

(٢) بياض صفحتين كاملتين / ٦٦ / و/ ٧٦ /. المخطوط.

١٤٧

/ ٦٨ / فليس من سمع كمن رأى ، فهي غرة العاجلة بلا نكير ، وبهذا نبأتك ولكن لست بخبير ، فإن كنت من الأعيان ، فانهض إليها فليس الخبر كالعيان ، وإن كنت من العاجزين فاقنع بما أتيتك وكن من الشاكرين. وقد سبق أننا ركبنا في تلك الأكداش ، وكان ذلك على يد المخزن ، فصرنا فيها في طريق على سمت واحد خمسا وثلاثين دقيقة مجانية (١).

وصف الدار المعينة للنزول

فوصلنا إلى الدار التي عينت لنزولنا وهي دار عظيمة أعظم بكثير من دار مرسيلية ، إذ طولها مائتان وخمس وعشرون خطوة ، وعرضها مائة وخمسة وسبعون ، وقد اختلفت أوضاع طبقاتها الخمس بحسب المقاصد ، ولم أجد سبيلا لحصر شكلها وضبطه ، إذ فيها سبعمائة صالة كما قيل ، وطرق الطبقات متشابهة ، وأشكال الأبواب متماثلة ، حتى إني ذهبت مع الأمين ذات يوم للصالة التي بها أصحابنا لتفقد حال أحدهم كان شاكيا ، فوجدنا أحدهم من خدامهم في الطريق التي بها صالتهم متحيرا ، يريد من يرشده إليها بعد ما كان خرج منها قريبا لوطر. وله هناك نحو ثلاثة أيام ، والعذر له ، لأنه / ٦٩ / لا يعرف الحساب ليهتدي بها إلى رقم محلهم. ونحن نزلنا في الطبقة الثانية في صالات متعددة ، وهي أفضل بكثير من صالات أو طيل مرسيلية ، إذ الموائد التي توضع عليها الأطعمة والأشربة مساحة سطحها مورق بالتذهيب مع الألوان ، وأرجلها مرصعة بالصفر المورق ، وكم فيها من ماريو على هذه الصفات ، ومرآتها أكبر كثيرا من تلك المرآت ، وبشواليها تذهيب وصدف ، وفيها أواني عمل التينة ، يجعل لها مقعد متصل بها تقف عليه من الصفر وبحرفها من الأعلى كذلك ، وغير ذلك من الأثاث والتحف والثريات مما يطول وصفه.

__________________

(١) انظر الملحق رقم : ٤.

١٤٨

الحمّامات

ووجدنا في الطبقة الثالثة حمامات متعددة في محل واحد ، منها ما فيه الماء البارد فقط ومنها ما فيه البارد والحار ، لكل واحد مجاري تخصه ، فأما الذي فيه البارد فقط ففيه صهريج صغير ، في طوله نحو ثلاثة أذرع ، وعرضه نحو ذراع ونصف وبسقف هذا الصهريج جعبة نازلة منه مسامتة لوسطه بحيث تكون فوق رأس الواقف فيه / ٧٠ / في وسطه ، وبرأس هذه الجعبة آنية على هيئة المكب الصغير ، وهي من بعض المعادن ، أضيقها متصل بالجعبة وأعرضها نازل إلى ناحية الصهريج. فإذا أخذت قنبة هناك بيدك وجذبتها إلى أسفل ينزل الماء في تلك الآنية فتلقاه ورقة ملصقة بمحيط الآنية ، وبها ثقب صغيرة ، فترى الماء ينزل منها كالمطر الغزير ، يقال إن ذلك يستعملونه لبعض المرضى ، والماء الذي ينزل في الصهريج ينصرف منه في مصرف الآخر ، وفي هذا المحل أيضا بويت صغير مستدير الشكل كهيئة البرميل الكبير ، أطول من قامة الإنسان بيسير ، وبداخله دوائر مجعوبة متصاعدة بعضها فوق بعض جلها ثقب ، فإذا جذب أيضا القنبة التي هناك ترى الماء يخرج من الثقب كلها ، كل جهة ترمي الماء إلى الجهة المقابلة لها ، وذلك من الأدوية عندهم كما قيل. وأما الذي فيه الماء الحار ففيه صهريج كالذي وصفته ، وفي أعلاه بزبوزان يجري لأحدهما الماء الحار وللآخر البارد فيوخذ منهما القدر المحتاج. / ٧١ / وهناك زيوف بيضاء وملابس كذلك إذا أحب الإنسان أن يلبسها أولا بعد الفراغ من الغسل فله ذلك بحيث ينزعها عند الخروج. فدع عنك الطمع ، وكن عاقلا وارفع همتك ، ولا تكن غافلا وخذ بحذرك ليلا يزدرى بقدرك ، وبهذا المحل حمامات عديدة كما سبق ، والسر فيه أنهم جعلوا لها في بيت واحد طنجيرا عظيما يجري منه الماء الحار إلى المواضع التي يحتاج إليه فيها. وفي هذه الحمامات سراجم كبيرة من زاج به طلاء ، بحيث يدخل الضوء مع وجوده إلى الحمام ويبقى الرجل به مستورا لا يرى ولا يرى ، وفي كل طبقة بيوت الخلاء ، كبيوت الخلاء التي بمرسيلية ، لكن بقربه متصلا به بيت آخر ، مستقل فيه الماء في بزبوز يوخذ منه القدر المحتاج. وكنا في مرسيلية في غاية الضيق من فقد الماء على هذه الحالة ، ووجدنا بقرب صالتنا قنوطا طويلا عريضا

١٤٩

مقبيا قريبا من قنوط مرسى العدوتين ، له أبواب عديدة ، ومرآة طويلة وسقفه مزخرف بالتمويه. بتوريق أنيق. ٧٢/ وحين وصلت في الكتابة إلى هذا المحل ، وذلك في الساعة السادسة من بكرة يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى المذكور (١) ، دخلت إلى هذا القنوط ، لكونه كان فارغا ليس فيه أحد إلا رجلان يكنسانه.

أوصاف هذه الصالات

فأخذت قلما من مكاتبهم الموضوعة هناك ، وقيدت بطرة الورقة (٢) يمنته بعض صفاته. أما طوله فخمس وخمسون خطوة متوسطة. وعرضه ثنتا عشرة خطوة ، وامتد مع طوله تربيعات سبع كأنها أبواب طول التربيعة إلى ناحية القبوة نحو سبعة أذرع ، وامتدادها أعني عرضها نحو خمسة أذرع ، وهذه التربيعة عمرت بورقات ثمان من زاج ، منها أربع كبيرة طولها نحو أربعة أذرع ونصف ، والعرض نحو ذراع ، والأربع الأخرى فوقها ، طولها نحو ذراع ونصف والعرض واحد. وفي الورقات المذكورة فتقيات

__________________

(١) بعد ما وصف Baignoire تكلم عن المراحيض التي تتوفر على محل الاستنجاءLavabo. ١٧ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٢) ما قيده الجعيدي بطرة الورقة ، ويقصد بذلك شكل مطعم الفندق.

شيليات (كراسي)

١٠٠

موائد صغار

٤ وكبيرة ١

ثريات

 ٣

أبواب

 ٧ ومقابلتها ٧ طول التربيعات ٧ أذرع وعرضها ٥ أذرع

طولها

 ٥٥ خطوة

وعرضه

 ١٢ خطوة

ورقات الزاج

 ٨ ـ ٤ منها طولها ٥ ، ٤ أذرع وعرضها ١ ذراع.

 

٤ الباقية طولها ٥ ، ١ ذراع وعرضها ١.

انظر صورة أعضاء السفارة المغربية يتناولون طعام الغذاء بملحق الصور صفحة ٣.

١٥٠

عود المموه ، وفي كل باب نصف دائرة سطحها زاج ممسوك بالفتقيات كما ذكر ، وهذه التربيعات السبع التي كأنها أبواب تقابلها مثلها في الجهة الأخرى ، والغاربان / فيهما الزاج كما ذكر ، وبسقفه ثريات ثلاث. بالغاربين (١) مجانتان كبيرتان ، وفيه مائة شليه محيطه به مبطنة بالموبر الأحمر الرفيع منها نحو ثلاثين شلية كبيرة والباقي دونها ، وبوسطه مائدة كبيرة ممتدة مغطاة بالموبر محيط به ترييش حرير كبير من لونه ، وأربع موائد أصغر منها بالموبر أيضا ، كل اثنتين في طرف ، وبأرضه زربية على قدر طوله وعرضه ، وهو معد عندهم للأكل يأتي إليه التجار النازلون في صالات هذه الدار ، في وقت الفطور والغذاء. وفي الليل يكون معمورا ولا تسمع فيه كلاما ولا عتابا ولا ملاما ، وإنما ترى كل واحد جالسا على شليته يشرب الدخان وهو مشغول بكزيطته (٢). فما أعظم تولعهم بهذه الكزيطات! ولعلها عندهم من المفرحات المنشطات ، وإن كانت هذه من ذلك القبيل ، فصن نفسك عنها يا نبيل.

صائر هذه الدار وتحفها

وسئل عن قدر صائر هذه الدار التي بنيت به ، فقيل قدره ثمانية عشر مليونا من الإفرنك ، وفيها مليونان منه من التحف والأواني ، وتكرى بخمسة / عشر ألف

__________________

(١) مفردها الغارب وهو أعلى كل شيء ، جمعها غوراب (المنجد).

(٢) جمع كزيطةLa Gazetta أي الصحيفة أو الجريدة في العامية المغربية القديمة ، يقال أن بعض فقهاء المغرب الجامدين ألف في بداية القرن الرابع عشر الهجري ، كتابا سماه «الضرب بالزراويط على رأس من يقرأ الكوازيط». الأعلام ، ٣ : ١٨٣. غير أننا نجد في رحلة الصفار ما يوضح لنا وعي المغاربة بأهمية الصحيفة ، فبعد زيارته لدار إحدى الصحف الكبرى سجل لنا كيفية تكوينها وجمع أخبارها وطبعها وتوزيعها وطريقة الاشتراك فيها ، وموضوعات أبحاثها وفوائدها وعلاقاتها بالحكومة والشعب ، خاصة وأنها ظهرت بالشرق العربي منذ وقت مبكر. رحلة الصفار حققتها وترجمتها الباحثة الأمريكية Miller Susan Gilson جامعة كاليفورنيا سنة ١٩٩٢ م تحت عنوان «صدفة اللقا مع الجديد».

١٥١

ريال في كل شهر.

بعض أوصاف باريس

وأما طرقها فهي أعرض بكثير من طرق مرسيلية ، والأشجار ممتدة معها من الجهتين ، والفنارات بينها مرفوعة على أعمدة من النحاس المخروط المورق. من أسفله عريض ، ثم يتناقص تدريجيا إلى أعلاه. وكنت أتعجب من استقامة تلك الأشجار بحيث لا ترى في أصولها شيئا من الاعوجاج ، حتى وقفت على العلة في ذلك في الأشجار الصغيرة ، وذلك أنهم يتخذون خشبة طويلة مستقيمة ولعلها تغرس في آن واحد حين غرس الشجرة ويربطونه معها ، ويجعلون حائلا رطبا بما يلي الشجرة ، وبأصولها دوائر حديد يوصل بعضها ببعض بقضبان منه ، ويبقى تحتها فضاء بينها وبين أصل الشجرة ، وانظر ما السر في ذلك ، وفي بعض الطرق أماكن في غاية التوسعة ، مغروسة كلها بالأشجار ، محدقة بألوان النوار ، وبين الأشجار شيليات ، فبعض هذه المواضع يتخذ للقهوة ، ويوجد مثله يتخذ أسواقا للخضر والنوار وغيرهما ، وتلقى في بعض الطرق خصات / لعلها من رخام أسود على كيفية عجيبة ، وذلك أن أصل الخصة يحيط به صور آدميين سود ، بين أرجلهم صورة حوت ، ينبع الماء من فيه ، يرمى أمامه ، وفوق هذه الصور بنحو ثلاثة أذرع بحسب ما يرى الرائي من بعد خصة مستديرة ، وفي وسطها بناء مرتفع على هيئة المظل ، ينبع الماء من رأسه ، وينزل في تلك الخصة. وأمام تلك الصور السفلية صور آدميين دائرين بتلك الصور ، بينهم بعد أمامهم وهم ماسكون شيئا بأيديهم قد ضموه إلى صدورهم ، والماء يخرج منه مرتفعا يرمى وراءهم إلى تلك الخصة التي فوقها المظل. ثم صهريج كبير مستدير محيط بالجميع ، وتتبع وصف ذلك كله يطول.

وفي اليوم الذي دخلنا فيه لباريس وهو يوم الخميس منتصف جمادى الأولى المذكور (١) بعدما نزلنا بتلك الديار ، قدم رجل من كبراء الدولة وهو قائد المشور عندهم

__________________

(١) يقصد الحدائق العمومية ومن أشهرها بباريس لوكسمبورغ. ٨ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

١٥٢

إلى الباشدور صاحب السر المذكور ، وأخبره أن كبير دولتهم / ٧٦ / أرسله إليه يحمد الله تعالى لسلامته وعافيته ، وأنه يقول له : مرحبا بكم وبقدومكم ، وقد حصل له فرح وسرور بورودكم ، فأجابه بما يقتضيه المقام من حسن الخطاب ولين الكلام ثم أخبره أن كبير (١) الدولة يأذن له في الطلوع إلى دار المخزن عندهم في مساء غد ، يعني يوم الجعة (٢) ، فأخبره أن الخيل لا زالت بمرسيلية ، تأخرت هناك بإذن الطبيب بقصد الاستراحة ، وكيف تتأتى الملاقاة بذلك. فقال إن كبير الدولة يعلم بذلك ، ومقصوده بهذا الطلوع الاهتمام بكم ، ومزيد الاعتناء بجانبكم ، وحين ترد الخيل تطلعون بها مع الهدية ثانيا ، فوعده بالطلوع.

الخروج لملاقات عظيم دولتهم

وفي الساعة الرابعة من مساء يوم الجمعة المذكور ، وجه كبير الدولة كدشه الذي يركب فيه لصاحب السر المذكور ، وكدشين آخرين بقصد الطلوع والملاقاة معه ومع بعض خواص عسكره ، فتأنينا حتى دخل وقت صلاة العصر وصلينا ، ثم خرجنا

__________________

(١) رئيس الجمهورية الفرنسية ماك ماهون ـ,MAHON MAC Patrice Maurice  Edine من عائلة إرلندية الأصل ، استقال خلال ثورة يوليوز ١٨٣٠ م ، وحصل على عصا الماريشالية في واقعة ماجنتا (Mageanta ١٨٥٩ م الحملة الإيطالية). ثم عين عاملا على الجزائر من سنة ١٩٦٤ إلى ١٨٧٠ م ، أسر خلال مشاركته في الحرب الفرنسية الألمانية (٧٠ ـ ١٨٧١ م). وبعد فشل محاولة إعادة الملكية تمكن ماك ماهون سنة ١٨٧٣ م من رئاسة الجمهورية لمدة سبع سنوات بمساعدة الإئتلاف الملكي داخل الجمعية الوطنية ، فاختار أغلبية وزراءه من صفوف الملكيين ، وبعد أن أسفرت انتاخابات سنة ١٨٧٦ م على فوز الجمهوريين ، عمد ماك ماهون إلى حل البرلمان ، إلا أن انتخابات أكتوبر ١٨٧٧ م أعطت من جديد الأغلبية للجمهوريين ، وبذلك لم يبق للرئيس إلا أن يستسلم ويستقيل قبل نهاية يناير ١٨٧٩ م.

Dicitionnaire d\'histoire Universelle, Bordas, P. 5311.

(٢)

Michel Mourre ,V ,1 ,Jean Pierre Delarge  8 يونيو سنة 1876م

١٥٣

فركب صاحب السر كدشه الخاص ، ومعه ترجمان الدولة وقائد المشور ، وركب / ٧٧ / الأمين وكاتبه في كدش آخر ، والمخازنية الخمسة في كديشين بعد ، وذلك بعدما لبسنا الكساوي التي أنعم بها مولانا علينا أنعم الله عليه بخر الدارين ، وتقبل عمله وبلغه قصده وأمله ، وهي لكل واحد قفطان عجمي ، وسروال وسلهام سكري من ملف البحر الكبير ، وفرجية وقميص بالحرير وقلنسوة ، وشقة حياتي ، وحايك فاسي رفيع. وللمخازنية مضمات جلد بالحرير ، ثم سرنا وصاحب السر أمامنا ، ونحن بعده إلى أن وصلنا لدار المخزن ، فدخلنا إلى المشور فوجدنا صفين من العسكر محيطين بجدرانه ، مع كل واحد آلة حربه ، فزدنا إلى القبة التي فيها كبير الدولة فارتقينا إليها في درج بين صفين من العسكر يمينا ويسارا ، لم أتحقق بوصف كساويهم لعدم الإلتفات إليهم إذ ذاك ، فدخل صاحب السر أولا وتبعه كاتبه وكان بيده الكتاب الشريف في غشائه من موبر مرقوم بالصقلي الذي صاحبه معه صاحب السر المذكور لكبير الدولة ، والأمين قريب منا والمخازنية / ٧٨ / الخمسة وراءنا ، فوجدنا كبير الدولة واقفا في وسط القبة ووزراؤه واقفون خلفه ، ورؤوسهم مكشوفة على عادة أدبهم. ونحن دخلنا على زينا وأجنحة سلاهمنا مرسلة. ثم إن صاحب السر كان أراد أن يتكلم دون ورقة بيده ، فكن طلب منه ترجمان الدولة قبل أن يكتبه في ورقة ويأخذ منه نسخة يعربها (١) ، وعند الملاقاة يقرأ تلك الورقة على كبير الدولة ، فيجيبه في ورقة يقرأها كذلك ، فقرأ تلك الورقة (٢) جهرا كبير الدولة ، فلما وصل إلى الكلام على

__________________

(١) يقصد ترجمتها إلى اللغة الفرنسية.

(٢) «... نعلمك أنه أيده الله مسرور بهذه المحبة الجديدة ... ويراعى حق الجوار ونجازيكم على لسانه ... بتوجيه سفيركم المسيو «طيسو» لتهنئته بالجلوس على سرير ملك أسلافه ... ونرجو أن نرجع من حضرتكم بما يزيد هاتين الدولتين رسوخا ... ونؤمل أن يوصي من يعينه للمفاوضة معنا في الأمور ... ويسهل طريق البلوغ إلى رفع الضرر الحاصل فيها ...». النص الكامل لخطبة الزبيدي. ابن زيدان ، إتحاف ، ٢ : ٢٨٢ ، ٢٨٣.

١٥٤

ذلك الكتاب الشريف (١) ، إلتفت إلى صاحب السر المذكور ، فناولته له باصطلاح ما تقدم ، فأخذه من يدي وناوله لكبير الدولة فأظهر به فرحا وتعظيما وناوله لوزير الأمور البرانية (٢) كان متأخرا عنه عن يمينه ، وعند تمام قراءة تلك الورقة عربها الترجمان لكبير الدولة ، بل قرأها ، وكانت عنده معربة. ثم أخرج كبير الدولة ورقة وقرأها (٣) كالسر بأدب وانخفاض رأس ، وضمنه ما تقدم / ٧٩ / من الترحيب والفرح والسرور. ثم خرجنا ووصف تلك القبة لم أحط به لعدم الالتفات لذلك. وإذا كانت الأماكن العامة على الصفة السابقة ، فكيف بقبة الأمير. فخرجنا ، فأخذ أصحاب الموسيقى في عملهم ثانيا حتى خرجنا من المشور ، ورجعنا إلى الدار.

وبنفس وصولنا إليها رجع قائد المشور ، وأخبرنا أن وزير الأمور البرانية يطلب منا الطلوع إلى داره في تلك الساعة ، فرجعنا ثانيا ، ودخلنا إلى القبة الثالثة ، فوجدناه واقفا فيها ومعه رجل آخر كاشفين رأسيهما وجرى بينهما كلام (٤) ببعض ما تقدم

__________________

(١) انظر نص هذه الرسالة السلطانية المؤرخة عام ١٢٩٢ ه‍ بالإتحاف ، ومما جاء فيها : «... فالمحقق عندنا أن تقابلوه ومن معه بما عودتهم المرة بعد المرة ... وتصدقوه فيما يذكره لكم من المصالح التي تعود بالخير على الإيالتين ... وتنظروا فيها بعين الإنصاف ... حتى يرجع مقضي الأوطار ...».

(٢) الدور ديكاز Decazes - Elie Charles Louis ولد بباريس (١٨١٩ ـ ١٨٨٦ م) شغل منصب وزارة الخارجية الفرنسية ما بين (١٨٧٣ و١٨٧٧ م) ، BordasUniverselle d\'histoire Dictionnaire.

(٣) ومما جاء في جواب ماك ماهون «.. فالمرجو من سعادة السفير أن يعتبر اقتبال بلدنا وفرحها به دليلا مبينا لمحبتنا في الحضرة الشريفة ... وتجعلونه أقوى دليل لتسهيل ماموريتكم بما يعود بالمنفعة على الدولتين ...». (المرجع السابق).

(٤) قدم الزبيدي خلال لقائه الأول مع وزير خارجية فرنسا يوم الجمعة ٨ يونيو سنة ١٨٧٦ م ، ما تراه الدولة المغربية من حلول مناسبة للحد من تفاحش مشكلة الحماية القنصلية ـ نسبيا ـ المطلب الأول : محفظة سفارة الزبيدي (الوثائق الملكية ، عدد ٥ : ٦٢٨).

١ ـ قصر الحماية على المستخدمين مع القناصل ، وعلى السماسرة الذين يعملون مع التجار الأجانب ، على أن لا يتجاوز عدد المحميين منهم سمسارين لكل دار تجارية كبيرة.

٢ ـ قصر الحماية التي يمنحها القناصل على سكان الموانئ وحدهم دون أن تمد إلى سكان المدن الداخلية.

١٥٥

عند كبير الدولة ، وناولنا القهوة بتلك القبة ، ثم خرجنا من عنده فتبعه صاحب السر إلى باب القبو الأولى وأعلمه أنه يأتي إليه غدا. يعني يوم السبت (١) السابع عشر منه ، لكن لم يعين وقت المجيء. ثم عرض لهم مجلس في ذلك اليوم ، وتعذر عليه القدوم ، فوجه رجلا معتذرا عنه بسبب عدم مجيئه ، وأخبر أنه سيأتي في الساعة الأولى من يوم الأحد / الثامن عشر منه (٢). فقدم في تلك الساعة وجرى بينهما كلام بمضمن ما تقدم (٣) ، وأخبره أن كبير الدولة أمر بإنشاء فرجة مسابقة الخيل عندهم ، وذلك لأجل فرحه بقدومنا. وأن نطلع بقصد الفرجة فيها في تلك الساعة لمحلها.

فرجة المسابقة

فركبنا في الأكداش ، وصرنا إلى محل بطرف البلد متسع غاية. وإذا به خلق كثير

__________________

٣ ـ إلغاء صكوك الحماية التي منحها القناصل لبعض سكان الأرياف ، بحيث لا يجوز منح الحماية لمن يسكن في البادية.

كما سيأتي ملخصا في رسالة الزبيدي إلى الوزيرDecazes بتاريخ ٢٣ يونيو سنة ١٨٧٦ م أثناء استعداد السفارة لمغادرة باريس في اتخاه ابروكسيل.

المطلب الثاني : عرض فيه قضية الشرفاء العلويين ـ أولاد السلطان عبد الملك ابن إسماعيل المستقرين بقرية تيوت المغربية ، كان الاحتلال الفرنسي قد ألحقها بالجزائر بعد معركة إيسلي سنة ١٨٤٤ م.

(١) ١٠ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٢) ١١ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٣) خلال اللقاء الثاني أبدى الوزير دي كازي استعداد حكومته لإجابة المغرب إلى بعض مطالبه ، كما رفض الاستجابة لمطالب أخرى ، كعدم منح الحماية لسكان الأرياف ، رغم أن اتفاقية ابن ادريس ـ بيكلار تنص عليه ، فكتب السفير الزبيدي إلى بركاش يخبره بما جرى بينهما من حديث (هذه الرسالة مفقودة) لكن يوجد جوابه عنها ، وهو يتضمن خلاصة ما ورد فيها حسب الطرق المتبعة في مراسلات ذلك العهد. انظر نص هذا الكتاب إتحاف ، م. س ، ج ٢.

١٥٦

وجم غفير ، كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع. فدخلنا إلى محل خاص لا يدخله إلا المأذونون لدخوله من أهل القرب والاختصاص (١). وفيه قبب مبنية مرتفعة. فطلعنا إلى إحدى القبب ، فوجدنا فيها بعض الناس من خواص الدولة ، وإذا بكبير الدولة معهم. فحين رأى الباشدور صاحب السر المذكور ، قام إليه ، ونزع ما كان على رأسه بشماله ، وصافحه باليمين ومرحب وما قصر في البشاشة والتعظيم ، ثم زاد معه إلى دربوز مشرف على تلك الخلائق ، ورجع إلينا حيث رآنا بقينا واقفين لم نتبعهما إلى المحل الذي زادا إليه ، وتكلم معنا / ٨١ / فقال لنا ترجمان كان هناك / : يقول لكم إن شئتم فادخلوا معه إلى ذلك المحل الذي دخل إليه الباشدور ، وإن شئتم فاصعدوا إلى القبة الفوقية ، فصعدنا إليها أدبا مع الباشدور ، لأن ذلك المحل كان معه فيه كبير الدولة وزوجته وبعض خواص الدولة ، وحين ارتقينا إلى الأعلى أشرفنا على جميع تلك الخلائق ، وهم على فرقتين ، فرقة في الجهة التي فيها قبة كبير الدولة ولا يدخلها إلا من يعطي قدرا موظفا للمخزن ، وهم نحو النصف من تلك الخلائق ، وامتدوا يمينا ويسارا ، والفرقة الأخرى في الجهة المقابلة لهم ، وهم لا وظيف عليهم ، وبين الفرقتين فضاء متسع ممتد بامتداد الفرقتين (٢). فيه تتسابق الخيل ، والعرف عندهم في هذه المسابقة أنه يخرج عدة من الفرسان ، ويشرعون في العدو في آن واحد حتى يصلوا علامة قبالة القبة التي كان فيها كبير الدولة ، ثم يستمرون على عدوهم وجريهم إلى منتهى الفرقة التي عن يمينهم فيرجعون ويلوون عن اليمين ، ويستمرون

__________________

(١) ابتداء من سنة ١٨١٤ م انتشرت مسابقات الفروسية بمجموع القارة الأوربية ، وكانت أنجلترا سباقة في هذا الميدان. وقد نظم نابليون الأول منذ سنة ١٨٠٧ م أولى مسابقات الخيول بفرنسا ، فأصبحت تقاليد هذا اللعب مع مرور الوقت تدخل المجتمع الفرنسي وتتطور تدريجيا بدعم من الدولة.

Grand Larousse EncycloPedique, L. Larousse, Tome 2, P.853.

(٢) حلبةChantilly لسباق الخيل افتتحت لأول مرة في ماي ١٨٣٤ م بحضور أزيد من ٠٠٠ ، ٣٠ متفرج. وأصبحت أهم حلبة بباريس ، تمتد على مدار بيضوي الشكل طوله ٣٢٠٠ متر. (نفس المرجع).

١٥٧

كذلك وهم يدورون / ٨٢ / بتلك الفرقة إلى أن يرجعوا (١) إلى المحل الذي كان منه ابتداء مسابقتهم ، ويستمرون كذلك حتى يصلوا إلى قبالة تلك العلامة ، قبالة كبير الدولة المذكورة. فمن سبق ووصل إليها أولا يقبض ستة آلاف ريال من المخزن ، ولعلها من الوظيف الذي يوخذ من الفرقة التي فيها قبة كبير الدولة. وقد وقعت المسابقة عندهم في ذلك اليوم بمحضرنا ثلاث مرات ، فحين كان يعزم أحد المتسابقين إلى تلك العلامة ، يسمع ضجيج عظيم من الفرقتين كأنهم يمدحون السابق ويسخرون ممن تأخر. وقد قيل إن مقدار ما قطعته الفرسان في جريها في المرة الثالثة هو واحد وعشرون مائة متر (٢). وكنت إذ ذاك أحاول ضبط ذلك القدر ، فرصدتهم حين الابتداء في المسابقة في المرة الثانية إلى أن وصلوا إلى العلامة ، فكان ما بين صدورهم عنها ورجوعهم إليها مقدار عشر دقائق. وذلك في المرة / ٨٣ / الثانية التي قيل فيها إنهم قطعوا في مسابقتهم اثنتين وثلاثين مائة متر. فانظر في ذلك لأنك إذا قسمت هذا العدد على ستمائة التي هي مقدار أجزاء العشر دقائق مدة مسابقتهم في هذه المرة الثانية ، كان مقدار ما ينوب الجزء الواحد من أجزاء الدقيقة الواحدة المجزءة إلى ستين جزءا هو خمسة مياتير وثلث ، وهي مقدار أحد عشر ذراعا عندنا تقريبا.

__________________

(١) في الأصل يرجعون ـ خطأ ـ.

(٢) في الهامش طرة من إنشاء نجله عبد القادر بن إدريس الجعيدي (١٨٨٠ ـ ١٨٥٨ م) حسب سجلات الحالة المدنية بسلا ، والذي حاول إصلاح ما ذكره والده من أن الخيل تقطع في الساعة الواحدة ـ ٣٣. ١٦ ميل. فسجل ما يلي :

والله أعلم. وكتبه نجله عبد القادر لطف ومتع برضاه آمين.

١٥٨

فتكون تلك الخيل قطعت في العشر دقائق على هذا ستة آلاف ذراع وستمائة ذراع ، هي مقدار ثلاثة أميال وثلث ميل تقريبا ، فعلى هذا تقطع الخيل في جريها في الساعة الواحدة بذلك الاعتبار ستة عشر ميلا وثلث ميل أيضا (١). فإذا جعلت تلك المياتير محيط دائرة كان تكسيرها مياتير ثمانمائة ألف ميتر ، وأربعة عشر ألف متر ، وتسعون مترا وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءا من المتر الواحد (٢) هكذا ٨١٤٠٩٠ م / ٨٤ / قطرها ألف متر وثمانية عشر مترا وزيادة ، وذلك قريب من ميل واحد ، والمحل الذي كانت فيه المسابقة كان بمرأى منا وأرضه مبسوطة ، وبينه وبين منتهى البصر بعد كثير ، لهذا استبعدت ما ذكر من عدد المياتير ٣٢٠٠ التي قيل إن الخيل قطعتها في المرة الثالثة. وعند انفصال هذه الفرجة ونزولنا من تلك القبة وجدنا كبير الدولة في سقف القبة الوسطى ، فتكلم مع الأمين المشار إليه كلاما عربه مترجمه بقوله : إن كبير الدولة عزم أن يجعل لكم عزومة ، يعني ضيافة ويحبكم أن تطلعوا لداره يوم الأربعاء (٣) قليلا. فقال له حبا وكرامة. ثم رجعنا إلى محلنا في الأكداش.

فابريكة أواني المعدن

في يوم الإثنين التاسع عشر (٤) منه ، ركبنا في أكداش المخزن أيضا في المساء حتى وصلنا إلى دار فابريكة صنع الأواني والأثاث المعدنية ، فوجدنا فيها خلقا كثيرا

__________________

(١) يقصد جائزةDiane التي تجري في مسافة ٢١٠٠ متر. وجائزةJockey ـ Club مسافتها ٢٤٠٠ متر المشهورتين. (EncycloP) G.Dictionnaire Larousse .

(٢) إذا راجعنا حساب مساحة هذه الدائرة (١٤ ، ٣ ـ) القطر ـ المحيط مقسوم على ١٤ ، ٣ ـ ١٠١٩ م. وعند الجعيدي القطر ـ ١٠١٨ م مساحة الدائرة ـ (الشعاع) ٢* ١٤ ، ٣ ـ ٦ ، ١١٢. ٨١٥ أكبر بقليل من المساحة التي ذكرها الجعيدي ـ ٠٩٠ ، ٨١٤ م. لاختلاف في تقدير نسبة

(٣) ١٤ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٤) ١٢ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

١٥٩

وأواني وأثاثا مختلفة الأشكال ، لا تكاد تحى ، / ٨٥ / فرأينا الأواني المستديرة كالصينيات وغيرها تدور في المخرطة ، وكذلك صينيات أتاي على شكل البيضة كذلك تدور في المخرطة ، غير أنها ليست مقبوضة في ناعورة المخرطة من الوسط ، بل من الطرف. وحين الخرط تراها ترتفع وتنزل فتخرج الدوائر التي بها على شكل البيضة موازية لها ، من غير انحراف ولا تفاوت ، مع أن شكل البيضة يحتاج في رسمه إلى عمل هندسي صعب المباشرة ، كما في الشكل العاشر من المقالة الثالثة من كتاب أوقليدس (١). وهذا من العجب والأمر المستغرب. وهذه الأواني أصلها نحاس أحمر كما شاهدنا. وكلها لها قوالب عديدة ، منها ما فيه نقش ، ومنها ما ليس فيه نقش. وعند فرغها تدفع لمن يمسحها ويصقلها ، ومن الأواني ما يكون مركبا من أجزاء ، كبعض براريد المعدن وغيرها. بعد فرغها ثم تضم أجزاؤها / ٨٦ / بعضها إلى بعض ، وتشد بالسلك ، وتوضع فوق مجمر كبير مملوء فحما ورجل يقابله ، وعن يمينه كير يمسك جعبته بشيء بيده ، ويقابله بتلك الآنية ، ويحرك خيطا عن يمينه فتخرج من فم تلك الجعبة نار زرقاء تلتهب ، ويرسلها على تلك الآنية التي فوق ذلك المجمر ، وعلى الفاخر الذي فيه ، فيدير لهبها على الآنية يمينا ويسارا ، فلم يكن غير هنيئة إلا وترى تلك الآنية تلتهب وبذلك تلتئم أجزاؤها.

__________________

(١) أقليدس الرياضي اليوناني المشهور بالهندسة ، ألف في علم الرياضيات عدة تآليف قد فقد أكثرها ، ومن أشهرها كتابه المعروف بأصول أقليدس أو كتاب أوقليدس ، وهو مقسوم إلى ١٥ كتابا على شكل موسوعة للفنون الرياضية ، ومع أنه ألف منذ ٢٣ قرنا لم يزل إلى الآن يعتبر دستورا لتلك الفنون ، وقد شرحه العرب في شروح كثيرة وصلت إلى أوربا بواسطة الترجمة إلى العربية.

دائرة المعارف ، المجلد ٤ : ٩٣.

١٦٠