إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

صفة تذهيب بعضها

فإذا أرادوا صبغها بالمعدن (١) يأتون بها إلى صناديق من نحاس مملوء ماء ، طوله نحو ذراعين وعرضه نحو ذراع ونصف ، وعلوه كذلك. وهذه الصناديق هناك كثيرة غاية ، وعلى كل وجه صندوق فتقيات نحاس بها ثقب كثيرة ، معقود فيها خيوط من سلك نحاس ، فيعقد في أطرافها الآخر الأواني ، وترسل في ذلك الماء الذي في الصندوق. وهذه الفتقيات الموضوعة / ٨٧ / على وجه الصندوق أعني موضوعة على عرضه ، ويقاطعها جعبات موضوعة على طوله ، ولعلها فيها كهرباء الصبغة ، لأن الأواني التي تكون في الماء الذي في الصندوق لها اتصال بتلك الجعبات بواسطتي السلك والفتقية الموضوعة على الجعبة ، ولو لم تكن هذه الجعبات ما أفاد ذلك الماء شيئا في الأواني ، لكن مع وجود صندوق به ورقات فضة خالصة كما قيل ، رأيناها موضوعة في الصناديق ، فرأينا في بعض الصناديق معاليق معلقة في تلك الفتقيات بالسلك ، فتبقى هناك قدرا معلوما عندهم ، ثم يستخرجونها بيضاء كالفضة ، فتدفع لمن يمسحها ويصقلها ، وقيل لنا هناك إنهم إذا أرادوا صنع أواني يزنوها حتى يعرفوها أي قدر وزنها ، وعند خروجها من الصناديق يزنونها أيضا ليعرفوا قدر ما أخذت من المعدن. ورأينا في صهريج عندهم ماء كثيرا ، وفي أحد جوانبه حجر أزرق موضوع في الماء ، لعله يذوب / ٨٨ / فيه. وكبير هذه المكينة يدور معنا ببشاشة ، ويساعدنا غاية المساعدة فيما نطلب منه. ثم انتقل بنا إلى محل آخر وجدنا فيه صناديق أخر مملوءة

__________________

(١) يقصد أساليب التعدين الكهربائي. يمكن إحداث تفاعلات كيميائية بتحريرنا التيار الكهربائي ، ونلجأ إلى هذا الأسلوب حين نريد أن نكسو معدنا ما بطبقة رقيقة من معدن آخر (تلبيس المعاد).

الرسم أ ـ مخطط لأسلوب تلبيس المعادن ، حيث نرسل التيار ، يذوب المعدن (١) الفضة مثلا ،المثبت في الآنود+ (قطب موجب) ، ويستقر على المعدن الذي نريد تلبيسه. والذي وضع في الكاتود ـ (قطب سالب). بهذه الطريقة نحصل على الزرنخة أو التلبيس الكرومي ، وعلى التنحيس أو التصفيح بالنحاس ، والتفضيض والتزنيك. (الموسوعة العربية). (انظر الرسم في ملحق الصور والرسوم صفحة ٤).

١٦١

ماء ، والجعبات موضوعة عليها ، وتكلم مع بعض الخدمة ، فأخذ سكينا صغيرا بيده وعقده في قطعة سلك وأرسله في ذلك الماء ، وقبض رأس السلك الآخر وحكه في تلك الجعبة ، ثم استخرجها عاجلا فإذا بالقدر الذي كان في الماء خرج مفضضا حينه ، ثم أرسلها كذلك في صندوق آخر مراعيا لذلك العمل ، وترك منها قدرا مفضضا وأخرجها ، فإذا بالقدر الذي كان منها في ذلك الماء خرج مذهبا تذهيبا جيدا ، ثم أرسلها في صندوق آخر ، وأخرجها منه بعدما حك رأس السلك في الجعبة ، وترك منها قدرا مذهبا ، وأخرجها فإذا بالقدر الذي كان منها في ذلك الماء خرج مذهبا تذهيبا دون الآخر ، يضرب إلى الخضرة. ثم رجعنا في الأكداش إلى محل نزولنا.

الدار التي تباع فيها أواني البلار

وفي مساء / ٨٩ / يوم الثلاثاء العشرين منه (١) ركبنا في أكداش المخزن أيضا ، وسارت بنا إلى أن وصلنا إلى محل قيل لنا (٢) تباع فيه أواني الزاج والثريات وغيرها. فدخلنا إليها فوجدنا في أسفلها صناديق عود تملأ بالأواني لتسافر لمحل آخر. فصعدنا إلى طبقة فوجدنا فيها كتابا عديدين بيد كل واحد كناش ومكتبة. ثم صعدنا إلى الطبقة التي فوق هذه فوجدنا براحها متسعا غاية. طوله مائة وسبعون رخامة ، كل رخامة طولها أقل من ذراع بقليل ، وعرضها نحو ست وثلاثين (٣) رخامة ، وهي مقبية

__________________

(١) ١٣ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٢) حتى بداية ق ١٩ م كان المخزن أو الدكان الصغير أو المتوسط ، وتجارة الباعة الجوالين ، هما الشكلان التقليديان للتجارة ، ومع بداية التصنيع (وارتفاع مستوى الاستهلاك) ظهرت أنواع جديدة من المشاريع وهي المؤسسات الكبرى التي يمكننا أن نتفحص ونلمس البضائع ، وأن نشتريها من أجنحة مختلفة ..إلخ. وأول مخزن كبير وجد في فرنسا مثلا هو «لوبون مارشيه» سنة ١٨٣٢ م ، ثم تطورت إلى صيغة المخازن المتعددة الفروع. (موسوعة عربية عالمية). ولعله يقصد Galeries Lafayette.

(٣) في الأصل خطأ ، ست وثلاثون.

١٦٢

بالزاج ، وبجدرانها خزائن عود محيطة بها ، وبوسطها صفان ممتدان على طولها فيه خزائن أخرى عود. وفي هذه الخزائن من أواني الزاج ما لا يقدر على وصفه ، وهناك أواني عمل التينة. وأما الخزائن التي في الوسط فطولها أقل من قامة الإنسان (١) ، وعلى وجهها أواني وأثاث ومحابق النوار / ٩٠ / مصنوع فيها صور طيور صغيرة أصغر من البرطال. في ريشها ألوان ، في أسفل كل محبقة مكينة ، داخلها تملأ (٢) بساروتها ويحرك بعد ذلك شيء بارز قرب فرجة المفتاح ، فيأخذ ذلك الطائر يتكلم بصوت الطائر المعروف عندنا بأم الحسن (٣) ، وعند تكلمه يدور يمينا ويسارا ، وفي المحبقة طائر آخر بارك كأن تحته بيضا ، لا يتكلم وإنما يلتفت كذلك عند تكلم الآخر. وهذه المحابق هناك كثيرة بقصد البيع. وهناك ثريات معلقة في السقف ، وهي ثلاثة صفوف منها على طول ذلك البراح كبيرة وصغيرة مختلفة الأشكال والمقدار. وبالجملة فهناك من أواني الزاج والأثاث عمل التينة (٤) مصطفة بتلك الخزائن مع طول هذه البقعة وعرضها ، في محيطها ووسطها ما لا سبيل إلى حصره أو وصفه. وهناك كتّاب عديدون نساءا ورجالا. وحين سمع نساؤهن بأننا هناك خرج بعضهن بقصد رؤيتنا لأنهن يستغربن زيّنا ويتعبن منا / فالتفتت إلينا إحداهن ، فتذكرت ما قيل في مثل ذلك :

بدار الزاج قمر (٥)

فضحت زين العجم

__________________

(١) تقدر ب ٥٦،١ متر.

(٢) في الأصل تملؤ. سبق قلم.

(٣) أو الحسون طائر صغير حسن الصوت ذو ألوان جميلة ، وقد هام بصوته الشعراء بالمغرب والأندلس. (المنجد).

(٤) يقصد التحف الفخارية الآتية من بلاد الصين المزخرفة بماء الذهب وألوان زاهية ، والتي تتميز بها الصناعة الصينية ، التي تنطق من طرف بعض المغاربة التينة ، وقد انتقل فن هذه الصناعة الفخارية اليدوية إلى البلاد الأوربية ، وبقيت تسمى باسمها. (الشينة أو الصينية).

(٥) هذا الشعر به خلل ببعض أشطاره. تتأرجح بين إيقاعات مختلفة : مضارع ومجتث ومجزوء الرمل.

١٦٣

سلبت عقل رامق

سلب عقل بصدام

هام من حسنها وجدا

ذو عفاف وكرم

وهي من نور حسنها

نقتبس محو الظلام

قلت جد لي بوصال

قالت فاقرأ سلامي

إن بالحل وطني

أنتم أهل الحرم

صدقت فيما نطقت

وحقا قالت حدم

ثم رجعنا في الأكداش إلى محلنا.

فابريكات صنع الماريوس (١)

في يوم الثلاثاء العشرين من جمادى المذكور (٢) ، ركبت مع الأمين المذكور في كدش في الضحى ، وانتهينا إلى فابريكة صنع الماريو ، فوجدنا بأسفلها معلمين نجارة مشتغلين (٣) بنشر العود بالمكينة. وكيفية النشر هنا مثل كيفية نشر النشار التي / ٩٢/ سبق بيانها. فرأينا بيد أحد المعلمين قطعا من العود مثل جوازي (٤) السقف مخططة طولا بجعل الخيط وهو الخيط المعروف عندنا مسامتا للناعورة ، ويدفعه إليها دفعة

__________________

(١) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

(٢) ١٣ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٣) في الأصل خطأ ، معلمون نجارة مشتغلون.

(٤) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

١٦٤

واحدة فتشقه في لظة على طولها في حال دورانها. وبعض هذه الجوائز ينشرها عرضا قطعا صغيرة فتراه كأنه يأخذ الزبدة بالحديد ، وبعض المعلمين وجدناه ينشر فتقيات صغيرة مرسومة فيها دوائر وتعريج منشار الدور. وله كيفية خاصة ، وذلك أنهم يأخذون خيطا من الهند مبسوطا رقيقا ، عرضه كحرف الريال ، ويفتحون في أحد حرفيه منشارا ، ويصلون بين طرفيه وصلا متقنا حتى لا يكاد يتميز الوصل من غيره ، ويدخلون فيه ناعورتين. إحداهما عليا والأخرى سفلى. ثم يحرك بعضهم (١) آلة المكينة فتدور الناعورتان دورانا خفيفا ، وبدورانهما يدور المنشار المذكور ، فيأخذ المعلم الفتقية التي يريد نشر ما رسم فيها من الدوائر والتعريج ، ويحادي بها المنشار فيشقها / ٩٣ / متابعا لتلك الدوائر ، ثم صعدنا للطبقة الأولى وجدنا فيها صناديق كبيرة تسمى ماريو. منها ما هو بالزاج ، ومنها ما هو بدونه ، ووجدنا براح هذه الطبقة مملوءا بهذه الصناديق. وهناك طبقة أخرى فيها صناديق أيضا على أشكال كثيرة. وبهذه الدار تصنع أحكاك (٢) الباعة الرفيعة ، منها ما هو منبت بالحجر النفيس ، ومنها ما عليه الكتابة بالتذهيب. فمن أحب حكا منها وأراد كتابة شيء على ظهره يكتب له فيه الإسم الذي أحب ، أو حكمة بخط مشرقي رفيع. وأما ثمن كل حاجة من ذلك فيكاد يستبعد.

قشلة مرضى العسكر وقبر نابليون (٣)

وفي مساء هذا اليوم ركبنا في الأكداش المخزنية ، وتوجهنا إلى قشلة فيها المرضى

__________________

(١) في الأصل خطأ ، بعض.

(٢) يقصد أحقاق أي صناديق صغيرة الحجم منقوشة ومزخرفة.

(٣) يقصد متحف ليزانفاليد invalides Les أو قصر العساكر العاجزين ، عبارة عن قصر كبير به غرف كثيرة بها قدماء المحاربين أنشأنها الملك لويس الرابع عشر (XIV Louis ١٧١٥ـ ١٦٣٨م) لإيوائهم ، ولما جاء نابليون جدد بنيتها وزاد فيها. P. ٩١٧. N: ٨. EncycloPedie, Grand

١٦٥

من العسكر ، من وقت حربهم مع ابروسيا (١) ، فوجدنا هناك أناسا كبارا مصفرة وجوهها ، وعليها سلاحها ونواشين مراتبها. فتلقوا صاحب السر بالتعظيم والترحيب ، وتكلم معهم بما يناسب الحال ، ودخلنا إلى مطبخة / عامة العسكر ، فوجدناها متسعة غاية ، وفيها ثمانية طناجير كبيرة ، كل أربعة في تربيعة خاصة ، وطنجير كبير تطبخ فيه القهوة لهم. ثم في مطبخة الخواص من العسكر طناجير أيضا منفصلة عن مطبخة العامة بقريب.

قبر نابليون

وبقرب هذه القشلة قبر ملكهم نابليون الأول (٢) ، قيل لي إنه أوصى (٣) بأن يدفن بتلك القشلة ، لأن فيها عسكره ، وهم أولاده ، وهو أحب أن يدفن بين أولاده ، والقبر على كيفية خاصة ، وهي أنك إذا وصلت إليه تجد حفرة عظيمة مستديرة مبنية بالرخام ، ...... (٤) ويحيط بها سوار من الرخام ، بني عليها قبة عظيمة ،فنزلوا بنا في درج عديدة متسعة ، حتى أشرفنا على القبر من دربوز من الرخام محيط بالدارة التي في وسطها القبر ، وفي وسط براحها رخامة سوداء طولها نحو ستة أذرع ، في عرض أربعة أذرع ، وعلوها نحو ذراع. وفوق هذه / الرخامة رخامة أخرى طولها

__________________

(١) مقاطعة من ألمانيا الشمالية عاصمتها برلين ، كان لملوكها الدور الأول في توحيد ألمانيا بعد أن هزمت فرنسا عسكريا في حرب (٧٠ ـ ١٨٧١ م) بقيادة بسمارك.

(٢) I NaPoleon ولد في أجاكسيو (١٧٦٩ م) ، من أشهر قواد الحروب والحملات ، توج إمبراطورا لفرنسا (١٨٠٤ م). انكسر في معركة واترلو ، ونفوه الأنجليز إلى جزيرة سانت هيلين بإفريقيا الغربية ، ومات بها سنة (١٨٢١ م). فاستخلصت جثته منهم ودفن بهذا المتحف (١٨٤٠ م).

Grand EncycloPedie, N: 8. P. 917.

(٣) وصيته منقوشة على أحد جدران ضريحه نصها : «إني أحب أن تدفن رفاتي على ضفاف نهر السين بين أبناء شعبي الذين أتفانى في حبهم». (نفس المرجع).

(٤) بياض بقدر ثلاثة كلمات.

١٦٦

نحو أربعة أذرع ، وعرضها نحو ثلاثة أذرع ، وعلوها نحو ثلاثة أذرع أيضا. وفق هذه الرخامة صندوق رخام أسود أيضا ، يقال إن نابليون المذكور في ذلك الصندوق ، وقدام هذه القبة قريبا منها قبة أخرى أعلا منها ، مقبية بالزاج ، به طلاء كالتذهيب ، والشمس مشرقة عليه ، فتحسبها نارا تتوقد في تلك القبة ، وتحتها صورة آدمي مرفوع على شيء لم أدر ما هو (١). ومن يرى ذلك بعين المباهاة والافتخار ، فإنا رأيناه والحمد لله ببصيرة الاعتبار ، ونفوذ حكم الواحد الجبار ، لمن الملك اليوم لله الواحد القهار.

صور المحاربين وآلات الحرب في سالف الزمان (٢)

ثم خرجنا من تلك البقعة وأوتي بنا إلى بيوت فيها صور محاربين فيما سلف بنحو ثلاثمائة سنة كما قيل ، وهم لابسون الزرد (٣) والبيض (٤) على رؤوسهم ، لا يرى من وجوههم شيء وتلك البيضة مسبلة على وجوههم ، فيها ثقب مسامتة / لأعينهم وأنوفهم وأفواههم. منهم من هو راكب على فرس ولجامه بيد الراكب عليه ، والطرادة بيده ، وعن يمينه ويساره صور أخرى. وهم متتابعون (٥) على هذه الكيفية ، والدبابيز التي كانوا يقاتلون بها موضوعة هناك ، لأن ذلك كان قبل ظهور البارود كما قيل. ووجدنا هناك المكاحيل التي صنعت حين ظهور البارود ، وطولها نحو ستة أذرع ، وهي غليظة جدا لها نجش يقال إنهم كانوا يخرجونها بلا زناد ، بل كما يخرج المدفع ، وهي مختلفة في الطول والقصر. وهناك صور بعض أهل الهند فرسانا ورماة ،

__________________

(١) بوسط الضريح مقصورة يتوسطها المسيح وهو مصلوب. (نفس المرجع).

(٢) يوجد بقصر ليزانفاليد متحف للعدة الحربية القديمة. (نفس المرجع السابق).

(٣) الدرع المزرودة يتداخل بعضها في بعض. ج. زرود. (المنجد).

(٤) مفردها البيضة وتعني الخودة التي تجعل على الرأس للتوقي من ضربات السيوف والقنابيل. (الموسوعة العسكرية ، ٢ : ١٨٩.).

(٥) بحيث يخيل للمرء أنه وسط جيش من القرون الوسطى.

١٦٧

يتخيل للناظر أنهم موتى ، وعليهم الكافور ، وعليهم السيوف وآلة الحرب ، وهناك سيوف عديدة ، وأسلحة كبيرة قديمة هناك وهي مصقولة ممسوحة تحسبها جديدة. وهناك طرادات بالية متلاشية ، قيل إنها طراريد ما ملكوه (١) من الأجناس عند محاربتهم. وعند خروجنا من / ٩٧ / هذه البيوت إلى تربيعة كالمشور ، فيه مدافع صغيرة وكبيرة قائمة على قعرها مع الجدرات ، قيل إنها أخذت للأجناس عند محاربتهم معهم.

الحضور لتسراد العسكر وكيفيته

وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى (٢) طلعنا بإذن كبير الدولة لحضور تسراد عسكره ، وذلك في الساعة الثانية ، فركبنا في الأكداش المخزنية ، فلما قربنا إلى ذلك المحل وهو المحل الذي كانت تتسابق فيه خليهم (٣) ضاقت بنا الطرق ، وضاق ذلك الفضاء من كثرة ازدحام الخيل والأكداش المارة لهذه الفرجة ، وبقينا واقفين (٤) هنيئة حتى ظننا أننا لا سبيل لنا إلى الوصول للمحل المعين لنا ، فلم يكن غير قليل إلا وقد أتى عدد من العسكر يفسحون لنا الطريق ، فبقيت الخيل والأكداش التي فيها غيرنا واقفة في محلها حتى مررنا ووصلنا إلى القبة المعينة لنا ، فصعدناها وارتقينا سطحها فأشرفنا على جميع ما هناك من الخلائق ، عسكر وغيرهم ، لا سبيل لحصر عددهم إلا للمتكفل / ٩٨ / بمددهم ، ولم يكن كبير الدولة في هذه القبة ، لأنه كان راكبا بقصد تسراد العسكر بيده ، وإنما وجدنا فيها بعض أعيانه وخاصيته ، وكان

__________________

(١) الأسلحة التي غنمها العساكر الفرنسيون ، مع رايات الأقسام العسكرية. وبعض من أسلحة رجال الثورة الفرنسية ، ومدافع ضخمة من عهد نابليون الأول ، والكثير من الآثار والآلات الحربية.

Grand EncycloPedie, N: 8. P. 917.

(٢) ١٥ يونيو سنة ١٨٧٦ م. يقصد الاحتفال السنوي بعيدي النصر والجمهورية.

(٣) حلبة الخيل (Cantilly) المذكورة سابقا تتحول إلى ساحة لإجراء الاستعراض العسكري.

(٤) في الأصل خطأ ، واقفون.

١٦٨

العسكر إذ ذاك مفرقا فرقا فرقا ، كل فرقة بمحل فرق الفرسان وحدها ، وفرق الرماة وحدها ، وهم متتابعون ، كل فرقة تلي الأخرى. وكان كبير الدولة واسمه المارشال (١) قد خرج راكبا فرسه ، ومعه نحو مائتين من كبراء عسكره ، وأتى إلى محل متسع ، والفرق من العسكر وراءه ، وعن يمينه ويساره عن بعد منه ، بحيث استقر كبير الدولة بذلك الموضع وهو قبالة القبة التي نحن في سطحها. أخذت فرق عسكر الرماة تمر أمام كبير الدولة يتقدمها الطنابرية ، وأصحاب الموسيقا وعددهم نحو مائة ، يقفون قبالة كبير الدولة ، ثم يتبعهم واحد لا يحلق لحيته ، ووراءه عشرة ، ووراء هؤلاء العشرة فرسان متتابعون ، نحو العشرة ، بحيث / ٩٩ / يقرب الفارس الأول منهم لمقابلة كبير الدولة فيخفض سيفه إلى الأرض مسلما بذلك على كبير الدولة ، فيجيبه بالسلم بنزع شمريره من رأسه ، بحيث يمر هؤلاء الفرسان يتبعها ثمانية صفوف ، كل صفين متقاربان ، وبينهما ، وبين الصفين اللذين بعدهما بعد ، نحو عشر خطوات يكون في هذا البعد نحو عشرة رماة ، كل واحد في موضع على غير نسق ولا تتابع ، وفي كل صف من هذه الصفوف الثمانية نحو مائة ، لأنه لم يتأت حسابها. وبمرور هذه الصفوف أمام كبير الدولة ، يكون الطنابرية وأصحاب الموسيقا ملازمين لمحلهم الذي تقدم ذكره ، مشتغلين بعملهم ، متابعين (٢) لإشارة واحد منهم قدامهم ، ويشير لهم بيده لا غير ، كلما غير الإشارة يغيرون الضرب متابعة له ، حتى تمر الفرق التي هي مضافة إليهم ، وهي إما ثلاث فرق أو أربع أو أكثر. ولكل فرقة طنابرية ، وأصحاب الموسيقا يمرون أمام كبير الدولة على الكيفية السابقة / ١٠٠ / بحيث يسلم كبير الفرقة

__________________

(١) حصل ماك ماهون على عصا المارشالية في واقعة ماجنتا (Magonta ١٨٥٩ م الحملة الإيطالية).

Dictionnaire d\'histoire Universelle ـ Bordas, V. 1. P. 1935.

(٢) في الأصل ملازمون لمحلهم الذي تقدم ذكره ، مشتغلون بعملهم متابعون ـ خطأ ـ.

١٦٩

الفارس على المارشال (١) ويجيبه على الكيفية المذكورة ، ومع كل فرقة طرادة واحدة بيد الأخير من الصف الثاني من جهة الطنابرية لا من جهة كبير الدولة ، وظهر لي أن كل فرقة فيها ألف واحد من العسكر بحسب الطنابير ومن بعدهم من أول الفرقة إلى آخرها ، لأن ثمانية صفوف بثمانمائة ، ونحو مائة من الطنابرية ، وأصحاب الموسيقا والأحد عشر التي خلف الطنابرية مع الرماة الذين بين الصفوف ، وعددهم نحو السبعين لأن بين كل صفين نحو عشرة ، فتكون جملة كل فرقة تقرب من الألف ، لأن ذلك ليس معدودا عندي عدا حقيقيا ، وإنما هو تقديري مع احتياط عدم الزيادة في ذلك. والطرادة الواحدة التي في كل فرقة تؤذن بأن عددها ألف واحد ، والله أعلم. وحيث تمر الفرق الثلاث أو الأربع التي في حكومة الكبير الأول ، يشير صاحب الغزولة الذي مع الطنابرية (٢) / ١٠١ / بها فيشير لهم الآخر بيده للذين هم متابعون له إشارة فيسكتون ويسيرون تابعين الصف الأخير من فرقهم التي مرت ، وعند سكوتهم يشرع (٣) طنابرية آخرون في الضرب مع أصحاب الموسيقا الآتين بعدهم ، ويأتون للمحل الذي كان الطنابرية الذين مروا به مع الفرق التي مرت

__________________

(١) عمل المارشال ماك ماهون بعد فوزه في انتخابات فرنسا ماي ١٨٧٣ م ، على الشيخ أدولف تييرا Thiers AdolPhe المعتدل ، والذي كان ينفذ معاهدة فرانكفورت بولاء ، بالاهتمام بإعادة تنظيم الجيش الفرنسي بعد هزيمته أمام ابروسيا (٧٠ ـ ١٨٧١ م) ، فرأى بسمارك فيه وسيلة تهدف تسهيل التعبئة ، وبالتالي دلالة على إعداد فرنسا للحرب ، وتحدثت الصحافة الألمانية بسرعة عن قرب وقوع (حروب وقائية) سنة ١٨٧٥ م. فأعطى الوزير ديكاز لهذا الحدث اتساعا أوربيا حينما طلب التأييد الدبلوماسي لبريطانيا العظمى وروسيا وقال : «إن ألمانيا عرضت أن من حقنا أن نبدأ ، وفي ظل استقلالنا الكامل في إعادة إنشاء قواتنا العسكرية». وكان هذا نجاحا للحكومة الفرنسية خاصة بعد تعاطف الجانب البريطاني والروسي معها ، فعمل بسمارك في انتخابات ١٨٧٧ م على إسقاط ماك ماهون لفائدة الاتجاه الجمهوري بدعوى ضمان السلام في أوربا.

تاريخ العلاقات الدولية ـ القرن التاسع عشر (١٨١٥ ـ ١٩١٤م) ، بيير رنوفان ، ص. ٤٤٧.

(٢) المايسترو ينسق العزف بحركات يديه ، ويعطي تعليمات إيمائية حسب تفاريق الانطباعات المطلوبة.

(٣) في الأصل خطأ ، يشرعون.

١٧٠

ويشتغلون بعملهم كما تقدم ، ثم يمر الواحد ذو اللحية والعشرة بعده والفرسان ، فيسلم كبيرهم على كبير الدولة ، فيجيبه كما تقدم. ثم تتبعهم الصفوف الثمانية على الصفة المتقدمة. هكذا كان دأب هذه العساكر الرجلية في التسراد. وعدد الفرق التي مرت على هذه الصفة أربعون فرقة. فهي مشتملة ـ والله أعلم ـ على أربعين ألفا. ثم تبعتهم فرسان يجرون الكراريط حاملة صناديق مقفلة ، قيل فيها الشواقير وغيرها من الآلة المحتاج إليها في السفر ، وعددهم نحو ألفين ، ثم أتت فرسان العسكر ومعها الطنابرية وأصحاب الموسيقا ومروا صفا بعد صف / ١٠٢ / وهم خمس فرق ، وفي كل فرقة نحو ألف كما تقدم ، ومرت بعدهم أربعون فرقة من الخيل تجر المدافع ، في كل فرقة ستة مدافع ، كل مدفع يجره خمسة من الخيل ، والعسكر راكب عليها ، وعلى كل كريطة (١) مدفع أربعة من العسكر. وعدد الفرق التي مرت على هذه الصفة أربعون فرقة ، ففيها أزيد من ألفين ، لأن بعض الفرق كان يمر فيها صفان من المدفع صفا إثر صف ، فعلى هذا يكون جملة العسكر الذي حضر التسراد في ذلك نحو خمسين ألفا بين فرسان وراجلين ، ومن الناس من كان يقول إن ذلك العسكر قدره خمسة وستون ألفا ، ومنهم من كان يقول ثمانون ألفا ، وانظر ما مستندهم في ذلك. وقيل إن ذلك العسكر الذي حضر التسراد هو عسكر باريس لا غير.

ضيافة عظيم الدولة للباشدور مرحبا به

وفي يوم الأربعاء الواحد والعشرين من جمادى الأولى (٢) ركبنا في الأكداش / ١٠٣ / المخزنية في الساعة الرابعة غير ربعها للطلوع لدار كبير الدولة بقصد الضيافة ، لأنه كان تقدم أنه أعلمنا بذلك يوم المسابقة ولم يكتف بذلك. بل في يوم

__________________

(١) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

(٢) ١٤ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

١٧١

الثلاثاء (١) بعده وجه لنا ثلاث ورقات ، عين في كل ورقة منها اسم (٢) من يطلع منا لهذه الضيافة. منها ورقة للباشدور صاحب السر المذكور ، والورقتان الباقيتان للأمين والكاتب. فتوجهنا لداره ، وهي خارجة عن البلد بنحو ساعتين بسير خيلهم (٣) بالأكداش ، وكان عين لنا أن يكون وقت قدومنا عليه في الساعة السابعة ونصف قبل الغروب بأزيد من نصف ساعة. بحيث قربنا من الدار ، نزلنا وطلعنا لصالة وسرنا حتى وصلنا إلى دار كبير الدولة ، فتقدم صاحب السر المذكور ونحن في أثره ودخلنا إليها في وسط ملإ من العسكر والأعيان ، / ١٠٤ / فتلاقى به صاحب السر المذكور ، فرأينا به سرورا كبيرا ، وفرحا عظيما ظاهرا عليه وعلى خاصته. ثم سرنا نحو القبة التي فيها الغذاء (٤) فدخلناها فالتفت إلينا كبير الدولة ، وتكلم بلغته ، فقال لي رجل من عسكره كان بقربي (٥) : إنه يقول لكم مرحبا بكم ، وأنه وكلني بالجلوس معكم لأبين لكم الطعام الحلال عليكم من غيره ، ووجدته يحسن اللغة العربية ، فجلسنا على الشوالي المحيطة بمائدة الطعام ، فجلس صاحب السر المذكور عن

__________________

(١) ١٣ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٢) توجه الدعوات إلى مآدب الغذاء أو العشاء الرسمية قبل موعدها بوقت كاف ، ويذكر في بطاقة الدعوة نوعها (عشاء ـ غذاء ـ شاي ـ ...) وساعتها وعنوان المكان ونوع الملابس المطلوب من المدعو ارتدائها (الدبلوماسية ـ البروتوكول الإتيكيت المجاملة ـ أحمد حلمي إبراهيم).

(٣) يخصص الكدش الأول لرئيس الوفد أو السفير ، ثم يليه الأمين ثم كاتب السفارة ، وأخيرا المخازنية ، وكذلك في حالة السير على الأقدام أو الدخول من الباب والصعود على السلم يتقدم الشخص الأول في السفارة للسلام على رب البيت الداعي (نفس المرجع : ١٤).

(٤) بعد ساعة تقريبا من المحادثات والترحيب والتعارف من الموعد الذي حدد في بطاقة الدعوة ، يقوم السيد بدعوة ضيوفه إلى الانتقال إلى غرفة الطعام بإشارة بسيطة إلى باب الغرفة مصطحبا ضيف الشرف ، يتوجه كل مدعو إلى مكانه الذي سيتأكد منه بوجود بطاقة صغيرة باسمه موضوعة في مكان ظاهر أمام أطباق الطعام. (نفس المرجع : ١٥).

(٥) يراعي عند توجيه الدعوات إلى المآدب أن يختار من يتوقع منهم الانسجام من حيث الثقافة واللغة والميول السياسية. (نفس المرجع : ١٥).

١٧٢

يمين كبير الدولة (١) وجلسنا نحن قبالتهما منحرفين عنهما يسيرا إلى جهة يمينهما ، وجلس مع الأمين المذكور عن يمينه عسكري آخر يحسن العربية ، فكان يبين لنا ما يحل أكله لنا ، ومع ذلك فما تناولنا من تلك الأطعمة العديدة إلا يسيرا من الخبز بالزبدة ، وشيئا من الأرز مطبوخا في الزبدة ، وشيئا من الحلوى معقودة على الثلج لا غير ، مع أنه حضرت أطعمة عديدة ، وأنواع / ١٠٥ / كثيرة ، وحضر على هذه المائدة ما يزيد على الأربعين من كبراء الدولة كل واحد على شليته وقدامه (٢) زيف أبيض من المكمخ يضعه على حجره وقت الأكل. وقدامه أيضا طبسيل فارغ وكأس للماء ، وجنوي وفيجكة ، وعند دفع الطعام يخرج رجال بيدهم طباسيل من المعدن كبيرة مملوءة بالطعام (٣) ، فيمرون بها على الجالسين على المائدة ، فكل واحد منهم يأخذ مما في ذلك الطبسيل بمغرفة القدر الذي يريده ، ويضعه في الطبسيل الذي قدامه ، وحين يوتى بطعام آخر ترفع تلك الطباسيل الصغيرة من بين أيديهم ، وتوضع غيرها. ويدور صاحب الطعام الثاني عليهم جميعا فيأخذون منه كما ذكر ، ثم يأتي طعام ثالث ورابع وهكذا حتى مرت ستة عشر شكلا من أنواع الطعام كما هي مبينة عندهم في

__________________

(١) إذا كانت المائدة مقتصرة على الرجال وتكريما لشخصية (ضيف شرف) يكون الجلوس حولها على الشكل التالي:

مكان الشرف على المائدة يكون في منتصف جانب المائدة على يمين الداعي ، ثم توزع الأمكنة عن يمين وعن يسار مكان الشرف بأن يرتب المدعوون في كشف حسب أسبقياتهم ويعطون أرقاما توزع على المائدة طبقا للرسم التالي : (انظر الرسم في ملحق الرسوم والصور صفحة ٥).

(٢) يكون طاقم الطعام والشراب أمام كل جالس مكونا من عدد من الأكواب مساويا لعدد المشروبات المزمع تقديمها بالإضافة إلى كوب الماء ، السكين عن يمين الطبق ، والشوكة على اليسار ، وتوضع المناديل بشكل خاص للاستعمال ، ومعلقة الشربة وطبق صغير خاص بالخبز وأطباق صغيرة أخرى بها قطع من الزبدة المثلج. (نفس المرجع السابق).

(٣) عندما يكتم الجلوس يبدأ رئيس الخدم ومساعدوه في الدخول إلى صالة الأكل بأطباق الطعام ، ومن ورائهم طاقم الخدم الذين يوزعون المشروبات التي تقدم على المائدة ، ويمر الخدم بالأطباق مرة ثانية على جميع المدعوين بالترتيب فقد يرغب أحدهم في تناول المزيد من صنف معين (نفس المرجع السابق).

١٧٣

ورقة بكتابتهم (١) دفعوها لنا عند الشروع في الأكل ، وهم مع ذلك يخللون الأكل بالشرب ، ونحن / ١٠٦ / يجعلون لنا الماء الصرف في الكؤوس التي قدامنا ويجعلون فيها حجرا من الثلج كأنه حجر الشب ، فقلت للذي كان بقربي هذا الثلج شأنه أن يذوب عند بقائه في الهواء ، فما باله لم يذب إلى الآن في بلدكم ، ونحن حين ينزل بقرب بلادنا شيء منه يذوب عاجلا ، فقال لي إننا نخزنه في الأرض كما تخزنون الزرع أنتم في المطامير فلذلك نحن نجعل (٢) المطامير ونفرش له التبن ، ويوضع فيها ويوضع فوقه التبن أيضا ويغطى بالتراب ، وعند الاحتياج يدخل إليه من محل آخر (٣) ، ويوخذ منه القدر المحتاج ، وإن نزل عليه تراب يغسل ، وكان فوق هذه المائدة ست ثريات موضوعة عليها في كل ثرية عشرون شمعة. وفي كل ثريتين محبقة فيها من ألوان النوار المصنوعة ، وليس عليها زاج ، يحسبها الرائي أنها مشموم التقطت له تلك النوار / ١٠٧ / ورتبت فيه ببديع الاختيار. وبسقف هذه القبة ثلاث ثريات كبيرات من الزاج موقودة كلها بالشمع ، ثم أخبرني هذا الذي كان بقربي أنه تقدمت له حروب كثيرة مع أولاد سيدي الشيخ (٤) وأنه يعرف تلك

__________________

(١) قائمة الطعام Menu على يسار الطبق ، ومنها يعلم كل مدعو ما سيقدم له خلال المأدبة ، فإن لم يستسغ صنفا مقدما فيمكنه الامتناع عن تناوله مع الاعتذار. (نفس المرجع السابق).

(٢) في الأصل نجعلوا ، بصيغة الجمع.

(٣) يلعب الذوق الجميل دوره في ترتيب المائدة من حيث كيفية تزيينها بالزهور والشمعدانات الفضية أو الكرستال ، والأغطية الجميلة والرائحة الطيبة وغير ذلك.

(٤) تنقسم قبيلة أولاد سيدي الشيخ إلى فصيلتين ، الشرقية دخلت تحت النفوذ الفرنسي بموجب اتفاقية الحدود لعام ١٨٤٥ م ، والغربية بقيت تحت النفوذ المغربي. وما بين ١٨٤٩ و١٨٦٢ م كان يسود فيها التفاهم والوئام ، إلى أن اشتعلت الثورة ضد الفرنسيين في يبراير ١٨٦٤ م بعد تحالف فصيلتي أولاد سيدي الشيخ مع بعض واحات توات ، بزعامة سي سليمان بن حمزة الذي هزم الجيش الفرنسي شرق فيكيك وجنوبها ، فأرغم الحاكم العام في الجزائر على توجيه فيالق من الجيش الفرنسي لإخماد الثورة ، والتي استمرت إلى سنة ١٨٨٢ م. للمزيد من التوسع في الموضوع انظر : «التوات» ، د. أحمد العماري.

١٧٤

المواطن (١) وسكانها ، وشرع يعدها. فقلت له ما اسمك؟ فقال اسمه شلطون وأنه كبير على ثلاثة آلاف من العسكر ، لأنه كان استفهمني عن اسمي فبينته له. وأخبرني أن زوجة كبير الدولة تكلمت معه في السلك في الساعة العاشرة ليلا من أمسه ، لأن السلك مركب من دار كبير الدولة إلى دور الكبراء والأعيان ، كما أخبرني به. وقالت له ما مضمنه : إننا نستدعيك للحضور عندنا غدا ليلا ، لأن باشدور سلطان مريكوا (٢) يأتي لدارنا ، ثم قال كيف جاءتك بلدنا ، فقلت : ما رأيت أحسن منها نظافة وتزويقا ، وصنائع وعجائب لم أرها في غيرها. فقال لي أنتم معشر العرب لكم ألسن كالعسل / ١٠٨ / ما أحسنها لو كانت مثل قلوبكم ، فقلت له الناس ليسوا على صفة واحدة ، وطبيعة متحدة ، بل هم كما قيل :

الناس كالأرض ومنها هم

من خشن الطبع ومن لين

نجندل تدمى به أرجل

وإثمد (٣) يجعل في الأعين

وفهمته في مضمن البيتين حتى فهمهما ، فقال حقا ما تقول ، ولكن الكثير من الناس على ما ذكرت لك ، وحين فرغوا من الأكل خرجوا لقبة أخرى فيها شوالي عديدة (٤) ، وكنابي كثيرة كلها بالموبرة الحمراء وصاروا واقفين كل اثنين أو ثلاثة

__________________

(١) حصلت فرنسا عن طريق الرحلات الدراسية والاستطلاعات التي قام بها عدد من الضباط والجواسيس ، مثل رحلة الضابطان كولونيوColonnien وبورين Burin عام ١٨٥٧ م ، ورحلة كولونيو سنة ١٨٦٠ م ، ورحلة الألماني رولف Rholfs سنة ١٨٦٤ م ، ورحلة الضابطGalliffet سنة ١٨٧٣ م وغيرهم.

على معلومات جغرافية واقتصادية وبشرية وثقافية حول أوضاع التوات. (نفس المرجع / ٧٤).

(٢) حسب النطق العجمي أي المغرب.

(٣) معدن الكحل الذي تزين به الأعين. والبيتان من بحر السريع.

(٤) عندما ينتهي تناول الطعام ، ويتأكد سيد البيت من أن الجميع قد أنهوا طعامهم ، يبدي بإيماءة بسيطة إلى الحاضرين إيذانا بقيامه من مقعده ، فيقوم كل رجل بعده إلى الصالون الكبير حيث تدار القهوة ، والمشروبات. (نفس المرجع السابق).

١٧٥

منفردين في محل ، وجلس صاحب السر على شيلية ، وبقي معه من يحسن العربية ، وجلسنا نحن قريبين منه ، وجلس معنا من يحسن لغتنا أيضا ، فأخبرنا أنه يحب العرب لأنه نشأ في بلادهم ، ومهما رأى رجلا من العرب ينشرح له صدره غاية ، وأنه تقدمت له الخدمة في العسكر في قسنطينة أربعة عشر عاما / ١٠٩ / مع أنه صغير السن يمكن أن يكون سنه نيفا وثلاثين سنة والله أعلم. وبقي المارشال أي كبير الدولة ، واقفا يتكلم مع كل واحد من الكبراء الذين كانوا على المائدة واحدا بعد واحد. ثم دخلت زوجته (١) وصارت تكلمهم أيضا كذلك مع طلاقة وجه وبشاشة ، ودخل بعدها نساء أخر إما أربع أو خمس ، وصرن يتكلمن مع البعض دون البعض وهن يتعجبن من زينا ولباسنا ، وكان من جملة ما تكلم به كبير الدولة بواسطة ترجمانه مع صاحب السر المذكور : أن هذه الضيافة جعلتها فرحا بقدومكم تعظيما لجانب سلطان المغرب ، سيدي الحسن نصره الله ، فأجابه بما يقتضيه المقام من حسن الكلام ، ثم انصرفنا إلى محلنا في الأكداش ، ووصلنا في الساعة الحادية عشرة ونصف من الليل ، وتذكرت ما كان تكلم معي به بعض من له صلة بهذه الدولة حين طالع الأبيات (٢).

الطلوع بالهدية لعظيم الدولة

وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الأولى المذكور (٣) ، طلعنا لحضرة كبير الدولة مع الخيل والهدية ، بعدما ركبنا في أكداس المخزن على العادة ، وجعل على تلك الخيل جلالاتها المرصعة بالذهب ، المصنوعة بحضرة فاس الطيبة الأنفاس

__________________

(١) وقد يستدعي سيد البيت السيدة قرينته للترحيب بالضيوف صحبة رفيقاتها ، ولتشكر كذلك على المائدة الأنيقة التي أشرفت على إعدادها ، ولتوديعهم والسماح للمدعوين بالانصراف. (نفس المرجع السابق).

(٢) بياض في صفحتين كاملتين / ١١٠ / و/ ١١١ / المخطوط.

(٣) ١٦ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

١٧٦

حرسها الله ووقاها من كل باس ، وتقدمت قبلنا بقريب لأروى (١) دار المخزن هناك يقوم بها العساكرية ، فحين وصلنا لتلك الأروى وجدناها لا فرق بينها وبين ديارهم في البناء والنظافة ، ووجدنا العساكرية هناك واقفين مع الخيل ، ماسكين رصنها وهم معها في غاية التعب ، لكونها كانت تأبى الانقياد إليهم ، وتتأخر وتصهل وترفع أيديها على عادة عتقاء الفرسان والأحرار منها. فما أوصلوها لباب قبة دار المخزن إلا بجهد جهيد ، وكان كبير المخازنية يروم أن المخازنية والأعوان الذين معنا هم يقودون الخيل (٢) ، فنهاه صاحب السر المذكور عن / ١١٣ / الخوض والتكلم عن ذلك وزجره ، فسكت طالبا من سيادته الصفح عن ذلك. ثم ذكر الترجمان إذ ذاك أن المقصود من كون العسكر هو الذي يتولى قيادة الخيل هو استراحتهم من ذلك التعب ، وملاحظتهم بعين الوقار وعدم استعمالهم فيما يشق عليهم ، هذا مضمن ما ذكره الترجمان. وحين وصلنا إلى دار المخزن أذن لنا بالدخول للقبة الثالثة ، فدخلنا إليها ، فرأينا فيها من الزخاريف ما لا أحصره ، لأن المقام لم يقتض إمعان النظر في جهاتها وكثرة الالتفات. لكن هناك شوالي كبيرة وكنابيس عديدة ، كلها مبطنة بالموبر الأحمر ، وفيها أبواب كبيرة كأبواب البيوت عندنا عند نزع دففها ، ودففها بالبلار ، والعود المحيط بها مذهب ، وسواريها مورقة بالتذهيب ، وفيها ثريات عظيمة من البلار إلى غير ذلك مما لا يكيف. فلما دخلنا إلى تلك القبة قام الأمين المذكور وفتح صندوق الهدية

__________________

(١) الإصطبل أو مربط الخيل والبغال. أصحابها يكونون حنطة في القصور الملكية المغربية ، تقوم بسياسة وصيانة الخيل والبغال ومباشرة السروج (العزة والصولة ، ابن زيدان ، ١ : ١٤٥).

(٢) أصحاب الأروى ينفسمون إلى قسمين.

١ ـ العوامة يختصون بتعويم الخيل أي غسلها وسرجها وقيادتها ورعايتها وقيادة خيول السلطان والأشراف والقواد وأعيان الجند.

٢ ـ الشطابين يقومون بكنس المزابل وتوزيع التبن والعلف ... (نفس المرجع السابق).

١٧٧

وأخذ من هناك من كبراء الدولة / ١١٤ / ينقلون تلك التحف (١) ويضعونها على الشوالي كل عينة من تلك التحف في جهة منفردة ، فازدادت تلك القبة بها ضوء وإشراقا وسناء ، فعند ذلك دخل علينا كبير الدولة من باب مقابل للمحل الذي كان مقابلا للباشدور صاحب السر المذكور ، فتلاقينا وما قصر في إظهار الفرح والسرور والترحيب والبرور ، وجرى بينهما كلام فيما يناسب الحال والمقام ، ثم تقدم كبير الدولة إلى تلك التحف ، وصار يمعن النظر في كل حاجة منها بخصوصها ، فاستحسنها غاية الاستحسان ، ورآها من أجل ما تقربه عين الإنسان ، ثم خرج لباب القبة ، وكانت الخيل مجللة مصطفة عن يمين باب القبة بيد العساكرية فأخذوا يمرون بها واحدا بعد واحد ، وبعضها يصهل ، والبعض يجيب ، وكلها على ذلك الرونق الجميل والشكل الغريب. وحين تم مرورها ، وأمعن فيها النظر أميرها ، تكلم مع الترجمان بلغته / ١١٥ / فأخبر أنه شرّبها وأنها من غاية منائه وبغيته ، بكلام هذا مضمن تصريحه ، الكامن في تلويحه ، وعلى ذلك انفصل ذلك المجلس الذي عم نواله الصغير والكبير السالم عهوده بمن الله وفضله من التبديل والتغيير ، فحمدنا الله تعالى للاستراحة من عهدة هذا الكلفة ، ورجعنا إلى محل النزول والألفة.

جنان الوحوش

وفي يوم السبت الرابع والعشرين (٢) منه خرجنا لجنان الوحوش (٣) ، وهو بعيد عن

__________________

(١) قائمة ما يتوجه من التحف لكبير الدولة : ١٠ جلالة ، و٤ رسون ، و٢ سروج بإقامتها ، و٤ سفاري موبر ، و٦ سطارم موبر مطروزة ، و٦ كساوي حريرا ، و٦ رواحي ، و٦ موبر مطروزة وبابوجات ، و٣ زرد خان ، و٣ حزم جزيرية ، و٦ زرابي كبار عمل الرباط. ثم مجموعة ثانية من الهدايا للوزير الكبير ، ومجموعة ثالثة من الهدايا لوزير الأمور البرانية. (إتحاف أعلام ، ابن زيدان ، ٢ : ٢٩٦ و٢٩٧).

(٢) ١٧ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٣) يقصد zoologique Bois de Vincennes ,Parc وهي حديقة عامة لتوطين الحيوانات من مختلف البيئات الجغرافية لغرض الفرجة أو الدراسة العلمية ، وتتميز بمساحات فسيحة من الخضرة وأحواض الزهور والبرك الصناعية ، وتقسم الحيوانات على أساس علمي بحسب رتبها وأنواعها وخصائصها ونوع البيئة الطبيعية لكل حيوان ما أمكن.

Grand EncycloPedie, N. 5. P. 327.

١٧٨

المحل الذي كنا فيه بنحو ثلثي ساعة ، وليس هو جنانا حقيقيا ، بل هو موضع من غابة عظيمة ، والطرق الموصلة إليه في وسط هذه الغابة واسعة عريضة جدا ، وفيها من يقوم بكنسها ورشها من المساء إلى الصباح ، كغيرها من الطرق ، وفي هذه الغابة مواضع محوطة بقضبان من حديد ، امتدادا أو ارتفاعا ، والسلك الرقيق ممتد معها في التربيعات الناشئة من تقاطع قضبان الحديد ، وهذه المواضع مختلفة في الكبر والصغر على مقدار / ١١٦ / يناسب الحيوان الذي فيه ، وفي هذه المواضع طرق عريضة طولا وعرضا ، فحين دخلنا لهذا الجنان وجدنا في مدخله بيتا فيه أقفاص صغيرة وكبيرة. فيها أنواع من الطير شتى ، وبه من هو مكلف بها يأتيها بالحب والماء في الوقت المعين. وهي تتوالد هناك ، ووجدنا في بعض الأقفاص طيرين صغيرين أصغر من البرطال (١) بكثير ، وهما متلازمان وكلما طار أحدهما يتبعه الآخر ، قيل إن هذا دأبهما لا يفترقان أبدا. وعند دخولنا لهذا البيت رأينا عربة يجرها حيوان دون البغل وأكبر من الحمار ، وهو على صورة الحمار ، وذاته مخططة بخطوط سود مستديرة (٢) ، بينها كذلك خطوط بيض ، قيل هو من حمر الوحش ، وهو في غاية (٣) ، وأنه قبض من الغابة ، ووكل به من يحرسه ويباشره حتى ألف واستأنس ، وصار يجر الأكداش ، ثم دخلنا لبيت آخر فوجدنا فيه أقفاصا من عود كبير مستديرة ، طولها نحو خمسة أذرع ، وقطر دورها نحو أربعة / ١١٧ / أذرع ، وفي كل قفص طبقات بعضها فوق بعض ، في كل طبقة أبواب صغيرة ، مربعة في محيط القفص ، قدر ما

__________________

(١) لعله الأبلق الأبيض وصاحبته وما يدور بينهما من مناوشة ، تبدأها الأنثى بوثوبها إلى مكان عال ، ليلتحق بها الذكر في التوّ متمتما بصوت خفيض ، ثم يبدأ اللف والدوران حولها مرات عديدة ، فتضربه بمنقارها ، وتهرب له إلى مكان آخر فيتبعها ، ثم يرفع عقيرته بالتصديح والترنيم ، تستمتع إليها الأنثى وهي ساكنة وهكذا ... عالم الطير ، أحمد محمد عبد الخالق ، القاهرة ، ١٩٦٢ : ٩.

(٢) الزردZebre الحمار الوحشي ، أنواعها أربعة أما ضروبها ، وسلالاتها عديدة ، الموسوعة في علوم الطبيعة ، إدوار غالب ، بيروت ، ١٩٦٦ ، مجلد ١ : ٣٢٢.

(٣) بياض بقدر كلمتين.

١٧٩

تدخل الدجاجة ، وفي كل طبقة دجاج قدر ما تسعه الطبقة. ووجدنا رجلا جالسا بين قنبتين ممسوكتين في جرارتين في السقف ، وأمامه شيء كالزق مملوء بدقيق مختلط بالماء ، وهو يدير هذا القفص ، لأنه غير ثابت ، فتقابله دجاجة من الطبقة المسامتة ليديه ، فتخرج عنقها إليه ، فيدخل في فمها قطيعا من البلار ، طوله نحو شبر ، وهو متصل بذلك الزق المذكور ، بواسطة بينهما كالمصران (١) فتشرب الدجاجة من ذلك السويق بواسطة القطيع ما فيه الكفاية لها. ثم ينزع القطيع من فمها بسرعة ، ويدير القفص ، فيجد دجاجة أخرى في الباب الموالي لذلك الباب مخرجة عنقها ، فيطعمها كذلك حتى يأتي على جميع الأبواب التي في ذلك الصف ، فإذا أراد أن يطعم الدجاج الذي في الطبقة التي فوق ، أطعم دجاجها ، / ١١٨ / يمسك القنبة التي هو جالس عليها بعد ما يفك ما كانت متقفة به ، فيرتفع مقعده إلى الطبقة الأخرى ، فيطعم ما فيها من الدجاج كذلك ، وهكذا حتى يأتي على جميع ما في ذلك القفص من الدجاج ، وذكر لنا أن الدجاج الذي يدخل لهذا القفص حين تمر عليه ثمانية عشر يوما يصير وزن ذاته ضعف ما كانت عليه حين الدخول (٢) لذلك القفص. ثم خرجنا منه أي ذلك البيت ، فوجدنا تربيعا كبيرا محوطا بالحديد والسلك كما ذكر ، وفيه قرود عديدة صغيرة وكبيرة وهي تطلع وتنزل في ذلك القفص ، على عادتا ، ولها فيه بيوت ، بعضها فوق بعض من عود ، تأوي إليها يلا ، ثم في آخر طيور بلارج (٣) المعروف في بلادنا. وطير البقر (٤) وطيور على هيئة بلارج ،

__________________

(١) اوامصرة مفردها المصير وهو (الأمعاء) ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة استعملها الجعيدي قصد التشبيه بالأنبوب الذي ينقل الطعام من الزق إلى فم الدجاج. (المنجد).

(٢) حقل تجريبي يعتمد التغذية الاصطناعية كعلف قصد تسمينها في أقصر وقت.

(٣) لقلاق Cigogne وأصل الكلمة من اليونانيةPelargos. الموسوعة في علوم الطبيعة ، إدوار غالب.

(٤) النورس Mouette أو زمج البحر. (وحيش المغرب) الطيور ، مطبوعات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب ، الرباط.

١٨٠