إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

إدريس الجعيدي السلوي

إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار

المؤلف:

إدريس الجعيدي السلوي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-640-3
الصفحات: ٤٧٩

النهار ، والناس في فرح وسرور من السلامة من سطوة الواحد القهار. (١)

 ...

/٢٧/ تنبيه ، تقدم أن الفركاطة شرعت في السفر من طنجة في الساعة الحادية عشرة ونصف من يوم الأربعاء السابع من جمادى (٢) المذكور ، وأرست بمرسى مرسليية في الساعة الثامنة من يوم الأحد الحادي عشر (٣) منه ، فيكون مدة السفر أربعة أيام عدا ثلاث ساعات ونصف ساعة. وفي هذه المدة اثنتان وتسعون ساعة ونصف ساعة.

مدة السفر في البحر إلى مرسيلية

ونقل عن رئيس هذه الفركاطة أن قانونها في السير من طنجة إلى مرسيلية ثنتان وسبعون بموحدة ساعة ، وهي مدة ثلاثة أيام ، لكنه خفف من سيرها محافظة على تلك الخيل ومراعاة لمن أوصاه بمحافظتها وسلوك سبيل التلطف في كل ما يرجع إليها. فانظر أيها العاقل اللبيب ، الفطن الأريب ، بعين بصيرتك ونور سريرتك ، إلى هذه الخيل حين فارقت برها المألوف ، وركبت هذا البحر المهول المخوف ، كيف قيض لها الحي الخلاق والمنان / الرزاق من يقوم بما تحتاج إليه من الماء والعلف ، والتبن والربيع ، وسائر الكلف مع مراعاة أحوالها في جل الأوقات ، وتقديم ما يناسبها فيه من الأقوات ، فكيف بك يا مسيء الظن مثلي بربك الحميد الذي تكفل برزقك كما أفصح به القرءان المجيد. ﴿ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٤).

__________________

(١) الصفحتان / ٢٥ / و/ ٢٦ / من المخطوط فارغتان.

(٢) ٣١ ماي سنة ١٨٧٦ م.

(٣) ٤ يونيو عام ١٨٧٦ م.

(٤) سورة ق ، الآية ٣٧.

١٢١
١٢٢

الجزء الثاني :

أخبار مرسيلية وباريس

ثم لما أرست الفركاطة بمرسى مرسيلية ، وهي مرسى المخزن ، لا بمرسى التجار ، سمعنا بخروج المدافع (١) وعددها سبعة عشر مدفعا إذ هي قانون ورود الباشدور كما قيل. وبهذه المرسى مباني هائلة ومخازين عديدة يمنا ويسارا ، فوقها مباني أخرى مشيدة ، اختلفت أوضاعها لاختلاف مقاصدها. وكلها في غاية الإتقان والإحكام والاختصار ، مع كثرة المرافق بحسب الإمكان ، ومن هناك امتد البناء وانتشر ، وإحصاؤه وتتبعه ليس في طوق البشر.

/٢٩/ طلوع الكبراء من مرسيلية لملاقاة الباشدور

بادر كبير مرسيلية ومتولي حكومتها إلى القدوم لتلك الفركاطة ، ومعه خليفته

__________________

(١) سبعة عشر طلقة كإعلان رسمي عن وصول السفير المغربي إلى التراب الفرنسي ، وهو تقليد متبع بين الدول ، ذلك لعدم علمهم بوجود الخيل داخل الفركاطة على عكس ما حدث بمرسى طنجة كما ورد سابقا بالرحلة.

١٢٣

والجنرال كبير العسكر بها ، وترجمان الدولة (١) بباريز ، لكونه كان وجهوه لمرسيلية بقصد الملاقاة مع الباشدور المذكور ، ووصل إليها وبقي ينتظر قدومه مدة من أربعة أيام (٢)وهم لابسون ثيابهم الفاخرة ، وعلى كل منهم سلاحه ونشان (٣) مرتبته ، وبعد ما طلعوا للفركاطة أخبر الباشدور المذكور ، فطلع من القامرة لملاقاتهم فتلاقوا به بأدب كبير ، مظهرين لخضوع كثير. فهشوا ومرحبوا وسروا بقدومه وأطربوا وجلسوا بإزائه على الشوالي (٤) مراعين مراتب التوالي. وجرى بينهم كلام ليس لمقيده به إلمام ، لكن مضمنه مع اختصار العبارة المقابلة ، فالتعظيم والسرور قضاء الأوطار كما يفهم من الإشارة.

ذكر الدخول لمرسيلية والمقام فيها والخروج منها

ثم نهضوا إلى النزول إلى مرسيلية ، فنزل وهم معه / من الفركاطة إلى بابور صغير ، ونزل الأمين ومقيده بعده في غيره ، وباقي المخازنية والخدمة بعدنا ، فحين وصلوا إلى البر بالسلامة ، كانت هناك فئتان عظيمتان من العسكر خيل ورماة كل

__________________

(١) شيفرScheffer كان سنة ١٨٦٦ م السكرتير الأول بسفارة أمبراطور فرنسا «نابليون الثالث» بالمغرب (محفظة المغرب فرنسا) ، عين سابقا ترجمان مرافق لسفارة محمد بن عبد الكريم الشركي والباشا الحاج محمد بنسعيد أواخر ١٨٦٥ م وبداية ١٨٦٦ م كما جاء ذلك في رحلة محمد بنسعيد المخطوطة(قسم منها نشره بو شعراء كملحق بالإتحاف الوجيز ، الطبعة الثانية) ورافق سفارة ابن ادريس العمراوي سنة ١٨٦٠ م ورافق سفارة الزبيدي طيلة مدة مقامها بفرنسا.

(٢) وزارة الداخلية الفرنسية تخبر الجنرال رئيس الفرقة العسكرية الأولى بمرسيليا بالتوجه لاستقبال السفير المغربي ، رفقة الترجمان Scheffer الذي عينته وزارة الخارجية كمرافق خاص. باريس ٢٨ ماي ١٨٧٦ م.

M. A. E. F.) A. D (, CorresPondance Politique, Maroc, Volume 04, Folio 163.

(٣) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

(٤) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

١٢٤

واحد بسلاحه ، وجرابه وراء ظهره على أكمل الصفات. ثم الطنابرية (١) وأصحاب الموسيقا منهم بعملهم ، وانقسم جميع العسكر فئتين : فئة تقدمت أمام الباشدور ومن ذكر معه في كدش خاص ، واتبعه الرفقاء في أكداش أخرى ، وتأخرت الفئة الأخرى وراء الجميع ، وسار الكل على هذه الحالة الموصوفة إلى أن وصلوا إلى المحل المعين للنزول. وكلما مررنا بوسط محج يبقى المحجان اللذان (٢) عن اليمين واليسار في غاية الازدحام من أهل البلد رجالهم ونسائهم وكهالهم وصبيانهم وهم منا يتعجبون ، ومن زينا يستغربون ، فقلت إذ ذاك في ضميري لعدم الكلام إذ ذاك مع سميري ، إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم / ٣١ / كما تسخرون.

صفة الدار التي نزل بها الباشدور وأصحابه

وأما المحل الذي كان معينا لنزولنا فيه ، وهو الذي به نزلنا فيسمى بلغتهم أوطيل مرسيلية (٣) ، وهي دار مربعة الشكل نحو خمسين خطوة طولا ومثلها عرضا ، وفيها سبع طبقات ، في كل طبقة عدة بيوت مربعة ، تسمى صالات وكل صالة بها سراجم عديدة ، طول كل سرجم أزيد من خمسة أذرع ، ودفتان بالزاج وأخريان بفتقيات الساج. وعلى كل سرجم ستران من خفيف الثوب ، مثل طول ذلك الباب من الثوب المعروف بالعدوتين (٤) المنقر عليه في الأبيض ، وتوريقه في غاية الرونق والكمال ، والحسن والجمال ، والستر الآخر من الكمخة (٥) خضراء أو حمراء مثل ذلك الطول المذكور بأعلاه ، وبأسفله ترييشان (٦) من الحرير على لونه وبخدي كل سرجم

__________________

(١) نفس الملحق : ٤.

(٢) في الأصل المحجين الذين وهو خطأ.

(٣) فندق أو نزل المدينةville de L\'hotel. وثائق أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية بباريس.

(٤) يقصد الرباط وسلا.

(٥) انظر شرحها في الملحق رقم : ٤.

(٦) نفس الملحق : ٤.

١٢٥

مسماران على رأس كل واحد منهما توءمة صفر تملأ كف اليد ، بها توريق عجيب ذو شكل غريب. وفي كل مسمار مجدول (١) حرير في غلظ السبابة / ٣٢ / بطرفيه (٢) ، وهما شرابتان من الحرير أيضا على لون تلك الكمخة ، بأعلى كل واحدة توأمات ثلاث متفاوتة. أكبرها خمائل الشرابة وهي أكبر من دائرة الريال ، وهما لربط إزار الكمخة في خدي السرجم ، على كيفية خاصة اقتضتها صنعة تظفير المجدول. وفي كل صالة ماريو عود فوقه مجانة (٣) محققة ، وتصاوير وحسك بشمعها ، والوقيد ، وبإحدى زوايا كل صالة بويت صغير بدفته ، فيه ماريو أيضا فوقه غراريف (٤) بديع كبيرة طولها أزيد من نصف قالة (٥) مملوءة ماءا وطبسيل (٦) بديع كبير فارغ ، وصابونة في حك (٧) مربع بديع أيضا ، وزيوف بيضاء نقية كما يقال من طي الصابون مطوية ، وهي من الثوب المكمخ الأبيض الرفيع ، وذلك عندهم معد لغسل أطرافهم حين يستيقظون من النوم ، إذ ذاك عادة أولائك القوم. ثم ماريو آخر صغير عرضه نحو قالة ، والطول كذلك في علو الكنابي الآتي ذكره ، فوقه رخامة وبه مخزنان / ٣٢ / أحدهما وهو الأسفل به قدح الحاجة ليلا والآخر فارغ ، ثم كنابي للنوم فيه مضربتان (٨) صوف من ثوب قطن مشجر ، وصوفتهما في غاية الليونة ، وفيه مسند ينمط (٩) عليه وعلى المضربتين بالثوب المكمخ ، أبيض أغلظ من الملفة ، وينمط فوقه بتنميطة كمخة حمراء ، ويجعل فوقها سبنية أصغر من المضربتين بشيء يسير من الكمخة أيضا ـ

__________________

(١) نفس الملحق : ٤.

(٢) بياض في الأصل بقدر كلمتين.

(٣) نفس الملحق : ٤.

(٤) نفس الملحق : ٤.

(٥) نفس الملحق : ٤.

(٦) نفس الملحق : ٤.

(٧) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

(٨) نفس الملحق : ٤.

(٩) نفس الملحق : ٤.

١٢٦

فوقها سبنية من البرنتق الأبيض ، بترييش محيط بها. وفوق هذا الكنابي كسوة من الكمخة أيضا ممسوكة من فوقه قرب السقف بمربع لعله من ساج مموه بتمويه كالذهب. وفي كل صالة شوالي معددة ، تقل وتكثر على حسب تفاوت بقاعها ، والسراجم التي تقدم ذكرها هي مشرفة على المحج والحوانيت المقابلة في الجهة الأخرى ، وفي كل صالة أيضا مرءاة كبيرة طولها ثلاثة أذرع وفي عرض نحو الذراعين ، وفيها مائدة عود مصبوغ وهي مربعة / ٣٤ / مرفوعة على أربعة أرجل مخروطة للأكل ، وهذه الأوصاف من صفة الأماكن المعدة لعامة الناس.

صفة الصالة المعينة للباشدور

وأما الصالة التي نزل بها الباشدور المذكور فهي نمر (١) واحد من الطبقة الثانية من الأسفل ، وهي الركنية من جهة الغرب ، طولها ستة وثلاثون قدما والعرض ثلاثون بقدم مقيدة. وفيها ستة سراجم : اثنان من جهة الجوف ، وثلاثة من جهة الغرب ، وواحد مفخم بينهما ، كما اقتضاه الوضع ، وفي كل واحدة من الجهتين الباقيتين مرءاة عظيمة ، أكبر من المرءاة المتقدمة ، وبأسفل كل واحدة منهما طبلة من العود المذكور ، بإحداهما التي عن يمين الداخل محبقتان فيهما ربيع أخضر يانع ، أوراقه أعظم من أوراق الذرة ، وتراب المحبقة مغطى بأسلاك (٢) من صوف مصبوغة بالألوان. والعلة في ذلك ـ والله أعلم ـ هو ستر التراب لئلا يقع البصر على شيء تمجه النفس ، ويقابل هاتين المحبقتين في الجهة الأخرى غرافان (٣) / ٣٥ / من البديع ، عليهما مشمومان من نوار النبات ، بينهما مجانة عن جهتيها تصويرتان

__________________

(١) نفس الملحق : ٤.

انظر صورة قاعة الاستقبالات المخصصة للسفير المغربي في ملحق الرسوم والصور صفحة ٢.

(٢) في الأصل بسلوك ـ خطأ ـ.

(٣) نفس الملحق : ٤.

١٢٧

سوداوتان (١) ، ويقابله أيضا ماريو كبير فيه موسيقا رومية (٢) تخدم بدس الأصابع ، فيها واحد وخمسون نقطا ، وفي الوسط طبلة كبيرة دائرة مغطاة بملف أخضر ، فوقها محبقة فيها نبات طول أصوله نحو نصف ذراع ، وأوراقه كأوراق الليمون الصغيرة ، تنفتح بأعلا أصوله مشاميم كبار من النوار الأبيض ، كالياسمين ، إلا أنه لا رائحة له ، والشوالي محيطة بهذه المائدة بالموبر الأخضر ، وكذلك بين كل سرجم وماريو شيلية كبيرة في شكل آخر ، وفي مقابلة السراجم الثلاث كنابي كبير يسع جلوس ثلاثة أناس عليه. وعلى كل شيلية من الكبار سباني من ثوب كالمسوس المغربي. إلا أنه في ثوب يحيط به ترييش كبير على لونه. وسقف هذه الصالة سقف سما بطلاء أبيض به توريق عجيب. وفي وسطه / ٣٦ / ثرية كبيرة قضبانها من الصفر يجري فيها الغاز ، ورؤوس القضبان معكوفة إلى نحو السقف ، مغروز فيها فتائل داخل جعب (٣) بيض ، لا يشك رائيها أنها شمع توقد ليلا ، ويخلل هذه القضبان قطع من البلار مثلثة الشكل ، مثقوبة منظم بعضها ببعض في خيوط في كل خيط استرخاء ، كأنه نصف دائرة ، وبوسطها كرة (٤) من بلار بيضاء ، بسطحها دوائر ، سطحها مستو ، وحولها خمس (٥) كرات صغيرة مثلها ، وبحذاء المشمومين المذكورين ثريتان صغيرتان من الصفر ، كما ذكر. في كل واحدة منهما نحو ستة قضبان من الصفر ، وبراح هذه الصالة (٦) مفرش بمربعات (٧) من العود. لكن كل مربعة مقسومة إلى أقسام مختلفة الأشكال ، فعند النظر إلى المربعة بخصوصها أن قسمتها على تلك الأشكال المختلفة ليس بشيء ، وعند النظر إليها مجموعة مع ما يحيط بها من المربعات يتبين / ٣٧ /

__________________

(١) في الأصلب سوداءتان ـ خطأ ـ.

(٢) يقصد المعزف أو البيان (البيانو).

(٣) في الأصل جعبات ـ خطأ ـ.

(٤) في الأصل كورت ـ خطأ ـ.

(٥) في الأصل خمسة كورات صغار ـ خطأ ـ

(٦) في الأصل الصلاة ـ خطأ ـ.

(٧) في الأصل بمربع ـ خطأ ـ.

١٢٨

للناظر وجه قسمة كل مربعة إلى تلك الأشكال لمعاينته لمناسبتها وترتيبها ترتيبا عجيبا ، والعلة في التفريش بالعود هو ـ والله أعلم ـ حفظ الزرابي من البرودة التي تفرش بها الصالة. هذا ما استحضرته الآن من أوصاف هذه الصالة. وإذا استحضرت ذلك وتأملته ووسعته دائرة خيالك على تفاصيله المبينة ، فكأنك تشاهد ذلك عيانا. ثم تذكرت الآن ما سأذكره ، وذلك أن بين كل سرجمين لوحا معلقا فيه صورة شخص مكتوب بالعربي على صورة منها بركش بن سعد (١) قيل هو سلطان اللينجيار (٢) ، والصورة الأخرى صور من دخل تلك الصالة من كبراء دول النصارى. هكذا قيل انتهى.

وقد تقدم أن هذه الدار فيها سبع طبقات ، وتقدم مقدار طولها وعرضها فلا بأس أن نبين كيفية شكلها على سبيل الإجمال ، على حسب ما فهمته ، لأن تفصيل ذلك / على حقيقته لم أحط به علما ولا وجدت لسبيله فهما ، لأنه يتوقف على الإطلاع على أصل تخطيط (٣) أساس الجدران السفلية ، واختلاف ما بني فوقها على حسب تفصيل الأماكن والمنافع ، وذلك مما لم أطلع عليه ، لكن حيث تبين الطول والعرض حين يكون الإنسان ببراحها السفلي ، لم أجد في الطول والعرض إلا نحو ثنتي عشرة خطوة. وبهذه الطبقة السفلى مخازن ومواضع للطبخ ، محيطة بذلك البراح ، والمعارج التي يظهرون عليها بهذه الطبقات ترى أسافلها كلها من وسط البراح ، وهي ناتئة وبارزة من جدران تربيع البراح ، وسقفها يرى من أسفل سقف ، لها

__________________

(١) أو برغش بن سعيد (١٨٣٥ـ ١٨٨٨) سلطان زنجبار ، ألغى النساخة في بلاده وأحسن العلاقات مع الأجانب (المنجد الكبير).

(٢) زنجيبار أو زنزيبارا (Zanzibar ٠٠٠ ، ١٣٨ كلم ٢) تطل على ساحل المحيط الهندي بشرق إفريقيا ، أصبحت تكون مع تانجنيقا جمهورية تنزانيا كانت تحت الانتداب البريطاني وأعلن عن استقلالها عام ١٨٦٤ م قرب دار السلام (المنجد).

(٣) يقصد هندسة تصميم قاعدة الفندق التي يستند عليها البناء العمودي.

١٢٩

وليست مرفوعة على أكياش من عود (١) كما في عرف البناءين عندنا. لكنها ـ والله أعلم ـ موضوعة على قناطر ، والقناطر موضوعة على السواري ، وسقف الدرج ممتد / من جدران تربيع البراح إلى تلك القناطير مجلد عليه من أسفل الدرج ، وعلى التجليد طلاء أبيض ، بسببه يظهر لناظره أن سقف الدرج كذات واحدة غير متصل بعضه ببعض ، وفي كل طبقة ثلاثون درجة ، في كل تربيع عشرة مبسوط مستو ليس فيه درج ، والدرابيز (٢) من الحديد دائرة مع الدرج من ابتدائها إلى انتهائها وهي مفرشة بالزرابي ، بين كل درجتين قضيب ، لعله حديد مموه ممتد على عرض الدرجة ، وهو الماسك للزربية بأسفل كل درجة. فإذا صعد الصاعد الثلاثين درجة المحيطة بالثلاثة أرباع المذكورة ، وصل إلى الربع الرابع المبسوط الذي ليس فيه درج. فإذا سار إلى منتهاه يجد في الربع الذي عن يمينه ساباط طويل ، هو الذي طوله خمسون خطوة ، وعن يمينه ويساره بيوت الصالات ، وبالركن اليساري / أي الذي عن يسار منتهى ذلك الربع الذي ليس فيه درج ، باب صالة ركنية ، والداخل إليها إذا وصف ببابها يجد بالزاوية التي عن يمينه بابا آخر ، وهو مقفول ، ولعله إذا فتح يقابل الواقف به ساباط آخر مواز للساباط الذي تقدم ذكره ، بينهما بيوت صالات المتقدم ذكرها ، ويجد ـ الله أعلم ـ عن يساره صالات أخر مقابلة للأخرى. ودليله أننا إذا أسقطنا تربيع (اثنتي عشر) براح الدار من جملة خمسين تربيعا شكلها يبقى نحو ثمان وثلاثين خطوة بين منتهى البراح والجدار المحيط بالدار من كل جهة من الجهات الأربع ، وإذا أسقطت من الثمان والثلاثين خطوة عرض الساباط المذكور ثانيا ، وهو الحاجز بين الصالات الممتدة يمينا ويسارا قدر عرضه نحو أربع خطوات مع أساس

__________________

(١) يطرح نوع من المقارنة بين البناء المغربي التقليدي الذي يعتمد على الجوائز الخشبية والحجر والجير والطين وغير ذلك ، ثم البناء الأوربي الحديث الذي يعتمد على الأعمدة والقناطر المدعمة بالحديد والإسمنت والآجور ...

(٢) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

١٣٠

الجدار وانظر كم هو (١) ، فالباقي هو مساحة / ٤١ / الصفين اللذين بهما الصالات عن اليمين واليسار ، لأن طول كل صالة نحو ثنتي عشرة خطوة ، ومثلها هو قدر البراح ، ومجموعهما أربع وعشرون خطوة ، ثم أربع خطوات عرض الساباط الثاني. والباقي وقدره ثنتان وعشرون خطوة ، هو عرض صف الصالة المظنون أنها كائنة مقابلة للصف المشاهد إنشاؤه ، الحاجز بين الساباطين. لكن الثنتين والعشرين خطوة المذكورة يسقط منها عرض الأساسات الأربع أولا ، وعرض أساس الجدار الخارج للزقاق ، ثانيا : أساس الجدار المحيط بالبراح ، ثالثا ورابعا : أساسا جداري الساباطين ، والباقي هو عرض الصالة المبرهن على وجودها بما سبق ، وسيرسم (٢) هنا شكل ذلك بحول الله تقريبا للفهم إن شاء الله. / ٤٢ / وفي طبقة بيت الخلاء يجعلونه بزاوية الطبقة. وإذا صعدت طبقة أخرى وجدت بيت الخلاء فوق بيت الخلاء الذي في الطبقة تحتها ، وهكذا تتابعها ، وليس فيه من الماء إلا الماء الذي ينزل في آنية قضاء الحاجة لتنظيفها بعد الفراغ. فكنا نحتاج أن نصحب الماء معنا للوضوء. وفيه هناك كلفة من حيثية التحفظ على نظافة المحل. ولو كان الماء هناك في موضع آخر يوخد منه القدر المحتاج إليه ، وفاضله ينصرف في مصرف آخر ، لكان ذلك غاية المراد. والعذر لهم لأن ذلك ليس من عوائدهم. وغاية نظافتهم في ذلك المحل أنهم يمسحون النجاسة من مخرجهم بالكاغد ، وهو معد عندهم هناك مع زيف أبيض معلق أظنه للإستجمار. فالحمد لله على هذه الملة السمحاء. ورزقنا الله الثبات على سبيلها القويم ، وعدم الميل

__________________

(١) طول الفندق ٥٠ خطوة

تربيع البراح ١٢ خطوة

٣٨ ـ خطوة

عرض الساباط ٤ خطوة

٣٤ ـ خطوة

(٢) لم يتمكن الجعيدي من ذلك ، لأن أصحاب الفندق لم يسلمو له التصميم.

١٣١

عن صراطها المستقيم.

٤٣ / كراء هذه الدار في السنة

وهذا الأوطيل الموصوف ، قيل إنه مكترى بخسة عشر ألف ريال في السنة ، وفيه من الرجال والنساء خلق كثير مكلفون بتلك الصالات التي به وبمن ينزل بها ، وبما يحتاج إليه. وفي كل صالة أيضا شيء كالمسمار ناتئ بأحد الجدران فمن احتاج لشيء يدفع ذلك المسمار إلى نحو الجدار ، فيسمع للناقوس نقرات (١) متتابعة ، فيسمعه المكلف بتلك الصالة ، فيأتي إليها سريعا ، ليتكلم معه فيما يحتاج إليه ، والعجب من ذلك فإنه إذا تكلم ناقوس يعرفونه ويقولون : هذا ناقوس صالة كذا في طبقة كذا لا يخطئه أصلا.

وفي مساء يوم الأحد (٢) الذي دخلنا فيه لمرسيلية بعد صلاة العصر أوتي إلينا بكدشين اثنين يجر كل واحد منهما فرسان بقصد الركوب فيهما للطواف ببعض زقاق البلد على عاداتهم ، بقصد الفرجة والانبساط ، وذلك من مزيد الاعتناء والبرور بما حصل لمتولي البلد (٣) بقدوم الباشدور. / من الفرح والسرور ، فنهضنا إلى العربتين أي الكدشين المذكورين ، فتقدم الباشدور إلى الكدش الأول وركب فيه وركب معه الترجمان الوارد معه من طنجة ، واسمه مونج الفرنصيص (٤) وركب الأمين

__________________

(١) يقصد المنبه أو الجرس.

(٢) ١١ جمادى الأولى عام ١٢٩٣ ه‍ / ٤ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٣) الترجمان Scheffer أخبر وزارة الخارجية الفرنسية بباريس بوصول السفير الزبيدي إلى مرسيليا مرهق بالسفر ، ويرغب في الاستراحة بعض الوقت وزيارة أهم المرافق الصناعية بها ، وأنه لن يسافر حتى يوم الأربعاء ٧ يونيو ١٨٧٦.

M. A. E. F.) A. D (, CorresPondance Politique, Maroc, Volume 40, Folio 171.

مرسيليا في ٥ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

(٤) ترجمته ستأتي فيما بعد.

١٣٢

وكاتبه في كدش آخر. وركب معه الفقيه السيد محمد المصوري (١) الطنجي ، وهو كاتب الباشدور نائب جنس الفرنصيص بطنجة ورد في صحبتنا منها مع الترجمان المذكور ، لقضاء أغراضهم.

بعض أوصاف مرسيلية

وصار صاحبا الكدشين يطوفان بنا بزقاق البلد وبأسواقها ، فنرى بأبواب (٢) حوانيتها من التحف البديعة والأثاث المستظرفة العجيبة ما لا يكاد يصفه قلم ولا لسان ، ولا تبقى به وبأوصافه عبارة إنسان ، وزقاقها في غاية التوسعة. فالمحج الوسط فيه أربعة طرق ، الغالب لمشي الكروصات والأكداش ، وعن يمينه ويساره طريقان آخران لمشي الراجلين من الذكور والإناث ، وعرض كل طريق / ٤٥ / من هذه الطرق الأربع أزيد من ثلاثة أذرع (٣) ، وقد يوجد ما هو أعرض من ذلك في بعض المواضع ، حتى أنه يكون في عرض طرق الراجلين نحو ستة أذرع وأزيد ، فيظهر من هذا أنه يمكن أن تكون مساحة طرقها تعدل المساحة التي فيها الديار وسائر الأبنية ، أو تقرب منها والله أعلم.

__________________

(١) محمي فرنسي كان يشغل منصب كاتب أهلي بالسفارة الفرنسية بطنجة ، حتى توفي قبل سنة ١٨٧٩ م ، ومما جاء في رسالة سلطانية «... هذا المصوري شأنه من قديم لا يسعى إلا في الإفساد بين الدولتين وفتح أبواب الشنآن وكم لفعله هذا من نظير ...». ٤ محرم ١٢٩٥ ه‍ / ٨ يناير ١٨٧٨ م نصها في : الوثائق الملكية ، ٤ : ٤٣٣. وقد كلف السلطان نائبه بطنجة بمخاطبة الفرنسيين «في إخراج المصوري المذكور من خدمتهم ، وإبعاده من طنجة ، إما بالانتقال إلى داخل الإيالة أو بنقله إلى مكان آخر لأن إبقاءه بطنجة لا يؤدي إلى خير» وذلك لأن «هذا المصوري شأنه هو هذا من قديم». الوثائق الملكية. ٤ : ٥٦ ، ولا سيما في الواقعة التي نشبت بين قنصل فرنسا بطنجة وباشا المدينة الجيلالي بن حمو سنة ١٨٧٨ م.

(٢) في الأصل حوانيتها بأبوابها والسياق يقتضي أن يكون العكس.

(٣) سبق قلم ـ ثلاث خطوات ـ.

١٣٣

ومع امتداد هذه الطرق أشجار مغروسة في غاية الارتفاع والخضرة مصطفة ، عندما يقرب من منتهى المحجين اللذين يمشي فيهما الراجلون ، فنراها مصطفة عن اليمين واليسار ، وذلك بقصد الزينة واستحسان المنظر. وبين كل شجرتين ست عشرة خطوة ، وبين كل شجرتين قطعة نحاسية قائمة مخروطة بخرط عجيب ، طولها نحو ثلاثة أذرع أو أزيد ، برأسها فنار كبير. شكله مستدير ، دائرته العليا أعظم من السفلى بكثير ، وهذه الفنارات توقد كلها ليلا ولا تنطفئ حتى يمضي من الليل نحو ثلاثة أرباعه ، / ٤٦ / لاشتغال أهل البلد بأمور دنياهم بالليل كاشتغالهم بها بالنهار ، وبعد الفجر بيسير يأتي أناس من رجالهم ، فيفتحون تفاجير (١) الماء عن اليمين واليسار بين ملتقى طرق الأكداش وطريقي الراجلين ، فترى الماء يجري في الحدين المذكورين ، يحده من جهة طريق الراجلين الرافد المرصف هناك ، ومن جهة طرق الأكداش الانحداب الذي في الطرق ، ليلا ينبسط الماء من الجهتين إذا كانت طريق الأكداش منبسطة ، فيتلاقى ببعضه البعض فيكثر الوحل في ذلك الطريق. وعند تفجير الماء واتصال بعضه ببعض يأخذ البعض من الناس المذكورين في تشطيب سائر الطرق. وآخرون وراءهم يجمعون ما يشطبونه ، ويجعلونه في الكروصات ، ويرمونه في مواضعه المعروفة عندهم. وهذا الذي يجمع من التشطيب إنما هو روث الخيل التي تجر الأكداش والكروصات مع شيء من غبرة الأرض. فإياك أن تتوهم / ٤٧ / أنها أزبال ترمى في وسط الطريق ، كلا ما رأينا شيئا من ذلك ، فإذا رفعت تلك الأزبال أخذ أناس آخرون يرشون تلك الطرق كلها رشا معتدلا ، لا كثيرا ولا قليلا ، تمهيدا وركضا لغبرة الأرض ، وما ذكرناه من الأشجار والفنارات والنظافة هو ليس خاصا بطريق واحد أو عدة طرق ، بل الطرق كلها كذلك ، إلا النادر منها في أطراف البلد ، وديارها جلها من أربع طبقات وتنتهي إلى سبع طبقات (٢) ، وسراجيمها مفتوحة إلى الطرق وطولها على طول ارتفاع تلك الصالات ، وبين السرجم والسرجم من البناء مثل

__________________

(١) يقصد المضخات المائية.

(٢) نظرا لشدة المنافسة بين القطاع الثاني والثالث داخل المدن ، ترتفع أثمنة الأرض فيتم اللجوء إلى البناء العمودي ، من أجل أن تكون المردودية أحسن.

١٣٤

عرض السرجم أو أزيد بقليل ، وإذا فتح السرجم تكون أرض الصالات مستوية مع أرض سقف (١) خارج عن السرجم بنحو ذراعين ، يحدها ـ أي الأرض ـ دربوز حديد في غاية الإتقان ، ممتد مع امتداد سراجيم الصالات كلها ، أو مع امتداد عرض الدار ، فيعلم عدد طبقات الدار بعدد السراجيم المرتفع / ٤٨ / بعضها فوق بعض ، وحدود السراجيم الخارجة للطرق بارزة عن الجدار بالراقد المنجور ، ونجره في غاية اللطافة والإتقان ، وفوق كل باب سرجم قوس بديع الشكل مرونق ، وفوق قسي أبواب السراجم مادة تعرف في عرف البنائين بالسبنية ، بها توريق رفيع ، تكفيف لطيف ، والبناء جله بالراقد ، ويتركونه على أصله ، ولونه رمادي مفتوح ، وبواطن الصالات أفضل من ظاهرها لأن ما بين السرجمين أو بعض الجدران من داخل الصالة إما أن يجعلوا له طلاءا أبيض أو يجلدونه بالكاغط المورق المزخرف.

وحيث ركبنا في الوقت المذكور ، بقي يطوف بنا صاحبا الكدشين المذكورين نحو ساعتين إلى أن غربت الشمس ، فرأينا في بعض تلك الطرق زيادة على ما ذكر من التصاوير الثابتة في بعض الجدران شيئا كثيرا ، منها ما هو على صورة الآدمي ، ومنه ما هو رافع يديه إلى شيء فوق رأسه كلحية سارية بني عليها / ٤٩ / ما فوقه ، وكأنه حامل لما فوقه. فما أعظم كربته ، وأخسر صفقته! ومنها ما هو على غير ذلك من الصفات والأحوال. ومن الصور ما هو على صورة الأسود كاشرة أنيابها ، شائلة أذنابها ، ومنها ما هو على صفة البقر وغير ذلك من الصور المستغربة ، والتماثيل المستعذبة في زيهم وعاداتهم.

وفي يوم الاثنين (٢) الثاني عشر من جمادى الأولى المذكورة بعد صلاة العصر ، أوتي إلينا بكدشين آخرين ، فركبنا كما ذكرنا قبل ، وصار بنا إلى ناحية أخرى من البلد ، فوجدناها مثل الناحية التي طفنا بها بالأمس في البناء والطرق والأشجار

__________________

(١) يقصد الشرفة (البالكون) التي تميز النمط المعماري الأوربي الحديث المفتوح على الخارج بدل الداخل كما كان سائدا في المغرب

(٢) ٥ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

١٣٥

والفنارات والحوانيت والتحف ، وكنت أرى شيئا مبنيا بالطرق على هيئة المعدة (١) مخروط الشكل ، قطر دوره أزيد من ذراع ، فوقه قبيبة ، وارتفاعه نحو خمسة أذرع ، له بويب مفتوح ، وهو متعدد في الطرق ، فسألت عنه ، فقيل : إن تلك مواضع العساسة (٢) من العسكر ، فوجدته كذلك لأن بقربه عسكريا (٣) / ٥٠ / واحدا أو أكثر في بعض المواضيع.

هيئة رأس الماء الجاري عليها

ثم انتهى بنا صاحبا الكدشين إلى رأس الماء اداخل للبلد ، وليس هو خارجا عنها بل في طرفيها ، فرأيناه من بعد يخرج من بين حجرين ، ومواضع خروجه متعددة متصل بعضها ببعض ، وفيها تحديب حتى صار جميع الماء الخارج بانضمامه كأنه نصف دائرة ، قطرها أظنه يزيد على نحو خمس عشرة قالة (٤). ذ فتأمل في خيالك هذه النظرة العجيبة عند انصباب الماء على تلك الحالة منحدرا إلى الأسفل (٥) ، لأنه مرتفع في ربوة ، وينزل هذا الماء في صهريج أسفله يحده. منه ـ والله أعلم ـ يتفرق على البلد وهو أحد الأنهار الداخلة إلى البلد (٦) ، وحين وصولنا إليه رأينا عليه قبة

__________________

(١) انظر شرحها في الملحق رقم : ٤.

(٢) نفس الملحق : ٤.

(٣) في الأصل عسكر واحد ـ خطأ ـ.

(٤) في الأصل خمسة عشرة قالة ـ خطأ ـ.

(٥) تكملة بطرة الصفحة أدرجتها في مكانها بين نجمتين* ...*.

(٦) قناة مرسيلياMarseille de Canalالتي تم تشييدها ما بين ١٨٣٧ و١٨٤٨ م ، طولها حوالي ٨٣ كلم منها ١٦ كلم تحت الأرض ، تنبع من نهر لاديرانس durance La أحد روافد نهر الرون. وتنتهي عند قصر الماء Le château d\'eau الذي يصل علوه ٣٩ مترا وينزل منه الماء إلى صهاريج اصطناعية تزود المدينة بالماء الصالح للشرب بمعدل ٠٠٠. ٩ لتر في الثانية ، وتسقى به الأراضي الفلاحية والمنتزهات القريبة منه. Encycloedie. N”٢٣. p. ٣٠٨.  Grande La

١٣٦

مبنية مرتفعة على سوار ، فوقها تصاوير منها رجل عظيم الخلق ، في أحد طرفي القبة خارجا عنها بيده شيء كالبوق وكأنه ينفخ فيه ملتفتا (١) إلى يساره لناحية الجنوب ، وآخر مثله ملتفت ببوقه في فيه ، ماسكه بيده إلى ناحية الشمال ، وبينهما صور ثيران باركة ، نحو أربع صور في مواضع بقرب القبة أسفل هذه الصور ، / ٥١ / صور أسود عديدة كاشرة أنيابها كما تقدم تحت كل أسد صورة ثور. والأسد إحدى يديه موضوعة على الثور والأخرى على المحل الذي هو به ، ثم رأينا صاحب السر المذكور حيث رأى تلك القبة وخروج الماء من أسفلها على تلك الصفة ـ خرج من الكدش قاصدا الصعود إلى تلك القبة ، فتبعنا أثره فوجدنا لها معارج عن اليمين واليسار ، ابتداؤها معكوف كأنه نصف دائرة ، سببه ـ والله أعلم ـ هو ارتفاع القبة وضيق المساحة التي بينها وبين الطريق الممرور عليه. فلولا انعكافها لكانت الدرج مرتفعة غير منبسطة وبانعكافها صارت منبسطة ، فارتقينا فيها إلى القبة فأشرفنا على الماء الجاري الذي يخرج من تحتها وهو واد عظيم (٢) عريض غاية. ووجدنا هذه القبة من ناحية ذلك الوادي محملة على خمس سوار ، وفي رأس كل سارية صورة رأس آدمي فوق رأسه لحية حجر منجورة ، كاللحية التي تكون / ٥٢ / فوق السارية التي يبنى عليها ، والقبة مرفوعة فوق هذه الرؤوس التي تقدم لها هذا العذاب الأليم في دار الدنيا ، فكيف بها بدار المقيم. ورأينا بحافتي النهر المذكور عراصي (٣) قابلنا منها من جهتنا أشجار متصل بعضها ببعض ، مخضرة أوراقها كأنها هي الزرب ، ومنها إلى نواحي الطرق بمقدار ثلاثة أذرع كالسياج لكنه منحدر غاية ، وقد غرس في ترابه من النوار المختلفة الألوان والأشكال ، كل لون في محل يناسبه. فتخاله كزربية بديعة التزويق في غاية التنميق ، والصبيان يمرون بها مع أمهاتهم ، ولا ترى واحدا ينزع شيئا من تلك النوار ، وإنما يتركون ذلك تحسينا للنظر ومصلحة للبصر. وبعض العراصي

__________________

(١) في الأصل ملتفة : ـ خطأ ـ.

(٢) يقصد قناة مرسيليا Marseille Canal (نفس المرجع السابق).

(٣) انظر شرحها في الملحق رقم : ٤.

١٣٧

رأينا بها جدرانا محيطة (١) بها أطول من القامة. وليس فيها شيء يؤذي. وبعض العراصي بأعلا جدرانها قطع الزاج متقارب بعضها من بعض ، بحيث لا يمكن لأحد الصعود إلى أعلا الجدار ، وانظر ما سبب ذلك ، لأننا كما ذكرنا رأينا / بعض العراصي زربها هو تلك النوار التي تقدم وصفها ، وبعضها لها جدار لا زاج فيه ، وبعضها مرصف بالزاج مع أن هذه العراصي في طريق واحد ، وحيث انتهينا إلى هذا المحل رجع بنا صاحبا الكدشين إلى أوطيل نزولنا على طريق أخرى ، فرأينا فيه أسواقا وحوانيت وطرقا كالطرق الموصوفة ، حتى انتهى بنا إلى محل النزول.

فابريكة صنع السكر القالب

وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى (٢) المذكور أوتي إلينا بكدشين أيضا بقصد المسير إلى رؤية مكينة صنع السكر القالب ، فركبنا فيهما كل بمرتبته كما تقدم بعد صلاة العصر ، وسرنا في طريق آخر فوجدنا ، مثل الطريق المرصوف ، حتى انتهينا إلى دار تلك المكينة ، فرأينا بأسفلها العجب العجاب ، ما يتحير فيه الدهاة من أولى الألباب ، فما أكثر ما هناك من النواعير التي تدور واختلافها صغرا وكبرا على نسبها المقرر عندهم المشهور ، والنواعير السفلى بدورانها تدور نواعيرا أخرى ، / ٥٤ / في الطبقة فوقها والرباط بينهما شيء كالحزام ولعله من القنب ، محيط بحرف بعض الرحي السفلى ، وارتفع إلى الرحي العليا فالتوى بحرفها الأعلى كالحيط الذي على ناعورة الشراط الممتد منها إلى فلك مغزلها. وهناك آلات حديد متفاوتة في القدر والشكل. منها ما تراه يتحرك يمينا ويسارا ، ومنها ما يكون تحركه من الأعلى إلى

__________________

(١) في الأصل جدران محيط ـ خطأ ـ ويقصد تسييج الأراض الفلاحية عوض الأراض المفتوحة.

(٢) ٦ يونيو سنة ١٨٧٦ م.

١٣٨

الأدنى ارتفاعا وانخفاضا. ولم أقف على أصل الحركة الأولى (١) التي ينشأ عنها سائر الحركات.

ثم صعدنا إلى طبقة فوق هذه ، فوجدنا في التي فوقها طناجير عديدة عظيمة قطر دائرتها يقرب من خمسة أذرع ، والنار توقد تحتها ، وفيها شيء ذائب (٢) يغلي ويضطرب من شدة النار التي تحته ، وحول كل طنجير براميل عظيمة ، تسع أزيد من عشرة قناطير من السكر الغبراء ، وخناشي منها ، تدور عدة من الخدمة بذلك البرميل / ويزحلقونه عن محله شيئا فشيئا إلى أن يبقى بينه وبين الطنجير نحو طول البرميل ، فيفرغونه فيه حتى يقلب فمه على فم الطنجير (٣) على أعواد ثابتة عليه ، وما يتساقط من السكر حول الطنجير يجمع ويلقى فيه ، وأوتي بشيء من ذلك الماء

__________________

(١) في الهامش طرة من إنشاء المؤرخ محمد بن علي الدكالي السلاوي (١٨٦٨ ـ ١٩٤٥ م) صاحب «الإتحاف الوجيز تاريخ العدوتين» نشرته الخزانة العلمية الصبيحية بسلا سنة ١٩٨٥ م و١٩٩٦ م.

«هي قوة البخار الذي ينشأ من سجن الماء الحار الشديد الغليان ، كما شاهدنا ذلك مباشرة قاله مقيده محمد بن علي سامحه الله».

(٢) لم يقف صاحب الرحلة على المراحل الأولى لعملية تصفية السكر من الشمندر. وهي باختصار :

١ ـ يغسل الشمنذر بتيار مائي قوي لإزالة الأحجار والأعشاب.

٢ ـ يقطع على شكل شرائح صغيرة ويخلط مع ماء ساخن ، فنحصل على عصير سكري خام.

٣ ـ يخضع هذا العصير لعملية فيزيائية ، ـ كيميائية بواسطة لبن الجيرCao وثاني أوكسيد الكربون Co ٢ لإزالة أكبر كمية ممكنة من الشوائب.

٤ ـ يسخن العصير حيث تتبخر كمية معينة من الماء نسبتها المئوية حوالي ٧٥% وبذلك نحصل على عصير سكري مركز ، وهذه المرحلة الرابعة هي التي وقف عليها الجعيدي.

La Bettrave Sucriere. EncycloPedie Agricole Pratique) AGRI ـ NATHAVN (, Nouvelle Li ـ brairie France, 1987 ISEN, P. 5. 7. 9.

(٣) انظر شرحه في الملحق رقم : ٤.

١٣٩

الذي يطبخ في الطنجير (١) في كأس زجاج ، فإذا هو أحمر يضرب إلى السواد ، ثم ارتقينا طبقة أخرى وجدنا فيها طناجير كذلك وخدمة أيضا ، وأوتي بشيء من ماء هذه الطناجير ، فإذا هو أحمر إلى لون الأتاي ، والغبراء التي تصفى من هذه الطناجير أبيض من التي تحتها ، والتي بالطبقة الرابعة أصفى من الثالثة وهكذا. ولم أثبت على عدد الطبقات لأن في كل طبقة نارا عظيمة ومكينات تدور كما وصفنا ، بل وأعظم بكثير ، ومن شدة النار ضاق صدري أن أرجع وأخرج. فلم أثبت على الطريق التي دخلنا منها لتشابه / الطرق وتماثلها إلى أن وصلنا إلى الماء الذي يجعل في القوالب ، فوجدنا ناعورة معلقة كبيرة تدور دوران الجرارة وعليها سلاسيل حديد تنزل في حفرة كالبئر ، وهذه السلاسيل النازلة في هذه الحفرة بدوران ناعورتها تمسك القوالب الفارغة التي يفرغ فيها السكر ، وهي متتابعة بعضها فوق بعض على هيئة طونس السانية (٢). لكن القوالب ليست مربوطة في السلاسل ، وإنما فيها فرج يترك الواقف منها فرجة فارغة ، ويجعل في التي تليها قالبا فارغا ، فينزل في السلسلة إلى تلك الحفرة ، فتطلع عامرة من الجهة الأخرى ، وهناك رجل آخر يرصد طلوع القالب العامر ، فينزعه ويناوله لآخر ، فيضعه في حفرة تمسكه في مكان متسع غاية ، مملوء بالقوالب التي تملأ من تلك الحفرة فتبقى هناك زمنا (٣) حتى تجمد فعند ذلك يصب في كل قالب ماء أبيض ، يقرب من لون الحليب ، مقدار نصف أصبع ، يقال إ هذا الماء هو الذي يصفي لون القالب حتى يصير أبيض كما / يرى ، وانظر من أي شيء هو (٤) ذلك الماء المتخذ للتصفية. وعندما تجمد هذه القوالب وتبيض يبقى

__________________

(١) عملية البلورة وهي الخامسة والأخيرة ، وتتلخص في تركيز العصير المركز إلى درجة تسمح بتحويل جزئيات السكروز المذابة في العصير إلى بلورات سكرية.

La Bettr ave Sucriere, EncycloPedie Agricole Pratique) AGRI ـ NATHAN (, P. 7.

(٢) نفس الملحق : ٤.

(٣) في الأصل زمانا ـ خطأ ـ.

(٤) لعله يقصد البذرة وهي خليط من السكر المطحون مع الكحول ، يضاف بقدر معين إلى البلورات السكرية وبذلك نحصل على بلورات السكر الخالص.

La Bettr ave Sucriere, EncycloPedie Agricole Pratique) AGRI ـ NATHAN (, P. ٩.

١٤٠